الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الثقافات الأجنبية لها كبير الأثر على عملية التعريب في البلاد التي فتحها المسلمون، وكان للمدارس الأجنبية الدور الأكبر خاصة خلال العصرين الأموي
لقد أثَّرت حركة الفتح الإسلامي للعراق وفارس والشام ومصر تأثيرًا كبيرًا في حياة المجتمع الإسلامي؛ لأنَّ التوسُّع الإسلامي بمظاهره العسكريَّة والبشريَّة والفكريَّة أحدث توسُّعًا ثقافيًّا، وحركةً علميَّةً كبرى نابعةً من الإسلام وهدفها الدعوة إلى العقيدة الإسلامية، فأقبل سكان البلاد المفتوحة على تعلُّم العربية وآدابها وعلى دراسة المصادر الإسلاميَّة؛ القرآن، والحديث، والفقه، فبرز فيهم الكثير من العلماء الذين أصبح لهم أثرٌ في الثقافة العربيَّة ونشر الحركة الفكريَّة، نلمح أسماء كثيرٍ منهم في كتب التاريخ والتراجم والطبقات، كما أنَّ ظهور الفرق الإسلاميَّة ومذاهبها كان لها أثرٌ -أيضًا- في توسُّع الثقافة في البلاد المفتوحة؛ حيث التقت الثقافة العربيَّة بالثقافات الفارسيَّة واليونانيَّة والهنديَّة، ولكلٍّ منها صفاتها وميزانها، ثم لم تلبث أن اندمجت وانصهرت في بودقةٍ عربيَّةٍ إسلاميَّةٍ مكوِّنةَ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.
أثر الثقافات الأجنبيَّة ومدارسها في التعريب:
لقد أقبل سكَّان البلاد المفتوحة على تعلُّم اللغة العربيَّة ودراسة آدابها -كما أشرنا من قبل- وأخذوا يصوغون أفكارهم وعلومهم وآدابهم بما ينسجم والدين الإسلامي والتقاليد العربية، فأصبحت اللغة السياسيَّة والثقافيَّة السائدة هي العربيَّة؛ لذلك فإنَّ الشعوب (غير العربية) فقدت ذاتيَّتها اللغوية بمرور الزمن للتقرُّب من الفاتحين، وقد أدَّى انتشارها إلى شعور شعوب هذه البلدان بالانسجام والتجانس على الرغم من اختلاف قوميَّاتهم وحتى أديانهم، فوحَّدت اللغة العربيَّة انتماءهم وشعورهم وأهدافهم، وكان لها أثرٌ في إقبال الكثير من غير المسلمين على الدخول في الإسلام، ولم يكن إقبال الشعوب غير العربيَّة على تعلُّم العربيَّة وترك لغتها الأصليَّة بسبب الإكراه أو الإجبار؛ وإنَّما كما يقول المستشرق بارتولد: "إنَّ غلبة العربيَّة كان بالاختيار لا بسلطان الحكومة، وإنَّ تسامح العرب أدَّى إلى إنتشار العربيَّة، فدرس حنين بن إسحاق على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه حتى أصبح حجَّةً في العربية".
وبعد أن قطع الموالي وأهل الذمَّة مرحلةً كبيرةً في تعلُّم العربية وآدابها أخذوا ينقلون إليها علومهم، فاستطاعوا بذلك إضافة علومهم وأفكارهم إلى ذخيرة العرب المسلمين، فتكوَّنت من مزيج تلك الحضارات حضارة مطبوعة بالطابع العربي والأسلوب الإسلامي، وأخذت تنمو وتزدهر منذ العصور الإسلامية الأولى (الراشدي والأموي)، وآتت ثمارها في العصر العباسي؛ حيث أصبحت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، يتهافت عليها رجال العلم والثقافة والأدب والاقتصاد والمال؛ لِمَا أصبحت تتمتَّع به من مركز سياسي واقتصادي وثقافي، فنبغت أعدادٌ كبيرةٌ من العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء ينحدرون من عناصر ذمِّيَّة وغير عربيَّة، ومن أخصِّهم النصارى والفرس والصابئة، وأهمُّ ما برزوا فيه الترجمة من اليونانيَّة والفارسيَّة والهنديَّة والسريانيَّة.
