الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
النهي عن الفساد فى الأرض مقال للدكتور راغب السرجاني يتحدث فيه عن النهي عن الإفساد في الأرض وكيف قارن القرآن بين الفساد في الأرض وقتل النفس
خلق الله تبارك وتعالى هذا الكون ومنه هذه الأرض في أكمل صورة، وعلى أحسن وجه؛ وهو مصداقًا لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. ثُمَّ نهى سبحانه وتعالى عن الإفساد فيها بعد هذا الإصلاح، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]. وهذه العبارة تكرَّرت مرتين في سورة الأعراف؛ مرَّة في خطاب الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، ثُمَّ مرَّة ثانية على لسان نبيِّ الله شعيب عليه السلام يقولها ناصحًا قومه أهل مدين.
قال أبو حيان الأندلسي: "هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلَّق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان؛ ومعنى {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } [الأعراف: 56]: بعد أنْ أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين، وما رُوِيَ عن المفسَّرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح ينبغي أن يُحْمَل ذلك على التمثيل؛ إذ ادِّعاؤه تخصيص شيءٍ من ذلك لا دليل عليه"[1]. وبمثل هذا قال القرطبي: "إنه سبحانه نهى عن كلِّ فساد -قلَّ أو كثر- بعد صلاح -قلَّ أو كثر- فهو على العموم على الصحيح من الأقوال"[2]. ثم قال: "وهو لفظ يعمُّ دقيق الفساد وجليله"[3].
يقول الطاهر بن عاشور: "وتقديم {فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 56] للاهتمام، وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهميَّة شأنَها"[4]. ثُمَّ أضاف: "والتّصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنَّه إفسادٌ لما هو حسنٌ ونافع، فلا معذرة لفاعله، ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض"[5].
في وصف الله تعالى للمنافق ذكر من صفاته القبيحة إفساده في الأرض، بما يترتَّب عليه هلاك الزرع، ومن ثَمَّ هلاك الناس والدواب، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. وهذه الآية وإن رُوِيَ نزولها في الأخنس بن شريق[6] أو غيره إلا أنها عامَّةٌ في المنافقين كلِّهم وفي المؤمنين كلِّهم، وهذا قول قتادة، ومجاهد، والرَّبيع بن أنس، وغير واحد، وهو الذي اختاره ابن كثير[7].
إنَّ المنافق الذي لم يستقر في ضميره المنهج الإسلامي، ولم ينطلق في عمله عن رؤية إسلامية، حريٌّ به أن يسعى ليُفسد في الأرض، ويُهلك الحرث والنسل، فإنَّ نفسه لم تتشرب القيم الكبرى التي نادى بها الإسلام، التي تجعله والبيئة من حوله عبادًا لله تبارك وتعالى؛ هي تنفعه وتخدمه ومسخَّرةٌ له، وهو يقوم فيها بحقِّ الله سبحانه وتعالى، وبواجب الاستخلاف والتعمير؛ لذا كان بديهيًّا أن يجتمع النفاق مع الإفساد في الأرض، وأن يجتمع الإسلام مع الإصلاح فيها.
المقارنة بين القتل والفساد فى الإرض
قرن الله تبارك وتعالى بين القتل وبين الإفساد في الأرض، واعتبر فعل أحدهما بمنزلة قتل الناس جميعًا، فقال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. ولا يخفي ما في هذا من وعيدٍ عظيمٍ شديد، وقد يُظنُّ أنَّ الآية خاصَّة ببني إسرائيل، وعلى هذا يَرُدُّ الحسن البصري حين سئل: "هذه الآية لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي، والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا"[8].
فالفساد في الأرض مذمومٌ في شرعنا وفي شرع من قبلنا، وكما توعَّد الله فاعله من بني إسرائيل فإنَّ فاعله من أمَّة المسلمين داخل تحت هذا الوعيد كذلك؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُحابي أحدًا، وإذا كانت دماء بني إسرائيل ليست أكرم على الله عز وجل من دماء المسلمين، فكذلك الأرض التي عاش عليها بنو إسرائيل ونُهُوا عن الإفساد فيها، هي ذاتها الأرض التي نعيش عليها، فلن ينهى الله عز وجل بني إسرائيل عن الإفساد فيها ثم يُجَوِّزه لنا.
لقد تكرَّرت عبارة: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] على لسان الأنبياء في دعوتهم، قالها صالح عليه السلام لثمود: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]، وقالها شعيب عليه السلام وذكرها الله عنه ثلاث مرات؛ إحداها قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]، وقالها موسى عليه السلام لبني إسرائيل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].
إذا لم يكن دليل -كما قال أبو حيان فيما نقلناه- على تخصيص نوع من الفساد أو نوع من الصلاح، فإنه يصحُّ أن نقول: إنَّ عموم الإفساد في الأرض منهيٌّ عنه في دعوة الأنبياء، بل ربما عُدَّ كذلك في باب الحرابة؛ أخذًا من قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 33].
فبهذا القدر من الوعيد الشديد، نهى الإسلام عن الإفساد في الأرض ابتداءً، ولكنه لم يقف عند مجرَّد النهي، بل ظلَّ هناك الطريق الآخر بعد طريق الوقاية، ألا وهو طريق العلاج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أبو حيان الأندلسي: تفسير البحر المحيط 4/313.
[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 7/226.
[3] السابق 7/248.
[4] ابن عاشور: التحرير والتنوير 6/179.
[5] السابق 8/175.
[6] الأخنس بن شريق: هو أبيُّ بن شريق، ويُعرف بالأخنس بن شريق الثقفي، رجع بقومه عن بدر، فحفظها له قومه. أسلم فكان من المؤلفة قلوبهم، وشهد حنينًا، ومات في أول خلافة عمر. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة1/80، وابن حجر: الإصابة، الترجمة (61).
[7] انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/562.
[8] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/93
التعليقات
إرسال تعليقك