الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
عاش الإنسان الأوَّل حياته وسط بيئةٍ تحتاج إلى كلِّ يدٍ وعقل؛ لتُهَيِّئ له طموحاته ومتطلَّباته، والحقُّ أنَّ تاريخ عصور ما قبل التاريخ -السحيقة منها
الاجتماعية أصل القصَّة
عاش الإنسان الأوَّل حياته وسط بيئةٍ تحتاج إلى كلِّ يدٍ وعقل؛ لتُهَيِّئ له طموحاته ومتطلَّباته، والحقُّ أنَّ تاريخ عصور ما قبل التاريخ -السحيقة منها واللاحقة- تكشف لنا كيف خطا الإنسان الأوَّل خطواته الناضجة نحو الراحة والتقارب، وبعيدًا عن سجالاتٍ سخيفةٍ لبعض علماء الأنثروبولوجيا التي تصف الإنسان بأنَّه كائنٌ متطوِّرٌ من سلالة القرود إلى ما هو عليه الآن، وأنَّه لم يكن اجتماعيًّا في بادئ أمره، إلَّا أنَّنا نُؤمن إيمانًا عميقًا أنَّه مخلوقٌ اجتماعيٌّ بالفطرة، وأنَّه لا يستطيع الحياة دون أسرةٍ يلتجئ إليها وتلتجئ إليه.
ولعلَّ صورة الأسرة هذه لأكبر دليلٍ على أنَّ المشترك الإنساني بين البشر قائمٌ ومتواجدٌ منذ وجود الإنسان على الأرض، وهذا ليس أمرًا غريبًا، بل الغريب ألَّا نتوقَّعه؛ فإنَّنا قد رأينا كلَّ المخلوقات تعيش في مجتمعات، تستوي في ذلك الوحوش الضارية والحيوانات اللطيفة، وكذلك الطيور والأسماك؛ بل إنَّ عالم الحشرات -وهو الأدنى في المرتبة- يشهد هذه المجتمعات بشكلٍ متطوِّرٍ بالغ التعقيد، وتكفي دراسةٌ بسيطةٌ لحياة النحل أو النمل لنُدرك عظمة هذه المجتمعات.. فإذا كانت كلُّ هذه المخلوقات -وهي أقلُّ من الإنسان دون شكٍّ- قد اهتدت إلى أهميَّة حياة المجتمعات، وإلى وجوب التعاون للوصول إلى هدفٍ مشترك، فهل يُمكن للإنسان العاقل أن يُغفل هذه الحقيقة أو يتوه عنها؟!
التعارف أساس التقدم والمدنية
لقد اتَّفقت الكثير من العلوم الإنسانيَّة على أنَّ وصول الإنسان إلى المدنيَّة والتقدُّم الحالي -وهي مصلحةٌ بشريَّةٌ مشتركة- لم يأتِ إلَّا من خلال التقارب والتعارف، ويرى مؤسِّس علم الاجتماع ابن خلدون أنَّ تحقيق مصلحة الإنسان في الأرض من خلال تطويع هذه الأرض وتسخيرها لخدمته، قد جعلته يبحث عن مثيله وبني جنسه ليُساعده في تحقيق ما يُريد؛ ذلك أنَّ الآخر كان يبحث عن حلٍّ ناجعٍ لهذه المعضلة الكبرى، وبالفعل التأمت الجماعات البشريَّة الأولى فيما بينها مكوِّنةً مجتمعًا صغيرًا كبُر مع الزمن، وهذا ما يُوَضِّحه العلامة ابن خلدون بفكره الثاقب، ورؤيته العميقة بقوله: "الواحدُ من البشر لا تُقاوِم قدرتُه قدرةَ واحدٍ من الحيوانات العُجم سيَّما المفترسة؛ فهو عاجزٌ عن مدافعتها وحده بالجملة، ولا تفي قدرتُه -أيضًا- باستعمال الآلات المـُعَدَّة لها، فلا بُدَّ في ذلك كلِّه من التعاون عليه بأبناء جنسه، وما لم يكن هذا التعاونُ فلا يحصلُ له قُوتٌ ولا غذاءٌ، ولا تتمُّ حياته؛ لِمَا رَكَّبه الله -تعالى- عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته، ولا يحصل له -أيضًا- دفاعٌ عن نفسه؛ لفُقْدَان السلاح، فيكون فريسةً للحيوانات ويُعاجله الهلاك عن مدى حياته، ويَبْطُل نوعُ البشر، وإذا كان التعاونُ حَصَلَ له القوتُ للغذاء، والسلاحُ للمدافعة، وتمَّتْ حكمة الله في بقائه وحِفْظِ نوعه؛ فإِذَنْ هذا الاجتماع ضروريٌّ للنوع الإنساني، وإلَّا لم يَكْمُل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم، واستخلافه إيَّاهم"[1]. فهو هنا يُقَرِّر أنَّ الظروف الصعبة أجبرت الإنسان على العيش في جماعةٍ مع بني جنسه، لكنَّه أشار في مضمون كلامه إلى أنَّ هذا الاجتماع غريزةٌ إلهيَّة، تدفع الإنسان إلى تحقيقها بلا تفكيرٍ في كثيرٍ من الأحيان؛ ولذلك بحث الإنسان مع الآخر عن تحقيق المصلحة المشتركة من خلال التعارف والتعاون.
