الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
لم يضع الرسول وقتا، وإنما بدأ الاستعداد لفتح مكة بعد أن عاد أبو سفيان إلى مكة المكرمة، فما الخطوات التي اتخذها الرسول في سبيل ذلك؟
استنفار المدينة لفتح مكة
أمر الرسول r بالاستنفار العام في المدينة بعد عودة أبي سفيان إلى مكة المكرمة، وهذا الاستنفار على كل المستويات لكل أهل المدينة المنورة، وأرسل الرسول r استدعاءات للمسلمين في القبائل المختلفة؛ وممن أرسل إليهم غطفان، وأرسل إلى بني سليم، وأرسل إلى فزارة، وهؤلاء هم الأحزاب الذين حاصروا المدينة منذ ثلاث سنوات، ولكن الله U على كل شيء قدير. واتفق الرسول r مع هذه القبائل على التلاقي عند مَرِّ الظَّهْران، وهو على بُعد اثنين وعشرين كيلو مترًا من مكة المكرمة؛ أي أن هذه القبائل سوف تأتي من طرق مختلفة، فحتى لو كانت هناك عيون لقريش فلن تستطيعَ تقدير عدد الجيش المسلم.
وفي الوقت نفسه أخرج الرسول r سرية بقيادة أبي قتادة t، وأمرها بالتوجه لمكان بعيد عن اتجاه مكة؛ ليؤكِّد للقرشيين على أنه لا يريد مكة. وفي الوقت نفسه أيضًا أمر الرسول r المسلمين جميعًا بالسرية التامة، وألاّ يخبروا أحدًا خارج المدينة المنورة بتوجه المسلمين إلى مكة المكرمة، ثم رفع يده إلى السماء ودعا، وقال: "اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَلاَ يَرَوْنَا إِلاَّ بَغْتَةً، وَلاَ يَسْمَعُونَ بِنَا إِلاَّ فَجْأَةً"[1].
وبدأ الإعداد الضخم للخروج إلى مكة.
رسالة إلى قريش
في ذلك الوقت حدثت قصة لا نريد أن نقف عليها كثيرًا، ولكن نمر بسرعة على الحدث دون تحليل. والحقيقة أن حاطب بن أبي بلتعة t أخطأ خطأً كبيرًا بكشف سر رسول الله r لمشركي قريش، فقد أرسل إليهم برسالة يخبرهم أن رسول الله r قادم إليهم، والذي حمله على ذلك أنه خشي على أهله من بطش قريش؛ إذْ ليست له عائلة كبيرة أو قبيلة قوية بمكة تدافع عن أسرته، فهو رجل حليف ليس من أهل مكة الأصليين، وهذا الأمر لا يبرِّر له هذا الخطأ.
ونزل الوحي يكشف للرسول r هذا الأمر، واستطاع الرسول r أن يرسل من يأتي بالرسالة التي أرسلها. وهذا الصحابي الجليل لم يرتكب هذا الخطأ لأنه من المنافقين، بل هي لحظة ضعف خافَ فيها على أسرته، ولكن الرسول r عفا عنه، وتجاوز عن هذا الخطأ لسابقِ تاريخه t في الإسلام. وكما هو معروف أن حاطبًا t من أهل بدر؛ ولذلك منع الرسول r عُمَرَ من أن يؤذيه، وقال له: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"[2].
خروج الجيش الإسلامي وظهور بشريات الفتح
خرج المسلمون بالفعل من المدينة المنورة، وكان هذا الخروج في العاشر من رمضان سنة 8هـ، واتجهوا مباشرةً إلى مكة المكرمة، وفي الطريق بدأت بشريات النصر تهبُّ على المسلمين.
