ملخص المقال
نحن إزاء شخصية مفكر وفيلسوف وباحث متجرد شديد العمق واسع العطاء، لا يتطلع إلى أي شيء في الحياة غير أمر واحد
نحن إزاء شخصية مفكر وفيلسوف وباحث متجرد شديد العمق واسع العطاء، لا يتطلع إلى أي شيء في الحياة غير أمر واحد، هو أن يقول كلمته ويعيش لفكرته التي جنَّد لها كل ما أتاه الله من مواهب وقدرات، وعمر وفهم وحياة.
يقول العلامة الراحل أنور الجندي (1917- 2002م): "أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة منذ رفع القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عامًا للناس، حيث أعد لها الدفوع وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله، والجنة (سلعة الله الغالية) هي الثمن لهذا التكليف {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]".
بيت أصيل
ولد الجندي بـ (ديروط) عام 1917م التابعة لمركز أسيوط بصعيد مصر، وهي واحدة من أجلّ بلاد الصعيد، حيث تسقيها ثلاثة روافد للنيل هي: الإبراهيمية، وبحر يوسف، والدلجاوي. حيث كان جده لوالدته قاضيًا شرعيًّا يشتغل بتحقيق التراث، ووالده يشتغل بتجارة الأقطان. وكان أيضًا حفيًّا بالثقافة الإسلامية ومتابعة الأحداث الوطنية والعالمية، وكان بيت الجندي مغمورًا بالصحف والمجلات، وصور الأبطال من أمثال عبد الكريم الخطابي زعيم الريف المغربي، وأنور باشا القائد التركي الذي اشترك في حرب فلسطين -والذي كان ذائع الشهرة حينئذ- وباسمه تسمى أنور الجندي من قبل والديه تيمنًا وإعجابًا.
حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية. ويسرت له ظروف والده التجارية أن يعمل وهو صغير ببنك مصر بعد أن درس التجارة وعمل المصارف بالمدارس المتوسطة. ثم واصل دراسته الجامعية في المساء حيث درس الاقتصاد والمصارف وإدارة الأعمال، وتخرج في الجامعة الأمريكية مجيدًا للغة الإنجليزية التي درسها خِصِّيصَى؛ ليستطيع متابعة ما يثار من شبهات حول الإسلام من الشرق والغرب، ويقوم بالرد السديد عليها.
بدأ رحلة الفكر والكتابة مبكرًا حيث نشر في مجلة "أبولو" الأدبية الرفيعة التي كان يحررها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام (1933م)، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، فجرَّد أنور الجندي قلمه، وأجاد في حافظ إلى حد أنه يقول: "ما زلت أفخر بأني كتبت في (أبولو) وأنا في هذه السن (17) عامًا، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذٍ مثل البلاغ، وكوكب الشرق، والرسالة، وغيرها من المجلات والصحف".
أنور الجندي على ثغر الغزو الفكري
ثم واصل هذا الرجل الفريد رحلته التي رصد كل لحظة فيها لنصرة الإسلام، فوقف على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين وعقولهم، فاجتاحوها ألا وهو باب "الغزو الفكري". فكان أنور الجندي بحق هو الأمين الأول على الثقافة الإسلامية لأربعة أجيال متعاقبة: جيل البناء والتأسيس، وجيل الصبر والجهاد، وجيل التكوين والانتشار، وجيل التربية والمستقبل.
تشكل سنة 1940م علامة فارقة في حياة العلامة أنور الجندي بعد قراءته لكتاب "وجهة الإسلام" لمجموعة من المستشرقين. هذا الكتاب الذي لفت نظره إلى حجم المؤامرة على الإسلام، ووضع أقدامه على الطريق الطويل لمعركة المسلمين في ميدان البقاء. فما كان من أنور الجندي إلا أن قال: "هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري والأجنبي والغزو الثقافي". وبدأ أنور الجندي بميدان الأدب أكثر الميادين غزوًا في حينها، وأعلاها صوتًا، وأوسعها انتشارًا، فواجه في هذا الميدان قممه جميعًا: طه حسين، والعقاد، ولطفي السيد، وسلامة موسى، وجورجي زيدان، والحكيم، ونجيب محفوظ..
وأقام الموازين العادلة لمحاكمة هؤلاء إلى ميزان الإسلام وصحة الفكرة الإسلامية، فأخرج عشرات الكتب من العيار الفكري الثقيل مثل: أضواء على الأدب العربي المعاصر، والأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية، أخطاء المنهج الغربي الوافد، إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، خص منها طه حسين وحده بكتابين كبيرين، هما: طه حسين وحياته في ميزان الإسلام، ومحاكمة فكر طه حسين؛ ذلك لأن الجندي كان يرى أن طه حسين هو قمة أطروحة التغريب، وأقوى معاقلها؛ ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هو قمة الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية.
