جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
ما هي تفجيرات بومباي؟ ومن هو المنفذ الحقيقي لها؟ وما هي تداعياتها على المسلمين في الهند؟
من الفاعل.. «طالبانيون جدد» أم هندوس متطرفون؟ألقت سلسلة الهجمات التي قام بها قرابة أربعين مسلحاً مجهولي الهوية في العاصمة الاقتصادية الهندية (مومباي) علي ستة أهداف حيوية على الأقل، بينها فندقان كبيران ومقهى ومحطة قطارات ومستشفى، وقتل فيها أكثر من مائتي شخص، بحجر كبير في مياه الإرهاب المتلاطمة في هذه المنطقة الأسيوية التي تشهد منذ عامين سلسلة هجمات دامية.
حجم وتوقيت وملابسات هذه الهجمات أفرزت تقديرات وأحكاماً متضاربة حول الجهة المنفذة، فرغم مسارعة جهات هندية وصحف ومراكز أبحاث غربية باتهام إسلاميين جهاديين يطلق عليهم «الطالبانيون الجدد»، بالمسؤولية عن هذه الهجمات، حيث نسب الإعلام الهندي المسؤولية إلى منظمة إسلامية مجهولة تسمى (مجاهدي ديكان)، فإن هناك جهات أخرى هندوسية متطرفة، وإستخبارية أجنبية لا يمكن استبعاد مسؤوليتها عن الحادثة، سواء لأهداف انتخابية داخلية في الهند أو أسباب استراتيجية.
الطالبانيون الجدد
الاتهام الإعلامي الأبرز حتى الآن هو أن وراء هذه التفجيرات مجموعات إسلامية يطلق عليها «الطالبانيون الجدد» أو «نيو طالبان» أو من يسمَّون «الجهاديين المغتربين»، والمفترض أنهم أحد أفرع تنظيم القاعدة، وهم مجموعات إسلامية جهادية مختلطة يفترض أنهم من دول ومناطق أسيوية (الهند وباكستان وأفغانستان وكشمير وآسيا الوسطى)، تجمعوا في منطقة وزيرستان الحدودية الباكستانية الأفغانية.
وبالإضافة إلى هذه الجماعات، فإن هناك عدداً من التنظيمات الجهادية الأخرى داخل الهند من أبرزها:
- منظمة مجاهدي الهند: التي أعلنت مسؤوليتها عن عدة تفجيرات متتالية هزت الهند في أيلول الماضي، وأسفرت عن مقتل 20 شخصاً، إلى جانب مسؤوليتها عن تفجيرات شهدتها مدينة أحمد آباد في تموز الماضي وأسفرت عن مقتل 45 شخصاً.
- «حركة الطلاب المسلمين»: هي جماعة تعرضت للحظر من قبل الحكومة الهندية عام 2002م، ووجهت لها اتهامات بالوقوف وراء بعض التفجيرات، منها انفجار قطار في بومباي عام 2003م أسفر عن مقتل 11 شخصاً.
«جماعة عسكر طيبة»: التي تهدف بشكل أساسي إلى تحرير كشمير من السيطرة الهندية وتتخذ من باكستان مقراً لها. ولديها معسكرات تدريب في كشمير الباكستانية. وتقوم لتحقيق هذا الهدف بشن هجمات على أهداف عسكرية هندية.
وهناك الكثير من الأسباب التي تدفع مثل هذه الجماعات والتنظيمات للقيام بهذه العملية، لعل أبرزها المظالم والقمع الذي يتعرض له مسلمون هنود على أيدي منظمات هندوسية متطرفة، ما دعا مؤخراً منظمة «هيومان رايتس ووتش» للمطالبة بمعاقبة «معذبي مسلمي الهند»، وأشارت صحف هندية إلى تقرير يتحدث عن كشف مقابر جماعية لمسلمين كشميريين تضم ثمانية ألاف قتيل.
