كانت لشكوى خباب بن الأرت رضي الله عنه المتكرِّرة، وطلب النصر من الله ودفع التعذيب عنهم، ما استشعر منه الرسول صلى الله عليه وسلم خطر اليأس، فكان لا بُدَّ من وقفةٍ حاسمةٍ تُعالج الموضوع بدقَّة، وتمنع في الوقت نفسه تفشِّيه في نفوس الآخرين.
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
يظهر الفكر الأمني الرائع عند الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، من خلال طرح وتحليل الدكتور راغب السرجاني لقصة إسلام عمرو بن
أهم مقتطفات المقال
ومن الكنوز كذلك أنَّ الله عز وجل إذا أغلق بابًا للخير -لحكمة يعلمها- فإنَّه سبحانه وتعالى يفتح أبوابًا غيره، فإذا كانت قلوب زعماء الكفر قد أُغلقت، وإذا كانت الدعوة التي بذلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل طاقته لم تُسْفِر عن إسلامهم، فإنَّ الله عز وجل قد حمل هذه الدعوة إلى الآفاق حتى سمعها رجال من خارج مكة على مسافات بعيدة، ومن قبائل غريبة، فوقعت الكلمات في قلوبهم، فجاءوا راغبين فيما زهدت فيه قريش القريبة!
بعد أن أسهبنا في الحديث عن السبل العديدة للكفار في الصدِّ عن سبيل الله، ومحاولاتهم الجادَّة لإيقاف المد الإسلامي على عدَّة مراحل، خاصَّةً مرحلة البطش والتعذيب التي تعرَّض لها المسلمون في مكة، وعلى الرغم من كل ذلك رأينا مدى حرص الرسول على هداية الكفار، لكن يجب أن نعرض لنقطة أخيرة قبل ترك هذه المرحلة المؤلمة..
هذه المرحلة التي خرج فيها المشركون عن حالتهم الفطريَّة السليمة، فبدءوا في نهش أجساد المسلمين بهذه الصورة، وكانت ردود فعلهم مجنونة بالشكل الذي رأيناه، هذه المرحلة كانت تتطلَّب قدرًا كبيرًا من السرِّيَّة؛ حيث إنَّ اكتشاف إسلام شخص -في مثل هذه الظروف- قد يُودِي بحياته، وقد يُؤَدِّي إلى اكتشاف آخرين، فتتأثَّر الدعوة على نطاقٍ واسع.
هذه السرِّيَّة الكبيرة ظهرت في بعض قصص السيرة التي حدثت في هذه الفترة، ووضَّحت لنا الفكر الأمني الرائع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند الصحابة الكرام رضي الله عنه، ومن أفضل الأمثلة على ذلك قصَّة إسلام عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه.
يروي عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه نفسه قصَّة إسلامه فيقول: كُنْتُ وأنَا في الجاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيهِ، فإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيًا، جُرَءَاءُ[1] عَلَيهِ قَومُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أنْتَ؟ قَالَ: «أنا نَبِيٌّ». قُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: «أرْسَلَنِي اللهُ». قُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ». قُلْتُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: «حُرٌّ وَعَبْدٌ». وَمَعَهُ يَوْمَئذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ رضي الله عنهما، قُلْتُ: إنِّي مُتَّبِعُكَ. قَالَ: «إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي». قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أهْلِي وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ حَتَّى قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ أهْلِي المَدِينَةَ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ المَدِينَةَ؟ فَقَالُوا: النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، وَقَدْ أَرَادَ قَومُهُ قَتْلَهُ، فلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذلِكَ. فقَدِمْتُ المَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَعْرِفُني؟ قَالَ: «نَعَمْ، أنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ». قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللهُ وأَجْهَلُهُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثمَّ اقْصُرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، فَإنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الكُفَّارُ، ثمَّ صَلِّ فَإنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ[2] مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بالرُّمْحِ، ثمَّ اقْصُرْ عَنِ الصَّلاةِ، فَإنَّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ[3] جَهَنَّمُ، فإذَا أقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثمَّ اقْصُرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ». قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَالْوُضُوءَ حَدِّثْنِي عَنْهُ؟ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ، فَيَتَمَضْمَضُ وَيسْتَنْشِقُ فَيَسْتَنْثِرُ، إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ المَاءِ، ثمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى المِرْفقَيْنِ، إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أنَامِلِهِ مَعَ المَاءِ، ثمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ المَاءِ، ثمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أنَامِلِهِ مَعَ المَاءِ، فَإنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ الله تَعَالَى، وَأَثْنَى عَلَيهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ للهِ تَعَالَى، إلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»[4].