مصطلح البدائية
ومن اللافت أنَّ هناك من علماء الأنثروبولوجيا مَنْ تصدَّى لمفهوم "البدائيَّة"؛ مصطلحًا دلَّل على انفراد الإنسان وانعزاليَّته وسذاجته وقلَّة خبرته في الكون، وكان من هؤلاء الأنثروبولوجي الأميركي أشلي منتاجيو، الذي دافع عن الإنسان البدائي في كتابه القيِّم (البدائيَّة)، الذي يقول فيه: "نحن نتكلَّم عن الشعوب (البدائيَّة)، عن شعوب الأرض اللاكتابيَّة، فماذا نعني عندما نستخدم هذا الاصطلاح؟ نعني أنَّ هذه الشعوب هي -بالمقارنة مع ما نحن عليه- غير متطوِّرة، وهذا من عدَّة وجوهٍ صحيحٌ؛ فهو يصحُّ مثلًا في حالة القراءة والكتابة، وفي حالة التقدُّم التكنولوجي، ولربَّما صحَّ -أيضًا- بدرجاتٍ متفاوتةٍ في عدَّة ثقافاتٍ على بعض جوانب تطوُّر الأخلاق والمؤسسات؛ لكن لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذه الثقافات هي -من بعض الوجوه- أشدُّ تطوُّرًا من أكثر الثقافات المتمدِّنة، وهي لهذا (أفضل) من الثقافات المتمدِّنة حسب المعايير التقويميَّة السائدة حول هذه الأمور في المجتمعات المتمدِّنة؛ فمثلًا يتَّصف الإسكيمو والأستراليُّون الأصليُّون -إنْ شئنا الاكتفاء بمثالين ممَّا يُدعى بالثقافات البدائيَّة المعروفة لدى علماء الأنثروبولوجيا- بالكرم والودِّ والتعاون أكثر من اتِّصاف غالبيَّة أعضاء المجتمعات المتمدِّنة بهذه الخصال؛ لذلك يكون الإسكيمو والأستراليُّون الأصليُّون -بمعاييرنا نحن حول هذه الأمور- أفضلَ منَّا. إنَّ أعضاء هاتين الثقافتين البدائيَّتين مخلصون، مرحون، شجعان، يُعتمد عليهم إلى حدودٍ لا ترقى إليها إلَّا قلَّة من المتمدِّنين، فمَنْ هم الأكثر تطوُّرًا في هذه المجالات؟ أولئك الذين يدَّعون بألسنتهم اتِّباع هذه الخصال، أو أولئك الذين يُمارسونها في حياتهم؟"[2].
بهذه الحقيقة الأنثروبولوجيَّة المهمَّة لنا أن نتأكَّد أنَّ الإنسان الأوَّل كان إنسانًا اجتماعيًّا في سلوكه وأخلاقه، وبهذا الشاهد المهمُّ نستنتج أنَّ ذاك الإنسان استطاع أن يُكَوِّن مشتركاتٍ بينه وبين الآخر منذ حقبةٍ مبكِّرةٍ من تاريخ الإنسانيَّة، ظهرت أوَّل ما ظهرت مع أسرته الصغيرة وقبيلته.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك