ملخص المقال
إننا نرى البشريَّة الآن تعيش فوق حممٍ بركانيَّةٍ مشتعلة؛ فهناك العديد من الظواهر الخطرة التي تبعث على القلق الشديد، وتدفع العالم كله نحو الهاوية وتتمثل
إنَّ الخطر الذي يحيق بالبشريَّة كلِّها من جرَّاء إصرار القوى الكبرى "الجديدة" على انتهاج النهج القبيح نفسه للقوى الغابرة؛ من مظاهر الظلم والتجبُّر، والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، وكذلك محاولات ترويضه والسيطرة على عقله بما يخدم مصالح "الكبار"؛ يجعلنا نُطلق صيحة تحذيرٍ صادقة؛ فنحن نرى البشريَّة الآن تعيش فوق حممٍ بركانيَّةٍ مشتعلة، من مشاعر الاحتقان والتوتُّر والرغبة في الانتقام، وقد انفجرت هذه الحمم بالفعل في مناطق متفرِّقَة من عالمنا المعاصر، والبعض الآخر ينتظر الانفجار، لكنَّه لن يكون انفجارًا بسيطًا يسهل السيطرة عليه هذه المرَّة، بل سيكون انفجارًا كونيًّا ضخمًا، يُعيدنا إلى مآسي الحرب العالمية الأولى والثانية.
فهناك العديد من الظواهر الخطرة التي تبعث على القلق الشديد، وتدفع العالم كله نحو الهاوية، وتتمثل تلك الظواهر في "النزعات الانفصالية" داخل الدولة الواحدة في العديد من الدول، وكذلك "الحروب الأهلية"، وظاهرة "البلدان الممزقة".
ظاهرة النزعات الانفصالية
إنَّ تلك الظاهرةٍ الخطرةٍ التي بدأت تتفشَّى في عالمنا المعاصر، وهي تنامي النزعات الانفصالية لدى العديد من الأعراق أو الفصائل داخل الدولة الواحدة، غدت تُشَكِّل خطرًا حقيقيًّا في العديد من دول العالم في الآونة الأخيرة.
ففي العالم العربي ظهر تحدِّي الحركات الانفصاليَّة التي تهدف إلى تفتيت الدول العربيَّة؛ بعد أن تمَّ العبث الاستعماري بالعلاقات العربيَّة العربيَّة، وقد علا صوت هذه الحركات في أقطارٍ متعدِّدة؛ مثل: السودان واليمن والعراق، وغيرها من الدول العربيَّة بدرجاتٍ متفاوتة؛ ولا شكَّ أنَّ هذه الظاهرة تُعلن عن حالة الوهن التي أصابت الجسد العربي، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ غالب الحركات الانفصاليَّة تكون مدفوعةً من الخارج، وتُمَوَّلُ وتُسَلَّحُ من جانب دولٍ لها أجندات تتناقض بطبيعتها مع الوطن الواحد والمصلحة الوطنيَّة.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ ففي دارفور تسلَّحت وتدرَّبت حركات التمرُّد من جانب الدول التي تطمع في خيرات السودان، وتُريد تقطيع أوصال السودان، وكذلك في العراق يُطالب الأكراد بدولةٍ كرديَّةٍ تضمُّ كلَّ الأكراد في العراق وسوريا وتركيا وإيران! إلى جانب تمرُّد الحوثيِّين على الحكومة اليمنيَّة وحملهم السلاح عليها أكثر من مرَّة، بما شجَّع أطرافًا يمنيَّةً أخرى -خاصَّةً في الجنوب- على المطالبة بالانفصال[1].
