ملخص المقال

للوقوف على طبيعة الأحداث الدموية الطائفية الأخيرة في نيجيريا، تكفينا معرفة طبيعة الوحوش الذين نشروا الخوف والإرهاب في مدن وقرى وسط نيجيريا عام 2000م و2004م و... إلخ!
الأحداث الأخيرة ليست وليدة اليوم، إنما لها تاريخ مؤلم نُقشت تفاصيله المفجعة منذ عقود على جدران مساجد وجامعات ومدارس ومنازل ذلك البلد الإفريقي الكبير.
نيجيريا بلد إفريقي كبير ومهم، تقطنه غالبية مسلمة، تضطهده وتنكل به منذ سنوات طويلة أقلية وثنيَّة وأخرى نصرانيَّة متطرفة.
مشهد قناة الجزيرة المؤلم
بالرغم من أن نيجيريا بلد عريق في الإسلام وفي تطبيق شريعته، إلا أن غالبية سكانه من المسلمين يجدون صعوبات في طريق الحفاظ على أمجاد الأجداد من العلماء والمربين والمجاهدين والمصلحين على مدى أكثر من قرن من الزمان. وفي وقت كان العالم يتابع بشغف البطولة الإفريقية في كرة القدم لاكتشاف المواهب الإفريقية التي غالبًا ما تبدع في الملاعب الأوربية، صدمت قناة الجزيرة وعي المسلمين في العالم بمشهد مؤلم لقادة في الجيش النيجيري وهم يقتلون مسلمين عزل وهم أحياء بإطلاق الرصاص عليهم. نبَّه المذيع قبل عرض المشهد إلى أنه يحتوي على لقطات بشعة!
مسلمون في الأغلال مصفدون يقتادهم رجال يرتدون زيًّا عسكريًّا يجبرونهم على الانبطاح في ميدان عام.. وبعد لحظات ينطلق الرصاص، وتنفجر الجماجم!
وفي المشهد يظهر رجلان مسلمان أعزلان معاقان، لم يرحموا عجزهما، ولقيا نفس المصير بجوار عكازيهما وجثث رفاقهما.
وفي الشريط المصور الذي بثته الجزيرة قال أحد الجنود لزميله وهو يستعد لنوبة إبادة ضد مجموعة أخرى من المسلمين العزل وهو يشير على أحدهم: (لا تصوب على رأسه، فأنا تعجبني طاقيته!!). وكانت هناك طوابير أخرى من المسلمين العزل تنتظر، في استسلام تام، مصير من سبقهم.
ليست مناوشات طائفية
نيجيريا بلد إفريقي مهم وكبير، يقع في غرب القارة، وهو من أكبر البلاد الإفريقية من حيث عدد السكان، حيث يزيدون على المائة مليون نسمة، يشكل المسلمون منهم نسبة 80%، بينما يشكل الوثنيون والنصارى نسبة 20%.
وما يزيد من الأهمية الإستراتيجية لهذا البلد الكبير والمحوري في إفريقيا أنه بلد بترولي، ويمتلك ثروات معدنية، ويتمتع بأرض زراعية خصبة ممتدة لمساحات شاسعة، ونيجيريا بالنسبة لباقي دول القارة السمراء كمصر بالنسبة للعرب -في عز عنفوانها وحيويتها- فلها القدرة على التأثير على بقية الدول الإفريقية التي تعتبر نيجيريا هي ملهمتها، سواء في سكونها وجمودها أو في حركتها ويقظتها؛ لذلك استحوذت نيجيريا منذ القدم على اهتمام خاص من الدول الغربية الكبيرة بها.
وتجربة (تطبيق الشريعة الإسلامية بنيجيريا) ليست وليدة اليوم، ولم تكن اختراعًا أبدعته جماعة (بوكو حرام)؛ إنما هي تجربة رائدة ممتدة عريقة مشرقة لها جذورها التاريخية.
ومنذ دخول الإسلام إلى نيجيريا (كانت تعرف ببلاد الهوسا) في القرن الخامس الهجري، وهو يزدهر وينتشر بين سكانها عن طريق التجار المسلمين وعن طريق علماء المسلمين، (كان من أهم من زاروا هذه البلاد الإمام السيوطي رحمه الله)، حتى استطاع العالم والمجاهد النيجيري الشهير (عثمان بن فودي) إقامة دولة إسلامية سنية تحكم بشريعة الإسلام بكل جوانبها، وكانت تجربة ثرية رائدة؛ حيث روعيت الحكمة ولم تغب الرحمة، وكانت التجربة أقرب إلى فهم الشريعة ومقاصدها وارتباطها بواقع الناس ومصالحهم، فسادَ العدل وكثرت الأرزاق وحلت البركة، واطمأن الناس -على اختلاف عقائدهم- على ممتلكاتهم، وشعروا بالأمن.
