التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
المعتضد بالله بن عباد، مقال بقلم د. راغب السرجاني، يتناول حياة المعتضد بن عباد وتوسع مملكة إشبيلية في عهده، حتى أصبحت أقوى ملوك الطوائف في الأندلس
المعتضد بالله .. الملك
عندما تُوُفِّيَ القاضي أبو القاسم ولي من بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد، وتلقَّب أوَّلاً بفخر الدولة، ثم تلقَّب بالمعتضد بالله، وقد تميَّز المعتضد هذا بذكائه السياسي وتفوُّقه العسكري، ولمَّا مَلَكَ إِشْبِيلِيَة وأعمالها جرى على سنن أبيه في إيثار الإصلاح وحُسْنِ التدبير وبسط العدل، وظلَّ على ذلك مدَّة يسيرة، ثم بدَا له أن يستبدَّ بالأمور وحده، وكان شخصية قوية، كان صارمًا قاسي القلب، ذكيًّا داهية سريع البديهة[1].
قالوا عن المعتضد بالله ابن عباد
ابن بسام
قال عنه المؤرخ ابن بسام: «رجل لم يثبتْ له قائمٌ ولا حصيدٌ، ولا سَلِمَ عليه قريبٌ ولا بعيدٌ، جبَّارٌ أَبْرَمَ الأمور وهو متناقض، وأسدٌ فَرَسَ الطُّلَى[2] وهو رابض، متهوِّر تتحاماه[3] الدهاة، وجبَّارٌ لا تَأمَنُه الكماة[4]، متعسِّف[5] اهتدى، ومُنْبَتٌّ قطع فما أبقى، ثار والناسُ حربٌ، وكلُّ شيءٍ عليه إِلْب[6]، فكفى أقرانَهُ وهم غيرُ واحد، وضبَط شانَه بين قائم وقاعد، حتى طالت يدُه، واتَّسع بلدُه، وكثر عديدُه وعُدَدُه... جبَّارًا من جبابرة الأنام، شَرَّدَ به مَنْ خلْفَه... حَرْبُهُ سمٌّ لا يُبطئ، وسهم لا يُخطئ، وسلْمُهُ شرٌّ غيرُ مأمون، ومتاعٌ إلى أدنى حين»[7].
ابن حيان القرطبي
وقال عنه مؤرخ الأندلس ابن حيان: «ذو الأنباء البديعة، والحوادثِ الشنيعة، والوقائعِ المُبيرة[8]، والهمَم العليَّة، والسطوة الأبيَّة... حُمِلَ عليه على مرِّ الأيام، في باب فَرْطِ القسوة وتجاوُز الحدود، والإبلاغ في المُثْلَةِ، والأخذ بالظِّنَّةِ، والإخْفَار[9] للذمَّة، حكاياتٌ شنيعة لم يبدُ في أكثرها للعالم بصدقها دليلٌ يقومُ عليها، فالقول ينساغ في ذكرها؛ ومهما بَرِئ من مغبَّتها فلم يَبْرَأْ من فظاعة السطوة وشدَّة القسوة، وسوء الاتِّهام على الطاعة»[10].
المعتضد وتوسع مملكة إشبيلية
التوسع على حساب إمارات غربي الأندلس
بدأ المعتضد بن عباد عهده بالقوَّة والصرامة، فبطش بوزراء أبيه، ثم انتقل للامتلاك على إمارات غربي الأندلس الصغيرة، واستطاع بقوَّته وتفوُّقه العسكري أن يُسيطر عليها ويضمَّها إلى أملاكه، فانتزع لَبْلَة من ابن يحيى اليحصبي، وقضى على دولته سنة (445هـ=1053م)[11]، كما أنه انتزع جزيرة شَلْطِيش وولبة من بني البكري، وقضى على دولتهم سنة (443هـ=1051م) [12]، وفي السنة نفسها انتزع شَنْتَمَرِيَّة الغرب من بني هارون وقضى على دولتهم[13]، وأخرج القاسم بن حمود من الجزيرة الخضراء[14]، وهكذا توسَّعت مملكة إِشْبِيلِيَة كثيرًا على حساب الطوائف المغلوبة على أمرها!