كما أنَّ هذه الظاهرة تشهد رواجًا مماثلًا في العالم الغربي، ونذكر على سيل المثال النموذج الصارخ الذي تُمَثِّله منظمة "إيتا" الانفصاليَّة، التي أُنْشِئت عام 1959م، وتنادي بانفصال إقليم الباسك الذي يخضع بشقَّيْه لسيطرة كلٍّ من إسبانيا وفرنسا؛ فبعد قيامها بالعديد من العمليَّات الإرهابيَّة والاغتيالات التي خَلَّفت مئات القتلى والجرحى جاء إعلان رئيس الوزراء الإسباني خوسيه ثاباتيرو أمام البرلمان الإسباني للبدء في مفاوضاتٍ مباشرةٍ مع منظَّمة إيتا الانفصاليَّة, ليتجدَّد أمل غالبيَّة الإسبان في تفكيك منظمة يعتبرها الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة حركةً إرهابيَّة[2]، ولكن سرعان ما انهارت المفاوضات بين الحكومة الإسبانية والمنظمة، وعاد العنف من جديد ليُدمي قلب القارَّة الأوربيَّة[3]، ويُنذر بمستقبل تكثر فيه الصراعات وتتنوَّع أسبابها!
ظاهرة الحروب الأهلية
وذلك بالإضافة إلى الحروب الأهليَّة المتتالية التي تندلع على فتراتٍ متقاربةٍ في العديد من دول العالم دون تفريقٍ بين دولةٍ متحضِّرةٍ أو متأخِّرة، فقيرةٍ أو غنية، على الرغم ممَّا تتَّسم به هذه النوعيَّة من الصراعات من عنفٍ ودمويَّةٍ شديدة؛ فهي حربٌ داخليَّةٌ تقوم بين جماعاتٍ مختلفةٍ من سكَّان الدولة الواحدة، وكلُّ فردٍ فيها يرى في الآخر عدوَّه، ومَنْ يُريد أن يبقى على الحياد يُعتبر خائنًا لا يُمكن التعايش معه، فيتناسى الجميع أيَّ علاقاتٍ أو مودَّةٍ سابقةٍ كانت بينهم يومًا، ويكون الهدف الغالب لدى الأطراف المتصارعة هو السيطرة على مقاليد الأمور وممارسة السيادة!
أمَّا أسباب الحرب الأهليَّة فهي متعدِّدَة؛ فقد تكون سياسيَّة أو طبقيَّة أو دينيَّة أو عرقيَّة، أو مزيجًا من هذه العوامل، وقد شهدنا على مرِّ التاريخ القديم والحديث -وما زلنا نُشاهد- عددًا من هذه الحروب أو المآسي، ونتعجَّب من إمكانيَّة حدوثها أو تجدُّدها في أيِّ لحظةٍ على الرغم من الآلام التي شعر بها الجميع في التجارِب الأليمة السابقة؛ ونذكر على سبيل المثال ما حدث في الحرب الإسبانيَّة (1936-1939م)، وهي حربٌ أهليَّةٌ ضاريةٌ اندلعت في إسبانيا إثر صراع على السلطة استمرَّ 3 سنوات، وكانت محصِّلتها 600 ألف قتيل، منهم 210 آلاف أُعدموا من قِبَلِ الأطراف المتنازعة، وقد انتهى هذا الصراع الدامي باستيلاء الجنرال فرانشيسكو فرانكو على مقاليد الحكم في عام 1939م، ليبدأ فترة حكمه الدكتاتوري، الذي استمرَّ لمدَّة 35 عامًا وانتهى بموته، ويتعجَّب المرء ويتساءل عن الهدف الذي يستحقُّ أن يُقتل ستمائة ألف إنسان من أجله، وما هي الجريرة التي تستوجب إعدام مائتي ألف إنسان[4]!
كما يُعَدُّ ما حدث للمسلمين في منطقة البلقان بأوربَّا وما واجهوه من ظلمٍ وقهرٍ على يد الصرب علامةً بارزةً على حالة الاحتقان التي نُعاني منها في واقعنا الحالي؛ ولقد بدأت معاناة المسلمين في منطقة البلقان منذ عام 1913م، عندما بدأت سيطرة الصرب على هذه المنطقة، وهو الوقت الذي شهد نهايات الخلافة العثمانيَّة وتراجع قوَّتها، وصار المسلمون غرباء في وطنهم، وأصبح الصرب هم أصحاب الديار، وكان الصرب يحلمون بصربنة المنطقة كلِّها، وتحويل سكَّانها إلى الديانة النصرانيَّة بالقوَّة! وفي سبيل تحقيق هذا الحلم لاقى المسلمون الأهوال على أيدي الصرب؛ ففي عام 1945م ذبح الصرب 47 ألف مسلمٍ من سكَّان إقليم كوسوفا، ثُمَّ أباد الزعيم اليوغوسلافي الشهير تيتو 24 ألف مسلم في عام 1946م، كما ألغت الدولة الشيوعيَّة المحاكم الشرعيَّة، ومنعت الحجاب؛ ممَّا دفع أربعة ملايين مسلمٍ إلى الهجرة والفرار بدينهم[5].