إنَّ الكنوز الدعوية والتربوية والإدارية والأمنية في هذه القصَّة لا تنتهي!
من هذه الكنوز أن إسلام عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه يُثْبِت لنا ما قلناه قبل ذلك من أن الأقرب إلى الإسلام أولئك الذين حسنت أخلاقهم في جاهليتهم؛ فهذا الرجل قبل أن يُبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشعر بأن الناس على ضلالة، ويبدي لنفسه ولمن حوله أن ما عليه الناس من عقيدة فاسدة، وأخلاق منحلة، ليس من الصواب في شيء، وهذه النوعية من الناس تشعر في حياتها بالحيرة والاضطراب؛ وبالتالي فهي تبحث عن الحقيقة بجدية، وليس عندها مانع أن تُغَيِّر مسار حياتها كله إذا وجدت مَنْ يأخذ بيدها إلى الطريق المستقيم؛ لذلك حرص عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه أن يذهب بنفسه إلى مكة، ليستوثق من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت رحلته سببًا في هدايته، وما أكثر الذين يُشبهون عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه في زماننا! حيث هم في الحقيقة يُدركون باطلهم؛ لكنهم لم يجدوا مَنْ يشرح لهم أمر الإسلام وحقيقته، وهؤلاء لو أسلموا لصاروا دعاة حقيقيين؛ لأنهم اختاروا الإسلام بإرادتهم، وبحثوا عنه برغبتهم.
ومن هذه الكنوز -أيضًا- أن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه ذكر في كلامه بعض الكلمات التي أكَّدت المرحلة التاريخية التي أتى فيها؛ حيث أتى في فترة الإيذاء الجسدي التي تعرَّض لها المسلمون، وهي فترة العام الرابع أو الخامس من البعثة تقريبًا؛ حيث قال: «فإِذَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيًا، جُرَءَاءُ عَلَيهِ قَومُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيهِ بِمَكَّةَ». فاستخفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه كان قبل إسلام عمر رضي الله عنه -والذي سيحدث في العام السادس تقريبًا- وكلمة: «جُرَءَاءُ عَلَيهِ قَومُهُ». تُوَضِّح كذلك طبيعة المرحلة التي تَجَرَّأ فيها كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما أن «تلطُّف» عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني دخوله عليه سرًّا، وبعيدًا عن أعين الناس؛ فهذا كله يُشير إلى الفترة الصعبة التي جاء فيها عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه، ويُؤَكِّد هذا التوقيت ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه عندما أراد أن يُشْهِر إسلامه بمكة؛ حيث حذَّره قائلًا: «إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ ذلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، ألا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ؟»، فكان من الواضح أنَّ التعذيب للصحابة كان جهريًّا ويُشاهده الناس، وهذا لم يكن إلا في المرحلة التاريخية التي ذكرناها.
ومن الكنوز الثمينة التي نستخرجها من القصَّة أن الدعوة لا تتوقَّف أبدًا مهما كانت الظروف، فحتى مع هذه الظروف الصعبة التي تمرُّ بها الجماعة المؤمنة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحيَّن الفرص لكي يُكَلِّم الناس في أمر الدين، فهو لم يرفض استقبال عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه، بحجَّة أنه من الممكن أن يكشف أسراره؛ ولكن أخذ حذره الكافي، وبلَّغه بأمر دعوته، وقَبِل إسلامه؛ بل كلَّفه أن ينشر هذا الدين في مكان جديد؛ فهذا يدلُّنا على يقظة الحركة الإسلامية، والتقاطها الفرص مهما كانت بسيطة.