لقي المسلمون العباس بن عبد المطلب t عم الرسول r، ومن أحب الناس إلى قلبه r. وهناك علامة استفهام كبيرة في تأخُّر إسلام العباس t، حتى من قال: إنه أسلم أيام بدر؛ لم يفسر تفسيرًا واضحًا بقاءه في مكة دون هجرة للمدينة المنورة طوال هذه السنوات. ومَن قال: إنه بقي في مكة لنقل الأخبار للرسول r؛ لم يُقِم على ذلك دليلاً. والحمد لله أنه هاجر قبل أن يصل الرسول r إلى مكة المكرمة، وذلك أسعد الرسول r، وسُرَّ سرورًا عظيمًا برؤية العباس t، وانضمَّ العباس إلى قوة المسلمين، وسوف يكون له دور إيجابي في فتح مكة المكرمة.
ثم أكمل الرسول r الطريق، فوجد المسلمون أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية؛ أحدهما ابن عم رسول الله r، والثاني ابن عمة الرسول r، وكانا من أشد الناس إيذاءً لرسول الله r. وجاءا من مكة المكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي رسول الله r، ومن شدة إيذائهما للرسول r فقد رفض r أن يقابلهم، مع أنه r كان يفرح كثيرًا بمن يأتي إليه مسلمًا، إلا أنه رفض في البداية أن يقابلهم من شدة إيذائهما له في فترة مكة المكرمة، لولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها -وكانت مصاحبة لرسول الله r في الفتح- قد توسطت لهما، فقابلهما وقَبِل منهما الرسول r الإسلامَ بعد أن أعلنا التوبة الكاملة بين يديه r، وهذه كانت بشريات لفتح مكة.
الجيش الإسلامي يصل إلى كراع الغميم
وصل الجيش الإسلامي إلى كُراع الغميم، وكان الجيش صائمًا، فقد صام معظم الطريق. وكُراع الغميم على بُعد حوالي ستين كيلو مترًا، أو أكثر قليلاً من مكة المكرمة، وعند كُراع الغميم جاء إليه بعض الصحابة، وأخبروه أن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وكان هذا بعد صلاة العصر، فماذا فعل r؟ دعا الرسول r بقدح فيه ماء ورفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب r، وهذا الحديث في صحيح مسلم[3]. وفي هذا الموقف نجد أن رسول الله r عقد مقارنة سريعة مهمة في الظرف الذي يمر به الجيش، قارن بين الصوم والجهاد في سبيل الله، فالصوم عبادة عظيمة، وكما قال الله U في الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"[4].
وكذلك الجهاد عبادة عظيمة جدًّا في الإسلام، وصرح الرسول r أنه لا يعدله شيء، وهو في هذا الموقف يختار بين عبادتين عظيمتين، وكانت الرؤية واضحة عند رسول الله r، وهذا الموقف حدث بعد صلاة العصر ولم يبقَ إلا القليل ويدخل وقت المغرب، ولكن الرسول r أراد أن يزرع أكثر من معنى في نفوس المسلمين:
أولاً: هناك ما يسمَّى بواجب الوقت، بمعنى أن هناك أشياء لا بد أن تتم في وقتها، وأشياء أخرى من الممكن أن تتم في وقت لاحق، وتأخير الصيام لا يضر؛ لأننا من الممكن أن نقضيه بعد انتهاء فتح مكة، ولكن الجهاد لا يؤخر، وخاصةً أن الجيش على بُعد ستين كيلو مترًا من مكة المكرمة.
ثانيًا: ليس من الممكن أن تأتي بكل أنواع الخير، أو تتجنب كل أنواع الشر، فهذه من المثاليات غير الممكنة في الدنيا، ولكن المسلم الحكيم يوازن بين العمل الفاضل والعمل المفضول، فيقدِّم الفاضل ويؤخر المفضول، ولا يكون هذا إلا بترتيب جيد للأولويات، والواقعية في الفكر والأداء، وتوفيق من الله U.
ثالثًا: أحب الرسول r أن يزرع في قلوب المؤمنين أن الإسلام ليس شعائر تعبدية فقط، ولكن الإسلام دينٌ جاء ليحكم كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، وقد رأينا الرسول r يؤخِّر عبادة وشعيرة مهمة؛ ليقوم بأمر آخر لصالح الأمة، وهو من الإسلام أيضًا، وهو الجهاد، وكذلك السياسة من الإسلام، والتجارة من الإسلام، والمعاملات من الإسلام.