ثُمَّ قام الصرب عام 1992م بسلسلة من المذابح للمسلمين في مدينتي البوسنة والهرسك، ممَّا أسفر عن عشرات الآلاف من القتلى[6]، وإمعانًا في القهر شرع الجنود الصرب في اغتصاب نساء المسلمين، وقد قدَّرت الأمم المتحدة عدد ضحايا هذه الجريمة بأنَّهم مابين 20 إلى 50 ألف امرأة[7]، وقد اعترفت حكومة جمهوريَّة صرب البوسنة أخيرًا في شهر يونيو 2004م بارتكاب أحد أبشع هذه المجازر، وهي مجزرة سربرينتشا -التي حدثت في عام 1995م- وراح ضحيَّتها ثمانية آلاف مسلم أُعدموا دفعةً واحدة[8]! وليست سربرينتشا إلَّا مثال من أمثلة كثيرة، ويكفي أن نُشير إلى أنَّه قد اكتُشِفَت ثلاثمائة مقبرة جماعيَّة مليئة بجثث المسلمين المشوَّهة[9]!
على جانبٍ آخر شاهدنا –خاصَّة العالم العربي والإسلامي- احتفال اللبنانيِّين في 13 أبريل 2010م بذكرى مرور 35 عامًا على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي خَلَّفت وراءها آلاف القتلى والجرحى والمفقودين، وسط أجواء يملؤها التوتُّر والفزع من عودة اشتعالها مرَّةً أخرى[10].
فعلى الرغم من أنَّ الحرب الأولى اشتعلت شرارتها يوم 13 أبريل 1975م؛ نتيجة اعتداء استهدف حافلة تقلُّ فلسطينيِّين في منطقة عين الرمانة ذات الطابع المسيحي، واستمرَّت طوال خمسة عشر عامًا كاملة، وجرف تيَّارها معظم القوى اللبنانيَّة، لتُوقع أكثر من 150 ألف قتيل، وأكثر من 20 ألف مفقود، وتتسبَّب في تشريد مئات الآلاف من اللبنانيِّين على مختلف طوائفهم ومذاهبهم، قبل أن تنتهي عام 1989م بتوقيع اتفاق الطائف[11]، الذي أسَّس لما وُصف حينها بالجمهوريَّة الثانية، ونجد اليوم على الرغم من مرور 35 عامًا على تلك الحرب أنَّه ما زال هناك تخوُّف من عودة شبحها إلى لبنان، ولا سيَّما أنَّ الأسباب التي أسهمت في اندلاعها ما زالت قائمة، كالانقسام السياسي والتعدُّد الطائفي والتنازع المذهبي.
كما أنَّ الأسباب التي أدَّت إلى وقفها لا تعود للبنانيِّين أنفسهم، بل إلى توافق خارجي إقليمي ودولي بإنهائها، ممَّا يعني أنَّ انهيار هذا التوافق يُهَدِّد بعودة الحرب الأهليَّة من جديد.
ظاهرة البلدان الممزقة
كذلك نُنَبِّه على ظاهرة موجودة في عالمنا المعاصر وتُنذر بالعديد من الأزمات في المستقبل، وهي ظاهرة "البلدان الممزَّقة"، كما أطلق عليها المفكر الأميركي صمويل هنتنجتون، وهنا لا نقصد التمزُّق السياسي للدولة، بل نتحدَّث عن فكرة الهويَّة -أي تشتُّت هويَّة الدولة- فنجد بلدانًا تُعاني كثيرًا من الحيرة وعدم التجانس الثقافي والديني، وهذه الحيرة حتى وإن لم تُتَرْجَم إلى صراعٍ أو توتُّرٍ فإنها تحمل في ثناياها عوامل التفكُّك، ومن هنا سمَّاها هنتنجتون بلدانًا ممزَّقة.
