الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي كان نورًا جديدًا يضيء حياة المسلمين في أواخر العام العاشر الهجري بعد ظلام الحزن والمشقَّة واليأس، إنها سنة الله التي لا تتغير
على العبد أن يبذل جهده قدر المستطاع، وليس عليه إدراك النتائج، وقد يأتي الله عز وجل بخير من طريق لم تتحرَّك فيه خطوة؛ وذلك لأن الله رآك تبذل جهدًا كبيرًا مخلصًا فأراد أن يمنحك من حيث لا تتوقَّع!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخاطب القبائل في موسم الحجِّ في أماكن التجمُّعات الكبرى، فيذهب إلى الأسواق، أو غيرها من التجمُّعات، فيُحَدِّثهم عن الإسلام، في الوقت الذي يتبعه بعض المشركين كأبي لهب أو أبي جهل يُكَذِّبونه ويطردون الناس عنه؛ ولكن من فضل الله ومَنِّه أن أرسل له سبحانه رجلًا إلى داخل بيته، ليسمع منه الإسلام بعيدًا عن أعين الناس، ويكون إسلامه فتحًا بعد ذلك! وهذا هو الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه.
ولقد وردت قصَّة هذا الرجل الجليل في أكثر من مصدر بأسانيد مرسلة ضعيفة؛ ولكن يشدُّ بعضها بعضًا، بالإضافة إلى أن هناك في صحيح البخاري ومسلم ما يشهد لصدق هذه الروايات.
كان الطفيل بن عمرو زعيمًا لقبيلته دَوْس اليمنية، وكان شاعرًا لبيبًا، وسيدًا شريفًا، وقد استقبله زعماء الكفر قبل دخوله مكة، وحذَّروه من السماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا له أن له كلامًا كالسحر يسحر به الناس ويغويهم، ولنترك الطفيل بن عمرو الدوسي يحكي لنا قصَّته، لنعلم تدبير ربِّ العالمين..
قال ابن إسحاق: «وَكَانَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا وَمَشَى إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ الطُّفَيْلُ رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا، فَقَالُوا لَهُ: يَا طُفَيْلُ إِنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا فَهَذَا الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا[1]؛ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا؛ وَإِنَّمَا قَوْلُهُ كَالسَّحَرَةِ؛ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ؛ وَإِنَّمَا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا؛ فَلَا تُكَلِّمْهُ وَلَا تَسْمَعْ مِنْهُ. قَالَ: فوالله مَا زَالُوا بِي حَتَّى أَجْمَعْتُ أَلا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلِّمَهُ؛ حَتَّى حَشَوْتُ أُذُنَيَّ حِينَ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا[2] فَرَقًا[3] مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ. قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ. قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاثُكْلَ أُمِّي! وَاللَّهِ إِنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِن كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ. قَالَ: فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيته، فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ قَوْمَكَ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي قَالُوا. قَالَ: فَوَاللهِ مَا بَرِحُوا بِي يُخَوِّفُونَنِي أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَكَ، فَسَمِعْتُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ. قَالَ: فَعَرَضَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاللهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ. قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَإِنِّي رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَدَاعِيهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً». قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةٍ[4] تُطْلِعُنِي على الْحَاضِر[5]، وَقَعَ بَيْنَ عَيْنَيَّ نُورٌ مِثْلُ الْمِصْبَاحِ. قَالَ: فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فِي غَيْرِ وَجْهِي فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا مُثْلَةً[6] وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِي دِينَهُمْ. قَالَ: فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي. قَالَ: فَجُعِلَ الْحَاضِرُونَ يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النُّورَ فِي رَأْسِ سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ وَأَنَا أَنْهَبِطُ عَلَيْهِمْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، حَتَّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحْتُ فِيهِمْ. فَلَمَّا نَزَلْتُ أَتَانِي أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَقُلْتُ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي. قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: إِي بُنَيَّ فَدِينُكَ دِينِي. فَقُلْتُ: فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي حَتَّى أُعَلِّمَكَ مِمَّا عَلِمْتُ. قَالَ: فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ. قَالَ: ثُمَّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي، فَقُلْتُ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكِ وَلَسْتِ مِنِّي. قَالَتْ: وَلِمَ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: قُلْتُ: فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ الإِسْلَامُ، وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: فَدِينِي دِينُكَ. قَالَ: فَقُلْتُ فَاذْهَبِي إِلَى حِمَى ذِي الشَّرَى[7] فَتَطَهَّرِي مِنْهُ. وَكَانَ ذُو الشَّرَى صَنَمًا لدَوْسٍ، وَكَانَ الْحِمَى حِمًى حَمَوْهُ لَهُ[8]، بِهِ وَشَلٌ[9] مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ. قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَتَخْشَى عَلَى الصَّبِيَّةِ مِنْ ذِي الشَّرَى شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ. قَالَ: فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ. ثمَّ دَعَوْتُ دَوْسًا إِلَى الإِسْلامِ فَأَبْطَئُوا عَلَيَّ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الزِّنَا، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ». قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ، حَتَّى نَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، فَلَحِقْنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ فَأَسْهَمَ[10] لَنَا مَعَ المُسْلِمِينَ»[11].
