الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
تعد أهم الروايات الواردة في قصة هجرة الحبشة الثانية هي رواية أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فهي الرواية المعتمَدة التي نعدُّها الأصل في شرح قصة
تُعَدُّ أهمُّ الروايات الواردة في قصة هجرة الحبشة الثانية هي رواية أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فهي الرواية المعتمَدة التي نعدُّها الأصل في شرح قصة الهجرة الثانية للحبشة، وعادة ما نستكمل الصورة بالروايات الأخرى الصحيحة التي جاءت في هذا الموضوع..
ورواية أم سلمة رضي الله عنها جاءت على النحو التالي:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم[1] قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شيئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قريشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ[2]، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كثيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ وَعمرو بن العاص بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ[3]، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثمَّ قَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلَا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا[4] وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلَامَهُمْ. فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَتْ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثمَّ قَالَ: لَا هَا اللهِ[5] ايْمُ اللهِ[6] إِذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا أُكَادُ[7] قَوْمًا جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلَادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي. قَالَتْ: ثمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ[8] حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جعفر بن أبي طالب فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شيئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. قَالَتْ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلَامِ. فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شيئًا، وَحرَّمنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص. قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ[9] لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أبدًا، وَلَا أُكَادُ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لأُنَبِّئَنَّهُمْ غَدًا عَيْبَهُمْ عِنْدَهُمْ ثمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ[10]. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ -وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا-: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا. قَالَ: وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عظيمًا؛ فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ[11] حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي -وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ -وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ. قَالَتْ: فَوَاللهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ. يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ، قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ. قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزبير بن العوام: أَنَا. قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَاسْتَوْسَقَ[12] عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِمَكَّةَ[13].
وهناك رواية أخرى لأم سلمة رضي الله عنها عن ابن إسحاق فيها بعض الاختلافات الطفيفة في الألفاظ، وهذه الاختلافات تُقَدِّم بعض الإشارات المفيدة؛ وهذه الرواية تقول: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا ضَاقَتْ مَكَّةُ وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفُتِنُوا وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ عَمِّهِ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شيء مِمَّا يَكْرَهُ وَمِمَّا يَنَالُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ». فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا[14]، حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِهَا، فَنَزَلْنَا بِخَيْرِ دَارٍ إِلَى خَيْرِ جَارٍ آمِنِينَ عَلَى دِينِنَا، وَلَمْ نَخْشَ فِيهَا ظُلْمًا. فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ أَصَبْنَا دَارًا وَأَمِنَّا غَارُوا مِنَّا، فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا لِيُخْرِجَنَا مِنْ بِلَادِهِ وَلِيَرُدَّنَا عَلَيْهِمْ. فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَجَمَعُوا لَهُ هَدَايَا وَلِبَطَارِقَتِهِ، فَلَمْ يَدَعُوا مِنْهُمْ رَجُلًا إِلَّا هَيَّئُوا لَهُ هَدِيَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا فِيهِمْ، ثُمَّ ادْفَعُوا إِلَيْهِ هَدَايَاهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَافْعَلُوا. فَقَدِمَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَتِهِ إِلَّا قَدَّمُوا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ، فَكَلَّمُوهُ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا قَدِمَنَا عَلَى هَذَا الْمَلِكِ فِي سُفَهَائِنَا، فَارَقُوا أَقْوَامَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ فَبَعَثَنَا قَوْمُهُمْ لِيَرُدَّهُمُ الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا نَحْنُ كَلَّمْنَاهُ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْعَلَ. فَقَالُوا: نَفْعَلُ. ثُمَّ قَدَّمُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ مَا يُهْدُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ الأُدُمُ، وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُمْ أَهْدَوْا إِلَيْهِ فَرَسًا وَجُبَّةَ دِيبَاجٍ. فَلَمَّا أَدْخَلُوا عَلَيْهِ هَدَايَاهُ قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ فِتْيَةً مِنَّا سُفَهَاءَ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ لَجَئُوا إِلَى بِلَادِكَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ عَشَائِرُهُمْ؛ آبَاؤُهُمْ وَأَعْمَامُهُمْ وَقَوْمُهُمْ لِتَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ فَتَمْنَعَهُمْ لِذَلِكَ. فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: لَا لَعَمْرُ الله! لَا أَرُدُّهُمْ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأُكَلِّمَهُمْ وَأَنْظُرَ مَا أَمْرُهُمْ، قَوْمٌ لَجَئُوا إِلَى بِلَادِي وَاخْتَارُوا جِوَارِي عَلَى جِوَارِ غَيْرِي، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ رَدَدْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ وَلَمْ أَدْخُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ أَنْعَمْهُمْ عَيْنًا[15]. