الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
يتناول المقال قصة تعذيب بلال بن رباح في صحراء مكة؛ حيث لم يستطع المشركون إثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوته، فانقلب المشركون على ضعفاء المسلمين
أهم مقتطفات المقال
أفعالهم الخبيثة لا تمنع رسول الله من عمله الدءوب, عدد المسلمين يتزايد على الرغم من الترهيب والتخويف, إخافة المؤمنين ليردُّوهم عن دينهم إن استطاعوا, الرسول هو الذي تعرَّض لهذا الإيذاء أولًا, السرية كانت تُظَلِّل هذه المرحلة, ينبغي ألا نُخْرِج الصحابة عن بشريتهم, يتألَّمُون كما يتألَّم الناس, يخافون مما يخاف منه الناس, هذه الفترة من عمر الإسلام كانت تُحَدِّد المسار الذي ستسير فيه الأمة في عمرها القادم كله, ما الذي دفع بلالاً إلى هذا التحمُّل مع وجود رخصة؟, صارت قصة بلال ملحمة, داعيةً إلى الإسلام بشكل عملي,
عندما رأى المشركون أن أفعالهم الخبيثة لا تمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمله الدءوب، ولاحظوا أن عدد المسلمين يتزايد على الرغم من الترهيب والتخويف؛ انقلب المشركون على ضعفاء المسلمين وعبيدهم وإمائهم يسومونهم سوء العذاب، في محاولة لمنع المدِّ الإسلامي، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخاف في الله أحدًا، فلتتوجَّه الطاقات إلى إخافة المؤمنين به؛ ليردُّوهم عن دينهم إن استطاعوا، أو على الأقل ليمنعوا مَنْ يُفَكِّر في الالتحاق بهم من سلوك الطريق الذي يقود إلى التعذيب والأذى!
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال: قلتُ لعبد الله بن عباس ب: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ r مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَاللهِ، إنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ حَتَّى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ؛ حَتَّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ، حَتَّى يَقُولُوا لَهُ: آللاَّتُ وَالْعُزَّى إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. حَتَّى إنَّ الْجُعَلَ([1]) لَيَمُرُّ بِهِمْ، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَهَذَا الْجُعَلُ إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. افْتِدَاءً مِنْهُمْ مِمَّا يَبْلُغُونَ مِنْ جَهْدِهِ»([2]). قال ابن كثير: «وفي مثل هذا أنزل الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]»([3]).
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إسْلاَمُهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ اللهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمَ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ وَأَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إلاَّ بِلاَلاً فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ»([4]).
لقد وضح لنا من النصِّ الأخير عدَّة أمور؛ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتلقَّ إيذاءً مستمرًّا، وتعذيبًا ممنهجًا، فهذا لا يَتَّفق مع حماية أبي طالب له، إنما كان يتعرَّض للإيذاء بين الحين والآخر، وليس هناك تعارض في أنه هو الذي تعرَّض لهذا الإيذاء أولًا، كما أنه ليس هناك تعارض مع كونه صلى الله عليه وسلم تعرَّض لأشدِّ أنواع الألم؛ حيث كان يصل الأمر إلى محاولات القتل الحقيقية.
ومثل ذلك يُقال بالنسبة إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ فإنه لم يتعرَّض لتعذيب ممنهج؛ ولكنه تعرَّض للضرب في بعض المواقف كما سنُبَيِّن، وتعرَّض كذلك لمحاولات قتل.
ومنها أن هؤلاء السبعة المذكورين في كلام ابن مسعود رضي الله عنه هم الذين بدءوا الإعلان عن أنفسهم، أو هم الذين تمَّ اكتشاف أمرهم مبكرًا، ولا شكَّ أنه بعد ذلك ستظهر أسماء أخرى ستتعرَّض للتعذيب؛ مثل: خباب، وياسر أبي عمار.. وغيرهما ممن لم يُذكر في الرواية.
ومنها أن السرية كانت تُظَلِّل هذه المرحلة؛ لأن المسلمين آنذاك كانوا قد تجاوزوا أربعين في الأغلب، ومع ذلك لم يعرف المشركون من أسمائهم إلا هؤلاء السبعة فقط.
ومنها أن إيقاف عملية التعذيب كان مرهونًا بموافقة المعذَّب على ما يقوله القرشيون الكفار، فإن أظهر الكفر توقَّف التعذيب، وإن بقي على الإيمان استمرَّ التعذيب، وهذا يُفَسِّر أن روايات التعذيب الصحيحة قليلة للغاية؛ حيث كان المسلمون يُظهرون موافقتهم على ما يُريده المشركون فلا يُكمل المشركون عملية التعذيب، بالإضافة إلى أن السرية حافظت على بعض الأسماء فلم تتعرَّض للأذى.
