الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تعمير الأرض غاية إسلامية مقال للدكتور راغب السرجاني يتحدث فيه عن تعمير الأرض وإحياء الموات من الناحية الشرعية مع توضيح الضوابط الفقية لهما.
خلق الله سبحانه وتعالى الأرض لتكون بيئة مناسبة لحياة الخلائق عليها، وجعلها مهدًا، وسلك فيها سبلًا، ووضع فيها رزقها وأصلحها للحياة،كما أعطى المنهج الإسلامي لاستثمار وإنماء الأرض اسمًا يُعَبِّر عن روح الشريعة ورؤيتها، ذلك هو (إحياء الموات)، ومعناه: (تعمير الأرض)، وهذا التعبير مقتبس من حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ"[1].
تعريف إحياء الموات
تعمير الأرض يقوم به المسلم اتِّباعًا لأمره في قوله سبحانه وتعالى: {أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. ورغبة في ثوابه كما في حديث أنس رضي الله عنه: "سَبْعَة يجْرِي عَلَى الْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي بِرِّهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَكْرَى نَهْرًا، أَو حَفْرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ"[2]. فكلُّ ما في الحديث هو أشكالٌ لتعمير الأرض.
وذلك هو الجانب الروحاني الديني، أمَّا الجانب النفعي الدنيوي فيتبدَّى في فقه إحياء الموات؛ وعَرَّف الصنعاني (الموات) بقوله: "الأرض التي لم تُعَمَّر؛ شُبِّهَت العمارة بالحياة، وتعطيلها بعدم الحياة، وإحياؤها عمارتها"[3]. أمَّا كيف يكون الإحياء، فأفضل ما فيه وأجمع رواية عن الحنابلة، ضمَّنوها كل صور تعمير الأرض، قال الإمام ابن قدامة في المغني:
"الإحياء ما تعارفه الناس إحياءً؛ لأن الشرع ورد بتعليق الْمِلْكِ على الإحياء، ولم يُبَيِّنْه، ولا ذكر كيفيته، فيجب الرجوع فيه إلى ما كان إحياء في العرف إذا ثبت هذا؛ فإنَّ الأرض تُحيى دارًا للسكنى، وحظيرة، ومزرعة، فإحياء كلِّ واحدةٍ من ذلك بتهيئتها للانتفاع الذي أُريدت له، فأمَّا الدار فبأن يُبني حيطانها بما جرت به العادة وَيَسْقُفَهَا؛ لأنها لا تكون للسكنى إلا بذلك، وأمَّا الحظيرة فإحياؤها بحائط جرت به عادة مثلها، وليس من شرطها التسقيف؛ لأن العادة ذلك من غير تسقيف؛ وسواءٌ أرادها حظيرة للماشية، أو للخشب، أو للحطب، أو نحو ذلك. وإن أرادها للزراعة فبأن يُهَيِّئها لإمكان الزرع فيها، فإن كانت لا تُزرع إلا بالماء فبأن يسوق إليها ماءً من نهرٍ أو بئر، وإن كانت ممَّا لا يُمكن زرعها لكثرة أحجارها -كأرض الحجاز- فبأن يقلع أحجارها ويُنقيها حتى تصلح للزرع، وإن كانت غياضًا وأشجارًا -كأرض الشعرى [4]- فبأن يقلع أشجارها، ويُزِيل عروقها التي تمنع الزرع، وإن كانت مما لا يمكن زرعه إلا بحبس الماء عنها، كأرض البطائح[5] التي يفسدها غرقها بالماء لكثرته، فإحياؤها بسدِّ الماء عنها، وجعلها بحالٍ يُمكن زرعها؛ لأنَّ بذلك يُمكن الانتفاع بها فيما أرادها من غير حاجةٍ إلى تكرار ذلك في كلِّ عام، فكان إحياءً كسوق الماء إلى الأرض التي لا ماء لها"[6].
وبمثل هذا قال ابن حزم[7] مختصرًا وهو يُعَرِّف إحياء الأرض الموات: "والإحياء هو قلع ما فيها من عشب، أو شجر، أو نبات، بنيَّة الإحياء -لا بنيَّة أخذ العشب والاحتطاب فقط- أو جلب ماءٍ إليها من نهرٍ، أو من عينٍ، أو حفر بئرٍ فيها لسقيها منه، أو حرثها، أو غرسها، أو تزبيلها، أو ما يقوم مقام التزبيل من نقل تراب إليها، أو رماد، أو قلع حجارة، أو جرد تراب ملح عن وجهها؛ حتى يمكن بذلك حرثها، أو غرسها، أو أن يختطَّ عليها بحظير للبناء فهذا كله إحياء في لغة العرب"[8].
فالمعنى المقصود أنَّ إحياء الموات هو تحوُّل الأرض من كونها لا يُنْتَفع بها إلى كونها ينتفع بها -على سائر وجوه الانتفاع- بما هو أنسب للأرض وطبيعتها، وللناس ومنافعهم ومصالحهم، ويكون الإحياء كذلك بإقامة المصانع في الأرض؛ فالمصانع كالمزارع مطلوبة لحياة الناس، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. وقوله: {بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]. إشارة إلى الصناعات الحربية، وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. إشارة إلى الصناعات المدنية[9].