التحدي الحقيقي الذي واجهته تلك التجربة العريقة كان مع قدوم الغزو الإنجليزي وسيطرة بريطانيا على الحكم مع بداية القرن العشرين عام 1903م؛ فقد عمل المحتل الانجليزي على إقامة الحواجز تدريجيًّا بين النيجيريين وبين شريعتهم، ونجحت إنجلترا بامتياز في أمرين مهمين، وهما:
أولاً: نجحوا في الخروج من البلاد وقد نحَّوْا الشريعة الإسلامية عن الحكم، وقد كان إلغاء أحكام الشريعة الجنائية شرطًا لحصول نيجيريا على الاستقلال عام 1960م.
ثانيًا: نجحوا في خلق واقع شاذ أتاح للأقلية النصرانية التفوق إداريًّا وتقنيًّا وعلميًّا؛ مما سهل عليهم السيطرة على مقاليد البلاد سياسيًّا وأمنيًّا وثقافيًّا.
ساعد في ذلك المناخ الغريب الذي سيطر على أوساط الغالبية المسلمة؛ فقد زهد المسلمون في تلقي العلوم المدنية ونظم الإدارة ومبادئ العلم والتكنولوجيا، وكان هذا بمنزلة رد فعل على ما فعله الإنجليز بشريعتهم، فرفضوا العلم (الإنجليزي) والتكنولوجيا (الإنجليزية) ونظم الإدارة (الإنجليزية) في جملة ما رفضوه من التشبه بهم في الملبس والمأكل والسلوك، ولعل هذا الحدث يفسر الخلفية التاريخية لتكوين جماعة (بوكو حرام) ومعناها بالعربية: رفض الحياة على النظم الغربية.
سيطرت الأقلية النصرانية، تساعدها الأقلية الوثنية، وغذت القوى الغربية هذا الاتجاه بكل قوتها ونفوذها، ونشطت المنظمات التنصيرية في أرجاء البلاد، وكان المخطط له أن تصبح نيجيريا بالكامل دولة نصرانية بحلول عام 2000م.
فلما لم يتحقق شيء من هذا؛ فلم تتنصَّر نيجيريا عام 2000م، ونجح الكثير من ولايات الشمال النيجيري في تطبيق الشريعة الإسلامية -مستفيدة من الحكم الفيدرالي في البلاد- وسعت ولايات نيجيرية أخرى في تطبيقها، بدأت الأقلية النصرانية الحاكمة المسيطرة سياسيًّا وأمنيًّا في افتعال وإثارة الفتن لتدبير المذابح للمسلمين.
فالقضية إذن ليست قضية فتنة طائفية ولا نزاعًا على ملكية قطعة أرض زراعية -كما ادعى البعض، وكما روجت بعض المواقع الإلكترونية والصحف- لكنها حرب إبادة جماعية منظمة مخطَّط لها منذ عقود؛ بسبب عودة الغالبية النيجيرية المسلمة إلى شريعتهم.
الذين يدَّعون أنها حرب طائفية بين مسلمين ونصارى، ما رأيهم فيما حدث من مذابح جماعية ضد المسلمين من قبل الوثنيين والنصارى المتطرفين عام 1990م وعام 1994م وعام 1995م في (تفاوبليو) و(كافنشان) وفي (تينجو وادوجو)؟!
وما رأيهم في مذبحة (كادونا) عام 2000م بمشاركة عناصر من قوات الجيش النيجيري، والتي قتل فيها آلاف المسلمين، وفرَّ الآلاف منهم إلى مدن مجاورة، وأحرقت ممتلكات الأغنياء من المسلمين؟!
وفي مايو 2004م وقعت مذبحة أخرى قامت بها ميليشيا نصرانية مسلحة ضد مسلمين عزل في قرية (بلوشندام) بوسط نيجيريا راح ضحيتها سبعون مسلمًا.
وفي (بلوا) وقعت مذابح واعتداءات امتدت لأشهر متواصلة، راح ضحيتها أكثر من ستمائة مسلم.