التوسع على حساب الإمارات البربرية في الجنوب
ولما فرغ المعتضد من إمارات الغرب اتجه إلى الإمارات البربرية في الجنوب؛ وهي: إمارة بني يفرن في رُنْدة، وبني دمّر في مورور، وبني خزرون في شَذُونة وأركش، وبني برزال في قَرْمُونة؛ وذلك ليتفرَّغ بعدها للشمال والشرق، واستطاع بذكائه وخديعته أن يُسيطر على تلك الإمارات ويضمَّها لأملاكه؛ إذ دبَّر لهم حيلة قتلهم فيها جميعًا؛ ففي سنة (445هـ=1053م) دبَّر المعتضد كمينًا لأولئك الأمراء، فدعاهم إلى زيارته بإِشْبِيلِيَة، فلبَّى الدعوة ثلاثة؛ صاحب رُنْدة، وصاحب مورور، وصاحب أركش، فاستقبلهم أحسن استقبال ثم أمر بالقبض عليهم، وتكليبهم، واستولى على أمتعتهم وسلاحهم، ثم أمر بإدخالهم الحمام، وأشعل النار فيه، فهلكوا جميعًا، ويُقال: إنه أبقى على ابن أبي قرة صاحب رُنْدة، وهلك الآخران؛ وبذلك امتلكت مملكة إِشْبِيلِيَة في عهد المعتضد مساحة شاسعة تشمل المثلَّث الجنوبي من الأندلس[15].
وأما قَرْمُونة وأصحابها بني برزال فبينهم وبين المعتضد شأن كبير، فما زال المعتضد يُرهقها بغاراته منذ أيام محمد بن عبد الله البرزالي حليفه بالأمس، ولكن البرزالي صمد أمامه حتى وفاته سنة 434هـ، ثم بُويع لابنه المستظهر عزيز بن محمد، وقد انتظمت أحوالها معه ورخت أسعارها، وعمَّ الأمن والرخاء، حتى جدَّد المعتضد غاراته عليها، فما زالت الحروب على أُوَارها[16] بينهما، حتى استسلم المستظهر أمام جبروت المعتضد، وخرج من قَرْمُونة وحلَّ بإِشْبِيلِيَة، ومَلَكَها المعتضد سنة (459هـ=1067م) [17].
الفتنة بين المعتضد وبني الأفطس أصحاب بَطَلْيُوس
وقعت في عهد المعتضد أشرس الفتن الأندلسية وأقواها وقعًا في النفوس، تلك الفتنة التي اشتعل أوارها بينه وبين بني الأفطس أصحاب بَطَلْيُوس لولا حماية الله للمسلمين ثم تدخُّل القاضي جهور وابنه أبي الوليد لفضِّها والتحذير من عواقبها، وهو ما سنُفَصِّله في موضعه إن شاء الله.
مؤامرة لقتل المعتضد
تعرَّض المعتضد بن عباد لمآسٍ كثيرة خلال فترة حكمه، التي لا تهدأ عواصفها معه، ففي سنة (450هـ=1058م) تعرَّض المعتضد لمؤامرة كادت أن تفتك به وبمُلْكِه كله، وكانت هذه المؤامرة شديدة الوقع على نفسه، وقد عبَّرت عن شدة بأسه في تعامله مع مثل تلك الظروف؛ إذ تآمر عليه ابنُه وولي عهده إسماعيل ووزيره البزلياني؛ لأسباب شخصية وتملُّكِ الحقد في قلب الابن على أبيه والوزير على سيده، ولكن يبدو أن المعتضد كان شديد الحيطة فيمن حوله، فاكتشف المؤامرة التي دَبَّرها ابنه مع الوزير البزلياني وقتلهما[18].
قطع الخطبة لهشام المؤيد بالله
كان المعتضد بن عباد شديد الطموح والاعتداد بنفسه، وعدم تقيُّده بغيره؛ لذلك عزم على قطع الخطبة للمدعو هشام المؤيد، فقطعها سنة (451هـ=1059م)، ونعى هشام المؤيد إلى رجال دولته وأهل مملكته.
