الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
بعد قراءة الروايات السابقة، والاطلاع على أحداث السيرة في الفترة الماضية؛ يمكن أن نُعَدِّد هنا الأسباب التي دفعتني إلى توقُّع أن تكون الهجرة الثانية
بعد قراءة الروايات السابقة، والاطلاع على أحداث السيرة في الفترة الماضية؛ يمكن أن نُعَدِّد هنا الأسباب التي دفعتني إلى توقُّع أن تكون الهجرة الثانية الرئيسة إلى الحبشة قد حدثت في آخر العام العاشر من البعثة أو أول العام الحادي عشر..
الدليل الأول: وجود عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الفوج الذاهب مع جعفر رضي الله عنه:
فقد ورد في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الفوج كان يشمل الاثنين معًا؛ ومعنى هذا أن هجرة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كانت مصاحبة لهجرة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ثم إننا وجدنا في أحداث السيرة في العام العاشر من البعثة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موجودٌ وبوضوح، فقد كان شاهدًا لقصة إلقاء سلا الجزور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أثبتنا أنها حدثت بعد وفاة أبي طالب؛ أي في العام العاشر من البعثة، كما أنه كان حاضرًا لمشهد قراءة سورة النجم، وهو الذي شاهد أمية بن خلف لا يسجد، وهذا المشهد كان بعد الإسراء والمعراج كما بيَّنَّا، فتحتَّم أن تكون هجرة جعفر رضي الله عنه وأصحابه بعد قصة قراءة سورة النجم؛ أي في آخر العام العاشر أو أول الحادي عشر حسب موعد الإسراء.
الدليل الثاني: في رواية البزار، التي نقلها عن عمير بن إسحاق قال: «اسْتَأْذَنَ جَعْفَرٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ائذَنْ لِي حَتَّى آتِيَ أَرْضًا أَعْبُدُ اللهَ فِيهَا لا أَخَافُ أَحَدًا. قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ، فَأَتَى النَّجَاشِيَّ...».
هذا الخوف الذي يتحدَّث عنه جعفر رضي الله عنه لا أتوقَّع أنه كان موجودًا في حياة أبيه أبي طالب، الذي كان يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن باب أولى كان يمنع أبناءه، وبالتالي فهذا الطلب من جعفر رضي الله عنه لم يأتِ إلَّا بعد أن مات أبو طالب، وبدأ جعفر رضي الله عنه يشعر بعدم الأمان في مكة فطلب ذلك، ومن الممكن أن يقال: إن هذا لم يحدث مع أخيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ولكن يمكن الردُّ بأن الجميع كانوا في حالة خطرة؛ لكن كما ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع إرسال كل المسلمين إلى الحبشة؛ بل لا بُدَّ من إرسال مجموعة، والإبقاء في مكة على مجموعة أخرى، فكان جعفر رضي الله عنه من المرسلين إلى الحبشة، وكان عليٌّ رضي الله عنه من الماكثين في مكة، وفي كلٍّ خير.
الدليل الثالث: في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «بَعَثَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ رجلًا فِيهِمْ عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ، وَجَعْفَرٌ، وَعَبْدُ الله بْنُ عَرْفَطَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونَ، وَأَبُو مُوسَى، فَأَتَوُا النَّجَاشِيَّ..». ونحن نرى في هذه الرواية أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه كان مهاجرًا بصحبة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذه الرحلة هي هجرة الحبشة الثانية وليست الأولى لأن فيها جعفرًا رضي الله عنه، ونحن قد رأينا في قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التي عرضت عليه فكرة الزواج كانت خولة بنت حكيم رضي الله عنها، وهي زوجة عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وبالتالي فهذه الزوجة كانت موجودة في مكة في ذي الحجة من العام العاشر من البعثة وقتَ عرضِها فكرة الزواج على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا لا أتوقَّع أن يكون عثمان بن مظعون رضي الله عنه قد هاجر إلى الحبشة بمفرده دون زوجته وابنته[1]، مع أن ابن إسحاق لم يذكر خولة رضي الله عنها ولا ابنتها في المهاجرات إلى الحبشة؛ لكن ينبغي الأخذ في الاعتبار أن الأسماء التي ذكرها ابن إسحاق في سيرته ليست حصريَّة؛ فقد جاءت كلها بلا سند متصل، وقد كانت العادة أن يهاجر الرجل بزوجته وأطفاله الصغار، وسنرى في أحداث الهجرة إلى المدينة أنه عندما هاجر أبو سلمة رضي الله عنه دون زوجته وابنه فإن هذا كان أمرًا مستنكَرًا غير مألوف، وقد تحدَّث عنه الرواة وتناولوه لندرته؛ وعليه فقد حدثت هجرة الحبشة الثانية بعد ذي الحجة من العام العاشر من البعثة، أي أوائل العام الحادي عشر منها.
الدليل الرابع: قصة عمارة بن الوليد بن المغيرة:
كان عمارة بن الوليد من أكابر المشركين، ومن أشدِّهم على الإسلام، وهذا دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يخصَّه بالدعاء عليه مع مجموعة قليلة من زعماء مكة يوم ألقوا عليه سلا الجزور في الكعبة، وقد أثبتنا أن هذا الحدث كان في العام العاشر بعد وفاة أبي طالب، وهذا يعني أن عمارة بن الوليد كان في مكة في ذلك الوقت؛ بل كان جالسًا في المجلس نفسه الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بْنِ الوَلِيدِ»[2].
