الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
حماية النبات في الحروب مقال للدكتور راغب السرجاني يوضح فيه أقوال العلماء في حماية النبات والشجر والزرع وهل يجوز قطعهم وحرقهم أم لا؟ وإن جاز القطع والحرق
اتفق العلماء على أنَّه لا يجوز قطع الشجر المثمر في الشريعة لغير الانتفاع به، إلا في حالة واحدة فقط فقد اختلفوا فيها؛ وهي الضرورة الحربية في قتال أهل الحرب من الأعداء[1]، أمَّا في قتال البغاة الخارجين عن طاعة الإمام الحقِّ بنوع تأويل، فإنَّه لا يجوز قطع الشجر في قتالهم[2].
هو خلافٌ يُعَبِّر عن موازنةٍ لا تتهاون بين الرحمة بالبشر والرحمة بالشجر، والحقيقة إنَّ هذا الخلاف من الأمور اللافتة للنظر في الفقه الإسلامي؛ إذ يكاد منطق الرحمة يُجيز بدون تردُّد قطع الشجر أو حرقه إن كان هذا يسهم في تقصير أو إنهاء زمن الحرب؛ لأنَّ الرفق بالبشر والعناية بهم أولى من الرفق بالزرع والنبات، غير أنَّ الخلاف الفقهي وُجِد ليقطع الطريق على الاستغلال الخاطئ أو الفاسد لمنطق الرحمة هذا، فكان من العلماء مَنْ لا يجيز المسَّ بالزرع والشجر، إلا إذا كان الحاجة في مقام الضرورة، التي لا سبيل إلى الوصول إليها إلا بقطع الشجر أو إحراق الزرع.
قال ابن الهمام الحنفي -من علماء الحنفية- مبينًا مقام الضرورة: "هذا إذا لم يغلب على الظنِّ أنَّهم مأخوذون بغير ذلك، فإن كان الظاهر أنَّهم مغلوبون وأنَّ الفتح بادٍ كره ذلك؛ لأنَّه إفسادٌ في غير محلِّ الحاجة وما أُبيح إلا لها"[3].
يُلَخِّص الإمام ابن قدامة المقدسي مسألة الزرع والشجر فيقول:
"وجملته أنَّ الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تدعو الحاجة إلى إتلافه؛ كالذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم، أو يسترون به من المسلمين، أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريقٍ أو تمكُّن من قتال، أو سدِّ بَثْق[4]، أو إصلاح طريق، أو ستارة منجنيق، أو غيره، أو يكونون يفعلون ذلك بنا فيُفعل بهم ذلك؛ لينتهوا، فهذا يجوز بغير خلافٍ نعلمه.
الثاني: ما يتضرَّر المسلمون بقطعه؛ لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفتهم، أو يستظلُّون به، أو يأكلون من ثمره، أو تكون العادة لم تجرِ بذلك بيننا وبين عدونا، فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا، فهذا يحرم لما فيه من الإضرار بالمسلمين.
الثالث: ما عدا هذين القسمين ممَّا لا ضرر فيه بالمسلمين ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم؛ ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز؛ لحديث أبي بكرٍ رضي الله عنه ووصيته، وقد رُوِيَ نحو ذلك مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ فيه اتلافًا محضًا، فلم يجز كعقر الحيوان[5]، وبهذا قال الأوزاعي والليث[6] وأبو ثور.
الرواية الثانية: يجوز، وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر؛ قال إسحاق: التحريق سُنَّة إذا كان أنكى في العدوِّ، لقول الله سبحانه وتعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].
وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي يستدلُّ بها غيرُ المجيزين لقطع الشجر من العلماء؛ هي ما أوصى به قائد الجيش يزيد بن أبي سفيان وهو متوجهٌ إلى فتح الشام، فكان من وصيته: "وَلَا تَقْتُلُوا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا وَلِيدًا، وَلاَ تُخْرِبُوا عُمْرَانًا، وَلاَ تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَعْقِرُنَّ بَهِيمَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَحْرِقُنَّ نَخْلًا وَلاَ تُغْرِّقُنَّهُ، وَلَا تَغْدِرْ، وَلَا تُمَثِّلْ، وَلَا تَجْبُنْ، وَلاَ تَغْلُلْ، {وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] "[7].
أمَّا ما يستدلُّ به المجيزون من العلماء فهو فعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة بني النضير حين أحرق على اليهود نخيلهم.
يقول الإمام الشافعي في التوفيق بين تحريق النبيِّ صلى الله عليه وسلم لنخل بني النضير وبين هذه الوصية، وتفسير ذلك: "أمَّا الظنُّ به (أي: بأبي بكر رضي الله عنه) فإنَّه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يذكر فتح الشام، فكان على يقينٍ منه، فأمر بترك تخريب العامر وقطع المثمر؛ ليكون للمسلمين؛ لا لأنَّه رآه محرَّمًا، لأنَّه قد حضر مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم تحريقه بالنضير وخيبر والطائف، فلعلَّهم أنزلوه على غير ما أنزله عليه، والحجَّة فيما أنزل الله عز وجل في صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال (الشافعي): وكلُّ شيءٍ في وصية أبي بكر سوى هذا فبه نأخذ"[8].