لقد رأينا في القصة السابقة أن الله عز وجل هو الذي ساق الطفيل رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان من الذين استجابوا بسرعة عجيبة؛ فقد فتح الله قلبه للقرآن في دقائق، مع أن قلوب أهل مكة قد أُغلقت دونه سنوات وسنوات..
ثم إن الطفيل رضي الله عنه رحل بدعوته إلى قبيلته في اليمن، فأسلم أبوه ثم زوجته؛ إلَّا أن بقية القبيلة لم تُسارع إلى الإسلام، وهو الأمر الذي ضاق به الطفيل، حتى يئس منهم، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو إليه الفساد الذي عليه قومه؛ وذلك من سجود للأصنام، وزنًا قد فشا بينهم، ويشكو امتناعهم عن دخول الإسلام، ثمَّ في محاولة يائسة منه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم فيتخلَّص منهم جميعًا! لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له رأي آخر.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابُهُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا. فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ»[12].
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَلَكُوا. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ، اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ»[13].
وزاد ابن إسحاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للطفيل رضي الله عنه: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُم وَارْفُقْ بِهِمْ»[14].
وإن ذلك لمن كمال خُلُقِه العظيم صلى الله عليه وسلم، ورحمته بالعالمين، وهو درسٌ قويمٌ للطفيل رضي الله عنه ومَنْ يسير على نهجه إلى يوم الدين.
وفي تطبيق عمليٍّ لهذا التوجيه النبوي قام الطفيل رضي الله عنه بدعوة إسلامية رفيقة في اليمن أسفرت عن إسلام سبعين أو ثمانين أسرة من أسر قبيلة دوس!
إنه رجل واحد أسلم في يوم من أيام الدعوة الصعبة، فإذا بالله عز وجل يفتح به فتوحًا هائلة، فتأتي قبيلته البعيدة عن مكة مسلمة مؤمنة مهاجرة إلى المدينة بعد عشر سنوات كاملة من هذه القصة! وحقًّا ما أروع تدبير ربِّ العالمين!
وتعليقان أخيران على قصة الطفيل رضي الله عنه:
أمَّا التعليق الأول: فهو أن الطفيل ظلَّ يدعو قبيلته مدَّة عشر سنوات كاملة؛ وذلك ابتداء من أواخر العام العاشر من البعثة إلى العام السابع من الهجرة، واستطاع أن يحقق نجاحًا منقطع النظير، فقد أسلم معه سبعون أو ثمانون بيتًا، وكان من هؤلاء الصحابي الجليل ناقل السُّنَّة، وحافظ الحديث النبوي أبو هريرة رضي الله عنه، والملاحظة المذهلة في الأمر أن العلم الذي كان عند الطفيل كان علمًا قليلًا جدًّا؛ بل لعلَّه أقل من علم كثير من المسلمين الذين يعيشون على الأرض الآن؛ ومع ذلك فقد كانت حركته لأجل الدين أعلى من حركة وجهد معظم المسلمين؛ فمن الواضح إذن أن المسألة في حقيقتها ليست مسألة تخمة علمية، ومعرفة نظرية؛ بل الأهم هو القلب الصادق، والنية الخالصة، والعمل الدءوب؛ وعندها تتحقَّق نتائج لا يحلم بها أصلًا عامَّة الناس.
أمَّا التعليق الثاني: فهو أن الطفيل رضي الله عنه بعد أن أسلم هو وأبوه وزوجته، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، دعاه إلى اليمن ليعيش فيها في حمايته؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض هذا الأمر..
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو[15].
ولماذا رفض ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يُفَسِّر ذلك رواية أخرى في مسند أبي يعلى عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه كذلك قال فيها: «قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ إِلَى حِصْنٍ حَصِينٍ، وَعَدَدٍ وَعُدَّةٍ -قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: الدَّوْسُ: حِصْنٌ فِي رَأْسِ جَبَلٍ لَا يُؤْتَى إِلَّا فِي مِثْلِ الشِّرَاكِ- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَعَكَ مَنْ وَرَاءَكَ؟» قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ لِمَا ذَخَرَ اللهُ لِلأَنْصَارِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم...»[16].