وفي مدينة (جوس) بوسط نيجيريا مذابح مروعة يتعرض لها المسلمون الذين يشكلون أغلبية على يد عصابات نصرانية مسلحة.
وفي يوليو 2009م مذابح وتمثيل بالجثث وإلقاء لها في الآبار، وتعليق جماجم القتلى وعظامهم على مداخل قرية (كوروكراما).
وفي يناير 2010م أذاعت (هيومان رايتس ووتش) هذا البيان: "هاجم مسلحون قرية (كوروكراما) النيجيرية وأكثر سكانها من المسلمين، وبعد أن حاصروا القرية بدءوا بملاحقة وقتل السكان المسلمين الذين التجأ بعضهم إلى المنازل وإلى مسجد القرية، لكن المسلحين طاردوهم وقتلوا الكثيرين، حتى إنهم أحرقوا البعض أحياء". وقال شهود عيان: "الأطفال كانوا يجرون والرجال يحاولون حماية النساء، والذين فروا إلى الأدغال قتلوا، والبعض أحرقوا في المساجد، والبعض ذهبوا إلى البيوت وأحرقوا هناك"!!
حقوق الإنسان الإفريقي
ماذا لو كان هؤلاء العزل المقتولون بدم بارد أمام نظر العالم ينتمون إلى إحدى البلاد الأوربية؟!
ماذا سيكون رد فعل الغربيين إذا حدث ما حدث مع غربيين، أيًّا كانت ديانتهم وعقيدتهم وأفكارهم ومطالبهم؟!
أظن أنهم لو كانوا مجموعة من (الشواذ) وخرجوا يطالبون بحقوقهم، لتجاوبت معهم وتعاطفت مع قضيتهم منظمات حقوق الإنسان في الغرب والشرق والشمال والجنوب، ولقامت الدنيا من أجل نصرتهم ولم تقعد!!
أما فيما يتعلق بمن يطالبون "بتطبيق الشريعة الإسلامية" فذبحهم "شأن داخلي"، و"لا يجوز التدخل في سياسات الدول الداخلية"! و"هذا نزاع متوازن بين فريقين، وتدخُّلنا قد يرجِّح كفة الصراع لمصلحة جهة دون الأخرى"... إلى آخر تلك الأسطوانة المكررة.
لا تسأل عن الضمير الغربي
لا نتوقع جديدًا في هذا الاتجاه قبل أن نبذل نحن الجهد المطلوب منا إعلاميًّا لإجلاء الحقائق، وتصحيح الصورة المشوهة للمسلمين في الضمير الغربي بفعل الآلة الإعلامية الصهيونية.
فلا تسأل: أين الضمير الغربي؟ فقد اختفى هذا الضمير في ظروف غامضة، ومن يجده يدله على بلاد المسلمين، حيث تُرتكب بحقهم المذابح والانتهاكات، ولا أحد يتحرك، ولا أحد يعترض ويبدي اهتمامه وتجاوبه.
أين لويس مورينو أوكامبو.. مدعي عام محكمة الجنايات الدولية؟!
أين الرجل الذي يلاحق العسكريين المتهمين بجرائم قتل وإبادة ضد الإنسانية؟!
ألم ير كيف تدخَّل العسكريون في نيجيريا (الجيش والشرطة) لصالح فريق بعينه، ولا يزالون إلى اليوم يتبعون نفس الأسلوب، وبدلاً من أن يوقفوا المذابح المرتكبة ضد (مسلمي نيجيريا) الذين هم في المقام الأول نيجيريون، وبدلاً من أن يقفوا موقف المحايد النزيه، رأيناهم ورآهم العالم بأسره يشتركون في المذابح الجماعية والقتل الجماعي؟!!
ألم يرهم الحقوقي الشهير والقاضي الكبير أوكامبو؟ أم أنه مشغول فقط بمذكرة توقيف الرئيس السوداني عمر البشير.. لحسابات غربية؟ ومشغول بملاحقة سيف الإسلام القذافي لحسابات غربية أيضًا؟
بوكو حرام .. أين الخلل؟
الأمة المريضة الضعيفة لا يعبأ بها أحد، وقد تجلى هذا واضحًا في مشهد قتل المدنيين المسلمين في نيجيريا على يد قوات الجيش والشرطة النيجيرية، وملموسًا في واقع الصراع الذي تضطهد فيه الأغلبية المسلمة على يد أقلية نصرانية تُوصف بالتطرف الشديد.