ومنها أن بلالاً رضي الله عنه قد تعرَّض لأشدِّ أنواع التعذيب؛ فقد رفض أن يُوافق الكفار على ما يُساومونه عليه، مع أن إخوانه فعلوا ذلك، وللحق فإنه لا بُدَّ أن يكون في الجماعة المؤمنة مَنْ يحمل على عاتقه هذه المهمَّة، وهي مهمَّة البقاء صلبًا في وجه الكفار نكاية فيهم، وحفاظًا على كلمة الإسلام معلنة، وتحقيقًا للمثل الأعلى في الثبات، واتباعًا للأنبياء الذين أعلنوا أمرهم ولم يرضخوا للمساومات، وكان بلال رضي الله عنه بذلك أحد أبطال هذه المرحلة. ثم إنه كان لا يكتفي بإعلان الإيمان، أو بمجرَّد رفض مساوماتهم، إنما كان يتعمَّد إغاظة الكافرين وإحراجهم، فعند ابن عساكر والذهبي رحمهما الله «أن المشركين كانوا يأخذونه فيضجعونه في الشمس، ثم يأخذون الحجر فيضعونه على بطنه ويعصرونه، ويقولون: دينك اللات والعزى. فيقول: ربي الله. ويقول: أحدٌ أحدٌ. فقال: وايم الله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتُها»([5]).
ومنها أخيرًا أنه قد نزلت في هذه الفترة آيات سورة النحل التي تسمح للمؤمنين أن ينطقوا بألسنتهم كلمة الكفر؛ ما دامت قلوبهم مطمئنة بالإيمان؛ وذلك إذا تعرَّضوا للإكراه؛ حيث قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ [النحل: 106]. وللعلماء تفصيلات كثيرة في المقصود هنا بالإكراه، وهل هو وقوع الأذى بالفعل أم مجرد التهديد به، وكذلك ما هو متعلِّق بنوع الإكراه، وهل هو إيقاع الأذى بالنفس أم بالمال أم بالأهل، أم بهم جميعًا، كما أن هناك تفصيلاتٍ في كون الإكراه المقصود يقود إلى احتمال القتل فقط أم يشمل ذلك الأذى فيما هو دون القتل، وهذه التفصيلات مبسوطة في كتب الفقه، فليُرجع إليها هناك([6]).
وقد يتعجَّب البعض من كون هذا السماح للمؤمنين أن ينطقوا كلمة الكفر إذا وقعوا تحت وطأة التعذيب قد حدث في هذه المرحلة المبكِّرة في الإسلام؛ لأن انطباعات الناس عن الصحابة في هذه الفترة أنهم على درجة من الإيمان تجعلهم يقبلون أي تضحية في سبيل الإسلام حتى لو كانت إيذاءً للجسد، أو إزهاقًا للروح؛ ولكن الواقع أننا ينبغي أن نلتفت إلى نقطتين مهمَّتين؛ أما الأولى: فهي أننا ينبغي ألا نُخْرِج الصحابة عن بشريتهم، فهم -وإن كانوا خيرَ الناس، وأفضل البشر بعد الأنبياء([7])- فإنهم في النهاية بشر، ويتألَّمُون كما يتألَّم الناس، ويشعرون بما يشعر به الناس؛ بل يخافون مما يخاف منه الناس، وهذا لا يُنقص أبدًا من قدرهم ولا مكانتهم؛ بل على العكس، فإننا كلما أدركنا بشريتهم استطعنا أن نُقَدِّر جهودهم وتضحياتهم بشكل أكبر، خاصة إذا قارناهم بغيرهم من البشر.
وأما النقطة الثانية فهي أن هذه الفترة من عمر الإسلام كانت تُحَدِّد المسار الذي ستسير فيه الأمة في عمرها القادم كله؛ أي أن التشريع الذي يُوضع في هذه الفترة سيكون مُلْزِمًا لكل المسلمين إلى يوم القيامة، وبالتالي فهو لا بُدَّ أن يُناسب الطاقات المختلفة، والقدرات المتفاوتة، وليس كلُّ المسلمين أبا بكر رضي الله عنه، وليس كلُّ المسلمين بلالاً أو سمية أو خبَّابًا، فيجب أن يُوجد المثَل الذي يُحتذى لكل المسلمين، ودون أن يُخْرِج هذا المثَل المسلمَ عن دائرة الشرع؛ ولذلك وُجِد في هذه الفترة مَنْ يُعَذَّب حتى الموت فعلًا دون أن ينطق بكلمة الكفر، ووُجِد مَن يُعَذَّب إلى ما دون الموت ويتحمَّل ذلك، ووُجِد مَنْ لا يستطيع أن يتحمَّل هذا أو ذاك، فينطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئنٌ بالإيمان، وكل هؤلاء داخلون -لا شكَّ- في دائرة الشرع الحكيم، الذي نزل ليُناسب كل زمان ومكان، وكذلك ليُناسب كل إنسان.
