الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
من قصة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة وما دار بينهم وبين النجاشي، يتضح لنا سهولة الفهم وعدم ذكر الترجمان، فهل كان أهل الحبشة يتكلَّمون اللغة العربية؟
لقد لاحظنا في القصة أن الرواة لم يذكروا ترجمانًا بين جعفر أو عمرو بن العاص في حوارهما مع النجاشي، كما أن النجاشي وأساقفته بكوا حتى أخضلوا لحاهم بعد سماع القرآن الكريم، ومع أن قراءة القرآن لها أثر على قلب كل مَنْ يسمعها حتى لو لم يكن يفهم العربية، فإن البكاء الجماعي الذي رأيناه، والإدراك للمعاني الذي وصل به النجاشي إلى قناعات تؤكِّد له صدق نبوُّة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليدفعنا إلى الجزم بأن أهل الحبشة -وخاصة العلماء ورجال الدولة- كانوا يعرفون اللغة العربية، ويؤكِّد هذا بعض الملاحظات في الروايات الخاصَّة بهجرة الحبشة، وكذلك في معرفة تاريخ الحبشة وعلاقتها بالعرب.
الملاحظة الأولى: أن النجاشي في كلامه مع المسلمين، أو مع عمرو بن العاص، ذكر في حديثه بعض الكلمات الحبشية، ثم ذكر الرواة معنى هذه الكلمات بالعربية، مما يؤكِّد أن الحوار كان في معظمه باللغة العربية باستثناء هذه الكلمات، وهذا مثل ما روته أم سلمة رضي الله عنها في قول النجاشي: «فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي». ثم قالت أم سلمة رضي الله عنها: والسيوم يعني الآمنين بلغة أهل الحبشة، وكأن النجاشي لم تُسعفه لغته العربية بمعنى كلمة الأمان فقالها بالحبشية، وأدرك معناها المسلمون، ونقلت هذا المعنى أم سلمة رضي الله عنها، وتكرَّر هذا الأمر في كلمات أخرى حيث قالت أم سلمة رضي الله عنها -أيضًا- نقلًا عن النجاشي رحمه الله: «فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا». ثم قالت: «وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ». وفي رواية عمرو بن العاص رضي الله عنه ذكر أن النجاشي قال له ولأصحابه: «نَجِّروا». ثم قال عمير بن إسحاق -أحد الرواة- مفسِّرًا: أي تكلَّموا. فلو كان الحوار بالحبشية ما ترجم الرواة هذه الكلمات تحديدًا وتركوا الحوار الطويل كله؛ إنما كان الحوار كله بالعربية، وعجز النجاشي عن نطق بعض الكلمات باللغة العربية فقالها بلغته الأمِّ وهي الحبشية.
الملاحظة الثانية: أن مَنْ يقرأ تاريخ الحبشة وتاريخ العرب، يجد أن الحبشة كانت تحتل اليمن فترة طويلة من الزمن إلى أن انتقلت اليمن إلى الحكم الفارسي، ولم يكن أبرهة الأشرم الذي حاول هدم الكعبة إلَّا تابعًا لملك الحبشة، ومعنى هذا أن التعايش بين الإقليمين عقودًا متتالية قد علَّم كل فريق لغة الفريق الثاني، خاصَّة رجال الحكم والدين، والذين كانوا يتواصلون بشكل دائم مع المنطقة العربية.
الملاحظة الثالثة: أن جعفرًا وأصحابه رضي الله عنهم مكثوا على الساحل فترة، ثم عاشوا في وسط الحبشة على ضفاف النيل، ثم سيتبين لنا أنهم رجعوا في ظروف قادمة للحياة على الساحل، وكانت مدَّة مكثهم في الحبشة قرابة عشر سنوات لو كان قدومهم أول العام الحادي عشر من البعثة كما أثبتنا، ولم نسمع عن وجود مشاكل بينهم وبين أهل الحبشة من جراء اللغة المختلفة، ويبدو أن اللغة العربية كانت دارجة في هذه المنطقة، خاصة الساحل منها؛ وذلك لطبيعة قربها من أرض العرب، فكانت تشهد رحلات التجار والصيادين والسفارات وغيرها من صور التعامل؛ مما يدفع أهل المنطقة إلى تعلم اللغات المهمَّة في التعامل بينهم وبين الأجانب القادمين إلى بلادهم.
الملاحظة الرابعة: أن علماء اللغة يذكرون أن منشأ اللغة العربية واللغة الحبشية قريب للغاية[1]؛ ومن ثَمَّ فتعلُّم كلِّ فريق للغة الآخر ليس شيئًا صعبًا، وهذا ما دفع كثيرًا من المفسرين إلى القول: إن هناك كلمات كثيرة في القرآن الكريم نزلت بلسان أهل الحبشة، فقال أبو ميسرة[2] مثلًا مفسرًا كلمة: «أَوَّاهٌ» في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة: 114] قال: الرحيم بلسان أهل الحبشة[3]. وقال عكرمة[4] في تفسير قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[النساء: 51] قال: الجبت: بلسان أهل الحبشة شيطان[5]، وقال سعد بن عياض الثمالي[6] في تفسير قوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}[النور 35] قال: المشكاة: الكوة بلسان الحبشة[7]. بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدَّث عن علامات الساعة الصغرى «وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»[8]. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه تعليقًا على الحديث: «والهرج بلسان أهل الحبشة القتل»[9]. ومثال هذا كثير للغاية، وإنما ذكرنا طرفًا منه فقط لنؤكِّد المعنى.