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّجَاشِيُّ فَجَمَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ. لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ النَّجَاشِيِّ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالُوا: مَاذَا تَقُولُونَ؟ فَقَالُوا: وَمَاذَا نَقُولُ! نَقُولُ وَاللهِ مَا نَعْرِفُ وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي يُكَلِّمُهُ مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ فَارَقْتُمْ دِينَ قَوْمِكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّة. فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا عَلَى الشِّرْكِ، نَعْبُدُ الأَوْثَانَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَسْتَحِلُّ الْمَحَارِمَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا، لَا نُحِلُّ شَيْئًا وَلَا نُحَرِّمُهُ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ وَفَاءَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَدَعَانَا إِلَى أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَصِلَ الأَرْحَامَ وَنَحْمِيَ الْجِوَارَ، وَنُصَلِّيَ للهِ عز وجل وَنَصُومَ لَهُ وَلَا نَعْبُدَ غَيْرَهُ. فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا لِيَفْتِنُونَا عَنْ دِينِنَا وَيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ. فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَلا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ: فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ «كهيعص»، فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، انْطَلِقُوا رَاشِدِينَ، لَا وَاللهِ لَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْكُمْ وَلَا أُنْعِمُكُمْ عَيْنًا. فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْده، وَكَانَ أَتْقَى[16] الرَّجُلَيْنِ فِينَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، وَلأُخْبِرُنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعمُونَ أَنْ إِلهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، عَبْدٌ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا خَالَفُونَا فَإِنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَلَهُمْ حَقًّا. فَقَالَ: وَاللهِ لأَفْعَلَنَّ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَنْهُ. فَبَعَثَ وَاللهِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا. فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ لَهُ فِي عِيسَى إِنْ هُوَ يَسْأَلُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ الَّذِي قَالَهُ اللهُ فِيهِ، وَالَّذِي أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نَقُولَهُ فِيهِ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. فَدَلَّى النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ عُودًا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِمَّا قُلْتَ هَذَا الْعُوَيْدَ. فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ، فَقَالَ: وَإِنْ تَنَاخَرْتُمْ وَالله! اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ فِي الأَرْضِ -الشُّيُومُ: الآمِنُونَ فِي الأَرْضِ- مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ -ثَلَاثًا- مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ، وَالدَّبْرُ بِلِسَانِهِمُ: الذَّهَبُ. وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ زَبْرًا. وَهُوَ الْجَبَلُ بِلُغَتِهِمْ. ثمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: فَوَاللهِ مَا أَخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، وَلَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ النَّاسَ فِيهِ، رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمْ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا، وَاخْرُجَا مِنْ بِلَادِي. فَخَرَجَا مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ. قَالَتْ: فَأَقَمْنَا مَعَ خَيْرِ جَارٍ فِي خَيْرِ دَارٍ. فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَة يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ. فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُنَا حَزِنَّا حُزْنًا قَطُّ هُوَ أَشَدَّ مِنْهُ، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ عَلَيْهِ فَيَأْتِي مَلِكٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ يَعْرِفُهُ. فَجَعَلْنَا نَدْعُو اللهَ وَنَسْتَنْصِرُهُ لِلنَّجَاشِيِّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ سَائِرًا. فَقَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ يَخْرُجُ فَيَحْضُرَ الْوَقِيعَةَ حَتَّى يَنْظُرَ عَلَى مَنْ تَكُونُ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا: أَنَا. فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، فَجَعَلَ يَسْبَحُ عَلَيْهَا فِي النِّيلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ شِقِّهِ الآخَرِ إِلَى حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ، فَحَضَرَ الْوَقْعَةَ. فَهَزَمَ اللهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَقَتَلَهُ وَظَهَرَ النَّجَاشِيُّ عَلَيْهِ. فَجَاءَنَا الزُّبَيْرُ، فَجَعَلَ يُلِيحُ لَنَا بِرِدَائِهِ وَيَقُولُ: أَلَا فَأَبْشِرُوا، فَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ النَّجَاشِيَّ. قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُنَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَنَا بِظُهُورِ النَّجَاشِيِّ. ثُمَّ أَقَمْنَا عِنْدَهُ حَتَّى خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَّا إِلَى مَكَّة وَأقَامَ مَنْ أَقَامَ[17].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لم تكن أم سلمة رضي الله عنها في ذلك الوقت زوجًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما كانت زوجًا لأبي سلمة رضي الله عنه، ولما مات عنها تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. واختُلِف في سنة زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عبد البر: تزوج رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أم سلمة سنة اثنتين من الهجرة بعد وقعة بدر، عقد عليها فِي شوال، وابتنى بها فِي شوال. انظر: الاستيعاب 4/1921، وقال ابن الأثير: وكانت قبل أن يتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي... وتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، بعد وقعة بدر، وقيل: إنه شهد أحدًا ومات بعدها، قاله ابن إسحاق. انظر: أسد الغابة 7/278، وقال الذهبي: دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/202، وقال ابن حجر: فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة سنة أربع، وقيل: سنة ثلاث. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 8/404.
[2] الأَدَم والأُدُم: جمع أديم، وهو الجِلْد المدبوغ، أو أيًّا كان.
[3] أي أَمَرَ زعماء قريش الوفدَ بإعطاء الهدايا إلى البطارقة أولًا.
