الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
سبيل البيك أو سبيل أحمد بك في حلب، من أشهر الأسبلة وأكملها في حلب، ويتميَّز بالأصالة المعماريَّة والزخرفيَّة، فماذا عن تاريخ بنائه وزخرفته؟ وما
سبيل البيك أو سبيل أحمد بك في حلب، من أشهر الأسبلة وأكملها بتلك المدينة، ويتميَّز بالأصالة المعماريَّة والزخرفيَّة، بناه الأمير العثماني أحمد بك أفندي بن إبراهيم باشا، عام (1243هـ=1828م)، وهو مبنيٌّ على غرار الطراز التقليدي لعمارة الأسبلة المملوكيّة، ومازال يُؤدِّي دوره حتى الآن.
الأسبلة في حلب
اشتهرت حلب بأبنيتها الوقفيَّة العلميَّة والخدميَّة، ومنها إنشاء السبيل لسقاية الناس والحيوانات، وتفنَّن أهل الخير في بناء السبيل وزخارفه وعمائره، حتى أصبح البعض من السبلان تحفًا فنيَّةً يُحافظ عليها داخل المتاحف، أو لا زال البعض منها يعمل حتى الآن، والسبيل أنشأه أهل الخير وزوَّدوه بماء القناة -أي قناة حيلان- التي كان يشرب منها سكَّان حلب، أو بماء المطر، أو بماء الأرض، كما يُطلق السبيل على توزيع الماء وغيره مجَّانًا.
وحديقة السبيل اشتهرت بهذا الاسم لأنَّه كان في مدخلها سبيل ماء للمسافرين إلى الشمال، وتعمَّم اسم السبيل على المنطقة الواقعة حوله وهي إلى الآن منطقة جميلة من مناطق حلب، وبدأت البلدية بتعميرها سنة (1314هـ=1897م)، وفي سنة (1315هـ=1898م) كان الاحتفال بها، وذلك في عهد رائف باشا باني ساعة باب الفرج، وكان السبيل يملأ بماء المطر وفتح تجاه هذه العمارة بستان مساحته (28385) ذراعًا، وحفر تجاه باب مجمع الماء القديم بئر ووضع عليه دولاب لاستخراج الماء، وهو يدور بقوَّة الهواء، ووضع هذا الدولاب على قاعدةٍ شُيِّدت من حجارة النحيت، ارتفاعها ستُّ أذرعٍ، وللدولاب المذكور حاصلٌ كبيرٌ مرتكزٌ تحت قناته يبلغ قطره نحو ثلاث أذرع.
وكان يوجد في كلِّ حيٍّ من أحياء حلب سبيلٌ لسقاية النساء، واشتهرت أسماء هذه الأحياء باسم السبلان منها:
سبيل دلِّي باشا: كان في سوق بانقوسا، ثم هدمته البلدية مع ما حوله لتوسيع الطريق.
سبيل حسبي: سبيل خارج باب الأحمر النافذ إلى محلة البياضة، أنشأه الحاج يوسف بن أحمد أفندي الحسبي في حدود (1280هـ=1863م)، وعَمَّر فوقه قصرًا له.
ويُذكر أنَّه كان في حيِّ الفرافرة قرابة 14 قسطلًا وسبيلًا منها: سبيل الجالق، سبيل النسيمي، سبيل الخابية، قسطل الناصري، قسطل الجوزة، سبيل الشريف، قسطل الملك العادل غياث الدين غازي. والقسطل: هو الموضع الذي نغترف منه المياه، وكانت هذه القساطل تتغذَّى من قناة حيلان التي تتفرَّع إلى مختلف أحياء المدينة، والأزقَّة، والدروب، والمساجد، والأسواق، والبيمارستانات، والحمَّامات، والساحات العامَّة، وظلَّت هذه القناة تُغذِّي حلب حتى مطلع القرن العشرين.
ومن أشهر تلك الأسبلة في حلب سبيل البيك أو سبيل أحمد بك، وهو من أكمل الأسبلة الحلبيَّة وأجملها.
سبيل البيك .. سبيل أحمد بك
سبيل البيك هو أحد السبلان الكثيرة المنتشرة في مدينة حلب القديمة، ومايزال إلى اليوم بحالةٍ جيِّدة، ويُقدِّم مياه الشرب للمارَّة والزوَّار.
قيمة سبيل البيك
يُمثِّل سبيل البيك كونه جزءًا من التنوُّع الحضاري والتاريخي الذي عاشته مدينة حلب خلال تاريخها الطويل، وهو يُمثِّل جزءًا من العمارة العثمانيَّة فيه، بدليل النقش الموجود في واجهته الذي يُشير لبانيه أحمد بك أفندي إبراهيم باشا، وذلك في العام (1243هـ=1828م).
موقع سبيل البيك
يقع سبيل أحمد بك بأوَّل جادَّة الجنينة بحيِّ القصيلة، داخل باب المقام بحلب، وهو من الأسبلة التي ترجع إلى العصر العثماني، وهو سبيلٌ للماء ملحقٌ به حوض لسقي الدَّوابِّ وغرفة للسكن.