الملاحظة الخامسة: وهي قصة في تاريخ النجاشي تُفَسِّر إتقانه للغة العربية، وقد جعلتُهَا الملاحظة الأخيرة لضعف القصَّة من ناحية الرواية؛ ولكن يمكن أن تُؤخذ قرينة في مثل هذه النقطة، وقد رواها عبد الله بن المبارك رحمه الله في كتابه «الزهد والرقائق»، وفيها قال: «أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللهُ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ، عَلَيْهِ خُلْقَانٌ[10] جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ، قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَشْفَقْنَا مِنْهُ حِينَ رَأَيْنَاهُ عَلَى تِلْكِ الْحَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وُجُوهِنَا قَالَ: إِنِّي أُبَشِّرُكُمْ بِمَا يَسُرُّكُمْ، إِنَّهُ جَاءَنِي مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ عَيْنٌ لِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ قَدْ نَصَرَ نَبِيَّهُ، وَأَهْلَكَ عدُوَّهُ، وَأَسَرَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا، الْتَقَوْا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: بَدْرٌ كَثِيرُ الأَرَاكِ[11]، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، كُنْتُ أَرْعَى لِسَيِّدِي، رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ[12] إِبِلَهُ، قَالَ جَعْفَرٌ: «مَا بَالُكَ جَالِسًا عَلَى التُّرَابِ؟ لَيْسَ تَحْتَكَ بِسَاطٌ وَعَلَيْكَ هَذِهِ الأَخْلَاقُ[13]» قَالَ: إِنَّمَا نَجِدُ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم أَنَّ حَقًّا عَلَى عِبَادِ اللهِ أَنْ يُحْدِثُوا للهِ تَوَاضُعًا عِنْدَ كُلِّ مَا أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ، فَلَمَّا أَحْدَثَ اللهُ لَنَا نَصْرَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْدَثْتُ للهِ هَذَا التَّوَاضُعَ»[14].
وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف أنَّ الخبر يدلُّ على طول مكث النجاشي في أرض العرب؛ مما كان سببًا في فهمه لسورة مريم حين تُليت عليه[15]، أما قصة عبودية النجاشي في إحدى مراحل حياته فهي حديثنا في المسألة القادمة بإذن الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] للمزيد انظر: علي عبد الواحد وافي: علم اللغة، ص201، 202.
[2] أبو ميسرة: هو عمرو بن شرحبيل الهمداني، الكوفي، ثقة من كبار التابعين، روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وسلمان، وعائشة رضي الله عنهم، وغيرهم. وكان أبو ميسرة من أفاضل أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكان إمام مسجد بني وادعة، من العباد الأولياء، توفي سنة 63هـ. انظر: ابن حجر: الإصابة 5/ 113، والذهبي: سير أعلام النبلاء 4/135، 136، والمزي: تهذيب الكمال 22/60.
[3] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] 3/1221، والطبري: جامع البيان 14/527، والسيوطي: الدر المنثور 4/306.
[4] عكرمة (25 - 105هـ)؛ مولى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، المدني البربري الأصل، تابعي، كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي، طاف البلدان، وروى عنه زهاء ثلاثمائة رجل؛ منهم أكثر من سبعين تابعيًّا، وكانت وفاته بالمدينة. وقد وثقه جماعة واحتجوا به. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/12-36، والذهبي: مَنْ تُكُلِّمَ فيه وهو مُوَثَّق ص136.
[5] البخاري: كتاب التفسير، سورة النساء، 4/1673.
[6] سعد بن عياض الثمالي الكوفي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا وعن ابن مسعود رضي الله عنه، وعنه أبو إسحاق السبيعي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. انظر: ابن حجر: تهذيب التهذيب 3/479.
[7] البخاري: كتاب التفسير، سورة النور، 4/1769.
[8] البخاري: كتاب الفتن، باب ظهور الفتن، (6653)، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ومسلم: كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، (2672).
[9] البخاري: كتاب الفتن، باب ظهور الفتن، (6653).
[10] الخُلْقَان والأَخْلاق جمع الخَلَق؛ وهو البالي من الثياب والجلد وغيرها. انظر: المعجم الوسيط 1/252.
[11] الأراك: شجر السِّواك يُستاك بفُروعه، قال أبو حنيفة: هو أفضل ما استيك بفروعه من الشجر، وأطيب ما رَعَته الماشية رائحةَ لبنٍ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 10/388.
[12] بني ضبة: هكذا عند ابن المبارك، وعند البيهقي والسهيلي والذهبي وابن كثير والصالحي: «بني ضمرة».
[13] الأَخْلاق هي الخُلْقَان؛ وهي البالي من الأشياء.
[14] ابن المبارك: الزهد والرقائق 2/53، والبيهقي: دلائل النبوة 3/134، والذهبي: تاريخ الإسلام 2/113، 114، وابن كثير: البداية والنهاية 3/375، والسيرة النبوية 2/477، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 4/68.
[15] السهيلي: الروض الأنف 3/157.
التعليقات
إرسال تعليقك