وقد عَلَّق المؤرِّخُون الأندلسيون وغيرهم شماتة وحزنًا على هشام، فقالوا: «صارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها تكون -إن شاء الله- الصادقة، فكم قُتِلَ! وكم مات! ثم انتفض عنه التراب»[19]. وقال بعضهم فيه: [الرجز]
ذاكَ الَّذِي مَاتَ مِرَارًا وَدُفِنْ *** فَانْتَفَضَ التُّرْبُ وَمُزِّقَ الْكَفَنْ[20]
فقد أعلن محمد بن هشام المهدي الأموي وفاة هشام المؤيد، ودُفن بمحضر من الفقهاء والعلماء في شعبان سنة (399هـ=1009م)، ثم ظهر بعد عام على يد الفتى واضح، وتولَّى الخلافة، ثم تُوُفِّيَ قتيلاً على يد سليمان المستعين أو ولده محمد بن سليمان سنة (403هـ=1012، 1013م)، ودُفن خُفية، ولما دخل علي بن حمود قرطبة، بحث عن هشام فلم يجده فأعلن وفاته، ودعا لنفسه بالخلافة سنة (407هـ=1016م)، ثم جاء القاضي ابن عباد سنة (426هـ=1035م)، فأظهر الدعوة الهاشمية ودعا له وأخذ البيعة له؛ وذلك دفعًا لدعوى ابن حمود بالخلافة، وليُضفي على نفسه الشرعية كما ذكرنا قبل ذلك[21].
المعتضد بالله الشاعر الأديب
ومع سطوة المعتضد بن عباد السياسية وبراعته العسكرية، إلا أنه كان يتمتَّع بثراء علمي وثقافي واسع، وكان بلاطه بلاطَ العلماء والفقهاء، وقد اشتهرت إِشْبِيلِيَة في عصره بالعلم والشعر والفن؛ فقصدها الشعراء من كل جانب في الأندلس، حتى أصبح بلاطه الملكي محلًّى بالشعراء ورجال العلم في الأندلس كلها، ومن أشهرهم الشاعر الأديب الوزير ابن زيدون، الذي لحق بالمعتضد إثر نكبته مع بني جهور فقصد إِشْبِيلِيَة، فأكرمه المعتضد وقَرَّبه إليه، وجعله وزيره ولسان دولته، وكان منهم وزيره وكاتبه البزلياني، الذي كان «أحد شيوخ الكُتَّاب، وجهابذة أهل الآداب»[22]. هذا فضلاً عن أن المعتضد كان شاعرًا[23].
وفاة المعتضد بالله
تُوُفِّي المعتضد بن عباد بعد أن توسَّعت دولته، وعظم ملكه، وهو يبلغ من العمر 57 سنة، وذلك في جمادى الآخرة سنة (461هـ=1069م)، وفيه يقول ابن القطَّان المؤرخ: «كان ذا سطوة كالمعتضد العباسي ببغداد، وكان ذا سياسة ورأي، يُدَبِّر مُلكه من داره، وكان يغلب عليه الجود؛ فلم يُعْلَم في نظرائه أبذل منه للمال»[24].
[2] الطُّلى: الأعناق، مفردها الطُّلاة: وهي العنق أو صفحته. ابن منظور: لسان العرب، مادة طلي 15/10، والمعجم الوسيط 2/564.
[3] تحاماه الناس؛ أي: توقَّوْه واجتنبوه. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الحاء 6/2321، وابن منظور: لسان العرب، مادة حما 14/197، والمعجم الوسيط 1/200.
[4] الكُماة مفردها الكميّ: الشجاع المقدام الجريء المحمي بسلاحه ودرعه. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الكاف 6/2477، وابن منظور: لسان العرب، مادة كمي 15/231، والمعجم الوسيط 2/799.
[5] المتعسِّف: الظالم الجائر والسائر على غير هدى ولا علم. الجوهري: الصحاح، باب الفاء فصل العين 4/1403، وابن منظور: لسان العرب، مادة عسف 9/245، والمعجم الوسيط 2/600، 601.
[6] الإِلْب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان. ابن منظور: لسان العرب، مادة ألب 1/215، والمعجم الوسيط 1/23.
[8] المبيرة: المهلكة التي تُسرف في الإهلاك. ابن منظور: لسان العرب، مادة بور 4/86، والزبيدي: تاج العروس، باب الراء فصل الباء 10/253.
[9] الإخفار: نقض العهد والغدر به. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الخاء 2/649، وابن منظور: لسان العرب، مادة خفر 4/253، والمعجم الوسيط 1/246.
[10] ابن بسام: الذخيرة 2/24، 25، وابن الأبار: الحلة السيراء 2/40، ورَحِم واشِجة: مشتبكة متصلة متآلفة. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل الواو 1/347، وابن منظور: لسان العرب، مادة وشج 2/398، والمعجم الوسيط 2/1033.
[15] ابن بسام: الذخيرة 3/38-40، وابن عذاري: البيان المغرب 3/294-301، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/45-48.
التعليقات
إرسال تعليقك