ولكننا وجدنا في روايات الحبشة أن قريشًا أرسلت عمارة بن الوليد إلى النجاشي مع عمرو بن العاص لكي يُعيداهم إلى مكة مرَّة أخرى، وخروج عمرو بن العاص، ومعه عمارة بن الوليد كان قريبًا جدًّا من هجرة جعفر رضي الله عنه وأصحابه؛ لأن رواية عمرو بن العاص تذكر ذلك؛ حيث قال عمرو: «لَمَّا رَأَيْتُ مَكَانَهُ حَسَدْتُهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لأَسْتَقْتِلَنَّ لِهَذَا وَلأَصْحَابِهِ، فَأَتَيْتُ النَّجَاشِيَّ...». فهذا يعني أنه بمجرَّد وصول الأخبار بأمان جعفر رضي الله عنه وأصحابه سافر عمرو إلى الحبشة ومعه عمارة بن الوليد.
ثم إننا نعلم من رواية أبي موسى رضي الله عنه وغيره أن عمارة بن الوليد غاب في أرض الحبشة ولم يرجع إلى مكة قط، والسرُّ في ذلك أنه تعدَّى على امرأة النجاشي فعُوقب بأن سحره ساحر فهام على وجهه في الغابات مع الوحوش كما سيأتي؛ وسواء كانت القصة بهذه الصورة أم بغيرها؛ فإن الثابت أن عمارة بن الوليد لم يرجع إلى مكة قطُّ، ولم يُشارك في بدر أو غيرها.
والسؤال هنا: لو كانت الهجرة في العام السادس من البعثة، وعمارة غائب في الحبشة من أول أيام الهجرة، فلماذا يتذكَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء عليه في العام العاشر بعد أربع سنوات كاملة؟! ولو قال أحد: إنه يدعو عليه لأنه ذهب للإتيان بالمؤمنين المهاجرين. فنقول: ولماذا يدعو عليه ويترك عمرو بن العاص! مع أن عمرو بن العاص هو رئيس الوفد والمتكلِّم الرئيس في السفارة القرشية؛ إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعو عليه لهذا السبب؛ لكنه كان يدعو عليه لأنه شارك في جلسة السخرية التي فعلوها في الكعبة، وكان من المتآمرين على وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم.
ولو قال قائل: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ»[3]. فمعنى هذا أن عمارة بن الوليد كان صريعًا معهم؛ قلنا: إن الثابت أن عمارة بن الوليد لم يرجع إلى مكة؛ ولكن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال هذه الجملة على سبيل التغليب؛ لأن هناك من السبعة غير عمارة بن الوليد لم يُلْقَ كذلك في قليب -أي بئر- بدر، وهو عقبة بن أبي معيط، الذي قُتِل بالسيف في طريق العودة إلى المدينة، وبالتالي لم يُدفَن في بدر، لكنَّ الخمسة الباقين أُلقوا في القليب.
فوجود عمارة بن الوليد في مكة في العام العاشر وقت حدوث قصة سلا الجزور دليل على تأخُّر هجرة الحبشة حتى هذا الموعد الذي ذكرناه.
الدليل الخامس: في رواية أم سلمة رضي الله عنها، التي جاءت في سيرة ابن إسحاق بسنده الصحيح إليها، ذكرت في أول الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمح للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة؛ لأنهم يتعرَّضون للأذى؛ بينما هو في «منعة من قومه ومن عمه»[4]. فذكرت هنا أن الهجرة كانت في حياة أبي طالب، وبالتالي قبل الشِّعْب، أي في العام الخامس أو السادس من البعثة، والواقع أن أم سلمة في هذا الحديث تتحدَّث عن هجرة الحبشة الأولى؛ لأنها ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ»[5]. وهو لم يقل هذا القول إلَّا في الهجرة الأولى؛ حيث كان يُعَرِّفهم بالنجاشي للمرَّة الأولى، وبعد ذلك كان يأذن لهم في الهجرة الحبشة التي صارت معروفة لديهم دون ذِكْر ملكها، ويؤيد هذا أمران: الأول أن أم سلمة كانت من المهاجرات للهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، وهي بالتالي تحكي في رواية ابن إسحاق أمر الهجرتين معًا؛ خاصة أن ابن إسحاق يخلط في سيرته بين الهجرتين؛ حتى لتكاد تشعر -في روايته- أنها هجرة واحدة، والأمر الثاني أنها قالت: «فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِهَا». مما يدلُّ على أنها تقصد الوصول إلى الحبشة على مراحل وليس مرَّة واحدة.
من كل ما سبق يتبيَّن لنا أن الأغلب أن الهجرة الثانية إلى الحبشة كانت في مرحلة الإيذاء الشديدة، التي أعقبت أحداث العام العاشر؛ وبالتحديد في أوائل العام الحادي عشر من البعثة؛ ومن ثَمَّ فقد أدَّت هذه الهجرة إلى رفع الضغط نسبيًّا عن الجماعة المؤمنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لعثمان بن مظعون رضي الله عنه ابنة من خولة بنت حكيم رضي الله عنها هي زينب بنت عثمان بن مظعون. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/211، وابن بشكوال: غوامض الأسماء المبهمة 2/807.
[2] البخاري: كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته، (237).
[3] البخاري: كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته، (237) واللفظ له، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1794).
[4] ابن إسحاق: السير والمغازي ص213، والبيهقي: دلائل النبوة 2/301، وصححه الألباني؛ انظر: صحيح السيرة النبوية ص170.
[5] البيهقي: السنن الكبرى (17512)، ودلائل النبوة 2/301، وابن إسحاق: السير والمغازي ص213، وقال العراقي: وروى ابن إسحاق بإسناد جيد ومن طريقه البيهقي في الدلائل من حديث أم سلمة... انظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين 3/1270، وصححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة (3190)، وذكره في صحيح السيرة، ص170.
التعليقات
إرسال تعليقك