كان يجب أن يمضي المسلمين في طريق الله وألا ييأسوا من روحه، مهما كان المصاب عظيما، وهنا جاء دور القرآن، فماذا حدث؟!
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
يعرض المقال لمحاولة سلمية أخرى -وهي متكرِّرة على مرِّ الزمان- استغلَّها كفار قريش، وهي استخدام إعلام ذلك العصر بكل أنواعه، وتطويعه لوقف المد الإسلامي في
أهم مقتطفات المقال
ومع كل ما سبق فإن هذا التزوير لم يُوقِف مدَّ الدعوة، ومع أن الإمكانات الإعلامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أقل جدًّا من إمكانات الكافرين؛ فإن أمر الإسلام كان يصل إلى الناس، وكان يتغلغل في كيانهم؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصدع بالحقِّ، ويتكلَّم بالصدق، وشتان بين الحقِّ والباطل، فكان إعلامه -على بساطته- أقوى تأثيرًا من إعلام الطواغيت، وهي رسالة إلى كل الدعاة: لا يحبَّطنكم سطوة إعلام الظالمين؛ فإن الحقَّ لا بُدَّ له من ظهور؛ قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}[الأنفال: 59].
- تشويه صورة الداعية أمام الناس.
- تشويه مبادئ الدعوة.
- إلهاء الناس بالباطل.
تحدثنا سابقًا عن تعدد وسائل المشركين للصد عن سبيل الله والتي بدأت بالمحاولات السلمية، فعملوا في البداية على تحييد موقف المساندين للدعوة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، والآن نحن أمام محاولة سلمية أخرى -وهي متكرِّرة على مرِّ الزمان- استغلَّها كفار قريش، وهي استخدام إعلام ذلك العصر بكل أنواعه، وتطويعه لوقف المد الإسلامي في مكة.
وبطريقة شبه منهجية استخدم كفار قريش تلك الوسيلة في ثلاثة محاور:
وفي هذه المقالة سنتكلم عن المحور الأول، وهو:
تشويه صورة الداعية أمام الناس:
حرص المشركون على تشويه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة؛ وذلك حتى لا يقبل الناس الكلام المعجز الذي أتى به؛ فاتهموه باتهامات باطلة كثيرة، فقالوا: ساحر. وقالوا: كاهن. وقالوا: شاعر. وقالوا: كاذب. وهم في أقوالهم هذه كلها يعلمون تمام العلم أنهم لا يقولون الحقيقة، ويفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب؛ ولكن في الوقت ذاته كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً كاملاً للأخلاق الحميدة، والعقل الرشيد، فوضعهم هذا في حرج شديد، وصارت كلماتهم متضاربة؛ ولذلك رأينا مواقف متناقضة كثيرة وصلت إلى حدِّ التأثُّر بكلام القرآن؛ بل كان بعضهم على وشك الإيمان! فهم في النهاية بشر، ولهم قلوب وعقول، ولا شكَّ أنهم يتأثَّرون بما يسمعون من كلام الله المعجز، كما أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم جيدًا، وعاصروه أربعين سنة كاملة، وكان فيهم ذا مكانة وشرف، وتقدير واحترام.
ولنتدبَّر في هذا الموقف الذي خالف فيه بعض القادة أصدقاءهم أحيانًا، وذهبوا للسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُذُنٍ جديدة مُتقبِّلة للأمر، وبقلبٍ عَطِشٍ مُتْعَتُه في سماع القرآن الكريم، فنتج لذلك موقف عجيب متناقض مع سلوكهم وكلامهم؛ روى ابن عباس رضي الله عنهما، "أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالاً. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ. قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالاً. قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلاً يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ. قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي، وَلاَ أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلاَ بِقَصِيدَةٍ مِنِّي، وَلاَ بِأَشْعَارِ الْجِنِّ؛ وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شيئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاَوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاَوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاَهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ. قَالَ: لاَ يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ. فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ مِنْ غَيْرِهِ. فَنَزَلَتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]" [1].
ولم يكن هذا الوصف الجميل للقرآن الكريم من الوليد بن المغيرة في مرَّة واحدة، أو في موقف عابر، إنما كرَّر الوليد كلماته هذه على مسمع من كثير من قادة مكة وزعمائها! فقد كان الحديث في مؤتمر كبير ضمَّ معظم الفصائل المكية، وكان واضحًا أن الوليد بن المغيرة هو الذي يتزعمه؛ وقد ظهر التخبُّط المكي في هذا المؤتمر في أوضح صوره!
عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما قال: حِينَ اجْتَمَعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ لِيَجْتَمِعُوا عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَقُولُونَ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِوُفُودِ الْعَرَبِ، فَقَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ وَأَقِمْ لنا رَأَيًا نَقُومُ بِهِ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعُ. فَقَالُوا: نَقُولُ: كَاهِنٌ. فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَسِحْرِهِ. فَقَالُوا: نَقُولُ: مَجْنُونٌ. فَقَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ، وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلاَ تَخَالُجِهِ، وَلاَ وَسْوَسَتِهِ. فَقَالُوا: نَقُولُ: شَاعِرٌ. قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، وَلَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ، وَهَزَجِهِ، وَقَرِيضِهِ، وَمَقْبُوضِهِ، وَمَبْسُوطِهِ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ. قَالُوا: فَنَقُولُ: هُوَ سَاحِرٌ. قَالَ: فَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلاَ عَقْدِهِ. فَقَالُوا: فَمَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلاَوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنًى، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا، إِلاَّ عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ عَشِيرَتِهِ، فَتُفَرِّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 11-26] [2].
