جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
يكاد العراق أن يكون البلد الأغنى في المنطقة بثرواته الطبيعية المختلفة، فهو يتمتع بثروات طبيعية متنوعة وهائلة الكمية، وأراض خصبة تصلح للزراعة
التنوع الاجتماعى والثقافى فى العراق
يكاد العراق أن يكون البلد الأغنى في المنطقة بثرواته الطبيعية المختلفة، فهو يتمتع بثروات طبيعية متنوعة وهائلة الكمية، وأراض خصبة تصلح للزراعة في كل المواسم، ومياه غزيرة من الأنهار والروافد والعيون والينابيع والأمطار السنوية وموقعاً متوسطاً بين الدول والحضارات والثقافات.
وكان العراق بلد الحضارات الأولى والقانون المدني الأول، أما مدن العراق التي نشأت على ضفاف النهرين، فكانت مراكز للحضارة والاستقرار والتطور الاجتماعي، والعراق جميل بتنوعه القومي والديني والثقافي، فقد كان دوماً مركزاً لتلاقي الحضارات والأقوام وتعايشها الإنساني المبدع وقد ساهمت هذه جميعها بخلق تراث عظيم وخبرات متراكمة وثروة بشرية هائلة من القوى العاملة والعقول والكفاءات والخبرات.
ونلاحظ أن المجتمع في العراق متعدد اجتماعياً في جماعات فاعلة، ولكنها ليست جماعات مدينيه متحضرة، ومتعدد دينيـاً على الرغم من أغلبية مُسلمة وأقليات غير مسلمة (من مسيحية ويهودية وصابئية ويزيدية)، ومتعدد إثنياً على الرغم من غلبة الثقافـة العربية عليـه (بالإضافة إلى الأغلبية العربية هنالك إثنيات كردية وتركمانية وفارسـية وأرمنية و... ما إلى ذلك)، وهو متفرّع طائفيـاً في تعدده الديني، (فالجماعة الإسلامية تضم شيعة وسنة).
مثلما نجد أن الطوائف المسيحية عديدة هي الأخرى، وفي هذا الشأن نجد أن وصف فسيفساء هو الأقرب لتوصيف المجتمع في العراق.ولنبدأ بتوصيف أهم التكوينات المجتمعية في العراق:
الجماعات الفاعلة في المجتمع العراقي
1) العائلة:
تشكل العائـلة وحدة اجتماعية مختلفة لا تتواءم مع متطلبات المجتمع المتحضر، فهذه الجماعة برغم أنها تعيش في دار واحدة وتربط أعضاءها علاقات اجتماعية متماسكة، إلا أنها تضم أجيالاً عدة في العادة لا تقتصر على الوالدين والأبناء، بل إنها قد تشمل الأحفاد (وحتى أبناء الأحفاد في بعض الأحيان). فالأبناء لا ينفصلون مع أسرهم عن بيت العائلة الكبير حفاظاً على ديمومة العلاقات المتماسكة بشكل كبير والتي تقوم مراعاة للأعراف والقيم الموروثة، وليس الجذب الجنسي والمعاشرة الجسدية التي تقوم بين الزوجين، مثلما هو عليه حال الأسرة في المجتمعات الصناعية الحديثة، وليس اعتماداً على المصالح والأهداف المشتركة التي تربط بين الآباء والأبناء، بالرغم من وجود هذه المصالح والأهداف.
إن القضية هنا كما يصفها أحد الأنثروبولوجيين العرب تبدو (نوعاً من النسق أو النظام المجتمعي المتكامل والقائم منذ أمدٍ طويل، والذي يبدو صعباً كسره أو الإخلال بشروطه)، فالعائلة لا تقع في نطاق هذه المؤسسة، فقط الأسرة الفردية الحديثة هي التي تقع في نطاقها. ونحن نعرض للأسرة بمعنى آخر كحالنا عندما نقول إن شخصاً ما عضو في أسرة ممتدة. ففي هذا المعنى لا تعـّد الأسرة مؤسسة، بل إن العائلة أهم الجماعات الفاعلة في المجتمع في العراق المعاصر، تعد من قبل المختصين من الجماعات ما قبل الحديثة أو ما قبل المتحضرة.