وهكذا أفطر الرسول r وأمر الناس بالإفطار، وكان هذا بعد وقت صلاة العصر، وجاء بعض الصحابة إلى الرسول r وأخبروه أن بعض الصحابة y لم يفطروا مع الناس، فبماذا علَّق r على هذا الفعل؟ قال r: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ"[5].
مع أنهم لم يرتكبوا ذنبًا، ولكن هذه المخالفة في ذلك الوقت ستجعل قوتهم ضعيفة، ولا يستطيعون الجهاد مع المسلمين، فهنا قد خالفوا واجب الوقت، وخالفوا تقليد الرسول r في هذا الأمر، فسمَّاهم r العصاةَ مع أنهم يصومون رمضان. وهذا الموقف يحتاج منا إلى تدبُّر وتعمق وفقه؛ حتى نفهم الأبعاد التربوية عند رسول الله r.
المسلمون على مشارف مكة
وصل الصحابة y إلى مَرِّ الظهران، ومر الظهران تبعد عن مكة المكرمة حوالي اثنين وعشرين كيلو مترًا، وهناك التقت القبائل المختلفة من قبائل فزارة، ومن قبائل بني سليم، ومن غطفان، ومن مزينة، ومن جهينة، ومن كل مكان، عشرة آلاف جندي؛ فالوضع عند مَرِّ الظهران هو نفس الوضع في غزوة الأحزاب، ولكن بصورة معكوسة، وتلك الأيام نداولها بين الناس؛ فمنذ ثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو العدد نفسه، ولكن شتَّان بين الفريقين.
الرسول r يريد هزيمة نفسية قاسية لقريش؛ حتى يدخل مكة بأقل خسائر ممكنة، فأمر الصحابة -في فكرة نبوية عبقرية رائعة- أن يشعلوا النيران جميعًا، فكل صحابي يشعل شعلة من النيران، ويرفعها بيده؛ عشرة آلاف شعلة من النيران، والنيران في حدِّ ذاتها لها طابع مرعب، إذا رآها الناس يشعرون بالرهبة، وعشرة آلاف شعلة فهذا رقم ضخم وهائل. وهذه الفكرة كانت مثيرة لكل أهل قريش وشاهدوها جميعًا؛ لأن مَرِّ الظَّهْران يبتعد عن مكة بحوالي اثنين وعشرين كيلو مترًا، وهي مسافة قريبة يستطيع أهل قريش أن يروا فيها النيران، وكان هناك بعض المراقبين والعيون على مقربة من مَرِّ الظهران، ورأوا هذه النيران عن قرب، ومن هؤلاء أبو سفيان.
ولنتخيل مدى الهلع والرعب عند سيِّد قريش، وزعيم مكة المكرمة، فيخرج بنفسه ليترقب أحوال المسلمين، وكان معه بُديل بن ورقاء الخزاعي، وكان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان، ومع أن بُديل استغاث برسول الله r، لكنه لم يكن يتوقع أن يأتي الرسول r بجيشٍ ليفتح مكة المكرمة في عُقْر دار قريش، وكانت كل أحلامه أن يطلب الرسول r من قريش أن تدفع دية المقتولين من خزاعة، ولكنه الآن يشاهد جيشًا كبيرًا من المسلمين يدخل مكة المكرمة.
حرص العباس على إسلام أهل مكة
وقف العباس بن عبد المطلب t عند مَرِّ الظهران، ويحكي لنا العباس هذا الموقف العظيم، كما في الطبراني بسند صحيح؛ لما رأى العباس عشرة آلاف جندي بهذا التصميم، وهذه القوة على أبواب مكة المكرمة، خاف على أهل مكة، والعباس t حديث الهجرة، بل حديث الإسلام، وقريش قبيلة قوية، فإسلامها -ولا شك- أفضل من قتلها، ثم إنهم الرَّحِم والعشيرة، فقال العباس: "واصباح قريش! والله إن دخل رسول الله r مكة عَنْوةً قبل أن يستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر".