لو أن هؤلاء وغيرهم وجدوا أن الأمة الإسلامية -على الصعيد السياسي والدولي- تستحق أن تُهاب وتحترم، ما أقدموا على ما فعلوه ويفعلونه.
وهذا الضعف لا بد له من أسباب كامنة في الصف المسلم، ولا بد له من جذور في الواقع الإسلامي، لا محالة.
وقد سألتُ بعض الشباب عما يحدث في نيجيريا، فوجدتهم لا يعرفون شيئًا عن نيجيريا سوى كرة القدم النيجيرية ونجومها القدامى والمحدثين، ولا يعلمون شيئًا البتة عن تاريخ ذلك البلد الإفريقي الكبير، ولا عن تاريخ الإسلام فيه، ولا يعرف الواحد منهم اسم عالم من علمائه أو مجاهد من مجاهديه، ولا فكرة لديهم عما يتعرض له الإسلام والمسلمون في نيجيريا وغيرها من بلاد إفريقيا من انتهاكات ومذابح واضطهاد وتنصير.
الواقع النيجيري الإسلامي
أما عن الواقع النيجيري الإسلامي فهناك كثير من القضايا التي لابد من مدارستها ومراجعتها، وأوَّلها قضية الوحدة؛ فعلى حساب الفرقة بين المسلمين هناك سيطرت أقلية نصرانية متطرفة، وأحكمت قبضتها على مقاليد البلاد، سياسيًّا وأمنيًّا وإعلاميًّا.
القضية الأخرى المهمة هي قصور الفهم وعدم الوعي بمدلول الشريعة لدى النيجيريين بصفة عامة، وهذا يتطلب جهد أكبر من الإسلاميين للوصول إلى الناس وتصحيح مفاهيمهم وتوعيتهم بأن الشريعة ليست محصورة في دائرة تطبيق الحدود فحسب، وقد حدثت بالفعل أخطاء منهجية في بعض الولايات ووجدت فيها أجهزة الإعلام النيجيرية صيدًا ثمينًا، فروجت لها بطريقة ساخرة، أساءت لسمعة الشريعة الإسلامية، وأظهرتها للناس بصورة تنفر منها، بل ومن الإسلام بصفة عامة.
القضية الأخيرة والخطيرة هي أهمية الأخذ بأسباب التمكين، وهو ما زهدته (بوكو حرام) وما سبقها، في إطار السعي لتحكيم الشرع على الغالبية المسلمة.
لقد تعامل المسلمون في نيجيريا بسذاجة شديدة فيما يخص مسألة التعامل مع الغرب؛ فليس معنى أن الإنجليز هزمونا ونحَّوْا شريعتنا عن الحكم أن نعتزلهم ولا نتحاور معهم، ولا نستفيد من علومهم ولا نستثمر تفوقهم التقني والتجريبي لصالحنا.
لقد أهمل المسلمون هناك علوم الدنيا وفنونها -ظنًّا منهم أن ذلك من الإسلام ويخدم قضيتهم- فاستأثر بها غيرهم، وأصبحت حكرًا عليهم، فسيطروا على المراكز الحساسة في الدولة، ومنهم رجال الأعمال الكبار والمستثمرون والإعلاميون وأصحاب الرأي والفكر، وهم المسيطرون على الأعمال التجارية المهمة، وهم أصحاب المهارات العلمية الفائقة في كافة المجالات، فضلاً عن سيطرتهم السياسية والأمنية.
هذا الوضع أفرز ذلك الواقع الشاذ الغريب، وهو أن نسبة لا تتجاوز الـ20% من النصارى المتعصبين والوثنيين متسلطون على ما يزيد على 80% من المسلمين، يضطهدونهم ويذبحونهم ويهضمون حقوقهم، ويمارسون ضدهم أبشع الانتهاكات على مرأى ومسمع من العالم كله.
هنا لا نملك إلا استدعاء دعاء الفاروق عمر رضي الله عنه: "اللهم أني أشكو إليك جلَد الفاجر وعجز المؤمن".
المصدر: موقع الإسلام اليوم.
روابط ذات صلة:
- في نيجيريا .. القتل بدم بارد !
- مجزرة جوس .. حقائق تجاهلها الغرب
- لكيلا نبكي نيجيريا .. بعد فوات الأوان !!
- انتخابات نيجيريا .. وتكريس الفرز الطائفي
- نيجيريا أكبر دولة إسلامية مستهدفة في إفريقيا
التعليقات
إرسال تعليقك