الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
كان حرص رسول الله على المسلمين من بعده عظيما، جعله يؤكد في وصاياه على كثير مما علمه لهم في حياته، فما هي هذه الوصايا؟ وكيف نستفيد منها؟
حوت خُطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ما لا يحصى من الفوائد والنصائح، ووضعت القواعد التي عليها تبنى الأمة الإسلامية، وعلى المسلمين أن يفقهوا جيدًا أنه بغير هذه القواعد، لن تُبنى لهم أمة، ولن تقوم لهم قائمة.
وقد تحدثنا في مقال وصايا النبي في حجة الوداع (1-2) عن خمس وصايا، وفي هذا المقال نتابع بقية الوصايا الغالية:
الوصية السادسة: البلاغ هو مهمة هذه الأمة
حرص صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة على توضيح مهمته هو شخصيًّا، وتوضيح مهمة أمته بعد ذلك، مهمة الرسول هي البلاغ، ليست مهمته هداية الناس، فالهداية بيد الله تعالى، ولكن مهمته أن يصل بدعوته إلى الناس، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}[النور: 54]. وقال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص: 56].
لذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول أكثر من مرة في هذه الحجة العظيمة: «أَلا قَدْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ».
ثم إنه علَّم المسلمين مهمتهم، وذكّرهم بها: «فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».
إنه الخير الذي لا ينقطع، كل من وصلت إليه معلومة فليحملها إلى غيره، وهكذا دوائر الخير متصلة؛ حتى تعلم الأرض بكاملها حلاوة الدين، وعظمة الإسلام، إنها الوسيلة السَّلِسة البسيطة لنشر الدعوة، وتعليم الناس الدين، ليس هناك داعية بعينه يوكل إليه ذلك الأمر، بل موكَّل إلى كل المسلمين، فكل المسلمين دعاة إلى الله: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً».
«فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».
أيًّا كان علم هذا الشاهد أو فقهه، فليحمل علمه إلى غيره.
فَقِهَ ذلك الصحابة رضي الله عنهم فطاروا بعلمهم إلى الآفاق، إنها مهمة وواجب، وليست تفضلاً أو منّةً، يقول رِبْعِي بن عامر رضي الله عنه: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ماذا كان سيحدث لو وقفت الدعوة عند الصديق، أو وقفت عند عمر، أو وقفت عند الصحابة جميعًا؟
ماذا كان سيحدث لو لم يسعَ خالد والقعقاع وعمرو بن العاص والنعمان بن مقرن وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير ومحمد بن القاسم وغيرهم إلى تبليغ أهل الأرض رسالة ربِّهم؟
ألن تكون النتيجة هي بقاء من يعبد النار على عبادته، وبقاء من يعبد الحجر والشجر والنجم على هذا الضلال؟
ألن تكون النتيجة هي بقاء القهر والظلم والإباحية والجهل والفساد؟
إن الذين فقهوا مهمتهم في الأرض هم الذين تحركوا، وعلى أيديهم تحقق الخير للأرض بكاملها، ووصل الدين إلينا، فجزاهم الله خيرًا.
لكن ألم يسأل واحد منا نفسه: ماذا فعلتُ أنا فيما وصل إليَّ من علم ودين وفقه؟
إن ما تعرفه من آيات وأحكام، وتظنه هينًا، هو بالنسبة لآخرين كنزٌ من الكنوز لا يحلم به، ولا يتخيله.
من الناس من لا يتقن وضوءًا ولا صلاة.
من الناس من لا يذكر الله تعالى إلا قليلاً.
من الناس من لا يحسن قراءة القرآن.
من الناس من لا يبر والديه.
من الناس من لا يصل رحمه.
بل من الناس من لا يعرف الإسلام أصلاً.
هل تظن أن الملايين في الأرض الذين يكرهون الإسلام ويحاربونه يعرفونه؟
أم أن كل قضيتهم أنهم سمعوا عن الإسلام من وسائل إعلام مُغرضة، ومن نفسيات منحرفة، ومن مزورين محترفين، ولم يسمعوه من مسلم محبٍّ لدينه، فاهمٍ لمهمته، حريص عليها؟
- في العالم أكثر من مليار مُلحد ينكر وجود الإله أصلاً.
- في العالم أكثر من مليار يعبدون البقر من دون الله.
- في العالم أكثر من مليار يعبدون البشر من دون الله.
