د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
عشرة آلاف مكيال مقال بقلم د. راغب السرجاني، يحلل فيه قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية
تابع الجميع القرار الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، والقرار يعكس بصورة فجَّة الأوضاع المقلوبة التي يعيشها العالم نتيجة انفراد القوى الكبرى بالقرارات المصيرية، والتي أصبح المسلمون فيها كالأيتام على موائد اللئام.
إن قرار محاكمة الرئيس السوداني صدر نتيجة تحويل القضية من مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ وبالتالي فالأعضاء الدائمون في مجلس الأمن - والذين يملكون الفيتو - من حقِّهم أن يرفضوا تحويل رئيس معيَّنٍ، إذا كانوا يرضون عن أعماله، وإلا فلماذا لم يُحَوَّل إلى هذه المحكمة صدام حسين عندما قام بجرائم واسعة ضدَّ الأكراد، إلا في وقت معيَّنٍ أرادته أمريكا؟ ولماذا لم يُحَوَّل عشرات الرؤساء والملوك في العالم إلى هذه المحكمة؟ مع كل ما تقوله وتُثبته جمعيات حقوق الإنسان من وجود عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون دون محاكمة، ومن وجود تعذيب وقتل في هذه السجون، وغير ذلك من التعديات الجنائية.
إن المشكلة الحقيقية ليست في دارفور أو الصومال أو العراق فقط، إنما هي في أنظمة ظالمة، أُطلق لها العنان لتتحكم في رقاب العباد، وذلك في ظلِّ غياب قوة إسلامية وعربية تحفظ كرامة وعِزَّة المسلمين.
أسباب رفض قرار المحكمة الدولية
من المؤكد أننا نرفض أن تُصدر المحكمة الدولية قرارًا بشأن الرئيس السوداني لأكثر من سبب:
أوَّلاً: لا نقبل بالتدخُّل الخارجي في شئوننا.
وثانيًا: نحن نعلم التعاون الوثيق بين المتمرِّدين والقوى الغربية المختلفة، بل واليهود أيضًا.
وثالثًا: فإن الرئيس البشير بالذات من أكثر الرؤساء العرب توازنًا، ومن أشدِّهم تفهُّمًا لأوضاع بلاده، ومن أكثرهم اختلاطًا بشعبه، كما أنه من الرؤساء الذين يشهد لهم المعاصرون بتقوى الله والاهتمام برأي الإسلام في القضايا المختلفة، وليس من المنطقي أن نصدِّق عنه الدعايات الغربية واليهودية التي تدينه بجرائم إبادة.
ورابعًا: فإننا جميعًا ندرك الأطماع الاستعمارية للغرب الأوربي والأمريكي في السودان، وهذا يفسِّر لنا رقَّة القلب الغربية على المساكين في دارفور!
أسباب التدخل الغربي في دارفور
ولماذا يطمع الغرب في صحراء دارفور؟!
والإجابة مركبة!
فدارفور -خاصَّة في جنوبها- تعوم على بحيرة بترول بِكْر، ودارفور يَسْكُنُها مليون مسلم أو أكثر، وكلهم من الفقراء المعدمين، الذين يعتبَرُون مادَّة سخيَّة للتنصير؛ ولذلك تتنافس لجان الإغاثة الأوربية على الخدمة في هذا المكان القفر. وفوق ذلك فالتوجُّه الإسلامي الواضح للحكومة السودانية يُرعِب المُنَصِّرِين الأوربيين من احتمالية انتشار الإسلام في جنوب السودان الوثني، ومن بعد ذلك في مجاهل وسط إفريقيا.
هذه أسباب تجعل الغرب يهتمُّ بقضية دارفور، ويجمع لها الحشود، ويقتطع من وقت مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية الموقَّرة، بل من الممكن أن نجد أن الأمم المتحدة قد جمعت جيوش الأرض بهدف تحرير السودان من رئيسها!
الأوضاع المأساوية والاتحاد الإسلامي
ومع كل هذه الأوضاع المأساوية إلاَّ أن ذلك لا يعني أننا نرضى عن الانتهاكات الإنسانية في أي بلد مسلم، بل في أي بلد في العالم، بل نريد لها تحقيقًا عادلاً يُظهِر الحقيقة، ويُنْزِل العقاب على مَنْ يستحقُّ، دون تعدٍّ أو ظلم.
وكيف يحدث هذا؟!
إنه لن يحدث طالما بقيت الأُمَّة الإسلامية مُفَرَّقة ومُشَتَّتة، وليس هناك كيانٌ واحدٌ يضمُّها، والأمل في الخلاص يكمن في اتّحاد العالم الإسلامي في منظَّمة تمتلك أدوات التغيير، وتستطيع أن تجمع الأموال، وتَقْدِر على محاكمة الظالمين، ولها إمكانية تجميع الجيوش، والقيام بما تقوم به الأمم المتحدة حاليًا، وليس هذا أمرًا عجيبًا أو مستحيلاً؛ فالأمم الأوربية فعلتْ ذلك في كيان الاتحاد الأوربي، ولسنا أقلَّ من هذه الدول؛ من حيث فهمنا للأمور، ومن حيث الإمكانيات، ومن حيث التاريخ، بل إننا نفوقها بما لا يُقَارَن وهو العقيدة الإسلامية، والشريعة الربانية، والأخوَّة في الله التي فضَّلها ربنا I على نِعم الأرض جميعًا؛ حيث قال في كتابه: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
صعوبة الوحدة ورفض القرار الظالم
إنني أعلم أن هذه الوحدة ليست أمرًا سهلاً، وأعلم أن القائمين على أمور المسلمين لا يريدونها، وأعلم أن الغرب واليهود سيقاومونها بكل طاقتهم، ولكنني أعلم في نفس الوقت أنه "ما ضاع حقٌّ وراءه مطالب"، وأنه "ليس للإنسان إلا ما سعى"، وأن الله U إذا اطَّلع على قلوب العباد ووجد فيها إخلاصًا ويقينًا فإنه يَمُنُّ عليها بما لا تتخيل من نِعَمٍ، ويرزقها من حيث لا تحتسب، وأرى أن أوَّل الطريق أن نفهم الأمور على حقيقتها، وأن يسعى كلٌّ مِنَّا إلى لَمِّ الشمل، وتوحيد الصفوف، وتكوين جبهات داخلية صلبة في كل بلد مسلم؛ حتى تستطيع بعد ذلك أن تتوحَّد في كيان أكبر كلما ازدادت نضجًا وفهمًا للواقع.
أمَّا بالنسبة للمسألة السودانية فعلى الجميع الآن أن يخلق جوًّا عامًّا من الرفض لهذا القرار الظالم من المحكمة الدولية، وأن يُظْهِرَ تعاطفًا واضحًا مع السودان الشقيق؛ ليدرك الغرب أن خطوة اقتحام السودان تحت مسمَّى تحريره من رئيسه لن تكون خطوة آمنة أبدًا.
إنني أحلم باليوم الذي نعالج فيه أمور حياتنا ومشاكلنا وأزماتنا بشكل منهجيٍّ مدروس، وعلى هدى وبصيرة، ولن يكون ذلك إلاَّ بعودة كاملة إلى الأصول؛ وأصولنا قرآن وسُنَّة. ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
د. راغب السرجاني
التعليقات
إرسال تعليقك