يضاف إلى هذه الأسباب المطاردات الباكستانية للجهاديين في كل من وزيرستان وكشمير فضلاً عن لجوء العديد من أنصار القاعدة وطالبان وإسلاميي آسيا الوسطى لهذه المنطقة، ليتشكل تجمع أصبح يطلق عليه في الصحف الغربية «الطالبانيون الجدد»، كما جاء في دورية «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية عدد تشرين الأول 2008م، فالحرب التي قامت ضد المنظمات الناشطة في الشطر الهندي من كشمير، عقب المصالحة الباكستانية مع الهند، أدت إلى إخلاء معسكرات المقاتلين المقيمين في كشمير الباكستانية اعتباراً من عام ٢٠٠٣م، ونزح هؤلاء المحاربون تدريجياً إلى المناطق القبلية في شمال وزيرستان وجنوبها على الحدود مع أفغانستان.
وقد تردد أنّ هؤلاء تلقوا تدريبات في تسعينات القرن الماضي، على أكثر التقنيات عصرية في حرب العصابات على يد جهاز المخابرات الداخلية الباكستاني، ولكن هذا الأمر توقف بعد انضمام الرئيس الباكستاني السابق «برويز مشرف» إلى الحرب الأمريكية على الإرهاب، واصطفافه وراء سياسة واشنطن إثر اعتداءات ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، ثم محاربته هذه القوى الطالبانية، وهو ما تجلى في حادثة «المسجد الأحمر» الشهيرة.
وعزز قوة هؤلاء في وزيرستان توافد مقاتلين من الدول العربية وآسيا الوسطى (أبخازيا وأوسيتيا)، الذين تردد أن من قادتهم «بيت الله محسود» أحد قادة طالبان الباكستانية الذي اتهم بتفجير فندق الماريوت في إسلام آباد يوم ٢٠ سبتمبر الماضي، ومولانا «مسعود أزهر» رئيس جماعة جيش محمد، وهو زعيم كشميري أمضى سنتين في سجن هندي، والقائد «عبد الجبار»، الذي كان يناضل أيضاً في كشمير، وشكل هؤلاء منذ منتصف عام ٢٠٠٧م شبكة أطلق عليها «الجهاديون المهجرون» مقرها وزيرستان، ضمت المقاتلين الأجانب خصوصاً الشيشان والأوزبكيين والتركمان) وغيرهم.
ويبدو أن دافع هؤلاء من وراء استهداف مصالح هندية وباكستانية هو عقاب هاتين الدولتين على انخراطها في حرب الإرهاب الأمريكية وردعها عن الهجوم على مناطقها في وزيرستان، فضلاً عن عقاب الهند علي الممارسات التي تقوم بها الحكومة في كشمير وتقوم بها منظمات هندوسية متطرفة ضد مسلمي الهند في مدن ذات غالبية مسلمة.
وشجع علي الفرضية القائلة بمسؤولية الجهاديين عن كابوس تفجيرات مومباي، أن منفذي هجمات مومباي الذين احتجزوا رهائن غربيين قدّموا مطالب للسلطات الهندية عبر تليفزيون هندي تقول: «أفرجوا عن كل المجاهدين والمسلمين الذين يعيشون في الهند، يجب ألا يُضطهدوا، نحن نحب بلادنا، ولكن عندما تقتل أمهاتنا وأخواتنا أين يكون الجميع؟».
الإرهاب الهندوسي.. متهما؟
في 18 تشرين الثاني الماضي، أعلنت الشرطة الهندية القبض على عدد من المتطرفين الهندوس لا يقل عددهم عن عشرة أفراد بينهم ضابطان في الجيش وراهب وراهبة هندوسيان بتهمة الضلوع في تفجيرات ببلدة «ماليغاون» ذات الغالبية المسلمة في ولاية «مهاراشترا» بغرب الهند ضد تجمعات للمسلمين في رمضان الماضي قتل فيها أربعة أشخاص.
كما كشفت الشرطة في الفترة ذاتها عن أنه يجري التحقيق مع ضباط بالجيش الهندي بتهمة التورط في هجوم بقنبلة في شباط 2007م أدى إلى مقتل 68 شخصا في قطار بين نيودلهي ولاهور. وكانت تقارير إعلامية قد اتهمت مسلمين هنود بالوقوف وراء هذه الهجمات.
وتفجر هذه التقارير الهندية الرسمية قضية خطيرة تتعلق بظاهرة قديمة استفحلت مؤخراً تسمى «الإرهاب الهندوسي»، الذي طال أهدافاً مسيحية مؤخراً ما دعا الفاتيكان للتنديد به، علاوة على وقوف متشددين هندوس وراء عدة هجمات بالقنابل أنحي باللائمة فيها بادئ الأمر على جهاديين إسلاميين.