- في العالم أكثر من مليار يعبدون الحجر والشجر والنجوم والكواكب.
ألا ليت شعري أين المسلمون؟
«فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».
ألم يكن البخاري أوعى مِن مبلغه؟ لكن ما كان للبخاري أن يعي لولا أن بلغه أشياخه الذين قد لا يعرفهم عامة المسلمين.
البلاغ، البلاغ! مهمة المسلمين في الأرض أفرادًا وشعوبًا، وحكامًا ومحكومين، وعلماء ومتعلمين، كل يبلغ بحسب طاقته وعلمه، وكل مُيَسَّر لما خُلِق له.
الوصية السابعة: تأصيل مبدأ التيسير في الدين
فعلى الرغم من أنه قام صلى الله عليه وسلم بالمناسك بترتيب معين، وعلى الرغم من تكراره لكلمة "خذوا عني مناسككم"، إلا أنه أقر بمبدأ التيسير في الدين، فقال لكل من سأله في يوم النحر: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ، افْعَلْ وَلا حَرَجَ».
وليت المسلمين يفقهون طبيعة هذا الدين، إن طبيعته الحقيقية هي اليسر، روى النسائي في سننه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ».
وليس هناك أعبد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحرص منه على قواعد الشريعة، ولا أرغب منه في العبادة، ولكنه الفقه العميق الذي يجمع ولا يفرق، والذي ييسر ولا يعسر، كل قواعد الدين يسر، وكلها في استطاعة العوام من الناس، ولم يأتِ الدين -كما يعتقد بعض الجهال- لخواص الخواص، بل جاء لعموم البشر، جاء لقويهم وضعيفهم، وجاء للبلغاء والخطباء، كما جاء للعوام البسطاء، وجاء لأبي بكر، وعمر، كما جاء لنا ولمن هو دوننا.
والذي يخرج بالدين الإسلامي عن هذه الطبيعة ينفر الناس، وهو يحسب أنه يرشدهم، ويقصيهم عن طريق الله وهو يظن أنه يدعوهم إليه، وليس هناك منهج في الدعوة أعدل من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوصية الثامنة: السمع والطاعة لأمير المسلمين
«اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ».
هذه وصية فذة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي وصية عجيبة بالنسبة للمجتمع العربي آنذاك، بل هي وصية عجيبة حتى بمجتمعنا الآن، وليس العجيب في الوصية هو السمع والطاعة، فكل المجتمعات على اختلاف توجهاتها، وقوانينها وتشريعاتها تؤمن بأن العمل الجماعي لا بد له من قائد، وأن القائد لا قيمه لتوجيهاته أو أوامره إلا إذا كان هناك طاعة، كل الناس يؤمن بذلك، لكن ليس كل الناس يقبل بإمارة العبيد، أو بإمارة الفقراء، أو بإمارة من لا نسب أصيل له، هذا القبول يحتاج إلى نفس خاصة، وإلى تربية معينة، والرسول صلى الله عليه وسلم أكَّد هذا المعنى كثيرًا في حياته، فهو أولاً زَهّد الناس في الإمارة حتى جعلها تكليفًا لا تشريفًا، ومسئولية لا عطية، حتى أصبح عموم الأمة يخشى من الإمارة، ولا يقبلها إلا مضطرًّا، وقبل ذلك كان صلى الله عليه وسلم قد زَهّد الناس في الدنيا بكاملها، ومن ثَمَّ ليس هناك معنى لتحمل مسئولية ضخمة لتحصيل جزء من دنيا لا قيمة لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ساوى بين المسلمين، فلم يعُدْ هناك تفاضل بينهم بعنصر، أو عرق، أو نسب، أو مال، إنما صار التفاضل بالتقوى، وقد يكون العبد الذي يُباع ويُشترى أتقى من الحُرِّ الذي يشتري العبيد.