فهذه الرواية تُوَضِّحُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض الهجرة إلى اليمن لأن المسلم بها آنذاك هو الطفيل بن عمرو وحده، وليس معه عدد من المؤمنين يمكن أن يُشارك في بناء الدولة، وبالتالي فالهجرة غير آمنة، والدولة المرتقبة ستكون غير مستقرَّة؛ لذا أجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حتى يجد مكانًا يغلب على تركيبة سكانه الإسلام، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يُريد أن يُقْدِم على خطوة جريئة كخطوة الهجرة الكاملة إلى بلد حتى يطمئنَّ أنها ستكون هجرة للأصلح والأرسخ.
وقد قَبِلَ قَبْلَ ذلك -وسيقبل لاحقًا كذلك- الهجرة إلى الحبشة؛ بينما رفضها إلى اليمن؛ لأن الحبشة مملكة كبيرة قوية يتمكَّن النجاشي من حكمها باقتدار؛ وبهذا فهو يمكن أن يتحمَّل مسئولية الوفد المسلم المهاجر إليه؛ بينما وضع الطفيل رضي الله عنه في اليمن ليس على هذه الصورة؛ فقبيلته مجرَّد قبيلة واحدة من قبائل اليمن، وليست له السيطرة الكاملة عليها، ولا يُريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي عمره هو والصحابة في حصن عسكري آمن كحصن دوس، بل يُريد أن يُخالط الناس وينشر دعوته؛ لذلك فهو لن يُهاجر هجرة كاملة بنفسه وبأصحابه إلا عندما يتوفَّر الشَّعْبُ -وليس المـَلِك- الذي يقبله ويُعَاونه في مهمَّته الكبرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أعضل بنا؛ أي: ضاقت علينا الحيل في أمره، وصعبت علينا مداراته، وأعضل بي: اشتد وغلظ واستغلق، وأمرٌ معضل لا يُهتدى لوجهه؛ وأصل العضل المنع والشدَّة. ابن منظور: لسان العرب، 11/451.
[2] الكرسف: القطن.
[3] فرقًا: خوفًا وفزعًا.
[4] الثنية: الطريق في الجبل، وقيل: هي الجبل نفسه. وهي في الأصل كلُّ فرجة في الجبل مسلوكة.
[5] الحاضر: الحاضر الحي العظيم أو القوم، والقوم النازلون على ماءٍ يُقيمون به ولا يرحلون عنه. ابن منظور: لسان العرب، 4/196. وهو هنا يقصد موطن إقامة قبيلته.
[6] المثلة: العقوبة والتنكيل.
[7] قال السهيلي: حنا ذي الشرى، وقد قال ابن هشام: هو حمى، وهو موضع حَمَوْهُ لصنمهم ذي الشرى. فإن صَحَّتْ رواية ابن إسحاق، فالنون قد تبدل من الميم كما قالوا: حلان وحلام للجدي، ويجوز أن يكون من حنوت العود ومن محنية الوادي، وهو ما انحنى منه. انظر: السهيلي: الروض الأنف 3/227.
[8] أَصْلُ الْحِمَى عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ الرَّئِيسَ مِنْهُمْ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا مُخْصِبًا اسْتَعْوَى كَلْبًا عَلَى مَكَانٍ عَالٍ فَإِلَى حَيْثُ انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلَا يَرْعَى فِيهِ غَيْرُهُ، وَيَرْعَى هُوَ مَعَ غَيْرِهِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْحِمَى هُوَ الْمَكَانُ الْمَحْمِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُبَاحِ. انظر: ابن حجر: فتح الباري 5/44.
[9] الوشل: الماء القليل.
[10] سنفصل بإذن الله عند شرح غزوة خيبر في المجموعات التي قسم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم.
[11] رواه عن أبي عون الدوسي: ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/179-181، ورواه عن ابن إسحاق: ابن هشام: السيرة النبوية 1/382- 385، وأبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة ص240، والبيهقي: دلائل النبوة 5/360- 362، وابن عساكر: تاريخ دمشق 25/13- 15، وابن كثير: البداية والنهاية 3/123، 124، ورواه عن العباس بن هشام عن أبيه: أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني 13/243- 245، وقال الصالحي: روى ابن سعد عن أبي عون الدوسي، والبيهقي عن ابن إسحاق، وابن جرير وأبو الفرج الأموي عن العباس بن هشام، عن أبيه. انظر: الصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/417، 418، وانظر: محمد إلياس عبد الرحمن الفالوذة: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية (العهد المكي) ص441.
[12] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، (2779)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيئ، (2524).
[13] أحمد (7313)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[14] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/384، وأبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة ص240، والبيهقي: دلائل النبوة 5/362، وابن عساكر: تاريخ دمشق 25/14، وابن كثير: البداية والنهاية 3/124.
[15] مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر، (116)، وأحمد (15024).
[16] أبو يعلى (2175)، واللفظ له، وقال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد الله الهروي. وقد وَثَّقَه الذهبي. انظر: سير أعلام النبلاء 11/479. ورواه أيضًا ابن حبان (3017)، وقال شعيب الأرناءوط: رجاله ثقات.
التعليقات
إرسال تعليقك