الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
عرج النبي إلى السماء السابعة والتقى سيدنا إبراهيم عليه السلام، فكيف كان اللقاء بينهما؟ وبماذا نصح سيدنا إبراهيم رسول الله؟
واصل النبي صلى الله عليه وسلم رحلة المعراج إلى السموات حتى وصل إلى السماء السادسة والتقى موسى وكان ما كان بينهما، والآن عُرِج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة والأخيرة! وكانت المشاهد فيها متعدِّدة وباهرة، وكأن كل ما سبق من استقبالات في السماوات السابقة كان تمهيدًا لما سيحدث في هذه السماء! ولنتابع هذه المشاهد بقراءة الروايات المختلفة.
لقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام!
بدأ برنامج السماء السابعة بلقاء مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام جدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ" [1].
وفي رواية قال: "فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ" [2].
هذا لقاء كان ينتظره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففوق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، وفوق أنه صاحب الملَّة الحنيفية السمحة التي عَبَدَ العربُ بها اللهَ تعالى فترة من الزمن قبل أن يُحَرِّفونها، وفوق أنه أبو الأنبياء، فوق كل ذلك فهو جدُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ورَحِمُه الشريف التي يشتاق إليه وإلى وَصْلِه. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حفيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنه كان أشبه الناس به؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ" [3].
ولقد ظهرت كرامة النبي العظيم إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أول لحظة؛ حيث وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء نظير الكعبة في الأرض؛ ولأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد استنفد وسعه في بناء بيت الله في مكة فقد أكرمه الله بزيارة بيته في السماء، وكما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربَّه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى البيت الحرام فقد أثلج الله صدره برؤية الملائكة تطوف حول البيت المعمور.
نصائح غالية من إبراهيم عليه السلام
وبعد السلام المتبادل بين النبيين الكريمين وَجَّه إبراهيم عليه الصلاة والسلام التحية إلى أُمَّة الإسلام، وأسدى لها نصائح غالية، فقد روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ" [4].
وفي رواية لابن حبان عن أبي أيوب رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أُمَّتَكَ أَنْ يُكْثِرُوا غِرَاسَ الجَنَّةِ، فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ، وَأَرْضُهَا وَاسِعَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِبْرَاهِيمَ: "وَمَا غِرَاسُ الجَنَّةِ؟" قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ" [5].
وأرض الجنَّة قيعان؛ أي أنها أرض عديمة الشجر، وإن كانت طيبة التربة، وعذبة الماء؛ وإنما تُزْرَع هذه الأرض الطيبة بالأعمال الصالحة للمؤمنين، ونصيحة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للأُمَّة الإسلامية أن تَزْرَع أرضَ الجنَّة بالأشجار الكثيرة، وهذا أمر ميسور؛ إذ إن هذه الزراعة تكون بالأذكار التي نصحنا بها النبي الكريم، وهي أذكار التسبيح والحمد والتهليل والتكبير في الرواية الأولى، وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. في الرواية الثانية، ولا تعارض؛ إذ إن هذا وذاك من غراس الجنَّة، وقد أوصى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بها جميعًا.
انتهى هذا اللقاء السريع بين النبيَين العظيمين، لكنه سيتجدَّد مرتين بعد ذلك في الرحلة نفسها كما سيأتي إن شاء الله.
_________________
[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج، (3674).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (162).
[3] البخاري: كتاب الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]، (3254)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (168).
[4] الترمذي: كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد (3462)، وقال: حديث حسن. والطبراني: المعجم الكبير 10/173، والمعجم الأوسط 4/271، والمعجم الصغير 1/326، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي 3/428، 429، والسلسلة الصحيحة (105).
[5] أحمد (23598)، وابن حبان (821) واللفظ له، والطبراني: المعجم الكبير 4/132 (3899)، وقال ابن حجر: هذا حديث حسن، أخرجه أحمد. انظر: ابن حجر: نتائج الأفكار 1/103، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة لم يتكلم فيه أحد، ووثقه ابن حبان. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 10/97، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 2/205.
التعليقات
إرسال تعليقك