كانت هذه تربية صعبة ودءوبة، جاهد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، ولا نقول أنها وجدت قبولاً عند العموم بسهولة، بل استلزم الأمر تدريبات كثيرة، ومحاورات، ومجادلات متعددة، ولقد طعن الناس في إمارة زيد بن حارثة رضي الله عنه، الذي كان عبدًا يُباع ويشترى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصر على توليته عدة مرات على سرايا حربية مُهمة، كان أهمها وأعظمها السرية الأخيرة في حياته، وهي سرية مؤتة، حيث لقي ربه شهيدًا بعد كفاح مشرف، وكان قد ولاه قبل ذلك إمارة المدينة في إحدى غزواته صلى الله عليه وسلم، كل ذلك ليمهد المسلمين نفسيًّا إلى قبول ولاية أي مسلم ما دام يقيم فيهم حكم الله، وهذه حكمة نبوية راقية، وتشريع إسلامي محكم، فلا شك أن الأمة قد تقاد في يوم من الأيام بإنسان ذي نسب قليل، أو عائلة ضعيفة، أو قبيلة فقيرة، فماذا يحدث في هذا الحالة؟
لو خرج عليه المسلمون ستكون فتنة في الأرض وفساد كبير، فلا بد من طاعته حتى تستقيم حياة الناس، وحياة الأمة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد شرطًا أساسيًّا لهذه الطاعة، وهذا الشرط يوضح لنا غاية الحكم في الإسلام ووسيلته، فقد علق صلى الله عليه وسلم الطاعة للأمير على قيامه بأمر الله في المسلمين، قال: «مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ».
فالأمة الإسلامية مهمتها تعبيد الناس لرب العالمين، أو على الأقل دعوتهم إلى عبادة رب العالمين، ولا يكون ذلك إلا بمنهج صحيح غير محرف، ومهمة الحاكم الأولى هي أن يُحَكِّم شرع الله تعالى فيمن يَحْكُم. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}[المائدة: 49].
والأحكام المتعارضة مع شرع الله أحكام جاهلية، يجب ألا تتبع، ولا سمع فيها، ولا طاعة، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة: 50].
والرسول صلى الله عليه وسلم عاهد الأنصار في بيعة العقبة الأولى على أن لا يعصونه في معروف، وذلك كما روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
ومقطوعٌ به أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف، ولكنه ذكر هذه القاعدة، وهذا الشرط ليكون حكمًا يسري بعد ذلك على كل الحكام والمحكومين، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ».
ويخطب الصديق رضي الله عنه أول تسلُّمه للحكم فيقول: أطيعوني ما أقمت فيكم كتاب الله، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم.
كل هذه الآيات، والأحاديث تثبت شيئًا واحدًا مهمًّا، بل في غاية الأهمية، وهو أنه ليس المهم من هو الذي يحكم، ولكن المهم أن يحكم بكتاب الله تعالى، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الوصية التاسعة: الشرع يطبق على الحاكم كما يطبق على المحكومين
لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته التي ألقاها في حجة الوداع أروع الأمثلة في الشفافية في تطبيق القوانين، لقد علمنا أن الحاكم واحد من الشعب، لا فضل له عليه، والكل أمام القانون يتساوى، وليس هناك ما يسمى بالحصانة ضد القانون، أو عدم القدرة على المساءلة.
إن التفرقة بين الحاكم والمحكومين في القانون، لهي من أهم أسباب انهيار الأمم، فهذا -ولا شك- يورث الضغينة في قلوب الناس، ويفقدون بالتالي مصداقية القانون، فيشعرون أن هذه تمثيلية مقيتة تعرض على الشعب، يلعب فيها أقوام دور المعاقَب دومًا، وينجو فيها فريق آخر من العقاب دومًا. ولا شك أن ذلك يهز قيمة القانون، ويضعف تمامًا من سلطانه، وهذا يؤدي إلى هلاك الأمة، واذكروا كلمه الرسول صلى الله عليه وسلم الحكيمة -وكل كلامه حكيم- التي قالها يوم فتح مكة، ويوم قطع يد المخزومية الشريفة التي سرقت، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهُمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهُمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ».
ورأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبق القانون في حجة الوداع أول ما يطبق على نفسه، وعلى أقاربه ورحمه وقبيلته، قال صلى الله عليه وسلم: «وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ».
وترك الثأر الذي حدث في الجاهلية أصبح أمرًا واجبًا لازمًا للمسلمين.
ثم قال: «وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا، دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».
ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مسترضعًا في بني سعد، فقتلته هذيل.
فهذا قتيل لبني عبد المطلب يتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دمه، والجميع يعلم أهمية الثأر في تلك البيئة العربية القبلية، لكن تطبيق القانون على النفس أولاً يشجع الجميع على تطبيقه، والتفاني في عدم مخالفته.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ».
هل في العالم مثل ذلك العدل؟!