فبدأ العباس يبحث عن أحدٍ يخبر قريشًا أن الرسول r قد جاء؛ ليخرجوا ويستأمنوه، والعباس بذلك لا يفضح أسرار الجيش؛ لأن الجيش على مشارف مكة والنيران في يده، فليس هناك أي نوع من الاختفاء. فركب بغلة الرسول r، وبدأ يبحث عن أحد يصل بالخبر إلى مكة المكرمة، وهو أثناء بحثه سمع اثنين يتكلمان، أحدهما يقول: "ما رأيت كاليوم قَطُّ نيرانًا ولا عسكرًا".
فردَّ عليه صوت آخر، وقال: "هذه والله نيران خزاعة، حَمَشَتْهَا الحربُ". أي أن خزاعة جاءت لتنتقم لنفسها من قريش، فقال الصوت الأول: "خزاعة -والله- أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها". وكان النقاش يدور حول معرفة من أين جاءت هذه القوات التي تحاصر مكة المكرمة.
سمع العباس بن عبد المطلب الحوار، فعرف الصوت الأول وكان أبا سفيان، والصوت الثاني وكان بُديل بن ورقاء الخزاعي، وكان بُديل يعيش في داخل مكة المكرمة؛ لذلك هو لا يعرف أحوال خزاعة، وهل خزاعة هي التي جاءت بجيشٍ أم غيرها؟ فلما استمع العباس t إلى الصوتين نادى على أبي سفيان، والعباس كان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان، فقال العباس: "يا أبا حنظلة". فعرف صوته، فقال: "أبو الفضل؟" وأبو الفضل هو العباس بن عبد المطلب، فقال العباس: "نعم".
فقال أبو سفيان: "ما لك فداك أبي وأمي؟"
فقال العباس: "ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله r في الناس، واصباح قريش والله!".
قال أبو سفيان: "فما الحيلة فداك أبي وأمي؟".
قال العباس: "والله لئن ظفر بك ليضربَنَّ عنقك، فاركبْ معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله r أستأمنه لك".
فوافق أبو سفيان دون تردد، وانصاع تمامًا لنصيحة العباس بن عبد المطلب t، وركب خلفه على بغلة الرسول r، وانطلقا إلى الرسول r، ورجع بُديل بن ورقاء إلى مكة المكرمة، وفي طريقهما إلى الرسول r، كلما مروا على نار من نيران المسلمين قالوا: "من هذا؟" فإذا رأى المسلمون بغلة رسول الله r، قالوا: "عم رسول الله r على بغلته"[6]. فيفسح الصحابة للبغلة أن تأخذ طريقها إلى مكان الرسول r.
عمر بن الخطاب يريد قتل أبي سفيان
مر العباس بأبي سفيان على نار عمر بن الخطاب t، فقال عمر: من هذا؟ وقام، فلما رأى العباس ووراءه أبو سفيان، قال عمر بن الخطاب في منتهى القوة: "عدو الله! الحمد لله الذي أَمْكَنَ منك بغير عقد ولا عهد".
وقرر عمر t قتل أبي سفيان، وعندما رأى العباس t موقف عمر بن الخطاب أخذ أبا سفيان، وأسرع به إلى الرسول r وهو يركب البغلة وكانت بطيئة، وعمر بن الخطاب يسرع حتى يلحق بهما قبل أن يدخلا على الرسول r، ولكن العباس دخل على الرسول r قبل أن يدخل عمر بن الخطاب، وتكلم عمر t وقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه.
فهناك تاريخ طويل بين أبي سفيان والمسلمين، وحروب متتالية قادها أبو سفيان ضد المسلمين، وذكريات أليمة عند المسلمين من وراء أبي سفيان. وعمر بن الخطاب t في هذا الموقف يريد أن ينتصر لله U، ويقتل أبا سفيان، ولكن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله r: "يا رسول الله، إني أجرتُ أبا سفيان".
ثم جلس العباس إلى الرسول r، فأخذ العباس برأس رسول الله r وقال: "والله لا يُنَاجِيه الليلة رجلٌ دوني".