وأبرز هذه التنظيمات الأصولية الهندوسية: «دورغا فاهيني»، وجناح المرأة في «برغرانغ دال»، ومنظمة «راكشا ساميتي»، و«راشتريا جاغران مانش»، التي يعتقد أنها استهدفت مساجد، وتعتبر «برغرانغ دال»، جناح الشباب بمنظمة «فيشاف هندو باريشاد»، وتعني «المنظمة الهندوسية الدولية»، وقد تأسست في الهند عام 1964م.
وسببت هذه التقارير إحراجاً لحزب «بهاراتيا جاناتا» الهندوسي المتطرف، وهو حزب المعارضة القومي الرئيسي خصوصاً مع خوضه منافسة مع حزب المؤتمر الحاكم في انتخابات الولايات التي تجري في الهند، وكذلك الانتخابات العامة المقررة في أوائل عام 2009م.
والمفارقة أنه قبل تفجيرات مومباي بنحو أسبوع، كانت الصحف الهندية تعج بالحديث عن شكل جديد من الإرهاب الديني، هو «الإرهاب الهندوسي»، ويطلق عليه الهندوس، الذين يسعون للانتقام من «الإرهاب الإسلامي»، اسم «الإرهاب المضاد».
أما الهدف من انتحال صفة الإرهاب الإسلامي للتغطية علي الإرهاب الهندوسي – إذا ثبت صحة هذه النظرية – فهو ردع القوى الإسلامية في الهند من جهة، وتوصيل رسالة للناخب الهندي أن حكومة حزب المؤتمر فاشلة، وإسقاطها وإعطاء فرصة انتخابية قوية لحزب بهارتيا جاناتا المتطرف للوصول السلطة مرة أخرى.
قراءة في أحداث بومباي: نموّ الإرهاب الهندوسي
إذا كانت أحداث بومباي قد انتهت بعد ثلاثة أيام داميات، فإن تداعياتها الكبيرة، وآثارها العميقة، ستفرض نفسها على الساحات الإقليمية والسياسية.
ولعَلَّ أول ما يمكن استنتاجه من تلك الأحداث هو أنّ المعركة العالمية على الإرهاب التي قادها جورج بوش، أدَّتْ إلى زيادة أعمال العنف، وتطور أساليبها وأدواتها واتساع رقعتها بشكلٍ يستوجب مراجعتَها، وإعادة صياغتها.
فالمواجهة العمياء لما يُصَنَّفُ أنه إرهاب، دون الوقوف على الخلفيات والوقائع السياسية والإنسانية، والاكتفاء باعتبار أنّ الاتهام بالإرهاب يكفي لإنزال العقوبات الصارمة، والحرمان من الحقوق القانونية، أمورٌ أدتْ إلى تأجيج نيران المواجهة، ودعمت تيارات العنف بالكثير من المتعاطفين والمجنّدين.
الهند، التي تتَقَدَّم باقتصادها وتقنيتها بخُطى واسعة، تَوَّجَتْها بإرسالها مركبة فضائية الى القمر مؤَخَّراً، عادتْ أحداث بومباي لِتُذَكِّرنا بأنها ما زالت من دول العالم الثالث في تعاطيها مع المسائل الأمنية، أو ربما تأثرت بالأسلوب الأمريكي في ما يَخُصُّ مواجهة الإرهاب.
ففيما كشفت الأحداثُ عن قصور أمنيٍّ واستخباراتي كبير، توجَّهَتِ الحكومة الهندية بِتَعَجُّل غريب باتهام باكستان في ما يتعلق بالمسؤولية عن الهجمات.
وقامت قواتها بالهجوم على الأماكن التي يتحصن بها المسلحون، كأنها كانت تريد الانتهاء من المسألة بسرعة، وعدم توفير منبر سياسي للخاطفين مهما كان الثمن، الأمر الذي دعا مسؤولاً إسرائيليّاً للقول بأنّ القوات الهندية اقتحمتْ بشكل متسرّع المباني التي سيطر عليها المسلحون، وكان لزاماً عليها قبل ذلك جَمْعُ المعلومات للتجهيز لعملية الهجوم، بحسب صحيفة جيروزاليم بوست.