[4] وكانوا بهم أعلى عَيْنًا؛ أَي أَبْصَرَ بهم وأَعْلَم بحالهم.
[5] لا هَا الله: هَا للتَّنْبِيه، وَقد يُقسم بها؛ يقال: لا ها الله ما فعلت؛ أي: لا والله. انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 5/236، وبدر الدين العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 17/300.
[6] ايم الله: كلمة قسم يقال: ايم الله لأفعلن كذا. انظر: المعجم الوسيط 1/35، واليمين: الحَلِف والقَسَم. وأَيْمُنُ: اسم وُضعَ للقسم هكذا بضم الميم والنون وأَلفه أَلف وصل عند أَكثر النحويين... وربما حذفوا منه النون قالوا: أَيْمُ الله، وإيمُ الله أيضًا. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 13/458.
[7] أُكاد: فعل مبني للمجهول؛ أي لا يكيدوني قومًا، وكاد فلانًا خدعه ومكر به، والكَيْد: هو التدبير بباطل أو حَقٍّ، ويقولون: إِذا حُمِلَ أحدهم على ما يَكْره لا والله ولا كَيْدًا ولا هَمًّا؛ يريد: لا أُكادُ ولا أُهَمُّ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 3/383.
[8] مصاحف جمع المُصْحَفُ والمِصْحَفُ: وهو الجامع للصُّحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْنِ... وقال الأزهري: وإنما سمي المصحف مصحفًا لأنه أُصحِف أي جعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفتين. الأزهري: تهذيب اللغة 4/149، وتسمية القرآن بالمصحف كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد في ذلك عدَّة روايات، والمقصود هنا بمصاحف البطارقة أناجيلهم.
[9] أخضل لحيته: أي بَلَّها بالدموع. وأخضل: بَلَّ ونَدِي، انظر: ابن منظور: لسان العرب، 11/208.
[10] أستأصل: أي لا أدع لهم أصلًا. وخضراءهم: سوادهم ومعظمهم. الصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/396.
[11] فتناخَرَتْ بَطارِقَتُه؛ أي: تكلَّمت وكأَنَّه كلام مع غضب ونُفور. والنَّخِير: صوت الأنف، ونَخَر: مدَّ الصَّوت في خياشيمه وصوَّت، كأَنه نَغْمة جاءت مضطرِبة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 5/197.
[12] اسْتَوْسَقَ عليه أَمْرُ الحَبَشة؛ أي: اجتمعوا على طاعته واستقرَّ الملك فيه. ابن منظور: لسان العرب، 10/378. الوسق: ضَمُّكَ الشيء إلى الشيء بعضهما إلى بعض. والاتِّساق: الانضمام والاستواء؛ كاتِّساقِ القمر إذا تم وامتلأ فاستوى. واستَوْسَقَت الإبل: اجتمعت وانضمت. الخليل بن أحمد الفراهيدي: العين 5/191.
[13] أحمد (1740)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق، وقد صرَّح بالسماع. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 6/27.
[14] أَرسالًا: أَفواجًا وفِرَقًا متقطِّعة بعضهم يتلو بعضًا، واحدهم رَسَلٌ. ابن منظور: لسان العرب، 11/281.
[15] لم أنعمهم عينًا؛ أي لم أطاوعهم وأقرَّ عينهم بما يحبون؛ وهي من أَنْعَم اللهُ بك عَيْنًا أَقرَّ بك عينَ من تحبُّه. ومن النَّعْمة: وهي المسرَّة والفرح، ابن منظور: لسان العرب، 12/579.
[16] وفي رواية: أبقى. البيهقي: دلائل النبوة 2/301، وابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير ص 137، وابن كثير: السيرة النبوية 2/17، وَكَانَ أَبْقَى الرجُلين فِينَا؛ أَيْ أَكْثَرَ إبْقاءً عَلَى قَوْمِهِ. انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/147.
[17] ابن إسحاق: السير والمغازي ص213، وابن هشام: السيرة النبوية 1/334- 338، والبيهقي: دلائل النبوة 2/301-304، وابن عساكر: تاريخ دمشق 72/120- 124، وابن كثير: البداية والنهاية 3/91، والسيرة النبوية 2/17، ومسند إسحاق بن راهويه 4/72 (1835)، وقال أكرم ضياء العمري: إسناد حسن، فرواية يونس بن بكير توبعت برواية البكائي وابن إسحاق صرَّح بالتحديث. انظر: السيرة النبوية الصحيحة 1/170، وقال محمد بن رزق بن طرهوني: أخرجه ابن إسحاق ومن طريقه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أم سلمة به. انظر: صحيح السيرة النبوية 2/141، وحاشيته رقم (906) 2/548-550، وقال الصوياني: إسناده صحيح رواه ابن إسحاق، ومن طريقه البيهقي (2/301) وأحمد (الفتح الرباني 20/224) حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذان الإسنادان صحيحان. انظر: الصوياني: السيرة النبوية 1/133.
التعليقات
إرسال تعليقك