ولعلَّنا إذا اطَّلعنا على أسلوب المشركين في تعذيب المؤمنين آنذاك فهمنا هذه المعاني بشكل أكبر وأوضح؛ كانت طريقة المشركين في التعذيب عبارة عن إلباس المؤمنين أدراع الحديد، ووضعهم في الشمس الحارقة! ومَنْ يعرف حَرَّ مكة يُدرك مدى عُنف هذه الوسيلة؛ حيث ستتحوَّل أدراع الحديد في دقائق إلى صفائح للكيِّ تشوي الجسد المعرَّض لها؛ ومن ثَمَّ فالأذى رهيب، والموتُ قريب، والطاقات لا تتحمَّل هذا الألم في المعتاد؛ خاصة إذا أضفنا لذلك التعطيش والتجويع؛ ولذلك كان الشرع الحكيم رءوفًا بهم، فسمح لهم بإظهار الكفر وإبطان الإيمان، وهذا لعموم المؤمنين، أمَّا مَنِ استطاع أن يتحمَّل العذاب دون أن يُوافق المشركين على ما يُريدون فهذا له، وأجره عند الله عظيم؛ لأنه بثباته نشر الفكرة، وثَبَّت المؤمنين، وأغاظ الكافرين، وهذا كله في مصلحة الدعوة بشكل عامٍّ، وهذا فضل الله يُؤتيه مَنْ يشاء.
كان بلال رضي الله عنه من هذه النوعية الأخيرة التي تحمَّلت العذاب باختيارها، فقَبِل راضيًا أن تُزْهَق روحه في سبيل الله، ولقد وصف ذلك عبد الله بن مسعود رضي اله عنه بقوله: «وهانت عليه نفسه». فلم يكن عنده مانع من أن يموت شهيدًا، وقد أزعج ذلك الكفار إزعاجًا شديدًا؛ لأن الناس -أي شعب مكة والعرب- سيتساءلون عن سبب هذا الثبات العجيب، وسيعرفون توحيده لله عز وجل، وسيفهمون حقيقة الجنَّة التي من أجل دخولها صبر بلالٌ وأصحابه رضي الله عنهم؛ ولذلك أراد المشركون إرسال رسالة عنيفة إلى الناس أجمعين، فلم يكتفوا بتعذيب بلال رضي الله عنه في صحراء بعيدة لا يراها أحد، أو في سجن معزول عن حياة الناس، إنما جاءوا به في وسط مكة، ودفعوه إلى الغلمان -بعد أن وضعوا في رقبته حبلاً- كي يطوفوا به في شوارع المدينة المقدسة! وهذا ليس للتعذيب المعنوي أو الجسدي له فقط، إنما في الأساس لكي يراه أهل مكة جميعًا فيمتنعون برؤيته مُعَذَّبًا عن الإيمان، ويرهبون طريق الإسلام الذي يمكن أن يُفضي بهم إلى هذه النتيجة، ولهذا اشتُهر أمر تعذيب بلال رضي الله عنه عن غيره؛ حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -الذي لم يكن قد أَسْلَم بعدُ في هذه المرحلة- لم يعرف أحدًا عُذِّب مثلما عُذِّب بلال رضي الله عنه تحديدًا؛ لأن أمر بلال رضي الله عنه صار مشتهرًا في مكة كلها، نتيجة هذه الحملة الإعلامية الفاجرة التي استخدموا فيها أطفال مكة وغلمانها، وسنأتي إلى موقف عمر رضي الله عنه من قصة بلال رضي الله عنه بعد قليل.
ما الذي دفع بلالاً إلى هذا التحمُّل مع وجود رخصة؟
إنهما -لا شكَّ- لا يستويان! نعم صاحب الرخصة غير مؤاخَذ، ولا إثم عليه؛ ولكن أصحاب العزائم يسبقون ويسبقون! لقد رضي بلال رضي الله عنه بتحمُّل هذا العذاب الشديد طمعًا في المثوبة من الله عز وجل، وعدَّ ذلك نوعًا من الجهاد في سبيل الله، وإنه لكذلك! ورغب أن يشتري بحياته الجنَّة، فتحقَّق له ذلك، ولله المنَّة والفضل.
واستكمالاً للصورة فقد بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً بعد ذلك أنه من أهل الجنَّة وهو ما زال يسير على أرض الدنيا، فتحقَّقت أمنيته أسرع مما كان يتمنَّى، واطمئنَّ قلبه قبل أن تطمئنَّ قلوب كثير من المؤمنين، وحُقَّ له؛ فقد دفع الثمن غاليًا من أعصابه ودمه ولحمه وكل جسده.