2) العشيرة
ليست العائلة هي جماعة الانتماء الفاعلة الوحيدة في مجتمع العراق، بل هناك انتماءات أخرى تفرض بنفسها وبقوة على الأفراد في هذا المجتمع، منها الانتماء العشائري والقبائلي. والعشيرة هي جماعة الأفراد ذات الأصل الوراثي الواحد، وعادةً ما يعتقد أفراد العشيرة الواحدة في وجود جد واحد مشترك، وأحياناً يكون ذلك الجد شخصية أسطورية.
فالقبيلة جماعة تتميز بقيامها على أساس التسلسل القرابي الواحد، أما من جانب الأب (أي أبوي) أو من جانب الأم (أي أمومي النسب)، لكنه ليس بالضرورة مُشتَركاً، أو ناتجاً عن زواج خارجي، أو قرابة طوطمية، أو محلية.
وتعد جماعة العشيرة وحدة مكانية لأنها تمثل امتداداً للعائلة، وتتميز بتسلسل قرابي معين يتفق مع نظام سكن خاص، إن هذه الجماعة لا يمكن إدراكها، إلا فقط بالإشارة إلى نسق القرابة، فهي تكوين قبلي متحرك، مأخوذة إفرادياً أو في جماعها.
أما القبيلة فهي جماعة أكبر من العشيرة، وهي تضم عادةً عدداً من العشائر التي تنتمي أو تشعر بالانتماء إلى قرابة طوطمية واحدة. وهي وحدة اجتماعية متماسكة، تتمتع بدرجة من الاستقلال السياسي.
وتنقسم القبائل الكبيرة إلى عشائر، والعشائر إلى بطون والبطون إلى أفخاذ. ويحكم القبيلة الكبيرة شيخ للمشايخ، فهو آمرها المطاع ورئيسها الأكبر، ويرأس العشيرة والبطن الشيوخ، ويرأس الأفخاذ الرؤساء. ويختلف نفوذ شيخ في العشيرة أو البطن بالنظر إلى مقدرته على إدارة العشيرة ومقدار ثروته وعلاقاته برجال أسرته وكثرة ذويه وأقاربه وهلّم جراً. وكثيراً ما يتنعم الشيخ بنفوذ أبيه وجده الذي ترأس العشيرة فيما مضى.
إن الانتماء القبلي والذهنية العشائرية هي الذهنية التي تحكم معظم أفراد المجتمع في العراق. إذ أن الانتماء للعشيرة، على الرغم من هشاشته، اثبت بأنه أهم وأقدر على حماية الفرد وضمانته وفرض احترامه في المجتمع من الدولة الضعيفة ، غير القادرة على حماية نفسها، كما هو حال الدولة في العراق. لكن بعضاً من هذه القوة كان يستند على محاولة النظام الدكتاتوري السابق تفعيل النظام العشائري في تسعينات القرن الماضي.
وقد أدى تسييس النظام الدكتاتوري للعشيرة ودمجها في السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة، في صميم سلطته وقوانينه وأجهزته، إلى تعطيل اندماج أبناء العشيرة في المجتمع المدني، بالقدر الذي أدى إلى عرقلة نمو هذا المجتمع وعصرنته بالشكل المفترض.
3) المدن المتريفة
في العربية فإن معنى (المدينة) يشير إلى الاستقرار، ويأتي المعنى من لفظ (مَدنَ) أي أقام. ولكن هذا المعنى يشمل الاستقرار في الحاضرة، مثلما هو معنى القرية. وقد سميت المدينة الإسلامية بالقرية، والقرية من القرى أي التضييف، وهي سلوكية ذات تقدير عالٍ في مجتمع يعيش ظروفاً حياتية صعبة أو مستحيلة في بيئة طبيعية قاسية. وقد تطور المفهوم إسلامياً ليصبح (أم القرى) أي الوسيط المسؤول ليس عن الضيف (الغريب أو الآخر) وإنما عن القرى الأخرى. وهي البداية في تكوين الدولة.
وعلى الرغم من اختلاف التسميات في المجتمعات حضارياً وحاضراً، فإن المدينة (هي التجمع الكبير المنظم) إنما مثلت جسر التحول في الاجتماع الإنساني، لأنها مثلت البوتقة التي انصهرت فيها (مكونات السلوك الاجتماعي غير المتناسبة ، مثل العائلة والجماعة المحلية والسوق والعشيرة والمدرسة والدولة.