ومن الكنوز كذلك أن الله عز وجل إذا أغلق بابًا للخير -لحكمة يعلمها- فإنَّه سبحانه وتعالى يفتح أبوابًا غيره، فإذا كانت قلوب زعماء الكفر قد أُغلقت، وإذا كانت الدعوة التي بذلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل طاقته لم تُسْفِر عن إسلامهم، فإنَّ الله عز وجل قد حمل هذه الدعوة إلى الآفاق حتى سمعها رجال من خارج مكة على مسافات بعيدة، ومن قبائل غريبة، فوقعت الكلمات في قلوبهم، فجاءوا راغبين فيما زهدت فيه قريش القريبة! فها هو عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه، وهو من قبيلة سليم، يسمع بأمر الإسلام فيأتي من بعيد ويُسْلم، فديار بني سليم في شمال المدينة؛ أي على بعد مئات الكيلو مترات من مكة، وبنو سليم قبيلة بعيدة في أصولها عن بني هاشم أو قريش، ومع ذلك جاء عمرو راغبًا، وصار من المسلمين؛ وذلك مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يَرَ الآيات التي رأتها قريش، ولم يُبْذَل معه معشار ما بُذِل من جهد مع أبي جهل وعتبة وشيبة؛ ولكن ليُثبت لنا ربُّنا أن الذي علينا هو بذل الجهد والطاقة، أمَّا هو سبحانه وتعالى فعليه الهداية، وسيأخذ سبحانه الكلمات التي يقولها الدعاة، مهما كانت بسيطة أو قليلة، فيحملها في الآفاق، ويضعها في قلوب أقوام طيبين من أهل الأرض؛ لعلَّهم لم يسمعوا عن الإسلام إلَّا مرَّة واحدة، فيؤمنوا ويَحْسُن إيمانهم؛ بل لعلَّهم ينصرون الدعوة كما لم ينصرها أهلها، فلا يحسبنَّ الدعاة أن كلماتهم -التي لم تَجِدْ صدى في أسماع أقوامهم- أنها ذهبت هباءً منثورًا، فإنها -ولله الحمد- تُؤتي أُكُلها، ولو بعد حين.
ومن الكنوز الهائلة في هذه القصَّة هو الاطِّلاع على البُعد الأمني في تعاملات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة، ورؤية التدابير الأمنية الحذِرة التي كان يأخذها الصحابة رضي الله عنهم، فمع أن مكة بلد صغير للغاية، ووجود رجل غريب -كعمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه- سيكون ملحوظًا، فإن الصحابة رضي الله عنهم استطاعوا أن يُدْخِلوا عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يراه أحد، وعندما تمَّ الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل الغريب عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه تمَّ في وجود رجلين فقط من الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هما أبو بكر وبلال رضي الله عنهما؛ وذلك كنوع من التأمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والأروع من ذلك أن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه عندما سأل عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: «فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حذر: «حُرٌّ وَعَبْدٌ». ففهم منها عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه أن المقصودين هما أبو بكر وبلال رضي الله عنهما؛ ولذلك كان يقول عن نفسه: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَرُبُعُ الإِسْلَامِ»[5]. يقصد أن الذين أسلموا قبله ثلاثة فقط؛ هم: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال رضي الله عنهما، بينما الواقع يقينًا أن عدد المسلمين في هذه اللحظة قد تجاوز الأربعين؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يكشف أوراقه أمام هذا الغريب، فقال: «حُرٌّ وَعَبْدٌ». وهو لم يكذب