ملخص المقال
صور من حياة الأمير قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل، وذكر جهاده ضد الصليبيين، وقتله على يد الباطنية الشيعة
نسبه ومولده
سيف الدين قسيم الدولة أبو سعيد البرسقي مولى الأمير برسق غلام السلطان طغرلبك، ترقت به الحال إلى أن ولاه السلطان محمود إمرة الموصل والرحبة، ثم ولاه شحنمكية بغداد.
نشأته
نشأ آق سنقر البرسقي وتربى في أحضان الدولة السلجوقية فقد كان مملوكًا للسلطان طغرلبك، ومن الواضح أن لآق سنقر مميزات أهلته ليترقى من كونه مملوكًا إلى محاربًا في الجيوش إلى ان يكون واليًا على الموصل من قبل السلطان محمود السلجوقي، ويقول عنه ابن الأثير في كتابه الكامل إنه كان في خدمة السلطان محمود، ناصحًا له، ملازمًا له في حروبه كلها، ولا شك أنه هذه الصفات نشأ وتربى عليه منذ صغره.
قامت الدولة السلجوقية بدور هام في الحروب الصليبية فهي أول من تصدى لهذه الحملات التي استهدفت بلاد الشام للقضاء على الإسلام والمسلمين، فجهز السلطان محمود السلجوقي آق سنقر البرسقي إلى الموصل بعد قتل الأمير ممدود لمحاربة الصليبيين.
جهاده وأهم المعارك ودوره فيها
كان البرسقي كثير الحركة دائب النشاط فلم تعرف نفسه يومًا الكسل فقد كان يحارب الباطنية، وكاد أن يقضي عليهم وحار الصليبيين في الشام وكان السلطان محمود قد أمره بتجهيز نفسه إلى الموصل ليصبح واليًا ومقاتلاً للصليبيين وذلك بعد مقتل الأمير ممدود، فلم يأخذ قسطًا من الراحة بعد أن تولى ولاية الموصل بل قام بمحاربة الصليبيين ونشر العدل بين أهل الموصل، فبدأ بالدفاع عن حلب بعد أن ضايقها الفرنج بالحصار ثم عاد إلى الموصل وأقام بها إلى أن قتل.
صورة "الجهاد في سبيل الله"
طمعت الفرنجة وقويت نفوسهم ومنوا أنفسهم في الاستيلاء على بلاد الشام بعد أن تملكوا مدينة صور، فاستكثروا من الجموع خاصة بعد أن وصل إليهم دبيس بن صدقة صاحب الحلة، فأطمعهم طمعًا ثانيًا في بلاد الشام، وخاصة حلب ظنًّا منه أن أهل هذه البلاد على نفس مذهبه الشيعي، ومتى رأوه مالوا إليه وسلموا له البلد، فسار معه الفرنج بعد أن بذل لهم بذولاً كثيرة وصار مطيعًا لهم ونائبًا عنهم، فحاصروا حلب وقاتلوهم قتالاً شديدًا. ولقد وطن الصليبيون أنفسهم على دخول المدينة فبنوا بيوتًا تقيهم من الحر والبرد، يقول ابن العديم: ولقد طال حصار حلب وأشرف الفرنج على الاستيلاء عليها، وبلغ بهم الضر إلى حالة عظيمة حتى أكلوا الميتات والجيف، ووقع فيهم المرض، فحكى لي والدي أنهم كانوا في وقت الحصار مطرحين من المرض في أزقة البلد، فإذا زحف الفرنج، وضرب بوق الفزع قاموا كأنما نشطوا من عقال، وقاتلوا حتى يردوا الفرنج، ثم يعود كل واحد من المرضى إلى فراشه، وما زالوا في هذه الشدة إلى أن أعانهم الله بقسيم الدولة آق سنقر البرسقي، وكان مريضًا بالحمى فعاهدهم إن عافه الله لينصرنهم، فما لبث ثلاثة أيام حتى عوفي، فأمرهم بتسليمه القلعة لنوابه، وما إن أشرف عليها حتى رحل الفرنج عنها، وهو يراهم، فأراد من في مقدمة عسكره أن يحمل عليهم، فمنعهم هو بنفسه وقال: قد كفينا شرهم، وحفظنا بلدنا منهم، والمصلحة تركهم حتى يتقرر أمر حلب ونصلح حالها، ونكثر ذخائرها، ثم حينئذ نقصدهم ونقاتلهم. فلما رحل الفرنج خرج أهل حلب ولقوه، وفرحوا به، وأقام عندهم حتى أصلح الأمور وقررها.