قول الشافعيِّ هذا هو مذهب جمهور العلماء، وأضاف الإمام الطبري جوابًا آخر على وصية أبي بكرٍ رضي الله عنه؛ وهو أنَّ النهي محمولٌ على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال[9].
فسَّر السهيليُّ[10] قوله: {مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5]. فاعتبر تخصيص اللينة بالذكر إيماء إلى أنَّ الذي يجوز قطعه من شجر العدو هو مالًا يكون مُعدًّا للاقتيات؛ لأنَّهم كانوا يقتاتون العجوة[11]، وقد جعل البخاري عنوان الباب من كتاب التفسير في صحيحه: (ما قطعتم من لينة نخلة ما لم تكن برنية[12] أو عجوة).
فهذا ضابطٌ آخر لإحراق أو قطع شجر العدو.
يفصل النووي في هذا الأمر؛ فيُفَرِّق بين ما إذا كان الغزو إغارةً ولا يُمكن الفتح المستقر فعندها يجوز هذا لإضعاف العدوِّ اقتصاديًّا، وأمَّا إن أمكن الفتح فيحرم القطع. قال: "إنَّ احتاج المسلمون إلى إتلاف أموال الكفار كتخريب بناءٍ وقطع شجر ليكفوا عن القتال، أو ليظفروا بهم فلهم ذلك، وإن لم يحتاجوا نظر؛ إن لم يغلب على ظنِّهم حصول ذلك المال للمسلمين جاز إتلافه مغايظةً لهم وتشديدًا عليهم، وإن غلب على الظنِّ حصوله كره الإتلاف، ولا يحرم على الأصحِّ هذا إذا دخل الإمام دارهم مغيرًا ولم يُمكنه الاستقرار فيها، فأمَّا إذا فتحها قهرًا فيحرم التخريب والقطع"[13].
إنَّ هذا النقاش والخلاف الفقهيَّ في تفصيل جواز قطع الشجر المثمر للضرورة الحربية في قتال العدو المحارب، يدلُّ في ذاته على قيمة النبات والشجر المثمر في الوعي الإسلامي؛ ذلك أنَّ الأمر لو لم يكن ذا قيمةٍ لما احتاج أن يُتكلَّم فيه بأخذٍ وردٍّ ووضع شروطٍ ومناقشة تفاصيل.
فإلى هذه المرحلة بلغت العناية بالنبات والشجر والزرع، وهي درجةٌ لا نعلم أنَّها تُراعى حتى في القوانين المعاصرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] القرافي: الذخيرة 3/407، وزكريا الأنصاري: أسنى المطالب في شرح روض الطالب 4/195، والشافعي: الأم 7/356، والماوردي: الحاوي 14/406، والنووي: المجموع شرح المهذب 19/303، وابن قدامة المقدسي: الكافي 4/122.
[2] انظر: القرافي: الذخيرة 21/9، وأنوار البروق في أنواع الفروق 4/312، 313، وابن عبد البر: الكافي 1/467، والدسوقي: حاشية الدسوقي 4/299، ومحمد عليش: منح الجليل 9/200، والخرقي: متن الخرقي على مذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ص141.
[3] ابن الهمام الحنفي: شرح فتح القدير 5/447.
[4] البثق: شقٌّ أو كسرٌ في النهر تنبعث منه المياه. ابن منظور: لسان العرب، مادة بثق 10/12.
[5] لأنَّ العلماء يرون حرمة قتل الحيوان وذي الروح في الحروب إلا للأكل كما سنُفصل فيه فيما يأتي.
[6] الليث بن سعد: هو أبو الحارث الليث بن سعد (94- 175هـ = 713- 791م): إمام أهل مصر في الفقه والحديث. أصله من أصبهان، ومولده في قلقشندة، ووفاته بالقاهرة. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/127-129.
[7] رواه البيهقي (17927)، ومالك في الموطأ (965).
[8] الشافعي: الأم 4/258.
[9] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/155.
[10] عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي (508- 581هـ = 1114- 1185م): حافظ، عالم باللغة والسير، ولد في مالقة بالأندلس، وعمي وعمره 17 سنة، ونبغ فاتصل خبره بصاحب مراكش، فطلبه إليها وأكرمه، فأقام يُصنف كتبه إلى أن تُوفِّي بها، من كتبه: (الروض الأنف) في شرح السيرة النبوية لابن هشام، و(تفسير سورة يوسف). انظر: الزركلي: الأعلام 3/312، 313.
[11] انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 7/333.
[12] البَرْني: ضرْب من التمر أَصْفَر مُدَوَّر، وهو أَجود التمر، واحدتُه بَرْنِيَّة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة برن 13/49.
[13] النووي: روضة الطالبين 10/258.
التعليقات
إرسال تعليقك