إن قانون الربا كان ساريًا أيام الجاهلية، وكان ساريًا فترة من الزمان في أول الإسلام، وتعامل به العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وتعامل به الناس -عن رضا- مع العباس، وهو يمثل ثروة طائلة للعباس، ولقبيلة بني هاشم، ومع ذلك فقد نزل القانون الذي يجرم الربا، ويمنع السابق منه واللاحق، فليطبق القانون بدقة، وليكن أول تطبيقه على عم الرسول العباس رضي الله عنه، لتترسخ القاعدة في أذهان الناس، لا فضل لحاكم على محكوم، ولا لغني على فقير، الكل سواسية -حقيقة لا مجازًا، وواقعًا لا خيالاً- أمام القانون.
هذا هو الإٍسلام، يحكم حياة الناس في الأرض بقوانين السماء، فهل هناك ما هو أعدل من ذلك؟!
الوصية العاشرة: دوام النظر إلى الآخرة ومراقبة الله في كل الأعمال
إن مهمة الدولة الإسلامية ليست توفير سبل المعاش للسكان، ومحاولة قضاء حوائجهم، وإطعامهم وإسكانهم وتعليمهم وعلاجهم وترفيههم فقط، وإن كانت هذه الأمور في منتهى الأهمية؛ وإنما مهمتها قبل كل ذلك الحرص كل الحرص على آخرة الشعب، ومصيره يوم القيامة. نَعَمْ، كل نفس بما كسبت رهينة، لكن مهمة الدولة الإسلامية أن توفر لشعبها الظروف الملائمة، والأوضاع المناسبة التي تقودها إلى عمل صالح، وإلى جنة واسعة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في حجة الوداع: «وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلَكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، وَقَدْ بَلَّغْتُ».
الدولة العلمانية لا تنظر مطلقًا إلى هذه النقطة، فليذهب الشعب إلى الجحيم إن أراد ذلك، المهم أن يستقيم في الدنيا، والدولة الإسلامية لا تنظر للشعب هذه النظرة الآنية السطحية التافهة، إن من وظيفتها الأولى أن تسعى سعيًا حثيثًا لهداية الناس إلى رب العالمين؛ فإذا كان من أدوارها أن تدعو غير المسلمين إلى الإسلام، وإلى النجاة في الدنيا والآخرة، أفلا يكون ذلك من أدوارها تجاه شعبها؟!
إن هذا الدور كان من أَجَلّ وأهم أدوار الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته مسئولاً عن شعبه المسلم، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الرَّامَهُرْمُزِي في الأمثال، وذكره الألباني في الصحيحة: «إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وتَقَاحِمُونَ فِيهَا تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ وَالْجَنَادِبِ، وَيُوشِكُ أَنْ أُرِسَلَ حُجَزَكُمْ، وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا، فَأَعْرِفُكُمْ بِأَسْمَائِكُمْ وَبِسِيمَاكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَ مِنَ الإِبِلِ فِي إِبِلِهِ، فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي. فيقال: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى بَعْدَكَ. فَلا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولَ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ. ولا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدٌ. فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ».
بل كان يحزن صلى الله عليه وسلم إذا مات يهودي أو نصراني دون أن يسلم؛ لأنه يعلم أن عواقب ذلك في الآخرة وخيمة، روى البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض. أي من أهل الذمة، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي. قال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا»؟!
وكم نرى في زماننا من الحكام والدول من لا يذكر الله أبدًا في كلامه، ولا يُذكّر الناس بيوم القيامة، ولا بحسابهم أمام الله، وكأن هذه تقاليد بالية، لا يتكلم عنها إلا بعض المشايخ في المساجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت هذه هي الوصية العاشرة من وصايا حجة الوداع العظيمة، فتلك عشرة كاملة.
***
كانت هذه هي حجة الوداع بدروسها العميقة، وآثارها الجليلة، وقيمتها الهائلة في الميزان الإسلامي، وأوصى فيها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم أمته، وودعها وداعًا أخيرًا، وسعد بها، وسعدت به، واكتمل فيها الدين، وتمت فيها النعمة، وكانت كالجائزة للحبيب صلى الله عليه وسلم بعد عناء السنين.
وأنا على يقين أن من تدبر فيها بعمق فسيُخرج وصايا أخرى كثيرة، فالخير لا ينقطع في كلامه صلى الله عليه وسلم، والمجال مفتوح للجميع للدراسة والتنقيب والتحليل، ونسأل الله الهداية والتوفيق.
التعليقات
إرسال تعليقك