فمن أحيا أرضًا فقد امتلكها وصارت من حقِّه، بنصِّ حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجمهور الفقهاء على أنَّ تَمَلُّك الأرض في هذه الحالة لا يُشترط فيه إذن الإمام، فأصحاب أبي حنيفة[10] أبو يوسف[11] ومحمد بن الحسن[12] والشافعية والحنابلة على أنَّه لا يُشترط في الإحياء الإذن، ومن أحيا أرضًا فقد امتلكها بدون إذْن الإمام، وخالف أبو حنيفة فاشترط إذْن الإمام، بينما ذهب المالكية إلى اشتراط إذْن الإمام في الأرض القريبة من العمران أو المتعلِّقة ببعض المصالح، بينما لا يُشترط الإذْن في الأرض البعيدة، والمفهوم من نصوص المالكية أنَّ العبرة بما يحتاجه الناس وما لا يحتاجونه، فما احتاجوه فلا بُدَّ فيه من الإذن، وما لا فلا[13].
من الذي له حقُّ إحياء الأرض؟
لا فرق بين المسلم وغيره عند جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والحنابلة- في الإحياء، لعموم قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ"[14]. ولأنَّ الإحياء أحد أسباب التمليك، فاشترك فيه المسلم والذمي كسائر أسباب الملكية[15]، وخالف في هذا الشافعية[16] واعتبروها من الاستعلاء الذي لا يجوز لغير المسلم في ديار المسلمين[17]. وبهذا المنهج الإسلامي الذي يُحَرِّك الناس دون انتظار لخطط الدولة والحكومات، أصبح أمر تعمير الأرض نشاطًا عامًّا للطموحين والمستثمرين وأصحاب رءوس الأموال، ولهذا كان طبيعيًّا أن تكون الحضارة الإسلامية أسرع الحضارات انتشارًا وتعميرًا، وأكثرها ثباتًا واستقرارًا في الأراضي التي وصلتها.
وفي تعريف ابن حزم نجد تَنَبُّهًا مبكِّرًا لمشكلة بيئيَّة تُعاني منها البشرية الآن، ألا وهي الإسراف في قطع أشجار الغابات إلى الحدِّ الذي أنتج ظاهرة التصحُّر، فقد تكلَّم ابن حزم عن أنَّ الإحياء يكون بنيَّة إحياء الأرض، فلو كانت الأرض ذات أشجار وأعشاب، فإنَّ إحياءها يكون بقلعها لإحيائها "لا بنية أخذ العشب والاحتطاب فقط".
ضوابط إحياء الأرض في الفقه الإسلامي
وقف الفقه الإسلامي أمام احتيالات بعضهم ممن يُرِيدُون التملُّك دون إحياء، فمن وضع على الأرض سورًا أو بناءً أو أحجارًا ليوحي بنيَّته أن يُحيها فإنه لا يملكها؛ بل يصير متحجِّرًا، ويكون أحقُّ بها من غيره باتفاق الأئمة، ومعه مهلة ثلاث سنوات فإن لم يحييها أخذها الإمام ودفعها إلى غيره؛ لأن التحجير -كما قلنا- ليس بإحياء، وإنما هو إعلام بوضع الأحجار حول الأرض. وإعطاء المحتجر الحقَّ في ترك الأرض له مدَّة ثلاث سنين مأخوذ من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق"[18]. ولأنَّ هذه المدَّة يحتاج إليها لتهيئة الأمور والاستعداد لإتمام الإحياء[19].
وكان الفقه الإسلامي يقظًا لمنع استغلال نصوص إحياء الأرض فيما يكون ظاهره الإحياء والتعمير وباطنه يُنافي هذا الغرض؛ فمن الضوابط التي وضعها الفقهاء في تعريف الموات هو قولهم: "لا يكون مواتًا ما كان ملكًا لأحد الناس، أو ما كان داخل البلد، أو خارجًا عنها، ولكنه مرفق لها كمحتطب لأهلها أو مرعى لأنعامهم"[20]. وكذلك أرض الملح والقار ونحوهما، مما لا يستغني المسلمون عنه، ولا يجوز إحياء ما يضيق على وارد أو يضرُّ بماء بئر[21]. وذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ القريب من العمران لا يُمَلَّك بالإحياء، وإن لم يتعلَّق به مصالحه في الحال؛ إذ هو بصدد أن يُحتاج إليه في المستقبل لقربه، وتنزيلًا للضرر في المآل منزلة الضرر في الحال؛ إذ هو بصدد أن يُحتاج إليه في المآل[22]. وهذا الذي يجب أن نُرَجِّحه في عصرنا؛ لسرعة تطوُّر العمران، واتساع حاجات الناس، فلا بُدَّ من ترك مساحات فسيحة حول العمران من أجل حاجات المستقبل التي قد لا نتوقَّعها اليوم[23].
