ملخص المقال
لم يعد المغاربة وحدهم الذين يحلمون بأوروبا ويضحون بحياتهم في سبيل تحقيق هذا الحلم، بل إن العشرات من الأفارقة القادمين من أعماق القارة الأفريقية التي
نبيل درويش*
"بليونش" أو"غوروغو" أسماء أمكنة لم تعد مرتبطة بالمغرب الذي وضعته الجغرافيا على عتبة "الجنة الأوروبية" بقدر ما صارت مرتبطة بالقارة الأفريقية بأكملها حيث لم يعد المغاربة وحدهم الذين يحلمون بأوروبا ويضحون بحياتهم في سبيل تحقيق هذا الحلم، بل إن العشرات من الأفارقة القادمين من أعماق القارة الأفريقية التي مزقتها الحروب والصراعات الاثنية والمجاعات لعقود طويلة يقطعون آلاف الكيلومترات متنقلين عبر شاحنات وسيارات مختلفة أو سيرا على الأقدام من أجل الوصول إلى العيون أو الرباط أو طنجة، تلك المدن المغربية التي أصبحت تعني شيئا واحدا بالنسبة للمهاجر الأفريقي: إنها المحطة الأخيرة التي يمكنه أن يستريح بها بعد شهور طويلة قطع خلالها آلاف الكيلومترات وسط صحراء شمال أفريقيا الجرداء وشمسها الملتهبة حيث فقد العديد من أصدقائه في الطريق وصافح الموت أكثر من مرة مسترشدا ببوصلة الطبيعة وحاملا معه ذكريات مؤلمة عن قارة تدعى أفريقيا.
الشرطة المغاربية والأفارقة
فلم تعد الشرطة الإسبانية وحدها التي تملك الحق في اعتراض سبيل المهاجريين السريين ومطالبتهم بأوراق الإقامة، بل صار بوسع رجال الشرطة المغاربة أيضا أن يفعلوا الشيء نفسه عندما يلمحون مهاجرا سريا أفريقيا يمر في أحد الشوارع، فمع مرور الوقت أصبح منظر المهاجرين الأفارقة الذين يتسولون في الشارع باللغة الفرنسية أو الإنجليزية أمرا مألوفا لدى عموم المغاربة.
وسط منظر طبيعي خلاب تنبجس لوحة جذابة لصخور جرداء وأرض مكسوة بالأشجار يختفي مخيم "بليونش" (يقع على بعد حوالي 12 كلم من مدينة القصر الصغير المغربية) الذي يضم بين أشجاره الشبيهة بأدغال سيراليون أو ساحل العاج جراح وأحلام القارة الأفريقية بأكملها.
لا تختلف الحياة داخل مخيم "بليونش" عن تلك التي ترعرع فيها الأفارقة في بلدانهم الأصلية، إذ يعيش داخل المخيم حوالي ثماني عشائر تضم مالي والسينغال وغينيا والسودان (أقلية) والكونغو برازافيل والكونغو كينشاسا.
ومع توالي الأيام أدركوا أن المقام سيطول بهم فوق الأراضي المغربية لذلك نظموا حياتهم وأنشؤوا "دولتهم" الصغيرة في الأحراش المغربية ولحل مشاكلهم الداخلية وصراعاتهم الاثنية التي رافقتهم انشؤوا مجلسا للحكماء يضم ممثلين عن كل عشيرة يجتمع كلما اقتضت الضرورة من أجل الفصل في جملة من الأمور وتحديد المسؤوليات وأحيانا إصدار الأحكام في حق المخالفين لقانون العشيرة والتي تكون في غالب الأحيان إرسال المهاجر السري إلى أعماق الغابة ليحتطب مدة يومين أو ثلاثة أيام أو تكليفه بالحراسة لمدة طويلة، كما يعين مجلس الحكماء طبيبا للعشيرة مكلفا بالإشراف على أحوال المرضى من المهاجرين السريين ويصف لهم بعض الوصفات التقليدية التي تعلمها في بلده، كما أنه يلجأ أحيانا إلى بتر بعض الأعضاء التي يصيبها التعفن ويستعصي علاجها.(1)
ورغم أن "مجتمع الغابة" ذكوري بامتياز إلا أن بعض أفراده يتزوج فطريا في حالة ارتباطه عاطفيا بإحدى الفتيات المهاجرات وأحيانا يرزق بأول أبناءه وهو ما زال داخل المخيم ينتظر الفرصة المواتية لعبور الأسلاك الشائكة التي تفصله عن مدينة سبتة المحتلة التي تعتبر قانونيا جزءا من التراب الأوروبي.
كما يوجد داخل المخيم إمام وراهب يشرفان على الأمور الدينية للمهاجرين المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون جنبا إلى جنب داخله حيث يصل عدد المقيمين به في بعض الأحيان إلى 800 مهاجر.
