الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مدينة عربية شامية لها تاريخ عريق خاصة في التاريخ الإسلامي، كانت تحت الاحتلال الصليبي حتى تحررت على يد السلطان قلاوون، لها ألقاب عديدة ومن أشهر ألقابها
موضوع "أسماء طرابلس وألقابها في المصادر التاريخيَّة والأخبار المرويَّة" هو موضوعٌ مهمٌّ، تناوله العديد من المؤرِّخين، وعرضوا لذكره في كتبهم بألوانٍ مختلفة من التحليل والتعليل، هذه الدراسة تتضمَّن مختلف الآراء التي قدَّمها المؤرِّخون -من قدامى ومعاصرين- في بيان أسماء طرابلس وألقابها عبر التاريخ، وفي هذه المقال سنتناول أسماء طرابلس وألقابها في العصر الصليبي وعصر المماليك.
طرابلس في العصر الصليبي
عرفت المدينة بــكونتية طرابلس، وهي آخر إمارة صليبيَّة تأسَّست في بلاد الشام، وقد استولت القوَّات الصليبيَّة على طرابلس في سنة (1109م=502هـ)، وخضعت لسلطة "بيرتراند كونت تولوز" التابع لمملكة بيت المقدس تحت سلطة الملك "بالدوين الأول"، أصبحت كونتية طرابلس تابعةً لإمارة أنطاكيَّة، وقد سقطت طرابلس بيد السلطان "قلاوون" سنة (1289م=688هـ).
ظلَّت طرابلس تحتفظ بصدارتها العلميَّة حتى في العهد الصليبي؛ حيث أصبحت مركزًا علميًّا مهمًّا، يفد إليه الطلبة من الأقطار البعيدة، وفي ذلك يقول المؤرِّخ الدكتور السَّيِّد عبد العزيز سالم في كتابه "طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي":
"كانت (طرابلس) في العصر الصليبي مركزًا علميًّا متفوِّقًا يفد إليه طلاب العلم من أوربَّا؛ لأخذه على علمائها المسلمين والنصارى البلديِّين، وذاعت شهرتها في علوم الطبِّ، والكيمياء، والصيدلة، والرياضيَّات، والعلوم الطبيعيَّة، والفلسفة، والفلك.
ففي مجال الطب كانت مدرسة طرابلس أعظم مدارس الطبِّ في الإمارات الصليبيَّة على الإطلاق، وكان الطبُّ من اختصاص اليعاقبة البلديين، نخصُّ بالذكر منه الأسقف اليعقوبي ميشيل الحلبي الذي مارس الطب محاطًا بتقدير رجال الدين، وطبقة أشراف الفرنجة.
وفي طرابلس أتمَّ العالم الكبير برهبراوس دراساته العلميَّة على أستاذ نسطوري طرابلسي، ويُشير أحد اليعاقبة الأنطاكيِّين إلى وجود عددٍ كبيرٍ من الأطباء اليعاقبة والملكانيِّين، والمسلمين في طرابلس كان يتردَّد عليهم في معاملهم، وعالجوه في المستشفايات" انتهى بحروفه.
ومن مشاهير أساتذة الطبِّ بطرابلس العلَّامة يعقوب النسطوري، الذي قرأ عليه الطبيب غريغوريوس بن أهرون الملطي -المعروف بأبي الفرج ابن العبري نزيل طرابلس- علم الطب، والبيان، والمنطق، وألَّف العديد من المصنَّفات الطبِّيَّة، منها: "كتاب شرح فصول أبقراط" و"كتاب منافع أعضاء الجسد"، كما نقل عدَّة كتب طبِّيَّة إلى السريانيَّة، منها كتاب "الإشارات والتنبيهات" و"القانون" لابن سينا، و"الموجزة في الأدوية المفردة" للغافقي.