فلما أكثر عمر في شأنه، قال العباس: "مهلاً يا عمر". فالعباس يحاول أن يدافع عن أبي سفيان، وعمر من الناحية الأخرى يهاجم ويصرُّ على قتل أبي سفيان، فقال العباس:
"مهلاً يا عمر، أما والله إنْ كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلتَ هذا، ولكنك عرفت أنه رجل من رجال بني عبد مناف".
فقال عمر بن الخطاب: "مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخَطَّاب لو أسلم!"[7]. وما حمل عمر t على أن يحب إسلام العباس على إسلام أبيه أنه عرف أن إسلام العباس كان أحبَّ إلى رسول الله r من إسلام الخطاب. إنه التجرُّد للدعوة، والتجرد لحبِّ رسول الله r، لدرجة أن إسلام العباس كان أحبَّ إلى قلب عمر من إسلام أبيه. إنه الصدق من عمر بن الخطاب t، فقال r: "اذْهَبْ بِهِ إِلَى رَحْلِكَ يَا عَبَّاسُ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ"[8].
فأعطاه الرسول r فرصة للتفكير، وانصرف أبو سفيان مع العباس بن عبد المطلب. ونحن نعذر عمر t في موقفه هذا؛ لأن أبا سفيان قاد الحروب ضد المسلمين في السنوات الست الأخيرة. ولنرجع إلى الحوار الذي دار بين أبي سفيان وبين المسلمين بعد غزوة أُحد، حتى نعرف مدى الشماتة التي كانت عنده للمسلمين، ومدى رضاه بالمَثُلَة التي حدثت للشهداء، وخاصةً أن المَثُلة حدثت في أحب الناس إلى رسول الله r، وهو حمزة بن عبد المطلب، وحدثت في أصحابه في سبعين شهيدًا، قد مُثِّل بهم في غزوة أُحد. وبالعودة إلى غزوة الأحزاب نرى رغبة أبي سفيان الأكيدة في إهلاك كل المسلمين، فهذا تاريخ طويل لأبي سفيان في الكيد للمسلمين.
أهمية إسلام أبي سفيان
مع أننا نعذر عمر في موقفه هذا من أبي سفيان، وهذا العرض الذي قدمه في قتل أبي سفيان في ذلك الوقت، وليس له عقد وعهد، إلا أن موقف العباس كان أصح في هذا المقام؛ لأن أبا سفيان قد يسلم ويحسن إسلامه، وهذا ما حدث بالفعل بعد ذلك، ونعلم أن كسب مسلم إلى الصف خير من قتل كافر، ونجاة إنسان من الناس -أي إنسان- خيرٌ من سقوطه مهما كان هذا الإنسان، وهذا أصلح لقريش؛ لأن إسلام أبي سفيان قد يؤدي إلى إسلام قريش، فتنجو قريش بكاملها في الدنيا وفي الآخرة، وتضاف قوة قريش إلى قوة المسلمين، وهذا نصرٌ كبير.
وإسلام أبي سفيان أحقن لدماء المسلمين؛ لأن أبا سفيان قد يمنع قريشًا من المقاومة، وبذلك تسهل عملية فتح مكة، أما قتل أبي سفيان قد يثير قريشًا، وهذا زعيم قريش، وقد يثير بني أمية، وهو سيد بني أمية، وقد تدور حرب، الله U أعلم بعواقبها. ومما يؤكد أن رأي العباس كان أفضل في هذه القضية أن الرسول r مال إلى هذا الرأي، ولكنه تعامل r مع القضية بتوازنٍ رائع يجمع بين الترهيب والترغيب، ويجمع بين القوة والرحمة، ويجمع بين الذكاء السياسي وبين الفقه الدعوي.
حوار الرسول مع أبي سفيان
دار حوار بين الرسول r وأبي سفيان، هذا الحوار من أروع مواقف السيرة؛ ففي البداية عرض الرسول r على أبي سفيان الإسلام بمنتهى القوة، وهذا العرض للإسلام من زعيم قوي منتصر على زعيم ضعيف مهزوم، وهو يعرض عليه الإسلام لنجاته، وإلا فالأصل أن الرسول r في حِلٍّ من دماء قريش؛ لأنهم خالفوا صلح الحديبية، وقتلوا رجالاً من خزاعة حليفة المسلمين، فعرض عليه الإسلام بصيغة فيها ترهيب واضح، فقال الرسول r: "وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟"[9].