الكاتبة ماريا ميسرا شدّدتْ في مقالتها في صحيفة التايمز البريطانية على أنّ الهند لا تستطيع أن تُوَجِّهَ اللوم في أحداث بومباي تماماً للخارج، فحركة الطلاب المسلمين لجأت الى العنف بعد تدمير الهندوس المتطرفين مسجد «آيدويا» عام 1992، وبعد أعمال الشغب التي حصلت في مومباي عام 1993م.
وتذكر الكاتبةُ أنّ الهند عانتْ في السنوات الأربع الماضية من أكبر نسبةِ وَفَياتٍ، جرَّاءَ العنف السياسي بعد العراق، كما أن السلطات الهندية لم تعامل سوى المسلمين كإرهابيين، فقد تَعَرَّضوا للاعتقال عبر قوانين استثنائية، وقُدِّموا إلى محاكم خاصة. بينما يحاكم القوميون الهندوس المتعصبون، الذين يقومون بأعمال العنف، ويعيثون في البلاد فساداً أمام محاكم عادية، وفي أغلب الأحيان لا يتعرضون لأية عقوبات.
وتتحدث ميسرا عن فشل السلطات الهندية في محاكمة أيٍّ من المسؤولين الهندوس عن إثارة الشغب في مومباي عام 1993م، وفي غوجارات, حيث قُتِلَ أكثر من أربعة آلاف مسلم عام 2002م، فيما يعاني المسلمون الهنود من انتشار الفقر والتمييز الحكومي ضدهم.
أحداث الهند ستُشَكِّلُ ضغوطاً كبيرةً على إسلام أباد، التي تعاني هي الأخرى من مواجهات دامية، وقد أرادت حكومة باكستان أن تَنْحَنِي لعاصفة الاتهامات الهندية، وأعلنت استعدادَهَا التامَّ للتعاون مع نيودلهي، ووافقتْ على إرسال مدير استخباراتها الى الهند، بناءً على رغبة الأخيرة.
وفيما تعاني باكستان من ضغوط أمريكية شديدةٍ للسماح للقوات الدولية بالتحرك بِحُرِّيَّة في الأراضي الباكستانية، فإنها ستجد صعوبة بالغة في التصرّف حال ثبوت تلقي المهاجمين دعماً من داخل باكستان.
وفي المقابل فإن غالبية الشارع الباكستاني ترفض التدخلات الأجنبية، ومابين الضغوط الخارجية والداخلية قد يجد استقرارُ باكستان السياسي أنه الضحيةُ الرئيسية لهجمات بومباي.
وستؤدي هجمات مومباي إلى صعود التيارات الهندوسية المتطرفة، وربما قيامها بعمليات انتقامية ضد المسلمين الهنود، كما أن توجيه الاتهام لبريطانيين من أصل باكستاني، بالمشاركة في أحداث بومباي، سيزيد من الضغوط على المسلمين الغربيين، الذين تُوضَعُ الكثير من مراكزهم ومقارّهم تحت المجاهر الإعلامية والأمنية.
العدد الكبير نسبيّاً من الإسرائيليين، الذين كانوا في عِدَاد الرهائن، تَكْشِفُ عن العلاقات الوثيقة بين البلدين، وكما قال أميت شاندا، الخبير الهندي في المسائل الأمنية: إن «هذا الهجوم هو رَدٌّ على العلاقات التي طورتها الهند مع بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل»، في إشارةٍ إلى استهداف المهاجمين مواطني هذه الدول الثلاث بين الرهائن الأجانب.
هجمات مومباي الْمُدَانَةُ أخلاقِيّاً تكشف عن أن العالم الآن أصبح أَقَلَّ أمناً، وأن العرب والمسلمين هم الخاسر الأكبر، خصوصاً مع غياب وتَرَهُّلِ نظامهم الرسمي، الذي ترك الساحةَ التي تَعُجُّ بالتطورات والتفاعلات خاليةً, ليأخذ زمام المبادرة فيها الشبابُ المندفع، الذي يمكن اختراقه وتوجيهه وجهةً تُناقِضُ مقاصده الأساسية، وتدفع بنا إلى المجهول، وإلى المزيدِ من التراجع.
بقلم: د. ياسر سعد
التعليقات
إرسال تعليقك