وأقلُّهم تأثيرًا في الحضارة وتأثرًا بها اليهود؛ يقول المستشرق ديورانت: "ولم يكن لليهود القابليَّة الفكريَّة والعلميَّة على الإبداع الفكري؛ فحتى التصوُّف اليهودي تأثَّر بالزرادشتيَّة وبالأفلاطونيَّة الحديثة باستبدال الفيض الإلهي بعمليَّة الخلق، وتأثَّروا بالكتب المسيحيَّة والمتصوِّفة الهنود والمصريِّين". ويُؤكِّد ذلك ما جاء في دائرة المعارف اليهوديَّة: أنَّ الفلسفة العبريَّة جاءت عن طريق كتبهم المقدَّسة وعن طريق تأثُّرهم بالفلاسفة العرب.
وقد استفاد اليهود من العلوم العربيَّة التي كانت سائدة في البلاد الإسلاميَّة؛ فترجموا بعضًا من المؤلَّفات العربيَّة إلى العبريَّة، واتقن بعضهم اللغة العربيَّة وآدابها واهتمُّوا بقواعد النحو، ومن أولئك مروان بن موسى اليهودي البصري الذي اشتغل بالأدب وضبط النحو ولكنَّه لم يؤلِّف فيه، ويبدو أنَّ بروز هؤلاء اليهود في بعض الميادين العلميَّة يعود إلى اتِّصالهم بالحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، فاستقوا من مناهلها علومهم المختلفة.
أمَّا النصارى في العراق فقد نعموا بعد الفتح الإسلامي بالحرِّيَّة الدينيَّة، ولمـَّا كان أغلبهم عربًا فقد التفُّوا حول المسلمين؛ للروابط القوميَّة واللُّغويَّة التي تربطهم بإخوانهم العرب، فأقبلوا على العناية باللغة العربية وآدابها، فأخذوا ينقلون من السريانيَّة إلى العربيَّة؛ لأنَّ اللغة العربية أوسع من السريانيَّة بدليل أنَّ فيها أسماء كثيرة لم تكن موجودة عند السريانيِّين ولا عند غيرهم بخلاف اسمٍ واحدٍ فقط، وأنَّ قبائل الغساسنة في الشام منذ خضوعهم لكنيسة روما وهم يستخدمون اللغة العربيَّة في طقوسهم الدينيَّة.
وقد برز الصابئة بالفلك والتنجيم واعتبروه عنصرًا مهمًّا من العناصر التي يعتمد عليها دينهم ومستقبلهم؛ فهم يعتقدون أنَّ كلَّ كوكبٍ يحكم في يومٍ من الأيَّام، ويتحكَّم ملائكة معيَّنون بالأيَّام، ومن هنا تكون لهم صفاتٌ فلكيَّة، ويعزون اهتمام الصابئة بدراسة الفلك والتنجيم إلى اعتقادهم التنبوُّءات، وبأثر النجوم على مستقبل الإنسان أيضًا، وقد عملوا الطلسمات والسحر والكهانه والتنجيم والتقويم والخواتيم، ولمـَّا اتَّصل الصابئة بالخلافة العباسيَّة صار لهم شأنٌ كبيرٌ في نقل هذه العلوم إلى العربية، ولعلَّ ازدهار الحضارة وتطوُّر العلوم في العصرين الأموي والعباسي يعود إلى رغبة العرب المسلمين في الإطِّلاع على ما عند الأمم الأخرى من علومٍ ومعارف، حتى قال المستشرق سيديو عنهم: "كان العرب وحدهم حاملين لواء الحضارة في القرون الوسطى، وقد حرَّروا بربريَّة أوربَّا، وسار العرب إلى منافع فلسفة اليونان، ولم يقفوا عند حدِّ ما اكتسبوه من كنوز المعرفة؛ بل وسَّعوه وفتحوا أبوابًا جديدة في مختلف العلوم، وإذا ما بحثنا في الوجه الذي أيقظ الحضارة في المشرق وجدنا حُبَّ العرب للعلم وشوقهم إلى تعجيل رُقيِّه بأنفسهم، ولعلَّ تشوُّق العرب للاطِّلاع على علوم وثقافات الأمم الأخرى واهتمامهم البالغ بالعلم، دفعهم إلى الإبقاء على المؤسَّسات العلميَّة التي كانت لأهل الذمَّة في البلاد المفتوحة".