وهذا تهديد واضح من الرسول لأبي سفيان، فقد ذهب وقت الإقناع والمحاورة، ونحن على أبواب حرب، وأبو سفيان ليس بالرجل الهيِّن، فهو من دهاة العرب، ومن ثَمَّ قام بسرعة يقيِّم الموقف بصورة واقعية؛ ولذلك تَلَطَّف في الحوار، وأجاب بصورة تجمع بين الموافقة وعدم الاقتناع الكامل؛ لأنه يريد أن يحفظ ماء وجهه فهو سيد قريش، فقال أبو سفيان:
بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أنْ لو كان مع الله إلهٌ غيره، لقد أغنى عني شيئًا.
لم يجِبْ أبو سفيان إجابة مباشرة، ولم ينطق بالشهادة، ولكنه قال: لو كان هناك آلهة أخرى كاللات والعزى وهبل، أو غير ذلك لدافعت عنا، وحيث إني لا أجد دفاعها فهي ليست موجودة. فهي إجابة غير مباشرة، وانتقل الرسول r معه إلى النقطة الأصعب، وهي الاعتراف بنبوة الرسول r؛ لأن النقطة الأولى أسهل، إذْ إن العرب ما كانوا ينكرون أن الله U هو الخالق، ولكنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، أما قضية النبوة والرسالة هذه، فقد كانت مرفوضة عندهم تمامًا، فقال له الرسول r: "وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟".
وهنا وُضع أبو سفيان في مأزق، فهو حتى هذه اللحظة لم يقتنع بقضية الإيمان، وهو في الوقت ذاته لا يريد أن يكذب وهو سيد قريش، وكان كما يقول عن نفسه: "وكنت امرأً سيِّدًا أتكرم وأستحي من الكذب"[10]. وفي الوقت نفسه لا يريد أن يأخذ موقفًا حادًّا تكون فيه نهايته، فقال أبو سفيان: "بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!" ثم قال: "هذه والله كان في نفسي منها شيء".
أي أن موضوع النبوة ما زلت غير مقتنع به، فحتى هذه اللحظة لا يتخيل أبو سفيان أن تنهار مقاومته كلها هكذا في لحظة. وهنا تدخل العباس t؛ لأنه مدرك لصعوبة الموقف، واحتمال قتل أبي سفيان، وغزو مكة وإهلاك قريش، وعمر بن الخطاب صرح بذلك منذ قليل في اليوم السابق، فقال العباس في منتهى القوة: "ويحك يا أبا سفيان! أسلمْ واشْهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تُضربَ عنقك"[11].
وليس هذا بإكراه في الدين، بل على العكس هو رحمة؛ لأن قتل أبي سفيان في هذا الموقف لا يستنكره أحد، وهو يصنف في أعراف الدول بمجرمي الحرب؛ لأنه دبَّر اغتيالاً جماعيًّا لسكان المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، هذا غير فتنة الناس في دينهم أول سنوات مكة، ونقضه للمعاهدة مع الرسول r، فأصبح مستباح الدم. وأبو سفيان رجل واقعي، أدرك خطورة الموقف؛ ولذلك نطق بالشهادتين مباشرةً: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأعلن إسلامه أمام الرسول r.
د. راغب السرجاني
[2] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس (2845). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة (2494).
[3] مسلم: كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر (1114).
[4] البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم (1805). مسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام (1151).
[5] رواه مسلم (1114) ترقيم فؤاد عبد الباقي، والنسائي (2263) ترقيم عبد الفتاح أبي غدة، والترمذي (710) ترقيم أحمد شاكر.
[6] الهيثمي: مجمع الزوائد، دار الفكر - بيروت، 1412هـ، 6/243، 244، رقم الحديث (10234). وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
التعليقات
إرسال تعليقك