ويُذَكِّرني موقف بلال رضي الله عنه بحديث جميل من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ»([8]). والدُلْجَة هو السير بالليل، وأدلج أي سار أول الليل([9])، ويُفسِّر بعض العلماء ذلك بقيام الليل([10])، ولكني أرى أن المقصود غير ذلك! فإن رسول الله r ذكر أن مَنْ أدلج بلغ المنزل، والمنزل المقصود هو الجنَّة؛ لأنه ذكرها بعد ذلك في بقية الحديث؛ فالذي يبدو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُريد تشبيه المؤمن الواعي بالمسافر الحريص الذي يُريد أن يصل إلى منزله أو موطنه، فإذا خاف المسافر ألا يصل في موعده فعليه السفر من أول الليل، ولا ينتظر إلى آخره، وكذلك المؤمن الذي يُريد أن يصل إلى الجنَّة عليه أن يسير إليها مبكرًا عند ورود أول فرصة للحركة إليها، وقد خاف بلال رضي الله عنه ألا يدرك المنزل -أي الجنَّة- فسار من أول الوقت، وجاهد في زمن لم يكن فيه حمل السيف مشروعًا، وبلغ بذلك المنزل قبل غيره، ودفع ثمن الجنَّة، وحقًّا ما أهون الثمن إذا عرفنا قيمة السلعة!
ولقد مرَّت الأيام، ووقف عذاب بلال رضي الله عنه، وذهب ألمه، وعلى الرغم من أن البطل قد هانت عليه نفسه فإن الله سبحانه وتعالى كتب له الحياة؛ ولكن الأهم من الحياة أن الأجر قد بقي والحمد لله، وصارت قصة بلال ملحمة تدعو الناس -في مكة، وفي الجزيرة العربية، وفي الدنيا بأسرها- إلى التفكر في أمر هذه العقيدة التي تدفع أهلها إلى هذا الثبات المدهش، وصار الجميع يسألون: من هو هذا الإله الذي يعبدونه بهذا الحب؟ وما هذه الدار الآخرة التي يعتقدون في الانتقال إليها؟ لقد صار بلال رضي الله عنه بذلك داعيةً إلى الإسلام بشكل عملي لعلَّه أقوى ألف مرَّة من الكلمات والمحاضرات والخطب، وكم من الدعاة يجعلهم الله سببًا في هداية الناس وهم لا يُتقنون خطابة، ولا يحترفون الكلام!
([1]) الجُعَل: دويبة سوداء تدير الغائط يقال لها: الخنفساء.
([2]) ابن إسحاق: السير والمغازي ص192، 193، وابن هشام: السيرة النبوية 1/320، وابن كثير: البداية والنهاية 3/76، وقال الصوياني: حديث حسن سنده جيد. انظر: السيرة النبوية 1/89.
([3]) ابن كثير: البداية والنهاية 3/76.
([4]) ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، فضل سلمان وأبي ذر والمقداد (150)، وابن حبان (7083)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (5238)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال البوصيري: هذا إسناد رجاله ثقات. انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 1/23، وحسنه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 10/174.
([5]) ابن عساكر: تاريخ دمشق 10/441، 442، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 1/352.
([6]) انظر: السبكي: الأشباه والنظائر 2/14-16، والسيوطي: الأشباه والنظائر ص206، والكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7/175، وابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق 8/79، وابن عابدين: الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) 6/128، وابن أبي زيد: النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات 10/245، والشافعي: الأم 3/240، وزين الدين أبو يحيى السنيكي: الغرر البهية في شرح البهجة الوردية 4/248، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 3/74، وابن قدامة: المغني 9/23، 24.
([7]) عن عبد الله بن مسعود، عن النبي r قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ». البخاري: كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (2509)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (2533).
([8]) الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2450)، وقال: هذا حديث حسن. والحاكم (7851) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (954).
([9]) مَنْ خَافَ أَدْلَجَ: يقال: أدلج بالتخفيف: إذا سار أول اللَّيل، وادَّلَج بالتشديد: إذا سار من آخره. وقيل: أَيَّ ساعة سرت من أَوَّل الليل إِلى آخره فقد أَدْلَجْتَ. وأَدْلَجَ القومُ إِذا ساروا الليلَ كله، انظر: ابن منظور: لسان العرب، 2/272، والسيوطي: قوت المغتذي على جامع الترمذي 2/594.
([10]) قيل: هو حثٌّ على قيام الليل. انظر: المناوي: فيض القدير 6/123.
التعليقات
إرسال تعليقك