ولعلَّ ما ذكره ديورانت يُؤيِّد ذلك: كان بنو أميَّة حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحيَّة أو الصابئيَّة أو الفارسية قائمة خاصَّة في حرَّان ونصيبين وجنديسابور وغيرها ولم يمسُّوها بأذى، وقد حفظت هذه المدارس أمَّهات الكتب الفلسفيَّة والعلميَّة، معظمها تُرجمت إلى العربيَّة على أيدي النساطرة المسيحيِّين، وقد بقيت هذه المدارس تُؤدِّي عملها في العصور الإسلاميَّة وزاد اتِّصالها بالمسلمين في العصر العباسي.
ولابُدَّ من الإشارة إلى دور هذه المدارس في نشر الثقافة:
مدرسة حران:
حَرَّان: مدينة تقع في الجزيرة شمال العراق بين الرها ورأس العين، وهي مدينةٌ قديمةٌ عاصرت الرومان واليونان والنصرانيَّة والإسلام، سكانها من العرب والسريان والأرمن والمقدونيِّين، وقد تأثَّرت حران بالثقافة المقدونيَّة لدرجة أنَّ الآلهة المعبودة في حران كانت أسماء بعضها يونانيَّة، وأصبحت حران منبعًا من منابع الثقافة اليونانيَّة في العهد الإسلامي، واتَّصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيِّين، وكان لها شأنٌ كبيرٌ في نشر الثقافة اليونانيَّة، وفي ترجمة كثيرٍ من الكتب عن اليونانيَّة.
وقد برز نخبةٌ من أساتذتها وخريجيها لعبوا دورًا كبيرًا في تعريب علوم اليونان في الفلك والرياضيات والطب، منهم أبو عبد الله البتاني وهو أحد المشهورين برصد الكواكب والمتقدِّمين في علم الهندسة وهيئة الأفلاك وحساب النجوم، وله كتبٌ في الزيج والبروج وغيرها، ويُعتبر ثابت بن قرَّة (ت 281هـ) أعظم من عُرِف في مدرسة حران، كان يُجيد اليونانية والسريانية والعبرية، وترجم في المنطق والرياضيات والتنجيم والطب، ونقَّح كتاب إقليدس الذي عرَّبه حنين بن إسحق، رحل إلى بغداد وأقام فيها، ومن أولاده وأحفاده إبراهيم بن ثابت وأبو الحسن ثابت وإسحاق أبو الفرج، وكلِّ هؤلاء نبغوا في الرياضيَّات والفلك، واشتهر ابنه سنان بالطب وكان عالمـًا بالظواهر الجوِّيَّة، وكان حفيده بن سنان عالمـًا بالحكمة والهندسة، وله ثلاثة كتب في علم النجوم، وله مقالةٌ فيها إحدى وأربعون مسألةً هندسيَّة، واشتهر هلال بن إبراهيم بالطب، كما اشتهر إبراهيم بن هلال بالأدب وقد رثاه الشريف الرضي؛ لمنزلته في الأدب.
مدرسة نصيبين:
نصيبين: مدينة تقع بين أعالي بلاد ما بين النهرين ودمشق، حصَّنها الرومان تحصينًا قويًّا، وأصبحت مركز كرسي الأسقفيَّة لوجود النصاري فيها، وأسَّس مطران نصيبين مدرسةً تُحاكي مدرسة الإسكندريَّة في الفلسفة، وكانت الغاية منها نشر اللَّاهوت الإغريقي بين المسيحيِّين الذين يتكلَّمون السريانية، ومزج النصرانيَّة بالأفلاطونيَّة، وأُغلقت مدرسة نصيبين فانتقلت إلى الرها، وهكذا انتقلت فكرة مزج النصرانيَّة بالفلسفة في أنحاء الشرق، وساعد بذلك على نشر كتب الفلسفة اليونانيَّة التي ترجمها النصارى النساطرة.