صلى الله عليه وسلم، إنما ذكر أنَّ الذين أسلموا معه لا يخرجون عن كونهم إمَّا حرُّ وإمَّا عبدٌ، هذا مع الأخذ في الاعتبار أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو ذكر لعمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه أن المسلمين أكثر من أربعين، لكان هذا أدعى لإسلامه؛ حيث إن الناس يتشجَّعون للمضيِّ في طريق مشى فيه آخرون، واقتنع به عدد كبير، ولا يحبُّون عادة أن يكونوا هم البادئين في أمر جديد، خاصَّة في أمر خطير كأمر العقيدة، ومع ذلك فقد قدَّم الرسول صلى الله عليه وسلم سلامة الوضع الأمني للجماعة المؤمنة على قضية إسلام رجل، مع أهمية هذا الأمر الأخير، وقد ظلَّ عمرو بن عَبَسَة على هذا الاعتقاد بعد إسلامه، ولم يُكْشَف له الأمر على حقيقته؛ لأن المعلومة بعد ذلك لم يَعُدْ لها فائدة له؛ لكنها قد تضرُّ بالمسلمين، فآثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبقاء على عدد أتباعه خفيًّا، وأخيرًا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يُعلن عمرُو بن عَبَسَة رضي الله عنه إسلامه في مكة؛ بل رفض أن يبقى فيها أصلًا، إنما أمره أن يعود إلى قومه وقبيلته؛ وذلك حفاظًا عليه هو شخصيًّا من ناحية؛ وكذلك حفاظًا على الجماعة المؤمنة من ناحية أخرى؛ حيث إن اكتساب أفراد جدد، خاصَّة من خارج مكة، سيُثير غالبًا حفيظة الكفار، فيزيد عندهم الأذى الواقع على المسلمين! حقًّا ما أروع هذه التدابير التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما أحرى الجماعة المؤمنة أن تقرأ السيرة النبوية بعناية، حتى يمكن لها أن تتلمَّس الطريق الصحيح على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ومن الكنوز الثمينة كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا كيف يمكن أن نعرض إسلامنا بشكل موجز ومختصر ومباشر، فعندما سأله عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه عن صلب الرسالة قال: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ». فهذه أمور قليلة جدًّا بالنسبة إلى شرائع الإسلام وقواعده؛ ومع ذلك فهي تُلَخِّص فكرة الإسلام، والقائمة أساسًا على توحيد الله عز وجل، وعدم إشراك أيِّ شيء معه، ومنها الأوثان التي يعبدها العرب آنذاك؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم أضاف مسألة صلة الأرحام ليُخاطب الأخلاق الحميدة الواضحة في تكوين عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه، وفي الوقت نفسه ليلفت النظر إلى أنَّ الإسلام جاء ليحلَّ معضلة صارت تُواجه العرب الآن، وهي معضلة تقطيع الأرحام، وكلُّ العقلاء يُدركون خطورة هذا التقطيع، وفوق ذلك فهو يردُّ الشبهة الكاذبة التي يُثيرها أهل الشرك من أنَّ الإسلام دين يُفَرِّق بين المرء وزوجه، وبين المرء وقومه. لقد كانت كلمات محدودة؛ ولكنَّها كانت كافية لفتح قلب عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه، ثم بعد ذلك عندما يأتي عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه في زمان الدولة الممكَّنة سيسأل أسئلة كثيرة، وستكون هناك مساحة كافية من الوقت والحرية للدخول في الأصول والتفريعات، ومناقشة القضايا المختلفة، وهذا ما رأيناه في قصة عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه عندما جاء إلى المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليسأل عن الوضوء والصلاة.