وبالعموم، فمن الضوابط ألا تكون الأرض مما يحتاج إليها المسلمون، فيُمَثِّل امتلاكها مصلحة خاصَّة أكثر منه تعميرًا، كأرض عرفة والمزدلفة ومنى؛ "لتعلُّق حقِّ الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى بالمسلمين، ولما فيه من التضييق في أداء المناسك، واستواء الناس في الانتفاع بهذه المحالِّ[24].
ومن الضوابط -أيضًا- مسألة تملُّك المستأمن؛ وهو الأجنبي الذي دخل بلاد الإسلام بعقد أمان، فقد اتفق الفقهاء على منع المستأمن من الإحياء[25]، وفي هذا حماية لأرض المسلمين من أن يتملَّكها غيرهم من ذوي الأطماع والنوايا.
إذًا فقد كان تعمير الأرض في المنهج الإسلامي رُوحًا عامَّة، يستطيع أن يُشارك فيها المواطن في الدولة الإسلامية، محقِّقًا لنفسه حظَّها من الدنيا بالانتفاع والغنى، ومن ثَمَّ ينتفع المجتمع كله من هذه الحركة الإحيائية الاستثمارية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أبو داود: كتاب الخراج، باب في إحياء الموات (3073)، وأحمد (14310)، ورواه البخاري موقوفًا على عمر بن الخطاب (2335).
[2] رواه البزار (7289) عن أنس بن مالك، واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3602)، وابن ماجه (242). وكرى النهر كريًا: حفر فيه حفرة جديدة، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كرى 15/218، والمعجم الوسيط ص785.
[3] الصنعاني: سبل السلام 3/82.
[4] جبل عند حرة بني سليم.
[5] البطائح: منطقة في العراق تتفرق فيها فروع من نهر الفرات، وهي كثيرة الماء حتى يطلق عليها خزانة أهل البصرة.
[6] ابن قدامة المقدسي: المغني 12/164-166.
[7] ابن حزم الأندلسي: هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري (384- 456هـ = 994- 1064م): أحد أئمة الإسلام، كان عالمًا بالفقه ملمًّا به، وهو من أتباع داود الظاهري يأخذ بظواهر النصوص. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 20/93.
[8] ابن حزم: المحلى 8/238.
[9] د. يوسف القرضاوي: رعاية البيئة في شريعة الإسلام ص71.
[10] أبو حنيفة: هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (80- 150هـ = 699- 767م): إمام الحنفية، جمع الفقهَ والعبادة والورع والسخاء. أصله من أبناء فارس، وولد ونشأ بالكوفة، وتوفي ببغداد. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/405-414.
[11] القاضي أبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري البغدادي (113- 182هـ = 731- 798م): صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيهًا علاّمة، من حفاظ الحديث، ولد بالكوفة، وتفقه بالحديث والرواية، وهو أول من دُعي قاضي القضاة. من أهم كتبه: الخراج. انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/292،293، والزركلي: الأعلام 8/193، وإليان سركيس: معجم المطبوعات 1/488.
[12] محمد بن الحسن الشيباني (131 - 189هـ): إمام بالفقه والأصول، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة، أصله من قرية حرستة في غوطة دمشق، وولد بواسط ونشأ بالكوفة، فسمع من أبي حنيفة وغلب عليه مذهبه وعُرف به، ومن كتبه المبسوط. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 9/134، والزركلي: الأعلام 6/80، وابن خلكان: وفيات الأعيان 4/184.
[13] ابن عابدين: حاشية ابن عابدين 5/382، والزيلعي: تبيين الحقائق 6/35، والحطاب الرعيني: مواهب الجليل 6/11، 12، وابن قدامة المقدسي: المغني 5/566، والدسوقي: حاشية الدسوقي 4/69.
[14] أبو داود: كتاب الخراج، باب في إحياء الموات (3073)، وأحمد (14310)، ورواه البخاري موقوفًا على عمر (2335).
[15] الخراج لأبي يوسف ص104، 105، وابن قدامة المقدسي: المغني 5/580، والحطاب الرعيني: مواهب الجليل 6/4، وشهاب الدين عميرة: حاشية عميرة 3/92.
[16] الشيرازي: المهذب 1/423 وما بعدها، والخطيب الشربيني: مغني المحتاج 4/361، 362.
[17] وفي مسألة الذمي تفاصيل أخرى مثل عدم تملكه في أرض الجزيرة العربية، واتفاق الأحناف على إذن الإمام في إحيائه، وغيرها مما لا يتناوله بحثنا في مسألة البيئة وتعمير الأرض في المنهج الإسلامي.
[18] أبو يوسف: الخراج 1/65.
[19] د. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته 6/403.
[20] السابق 6/362.
[21] الموسوعة الفقهية الكويتية 2/242.
[22] ابن مفلح: المبدع شرح المقنع 5/178.
[23] رعاية البيئة في شريعة الإسلام ص72.
[24] الموسوعة الفقهية الكويتية 2/243.
[25] الموسوعة الفقهية الكويتية 2/242.
التعليقات
إرسال تعليقك