الأدب والفكر صنوان
وكان العلامة أنور الجندي يرى أن فصل الأدب عن الفكر -وهو عنصر من عناصره- أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعًا أمام الأدب؛ ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية. ومن ثَمَّ فقد أنصف الجندي كتاباته الرصينة أصحاب الفكرة الإسلامية الصحيحة من أمثال الرافعي والثعالبي وباكثير ومحمد فريد وجدي والسحار وكيلاني وتيمور… وغيرهم من الذين ظلمهم المتغربون وأبناء المتغربين من المعاصرين، ونال في هذا الطريق كثيرًا من الأذى والظلم والإعنات، فضلاً عن أنه اعتقل لمدة عام سنة 1951م.
البنا يشعل جذوة الفكر لديه
التقى المؤرخ العملاق والمفكر الكبير أنور الجندي بالإمام الشهيد حسن البنا في بواكير حياته، فكان هذا اللقاء -حقًّا- مباركًا، وكانت بيعة الرجل الأمين زادًا أصيلاً على طريق النور. أخذ فيه الجندي نفسه بنفسه على وضع منهج إسلامي متكامل لمقدمات العلوم والمناهج، يكون زادًا لأبناء الحركة الإسلامية ونبراسًا لطلاب العلم والأمناء في كل مكان؛ فأخرج هذا المنهج في 10 أجزاء ضخمة يتناول فيه بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني الفارسي والهندي، وكيف قاوم مفهوم "أهل السنة والجماعة"، وكيف انبعثت حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه -وعلى زاد وعطاء من الإسلام- فقاومت حركات الاحتلال والاستغلال والتغريب والتخريب والغزو الفكري والثقافي..
ويذكر للعلامة الجندي عند الله وعند الناس أن هذه الموسوعة الضخمة تعجز الآن عشرات المجامع ومئات المؤسسات والهيئات أن تأتي بمثلها، أو بقريب منها.
وظل الجندي على العهد إلى آخر نفس في حياته، حيث كان يضع أمام سرير نومه صورة لوالده، وجده، والإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله على الجميع.
وخص الإمام البنا بثلاثة كتب أوَّلها في صدر شبابه، حين كان يصدر موسوعة فكرية إسلامية لمنهجه "الفكر وبناء الثقافة" أول كل شهر بصفة دورية، فكان منها عام 1946م: "الإخوان المسلمون في ميزان الحق"، وكتاب "قائد الدعوة.. حياة رجل وتاريخ مدرسة"، ثم اختتم حياته المباركة بكتابه النفيس "حسن البنا.. الداعية الإمام والمجدد الشهير".
ولقد تزود العلامة أنور الجندي لمشواره الكبير (مائتا كتاب وأكثر من ثلاثمائة رسالة) بزاد ثقافي أصيل وثقافة عميقة شاملة، انعكست بشكل واضح في كل ما خطه قلمه المبارك، فيقول: "قرأت بطاقات دار الكتب وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها وراجعت فهارس المجلات الكثيرة الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة، وأحصيت منها بعض رءوس موضوعات، وراجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عامًا، وراجعت المقطم واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عُرفت في بلادنا في خلال هذا القرن.. كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على موضوع معين في وقت ما".
التواضع والزهد
والذي يعرف منزله بشارع عثمان محرم بمنطقة الطالبية بالجيزة، يعرف أن البيت بكل غرفه وطوابقه كان دائرة معارف متنوعة في شتى الشئون والفنون. كما كان للعلامة أنور الجندي موقع محدد بدار الكتب لا يغيب عنه إلا لمامًا. ولديه صناديق للبطاقات العلمية وصلت إلى 180 صندوقًا. تزود بذلك كله، إلى ما حباه الله من صبر جميل طويل وتفرغ كامل للأعمال الفكرية، وتجرد قلَّ أن يوجد في عصرنا، وفراغ من شغل الأولاد والأموال حيث رزق ببنت واحدة (فائزة، أم عبد الله) تزوجت في بداية شبابها بشاب صالح، كان نعم العون للأستاذ أنور الجندي في رحلة الصعاب التي قضاها على مدى سبعين عامًا كاملة.
يُذكر للجندي بحروف من نور أنه الرجل الذي أسس مدرسة الأصالة الفكرية المعاصرة في الأدب، فأنصف أقوامًا وهدم آخرين. وفي الاجتماع فكشف زيف فرويد وماركس ودارون ودوركايم. وفي الفلسفة أنصف الغزالي وابن رشد والفارابي وابن سينا والخيام…
وفي تلك الليلة الحزينة مساء الاثنين 13 ذي القعدة سنة 1422هـ/ 28 يناير 2002م توفي إلى رحمة الله تعالى.
وكأن الجندي كان يرثي نفسه حين قال: "إن الفضل كله لله، وإن الهدى هدى الله، ولولا فضل الله في التوجُّه إلى هذا الطريق المستقيم، لضللنا السبيل".
رحم الله العلامة أنور الجندي رائد مدرسة الأصالة الفكرية، وقائد كتائب المقاومة في ميادين التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الفكري.
إنه الرجل الذي عاش (85 عامًا) قضى منها في حقل الفكر الإسلامي (70 عامًا)، ما خطَّ فيها كلمة أو أكل لقمة إلا وهو على وضوء.
المصدر: موقع إسلام أون لاين.
التعليقات
إرسال تعليقك