الزنكة
ويطلق المهاجرون السريون على البيوت البلاستيكية التي يقطنونها اسم "الزنكة" التي تعد واحدة من عشرات الكلمات المغربية الدارجة التي تعلمها المهاجرون الأفارقة بعد شهور طويلة قضوها سرا داخل غابات المغرب الشمالية.
وعكس (الميسورون)" من المهاجرين السريين الأفارقة الذين باستطاعتهم دفع مبلغ 1250 دولارا تقريبا والذي يمثل قيمة الرحلة "الآمنة" صوب جزر الخالدات الإسبانية، فإن الأفارقة الذين يقصدون مخيمات بليونش أو مسنانا يكونون في الغالب من صنف المهاجرين السريين الذين فقدوا أغلب مدخراتهم المالية في الطريق أو تعرضوا لعملية النصب من أحد سماسرة الهجرة بالجنوب المغربي، فيكون ملجأهم الوحيد هو انتظار الفرصة المواتية التي يتمكنون فيها من قطع الأسلاك الشائكة التي تفصل مدينة سبتة (تحتلها إسبانيا منذ القرن الخامس عشر) التي يصل علوها إلى خمسة أمتار وعليها حراسة مشددة من طرف الحرس المدني الإسباني المجهز بأحدث معدات المراقبة, يكرر الأفارقة محاولة اجتياز الأسلاك الشائكة تقريبا بشكل يومي مستعينين في غالب الأحيان بسلالم خشبية يصنعونها من جذوع الأشجار، لكنهم غالبا ما يفشلون في العبور أو يلقى عليهم القبض من طرف الحرس الإسباني الذي يأخذ بصماتهم قبل أن يمروا بالمحكمة ويطردوا من جديد إلى التراب المغربي.
قصص دامعة وذكريات مؤلمة
ويحمل كل مهاجر سري أفريقي فوق كتفه أطنانا من القصص التي تختلط فيها المعاناة بالتحدي والصبر على طول الطريق صوب بلد عرف بين أوساط المهاجرين السريين الأفارقة أنه البوابة التي تفصل بين "جحيم" أفريقا "ونعيم" أوروبا.
ويحكي سيكو (مهاجر كاميروني 23 سنة) قائلا "طلبت تأشيرة الدخول إلى إسبانيا من سفارتها في الكاميرون، لكنها أجابت على طلبي بالرفض، فقررت مع عشرين من رفاقي الالتحاق بليبيا ومنها نجتاز البحر صوب إيطاليا بمساعدات مافيا الهجرة السرية، إلا أنه بعد أسابيع من السير في صحراء ليبيا الشاسعة توفي عشرة من رفاقي بسبب الجوع والتعب، فدفناهم وسط رمال الصحراء فيما لفظ ثلاثة آخرون أنفاسهم الأخيرة بعد الوصول إلى طرابلس.
ويضيف المهاجر السري الذي ينتظر حاليا فرصته في عبور الأسلاك الشائكة" اشتغلت مدة شهرين في النيجر من أجل تدبير ما يكفي من المال لإكمال مشواري الطويل قبل أن تعتقلني السلطات مع مهاجرين آخرين بسبب عدم توفرنا على أوراق الإقامة مما اضطرنا إلى مواصلة السير مجددا بواسطة إحدى الشاحنات التي وجدناها صدفة على قارعة الطريق بعدما تعطل محركها لكن السائق الذي ساعدناه في إصلاح شاحنته واتفقنا معه على إيصالنا إلى الحدود لم يكن يعرف الطريق جيدا مثل باقي السائقين الذين يمتهنون هذا العمل بعد ارتفاع عدد الراغبين في الهجرة إلى أوروبا، وفي الطريق شاهدنا سيارة تحمل عددا كبيرا من جثث بعض المهاجرين السريين الذين قضوا نحبهم داخل إحدى الشاحنات. وبعد فترة من المسير تعطلت شاحنتنا فواصلنا المسير على الأقدام مدة عشرة أيام، وكدنا نموت من التعب قبل أن نصل إلى الحدود الجزائرية المغربية بعد شهور طويلة فقدنا خلالها أغلب أصدقائنا الذين خرجوا معي من الكاميرون".
لقد صار المغرب مع اشتعال رؤوس الشباب الأفريقي بحمى الهجرة السرية يمثل بوابة النعيم التي يجب الوقوف لشهور أمام عتبتها انتظارا لأن تفتح فيفر خلالها من استطاع من أبناء أفريقيا اليائسين، والمفارقة أن الأفريقي الذي كان يختطفه الأوروبيون في القرون الغابرة من وسط الأدغال لبيعه في أسوق النخاسة الأوروبية صار هو الذين يضحي بحياته الآن من أجل الالتحاق بأوروبا ليعيش عبودية جديدة بعدما رفع "السيد الأبيض" نفسه شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
التعليقات
إرسال تعليقك