طرابلس في العصر المملوكي
ذكر المؤرِّخ الحافظ ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" أنَّه بعد تحرير طرابلس من الصليبيِّين، "أمر السلطان الملك المنصور قلاوون أن تهدم البلد بما فيها من العمائر والدور والأسوار الحصينة التي كانت عليها، وأن يُبنى على ميلٍ منها بلدة غيرها أمكن منها وأحسن، ففعل ذلك، فهي هذه البلدة التي يُقال لها طرابلس، ثم عاد إلى دمشق مؤيَّدًا منصورًا مسرورًا محبورًا".
وفي هذا العصر لُقِّبت طرابلس بـ "المملكة الشريفة"، كما هو مثبت في اللوحة التاريخيَّة التي أرخت لإنشاء أروقة الجامع المنصوري الكبير التي جاء فيها ما يلي:
"بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، أمر بانشاء هذه الرواقات تكملة الجامع المبارك مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل المجاهد المظفر المنصور ناصر الدنيا والدين "محمد بن قلاوون" خلَّد الله ملكه، في نيابة المقرِّ الشريف العالي السيفي "كستاي الناصري" كافل المملكة الشريفة الطرابلسيَّة أعز الله أنصاره، بإشارة المقرِّ العالي البدري "محمد بن أبي بكر" شاد الدواوين المعمورة أدام الله نعمته، وكان الفراغ منه في شهور سنة خمس عشر وسبعمائة، وصلَّى الله على سيدنا محمد، تولَّى عمارته العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن حسن البعلبكي".
كما جاء هذا اللقب في اللوحة التاريخيَّة التي أرَّخت لترخيم المحراب الجانبي من الجهة الشرقيَّة لبيت الصلاة في الجامع المنصوري الكبير التي ورد فيها ما يلي:
"أمر بترخيم هذا المحراب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى أزدمر الأشرفي، كافل المملكة الشريفة الطرابلسية المحروسة -أعزَّ الله أنصاره- في أيَّام مولانا وسيِّدنا قاضي القضاة الشافعي الإمام، في مستهلِّ ربيع الآخرة سنة ثلاث وثمانين وثمانماية، بمباشرة محمد الشاد".
فائدة:
كانت نيابة طرابلس في عصر المماليك تلي نيابة حلب في الأهميَّة، وكانت نيابة حلب بدورها تلي نيابة دمشق في الرتبة، وكان نائب طرابلس على نقيض نائب دمشق أو حلب؛ يجمع بين نيابة الإقليم ونيابة القلعة، وكان يُلقَّب بكافل المملكة الطرابلسيَّة الشريفة.
"مدينة الأبراج السبعة"
لُقِّبت طرابلس في العصر المملوكي بمدينة الأبراج السبعة لوجود سبعة أبراج بها للدِّفاع عنها ضدَّ هجمات الصليبيِّين الذين كانوا يُغيرون على المدينة بطريق البحر بعد خروجهم منها، وكان الأثرياء من أهل طرابلس يُوقفون الأملاك والقرى والمزارع على مصالح الأبراج، وعمارتها، ومعايش موظَّفيها، والمرابطين فيها، والقيِّمين عليها، ويزوِّدونها بالسلاح والذخائر والرجال.
وأوَّل هذه الأبراج: هو برج رأس النهر، الذي اندثر، وعفا أثره، وقد تحوَّل مؤخَّرًا إلى مسجدٍ على يد السيد أحمد (أبو خالد) صبح، وفي وثيقةٍ عثمانيَّةٍ مؤرَّخة في أوائل ربيع الآخر سنة 1078هـ، جاء ذكر محمد بن أحمد كنون المغربي الأصل، وشقيقه شرف، وهما من طائفة الحصارليَّة التابعة للجيش السلطاني المرابطين ببرج رأس النهر.