ما أعجب هذا المؤتمر؟!
لقد فشل الكفار في أن يتبنَّوْا قرارًا من الممكن أن يَلْقَى قبولاً من الناس، على علمهم التام بافترائهم فيما يقولون؛ إذ إن نَظْم القرآن أعجزهم أن يصفوه بما هو ليس أهل له، وكان الأولى لهم أن يعترفوا بإعجازه، وبنبوَّة الذي أُنزل عليه، ويتبعوه؛ ومن ثمَّ تكون النجاة لهم في الدنيا والآخرة؛ ولكن انغلقت عقولهم وأفهامهم، وصاروا كمن ينفخ في رماد، فظلوا على كبرهم وعنادهم، واستمرُّوا في غيِّهم يعمهون.
والعجب كل العجب من هذا الزعيم القرشي الكبير الوليد بن المغيرة، الذي كان سابقًا من عقلاء مكة وحكمائها، وكان من أصحاب الفضل والكرم، حتى قيل: إنه كان يُنفق على كسوة الكعبة عامًا، ويجتمع أهل مكة لينفقوا عليها عامًا [3]!
ولكن حرصه على سيادته وسلطته، وتغلغُل الكِبْرِ والبطر في نفسه، دفعه لأن يكون من السفهاء المكذبين، ولقد وُضِعَ في هذا المؤتمر الجامع في موقف حرج للغاية؛ فهو يُريد أن يطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه لا يجد مطعنًا، ويُريد أن يُشَوِّه ويُزَوِّر في القرآن؛ لكنَّ نفسه لا تُطاوعه، ليس حرصًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حبًّا في القرآن؛ ولكن خوفًا من ظهوره هو بمظهر الجاهل السفيه الذي لا يعرف قيمة هذا النبي الكريم، ولا عظمة هذا الكلام المعجز.
فاضطر اضطرارًا في البداية إلى أن يذكر الحقيقة، فمدح القرآن مدحًا طويلاً جميلاً وكأنه من أشدِّ المؤمنين به، ثم نُكِسَ على رأسه، وادَّعى أنه سحر يُؤْثَر، أي يُنْقَل ويُحْكَى، يقصد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ينقله عمن سبقه من السحرة في التاريخ! مع أنه ذكر في المؤتمر نفسه أن هذا ليس يُشبه السحر في شيء؛ ولكنه الاضطراب والحيرة والتخبُّط الذي يُصيب أهل الباطل عند تعدِّيهم على الحقِّ وأهله. ولقد صوَّر القرآن الكريم هذه الاضطرابات النفسية، والمعاناة الداخلية، والتناقض البشع الذي كان يعيشه الوليد بن المغيرة في هذا الموقف؛ فقال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَر} [المدثر: 18-26].
ومع كل ما سبق فإن هذا التزوير لم يُوقِف مدَّ الدعوة، ومع أن الإمكانات الإعلامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أقل جدًّا من إمكانات الكافرين؛ فإن أمر الإسلام كان يصل إلى الناس، وكان يتغلغل في كيانهم؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصدع بالحقِّ، ويتكلَّم بالصدق، وشتان بين الحقِّ والباطل، فكان إعلامه -على بساطته- أقوى تأثيرًا من إعلام الطواغيت، وهي رسالة إلى كل الدعاة: لا يحبَّطنكم سطوة إعلام الظالمين؛ فإن الحقَّ لا بُدَّ له من ظهور؛ قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}[الأنفال: 59].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الحاكم (3872)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والبيهقي: دلائل النبوة، 2/198 وقال الصوياني: إسناده صحيح. انظر: السيرة النبوية، 1/152.
[2] أبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة، ص232، والبيهقي: شعب الإيمان 1/288، ودلائل النبوة 2/200، 201، وابن إسحاق: السير والمغازي ص150، وابن هشام: السيرة النبوية، 1/270، وابن كثير: البداية والنهاية 3/79، وقال السقاف: رواه ابن إسحاق... ومن طريقه ابن جرير في ((التفسير)) مختصرًا. وروى نحوه الحاكم في ((المستدرك))، ومن طريقه البيهقي في ((الدلائل))... وهذا الإسناد صحيح لو كان إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه كما عدَّه ابن كثير في ((البداية والنهاية))، وتبعه الوادعي في ((أسباب النزول))، وكذا يُفهم من صنيع الحاكم والذهبي لما جعلاه على شرط البخاري. انظر: تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن، ص180.
[3] البلاذري: أنساب الأشراف 1/133، 10/203، والمقريزي: إمتاع الأسماع 14/324.
التعليقات
إرسال تعليقك