وتُشير النقوش الكتابية الموجودة في واجهتيه الغربيَّة والجنوبيَّة إلى أنَّ هذا السبيل بُنِي عام (1243هـ=1828م) على يد الأمير أحمد بك أفندي إبراهيم باشا، وقد ذكره الشيخ كامل الغزي (1271-1351هـ= 1853-1933م) في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب، فقال: "وسبيل البيك نسبةً إلى أحمد بك ابن إبراهيم باشا، وهو سبيلٌ حافلٌ له شبَّاكٌ كبيرٌ على الجادَّة الكبرى، وآخر على زقاق الحوارنة، وفي وسطه الصهريج العظيم الذي يُستقى منه، مكتوب على جانبي شبَّاكه المطلِّ على الجادَّة: "بسم الله الحمد لله الذي أنشأ هذا السبيل على يد الأمير الجليل أحمد بك أفندي إبراهيم باشا زاده الله الحسنى وزيادة سنة 1243". وفي جانبيها -أيضًا-:
لِصَاحِبِ هَذَا الْخَيْرِ أَجْرٌ مُجَدَّدٌ *** بَنَاهُ لِوَجْهِ اللهِ وَالْخَيْرُ يُحْمَدُ
وَقَدْ تَمَّ بُنْيَانًا وَحُسْنًا فَأَرِّخُوا: *** سَبِيلَ يُجَازَى خَيْرَهُ مِيرُ أَحْمَدُ
سنة 1243" ا.هـ.
التصميم المعماري للسبيل
يتميَّز سبيل البيك بزخارفه الهندسيَّة والنَّباتيَّة الجميلة والدقيقة التي تُزيِّن القوسين في واجهتيه الغربية والجنوبية، والسويريات المضفورة والمصبغة على جانبي كلِّ قوس، ويتألَّف السبيل من واجهتين، فُتِح بكلٍّ منهما شبَّاكٌ ذو عُقْدٍ مدبَّبٍ غُطِّي الوجه الخارجي له بزخارف محفورة بأشكال خطوط هندسيَّة متشابكة، يعلوها إطارٌ به حليات زخرفية بارزة لأشكال أوراق رأسية منفذة ضمن صدر حجري منسجم مع كتلة السبيل.
هذا ويستند عقد كلِّ شُبَّاك إلى عمودٍ مدمجٍ عليه بنصفه السفلي زخارف رأسيَّة لخطوط محفورة، في حين زخرف نصفه العلوي بزخارف لخطوط متشابكة، وغُشِّيت كلُّ فتحة شباك بمصبعات حديدية، وزُوِّد كلٌّ منهما من الأسفل بحوضين بارزين من الحجر كان يتدفَّق الماء إليهما لشرب الناس، ويؤطر كامل التركيب المعماري والزخرفي لكلِّ واجهة شريط ضيِّق لأشكال هندسيَّة محفورة.
على يمين شبَّاك الواجهة الرئيسة حوضان لشرب الدواب، يعلو أحدهما الآخر على نحو يُمكِّن الدَّواب الصغيرة والكبيرة من الوصول إليهما والشُّرب منهما، وزود السفلي منهما بحوض حجري مشابه للأحواض الموجودة في شباكي السبيل.
وعلى يمين كوشتي عقد شباك الواجهة ويسارهما جامتان دائريَّتان قُسِّمت كلٌّ منهما ستَّة أجزاء، مشغولة بنصوص كتابيَّة تأسيسيَّة للسبيل كالآتي:
الجامة اليسرى:
بسم الله / الحمد لله الذي [... سلسبيلًا] أُنشئ هذا / السبيل على يد الأمير الجليل / أحمد بك أفندي إبراهيم باشا / زاده [وأناله] الله الحسنى وزيادة / في غرَّة المحرَّم 1243ه.
الجامة اليمنى:
يا فتَّاح / لصاحب هذا الخير أجرٌ مجدَّد / بناه لوجه الله والخير يحمده / وقد تمَّ بنيانًا وحسنًا فأرخوا / سبيل يحاز [خيره] مير أحمد / 1243ه.
كما يوجد على يمين كوشتي عقد الشباك الثاني ويسارهما جامتان دائريتان، بكلٍّ منهما زخارف نباتية بارزة، كما تحتوي هذه الواجهة أعلى باب السبيل والشباك الملاصق له على جامتين أخريين بكلٍّ منهما نقشٌ كتابيٌّ منفذ على حجارةٍ بيضاء يُحيط بها إطار من حجارة سوداء مصقولة، وتتوزَّع نصوصهما كالتالي:
الجامة الأولى: جزى الله خيرًا صاحب الخير أنَّه / تأيَّد بالتوفيق من كرم الباري.
الجامة الثانية: وأحيا نفوسًا للعطا برية / فأرخت ماء سلسبيلًا خيره جار / 1243ه.
وعمومًا فإنَّ هذا السبيل يُعدُّ من أكمل الأسبلة الباقية في مدينة حلب، وهو مبنيٌّ على غرار الطراز التقليدي لعمارة الأسبلة المملوكيَّة، حيث مازال يحتفظ بأصالة عناصره المعمارية والزخرفية.
__________________
المصادر والمراجع:
- عز الدين محمد ابن شداد، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، (المعهد الفرنسي، 1953م).
- كامل الغزي: نهر الذهب في تاريخ حلب، الناشر: دار القلم – حلب، الطبعة: الثانية، 1419هـ.
- غزوان ياغي، المعالم الأثرية للحضارة الإسلامية في سورية، ط1، المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (إسيسكو)، الرباط 2011م.
- أسعد طلس، الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب، (مديرية الآثار العامة، 1956م.
- نجوى عثمان: الآثار والأوابد التاريخية في حلب وكلس وغازي عنتاب، (ضمن برنامج التعاون الإقليمي السوري - التركي، 2011م.
- غزوان غازي: سبيل أحمد بك، (موسوعة الآثار السورية، آثار إسلامية، ص234).
التعليقات
إرسال تعليقك