وثانيها: برج السباع، وهو أهم أبراج طرابلس على الإطلاق، ويُعتبر من أجمل الأبنية الحربية التي وصلت إلينا، وقد اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ بنائه، فالأستاذ "فان برشم" ينسبه للأمير أيدمش البجاسي الظاهري أحد أمراء "الظاهر برقوق" مؤسِّس دولة المماليك البرجيَّة، ويُحدَّد تاريخه بحدود سنة 802هـ، اعتمادًا على نصِّ أبي المحاسن جمال الدين يوسف بن الأمير سيف الدين تغرِّي بردي الأتابكي (ابن تغري بردي)، في كتابه "المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي"، والنصِّ الآخر للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي في كتابه "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"، جاء فيهما أنَّه عُمِّر بطرابلس برجٌ على ساحل البحر، والأستاذ سوفاجيه ينسبه للسلطان قايتباي لشبهه بقاعة استقبال "السلطان قايتباي" بأعلى قلعة حلب التي أُنشئت عام 880هـ، ويُرجِّح مؤرِّخ طرابلس الشيخ كامل البابا أنَّه من بناء الأمير جُلبان، الذي بناه على البرج الصالحي المندثر، كما هو مبيَّن بوقفيَّة البرج المملوكيَّة المكتوبة على رقِّ الغزال، والمؤرَّخة في سنة 845هـ، والمحفوظة في المكتبة الظاهريَّة بدمشق، ويرى الدكتور عمر تدمري أنَّه من بناء الأمير برسباي الناصري نائب السلطنة في طرابلس، وأنَّ برج السراي هو الذي بناه الأمير "جلبان".
وثالثها: برج الأمير السيفي طرباي أو برج المغاربة، سُمِّي بذلك لأنَّ حاميته كانوا من المغاربة الذين رابطوا في ثغر طرابلس، ولُقِّب فيما بعد ببرج الفاخورة؛ لأنَّه كان يشتمل على فاخورة تُصنع بها الجِرَار، وقد هدمته إدارة سكَّة الحديد عند بناء المحطَّة، وكان يبعد عن برج السباع بنحو ثلاثين مترًا.
ورابعها: برج الشيخ عفان، وهو برجٌ بُنِي في عصر المماليك، واشتهر فيما بعد ببرج الشيخ عفان نسبةً إلى الشيخ عفَّان المدفون عند حائط البرج، وقد ورد في هامش مشجر نسب السادة آل العلواني المحفوظ بحماه الذي أطلعني عليه السيد عبد القادر العلواني في العام 2008م، ذكر الشيخ عفَّان المدفون عند شاطىء البحر، وقبره مزار، وهو الشيخ عفَّان العلواني المتوفَّى عام (1128هـ= الموافق لعام 1715م)، ابن السيد عبد الرحيم، ابن السيد أبي الصفا نقيب السادة الأشراف بطرابلس في العام (1015هـ= 1606م)، ابن السيد عبد الرحيم، ابن السيد وفا، ابن السيد علوان الهيتي الحموي الحسيني، وإليه تُنسب العشيرة العلوانيَّة الحسينيَّة في حماه، والقامشلي، وجزيرة ابن عمر، والعراق.
وخامسها: برج أبي العدس بمحلة الدعتور، قال مؤرِّخ طرابلس الشيخ كامل البابا رحمه الله في كتابه "طرابلس في التاريخ": "عهد واقفه بالإقامة فيه، والإشراف عليه، والمرابطة به لطائفة من تركمان كسروان، يُقال لهم بيت أبو العدس الشجعان، ولذلك دُعِي باسمهم، كانوا أولي نجدة، وأولي بأسٍ شديد".
وسادسها: برج المشتى، الذي كان معروفًا بمقهى عزِّ الدين.
وسابعها: برج الميناء أو برج السراي، الذي منحته السلطنة العثمانية لجدِّ آل الزين الكجا، ثُمَّ انتزعته من ذرِّيَّته فيما بعد، وقد نسفه الثوار بمن فيه من الجندرمة في أحداث عام 1958م.
____________
المصدر: سلسلة مقالات (في المصادر التاريخية والأخبار المروية ... أسماء طرابلس وألقابها)، للدكتور فؤاد فوزي طرابلسي، موقع التمدن - طرابلس لبنان.
التعليقات
إرسال تعليقك