مدرسة جنديسابور:
جنديسابور: مدينة تقع في خوزستان أسَّسها سابور الأوَّل وإليه تُنسب، وأسكنها الأسرى الذين أسرهم من جيش الروم وخاصَّةً الذين كانوا على جانبٍ كبيرٍ من الثقافة والخبرة الفنِّيَّة، وكان يُؤمل استخدامهم مهندسين ومعماريِّين وأطباء، وسمح لهم باستعمال لغتهم واتِّباع ديانتهم، كما سمح لهم ببناء الكنائس فتمتَّعوا بالحريَّة أكثر ممَّا كان يُسمح لهم تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، وأسَّس فيها كسرى أنوشروان مدرسةً للطب، كما أنشأ فيها بيمارستان، وأوَّل من علَّم بها الطب من اليونان والهنود فالتقت في هذه المدرسة الثقافة اليونانية والهندية والفارسية، وقد واصلت هذه المدرسة نشاطها العلمي بعد الفتح الإسلامي وزاد اتِّصالها بالمسلمين في العصر العباسي، واشتهر من أساتذتها وطلابها في العصر العباسي جرجيس بن بختيشوع (ت 771م=154هـ) وهو من أطباء وأقدم ممثِّل لطبقة الأطباء الذائعي الشهرة من أسرته، ومنهم حفيده جبريل بن بختيشوع (ت 800م=184هـ)، ويحيى بن البطريق الذي اختصَّه المنصور للقيام بالترجمة، وكذلك زكريا بن يحيى بن البطريق، وممَّن اشتهر في الترجمة والتأليف في الطب أبو زكريا يوحنَّا بن ماسويه (ت 857م=242هـ)، فكان لهم حينئذٍ شأنٌ كبيرٌ في الحركة العلميَّة في العصر العباسي وبفضل هذه المدرسة.
وكانت هذه المدارس لا تقوم فقط بمهمَّة تعليم مختَلَف صنوف العلم المعروفة؛ وإنَّما قامت بدور التعريب والتأليف، وتُعتبر الفترة الواقعة بين ظهور الفرق المسيحيَّة وبين الفتح الإسلامي للعراق غنيَّةً بالترجمة من اليونانيَّة إلى السريانيَّة؛ وذلك لأنَّ الفِرَق المسيحيَّة استخدمت الفلسفة اليونانيَّة لتأييد معتقداتها، وكانت الترجمة منصبَّة على اللاهوت والدراسات الدينيَّة، وبعد الفتح ابتدأت الترجمة من اليونانيَّة إلى العربيَّة وذلك منذ العصر الأموي، وشجَّع الأمويُّون حركة الترجمة إلى العربيَّة، وأوَّل كتابٍ طبِّيٍّ تُرجم إليها كان في خلافة مروان بن الحكم (64هـ) وهو كناش[1] أهرون للقس أهرون بن أعين، وقد احتوى على ثلاثين مقالة نقلها من الآرامية إلى العربية ماسرجويه الطبيب البصري وزاد عليها مقالتين[2].
المصدر: توفيق سلطان اليوزبكي: التعريب في العصرين الأموي والعباسي، مجلة آداب الرافدين - تصدر عن كلية الآداب، جامعة الموصل، العدد (7) - تشرين الأول / أكتوبر، 1976م، ص45 - 70.
____________________
[1] كناش: جمعها كناشات، وهي أوراق تُجعل كالدفتر يُقيَّد فيها الفرائد والشوارد، انظر: الزبيدي: تاج العروس، ـ4/347.
[2] (الكناش): هي موسوعة طبِّيَّة يونانيَّة من عمل القس أهرون ابن أعين -وقيل: أهروت. وقيل: هارون- وهو طبيب سكندري، وترجمها ماسرجويه، وقيل: ترجمها للخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله لا مروان ابن الحكم. انظر: محمد عبد الرحمن مرحبا: الموجز في تاريخ العلوم، دار الكتاب اللبناني، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م، ص76.
التعليقات
إرسال تعليقك