ومن أهم المعارك التي خاضها مع الفرنجة معركة كفر طاب فقد جمع البرسقي عساكره وسار إلى الشام، وقصد كفر طاب وحصرها، فملكها من الفرنج، وسار إلى قلعة عزاز، وهي من أعمال حلب من جهة الشمال، وصاحبها جوسلين، فحصرها، فاجتمعت الفرنج فارسها وراجلها، وقصدوه ليرحلوه عنها، فلقيهم وضرب معهم مصافًا، واقتتلوا قتالاً شديدًا صبروا كلهم فيه، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر كثير.
وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين، وعاد منهزمًا إلى حلب، فخلف بها ابنه مسعودًا، وعبر الفرات إلى الموصل ليجمع العساكر ويعاود القتال.
كان البرسقي صاحب بأس شديد على الفرنجة وعلى الباطنية، وما استطاعوا هزيمته إلا بعد صولات وجولات وبعد أن هزمهم في كفر طاب وبعد أن أجلاهم عن حلب.
وفاته
قتل قسيم الدولة آق سنقر البرسقي، صاحب الموصل، بمدينة الموصل، قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع، وكان يصلي الجمعة مع العامة، وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة كلاب ثارت به، فقتل بعضها، ونال منه الباقي ما آذاه، فقص رؤياه على أصحابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك الجمعة لشيء أبدًا، فغلبوا على رأيه، ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، فأخذ المصحف يقرأ فيه، فأول ما رأى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفسًا عدة الكلاب التي رآها، فجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة، وقتل -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته.
وكانت وفاته سنة عشرين وخمسمائة لما انفتل من الصلاة في جامع الموصل، أثخنه الباطنية جراحًا في ذي القعدة؛ لأنه كان قد تصدى لاستئصال شأفتهم وقتل منهم عصبةً.
قالوا عنه
قال عنه الذهبي: وكان ديّنًا عادلاً عالي الهمة.
ويقول ابن الأثير في كتابه الكامل: حكى لي والدي -رحمه الله- عن بعض من كان يخدمه قال: كنت فراشًا معه، فكان يصلي كل ليلة كثيرًا، وكان يتوضأ هو بنفسه، ولا يستعين بأحد، ولقد رأيته في بعض ليالي الشتاء بالموصل، وقد قام من فراشه، وعليه فرجية صغيرة وبر، وبيده إبريق، فمشى نحو دجلة ليأخذ ماء، فمنعني البرد من القيام، ثم إنني خفته، فقمت إلى بين يديه لآخذ الإبريق منه، فمنعني وقال: يا مسكين! ارجع إلى مكانك، فإن برد، فاجتهدت لآخذ الإبريق، فلم يعطني، وردني إلى مكاني ثم توضأ وقام يصلي.
وكان مملوكًا تركيًّا، خيرًا، يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجدًا.
ويقول عنه صاحب بغية الطلب في تاريخ حلب: لما ملك حلب وأحسن إلى أهلها، وعدل فيهم، وأزل المكوس والمظالم، ووقع إلي نسخة التوقيع الذي كتبه لأهل حلب بإزالة المكوس والضرائب وتعفية آثار الظلم والجور، وكان -رحمه الله- على ما يحكي حسن الأحوال، كثير الخير، جميل النية، كثير الصلاة والتهجد والعبادة والصوم
وقال أبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الكريم الجزري: كان آق سنقر البرسقي خيرًا، عادلاً، لين الأخلاق حسن العشرة من أصحابه[1].
التعليقات
إرسال تعليقك