ومن الكنوز الجميلة كذلك ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم في نصر الله؛ حيث يقول لعمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه بكل اطمئنان: «وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهرْتُ فَأْتِنِي». فهو يعلم يقينًا أنه سيظهر، وأنه ستكون له دولة وقوَّة، نعم هو لا يدري الآن أين تكون هذه الدولة، ولا موعد قيامها؛ لكنه على يقين من هذا القيام؛ بل يُحَدِّد مع عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه ظرفًا معينًا يأتي فيه إلى البلد الذي سيظهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجميل أن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه سمع هذا الكلام، ولم يتعجَّب له، مع أنه يرى الناس-على حدِّ تعبيره- جرءاء على الرسول صلى الله عليه وسلم، إلَّا أنَّ مَنْ سَمِعَ القرآنَ الكريم، وأدرك أنه معجزة من الله، سيعلم -لا محالة- أن الله قادر على كل شيء؛ ومن ثَمَّ يُصبح أمر الظهور والدولة والقوَّة أمرًا هينًا بالقياس إلى قدرة الله عز وجل.
ومن هذه الكنوز القيِّمة كذلك أن المؤمنين كانوا يَرَوْنَ إسلام عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه نصرًا جزئيًّا في هذه المرحلة، وهو في الحقيقة نصرٌ كبير، وليست أبعاد هذا النصر محدودة بإيمان رجلٍ واحدٍ، وإنْ كان هذا نصرًا كبيرًا فعلًا؛ ولكن في الواقع إنَّ الأمر أكبر من ذلك بكثير؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه إلى قومه ليكون نواةً للعمل هناك، ولا شكَّ أنَّه كلَّم في أمر الإيمان بعض أهله ورَحِمِه، أو على الأقل صار دعايةً إيجابيَّةً لأمر الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، ولعلَّه يُدافع عن الدين في مواقف لا يراها الصحابة، ولا تعرف بها الجماعة المؤمنة؛ ولكن يُصبح لها من الأثر ما لا نتخيَّله، فأي نصر عظيم هذا!
ومن كنوز هذه القصة كذلك أن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه تَعَلَّم هذا الحسَّ الأمني الذي كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنه عندما قَدِمَ نفر من أهله إلى المدينة، ومن الواضح أنهم لم يكونوا مسلمين، قال لهم عمرو: «مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ المَدِينَةَ؟» ولم يقل لهم: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد تعلَّم أن يُخفي إسلامه حتى تأتي اللحظة المناسبة التي يُعلن فيها أمره.
وآخر ما نذكره من هذه الكنوز هي روعة الفكر والسلوك الدعوي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ظلَّ متذكِّرًا أمر عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه حتى بعد مرور أكثر من ثماني سنوات كاملة من لقائه، مع أن هذا اللقاء كان عابرًا جدًّا، وانتهت قصة عمرو -فيما يبدو للناس- بمجرَّد رحيله إلى قبيلته البعيدة، إلَّا أن الداعية الحصيف لا ينسى أحدًا أبدًا قابله، ولعلَّها من أخطر الأشياء التي تُؤَثِّر سلبًا على الدعوة أن تقابل إنسانًا ثم تذكر له أنك لا تتذكَّر متى قابلته، ولا أين قابلته، فإن الناس تنظر إلى ذلك على أنه سوء تقدير أو إهمال، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم -حاشاه- على هذه الصورة قط..
كانت قصة عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه قصة جميلة، أسعدت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في هذه الفترة التي عمَّ الظلام فيها مكة والأرض جميعًا، وكانت ذاخرة بالكنوز الدعوية للمسلمين في زمانه، وفي زماننا، وإلى يوم الدين!
كانت هذه هي مرحلة البطش والتعذيب كما رأينا، وكانت معاناة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه كبيرة للغاية، وكان لا بُدَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في إيجاد حلول عملية تُخَفِّف من وطأة هذا التعذيب الشرس؛ ومن ثَمَّ بزغت في الأفق فكرة الهجرة من البلد الحرام إلى بلد ينعم فيه المؤمنون بشيء من الأمن والأمان، فكانت الهجرة إلى الحبشة، وهذا هو الموضوع القادم إن شاء الله!
[1] جرءاء: جمع جريء.
[2] مشهودة: أي تشهدها الملائكة.
[3] تسجر: توقد عليها إيقادًا بليغًا.
[4] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، (832).
[5] أحمد (19453)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. والحاكم (6584)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
التعليقات
إرسال تعليقك