الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
العمل قيمة إنسانية سامية؛ ففطرة الإنسان منذ أن خُلق تُقَدِّر قيمة العمل، وحاجةُ الإنسان إلى العيش الكريم وحاجته إلى الحصول على احتياجاته الأساسيَّة من
العمل مشترك إنساني عام:
العملُ قيمةٌ إنسانيَّةٌ سامية؛ ففطرة الإنسان منذ أن خُلق تُقَدِّر قيمة العمل، وحاجةُ الإنسان إلى العيش الكريم وحاجته إلى الحصول على احتياجاته الأساسيَّة من الطعام والشراب والمسكن تدفعه إلى أن يحترم قيمة العمل، وبالتالي تقدير كلَّ مَنْ يُقَدِّر تلك القيمة التي بها يستطيع العيش هو وزوجه وأولاده وأهله ومجتمعه، ومن ثَمَّ التقدُّم والرقي لحضارته.
والواقع أنَّ قصَّة العمل في الدنيا هي قصَّة الإنسان منذ بداية وجوده؛ ففي العصور الحجريَّة الأولى تميَّز الإنسان بتقدُّمه في تقنية قشر الأدوات الحجريَّة، واستخدامها في مهامِّه اليوميَّة؛ فلقد أعانته هذه الأدوات على توفير الجهد الكبير الذي بذله في العصور التي سبقت ذلك العصر، ثُمَّ تَمَّ له على الأقلِّ ثلاثة اختراعات رائدة، كان لها دورها الكبير في تطوُّر مسيرة العمل؛ وهي: تدجين الكلب، والرمي بالقوس، وتصوير الحيوانات والأحياء البشريَّة وصناعة نماذج لها[1]؛ فنجاح صيَّادي العصر الحجري القديم في تأنيس الكلاب؛ بحيث أصبحت للإنسان خادمته المطيعة، بعد أن كانت الخصم المزاحم له كان أوَّل نجاحٍ للإنسان في أن يجعل الحيوانات تقوم على خدمته، ولمـَّا اخترع الإنسان القوس سخَّر قوَّة طبيعيَّة غير حيَّة، وهي مرونة الخشب لتُمَكِّن قوَّة عضلاته، وذلك بشدِّ القوس من أن تُطلق سهمًا إلى مسافة أبعد ممَّا يُمكن للذراع البشري من إطلاقه دون عون، كلُّ هذا ساعده بشكلٍ لافتٍ وملحوظٍ في تطوُّر أعماله، وتحصيل ثمراتٍ أجود وأكثر ممَّا كان يحصل عليها من قبل[2].
ومع تقدُّم إنسان ما قبل التاريخ إلى مرحلةٍ جديدةٍ بفضل العمل والجهد، بدأت الحضارات العالميَّة الأولى في الظهور كالحضارة المصريَّة؛ فالحضارة المصريَّة القديمة التي ظهرت منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد ثمرةٌ للبيئة الطبيعيَّة الإفريقيَّة، ولقد ازدادت هذه الحضارة غنًى بما جاءها من القارَّة الآسيويَّة[3]، وذلك عن طريق التجَّار والصنَّاع الآسيويِّين، فازدهار الصناعة والتجارة في تلك القرون الغابرة في مصر القديمة يُدَلِّل بكلِّ وضوح على الانفتاح العالمي الذي شهدته مصر وقتئذٍ، بل يُؤَكِّد على دور العمل في نهضة تلك الحضارة التي كانت خليطًا من عُمَّال آسيا وإفريقيا، وكأنَّ الطبقة العمَّاليَّة العالميَّة هي التي أسهمت بشكلٍ لافتٍ ومباشرٍ في ازدهار الحضارة المصريَّة، كما يرى دنيس بولم.
الأديان السماويَّة وقيمة العمل:
إنَّنا نُلاحظ ممَّا سبق أنَّ كلَّ الشعوب والأمم على مدار التاريخ أيقنوا أنَّ العمل قيمةٌ مهمَّةٌ من قيم الحياة؛ بل إنَّه أكبر دليلٍ على اعتماد الإنسان على نفسه في سدِّ احتياجاته ومتطلَّبَاته، والأديان السماويَّة تُؤَكِّد وتحضُّ على قيمة العمل؛ بل تُدَلِّل على أنَّه مشتركٌ عامٌّ بين البشر، فمن خلاله تحبُّ البشريَّة بعضها؛ ففي العهد الجديد: "وأمَّا مَنْ كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجًا، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تَثْبُتُ محبَّةُ اللهِ فيه؟ يا أولادي؛ لا نُحِبُّ بالكلام ولا باللِّسان؛ بل بالعمل والحقِّ!"[4].
كما أنَّ الإسلام رفع كثيرًا من قيمة العمل، وحثَّ عليه وربطه بالأجر والمثوبة في الدنيا والآخرة؛ بل إنَّ الإسلام جعل الإيمان والعمل قرينين، وربطهما برباطٍ وثيق؛ فالإيمان الصادق ليس مجرَّد إدراكٍ ذهنيٍّ أو تصديقٍ قلبيٍّ غير متبوعٍ بأثرٍ عمليٍّ في الحياة.. كلَّا؛ إنَّه اعتقادٌ وعملٌ وإخلاص.
وإنَّ العمل المقصود هنا هو كلُّ عملٍ فيه نفعٌ للبشريَّة وسعادةٌ للإنسانيَّة؛ سواءٌ العمل الإيماني والتعبُّدي أو العمل الحياتي الدنيوي، فكلاهما حثَّ الإسلام عليه وربطه بالإيمان.
وقد ذكر القرآن الكريم الإيمان مقرونًا بالعمل في أكثر من سبعين آيةٍ من آياته، ولم يكتفِ بمجرَّد العمل، ولكنَّه يطلب عمل الصالحات؛ ومن ذلك قول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1-3]. وعمل الصالحات هي كلمةٌ جامعةٌ من جوامع القرآن، تشمل كلَّ ما تصلح به الدنيا والدين، وما يصلح به الفرد والمجتمع، وما تصلح به الحياة الروحيَّة والمادِّيَّة معًا.
وقد حثَّ الإسلام على استغلال الموارد البيئيَّة، وبذل الجهود في استصلاحها وتوظيفها بما يُحَقِّق الرخاء والنماء البشري، يقول الله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15].
وقد وردت أحاديث عن رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم تحثُّ على العمل والسعي في طلب الرزق؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ؛ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"[5]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ"[6]. كما أنَّ الإسلام حفَّز على بعض المهن والصناعات؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَغْرِسُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلاَ زَرْعًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ سَبُعٌ أَوْ طَائِرٌ أَوْ شيءٌ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ"[7].
فالعمل إِذَنْ مشتركٌ بين البشر؛ بل إنَّه في الإسلام قيمةٌ يُحاسِب الله البشر عليها إذا قصَّروا أو تقاعسوا عن أدائها.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] يقصد النحت على جدران الكهوف والسطوح الخشبية.
[2] أرنولد توينبي: تاريخ البشرية 1/62.
[3] دنيس بولم: الحضارات الإفريقية، ص29.
[4] رسالة يوحنا الرسول الأولى 3/17، 18.
[5] البخاري: كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (1966)، عن المقدام بن معدي كرب.
[6] البخاري: كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (1968) عن أبي هريرة، ومسلم: كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس (1042).
[7] مسلم: كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع (1552) عن جابر بن عبد الله، وأبو يعلى (2245).
التعليقات
إرسال تعليقك