وقد ضرب هنتنجتون العديد من الأمثلة للتدليل على فكرته؛ مثل: أستراليا، والمكسيك، وتركيا، ولعلَّ النموذج التركي من أبرز هذه الأمثلة؛ حيث عانت كثيرًا من الحيرة بين هويَّتها الثقافيَّة والدينيَّة الإسلاميَّة بالأساس، وبين الرغبة الجامحة التي استحوذت على بعض النخب السياسيَّة والفكريَّة في محاكاة الغرب حرفيًّا، فتسبَّبَتْ في حالٍ من الانفصام، فلا هي بشرقيَّة ولا هي بغربيَّة، فأصبحت نصف العلمانيَّة ونصف الإسلاميَّة، نصف الشرقيَّة ونصف الغربيَّة، نصف الديمقراطيَّة ونصف حكم العسكر[12].
وإن كُنَّا الآن نرى تركيا تُحاول الخروج من هذا التمزُّق وعلاج هذه النقطة بالعودة للتوجُّه الإسلامي، لكن بالطبع لن يكون هذا العلاج دون مشاكل جانبيَّة، فبالتأكيد ستحدث مشاكل مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركيَّة، فالتوتُّر لن ينتهي، ولكنَّه سيأخذ أشكالًا أخرى.
وبنظرةٍ أخرى صَوْبَ العالم العربي سنجد بلدانًا تُعاني من هذه الحيرة؛ مثل اليمن، الذي يُعاني اليوم من أزمةٍ بنيويَّةٍ حادَّة, أزمةٍ لو ظلَّت وطالت فقد تدفع بهذا البلد العربي دفعًا إلى قائمة الدول الممزَّقة في العالم؛ فالحكومة اليمنيَّة المركزيَّة تُقَاتِل فئات أخرى -من أبناء اليمن- من أجل تحقيق الأهداف التي تتراوح ما بين الحصول على مطالب طائفيَّة أو طلب الانفصال عن الدولة كلِّيَّة[13]!
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] عبد الله الأشعل: الحركات الانفصالية.. خطر يُواجه العالم العربي، موقع الإسلام اليوم، 16ديسمبر 2009م، على الرابط: http://islamtoday.net.
[2] صحيفة الأهرام المصرية، العدد (43640)، بتاريخ 31 مايو 2006م.
[3] «إيتا» مستعدة للتغيير لكن دون إلقاء السلاح: صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، العدد (11437)، بتاريخ 22 مارس 2010م.
[4] راغب السرجاني: أخلاق الحروب في السُّنَّة النبوية، ص343.
[5] محمود شاكر: محنة المسلمين في كوسوفا، ص112-118.
[6] أحمد بن علي تمراز، وحسين عمر سباهيتش: جمهورية البوسنة والهرسك قلب أوربَّا الإسلامي، ص69-72.
[7] تقرير أشكال العنف ضدَّ المرأة 2006م، الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة، ص60.
[8] موقع هيئة الإذاعة البريطانية، بتاريخ 11/6/2004م، على الرابط: http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid.
[9] هيثم هلال: موسوعة الحروب، ص494.
[10] أخبار الجزيرة، بتاريخ 13 أبريل 2010م، على الرابط: www.aljazeera.net.
[11] انظر: فوَّاز طرابلسي: تاريخ لبنان الحديث.. من الإمارة إلى اتفاق الطائف، رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 2008م.
[12] صموائيل هنتنجتون: صدام الحضارات، ص227-247.
[13] عماد جاد: أزمة الدولة اليمنية، صحيفة الأهرام المسائي، العدد (7029)، بتاريخ 26 يوليو 2010م.
التعليقات
إرسال تعليقك