أدت عمليات التحديث، إلى نشوء طبقات وسطى تعتمد بالأساس التعليم الحديث، مثلما تعتمد على الملكية ورأس المال في جانب، وتبلورت طبقات عاملة في الصناعات الحديثة، وطبقة فلاحيه معدمة في الأرياف.
بإزاء نشوء الثروة الاجتماعية كمجال مستقل نسبياً، نمت أيضا اتحادات وجمعيات وحركات اجتماعية، تعبر عن هذه المصالح، وتذوِد عنها، ضاغطة على المجال السياسي. وبموازاة ذلك أيضاً، ازدهرت بشكل نسبي صحافة ومجال معلوماتي غير حكومي.
لكن عملية التحضر هذه ستنسحب من المدينة في العراق، لتفسح المجال لقيم التريّف (متمثلاً بفاعلية العصبية القبلية ونوازعها، ووجود الجماعات ما قبل الحديثة، والفاعلة في حياة الأفراد، مثلما هو وجود الاقتصاد المتخلف). فقد دخلت متغيرات الريف إلى المدينة العراقية مع موجات الهجرة إلى المدن الكبرى في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. ذلك أن عملية التحضر في العراق تحولت من عملية تمدين الريف وتحضيره، إلى عملية ترييف المدينة.
إن عجزُ الدولة عن توفير العمل أو الخدمات الأساسية اضطر مئات الآلاف من البشر المتكومين بعضهم فوق بعض إلى التماس النفوذ لدى جذورهم التقليدية من جماعات فاعلة (العائلة والعشيرة والقبيلة)، ومرجعيات فاعلة (الدين والطائفة والإثنية). لقد حدثت هجرة واسعة في القرن الماضي من الريف إلى المدينة، لكن بسبب غياب عوامل الصهر والاندماج في المجتمع المدني ظل(البدوي/الريفي) الذي تحول إلى (مدني) مرتبطاً بالعشيرة وشيوخها وتقاليدها ارتباط قوياً ومهيمناً.
غير أن الأزمة التي احتدمت في أعقاب الحرب العراقية - الإيرانية، ثم في أعقاب حرب الخليج (1990-1991م)، والحصار الاقتصادي على العراق، أدَت إلى نشوء وضع فريد: دولة شمولية ضعيفة، ومجتمع مدني منهك، بل محروم من مؤسساته. في هذا الوضع من الفراغ النسبي، نمت شبكات القرابة، وأشكال التنظيم القبلي، لتسدّ مسدّ مجتمع مدني مغيَب. وبرزت شبكات التضامن المحلي في صورة إعادة تنظيم للدين الشعبي حول الجوامع والشخصيات الدينية.
قامت هذه الشبكات، التي شجعتها الدولة، على ملء الفراغ وتقديم خدمات الأمن (الحماية الذاتية)، والقضاء القائم على الأعراف (بعد انهيار أجهزة القضاء والشرطة)، علاوة على التعاضد الاجتماعي إسعاف الفقراء، الأيتام، العاطلين الخ.
ومن جانبٍ آخر، شهدت المدينة العراقية التي انقسمت إلى محلات أو أحياء عدة، ظاهرة انتماء الأفراد فيها إلى هذه المحلات، إذ كانت الانشقاقات الحضرية في المدينة ظاهرة معروفة في التنازع بين (محلات) أو (أحياء) في مختلف مدن العراق. فالمجموعات الاجتماعية في هذه المدن، والتي كانت تنتمي في الغالب إلى عقائد دينية أو طوائف أو طبقات أو فئات اجتماعية مختلفة، أو كانت من أصول إثنية (عرقية) أو حتى عشائرية مختلفة، كانت تميل إلى أن تعيش في (محلات) منفصلة، فالمدينة العراقية كانت مقسمة إلى عدة أحياء أو (محلات) منفصلة عن بعضها البعض، ومتنافرة فيما بينها، (فالمحلة) في المدينة، مثلما هي العشيرة في الريف، كانت تشكل ملاذاً للإنسان الفرد يحتمي بها وتعبيراً جزئياً عن النزعة الفطرية للحصول على الحماية خلال الاندماج الوحدوي في داخلها. وفي جميع الحالات فإن تريّف مدينة الخدمات سوف يحرم أبنائها من حقوقهم الإنسانية.
التعليقات
إرسال تعليقك