التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
ما أسباب صدام الدولة العثمانية مع الدولة الصفوية في موقعة تشالديران؟ وما نتائجه؟
الصدام مع الدولة الصفوية: (1514-1515م)
مع كراهيَّتي الشديدة لدمويَّة السلطان سليم الأول، ومع قناعتي الكاملة بعدم اهتمامه بالخلفيَّات الشرعيَّة لقراراته، إلا أنَّني أشهد أنَّه من القلائل الذي استوعبوا «مبكِّرًا» خطر الشيعة الصفويين على العالم الإسلامي، وكحقيقةٍ تاريخيَّةٍ نذكر أنَّه لولا الجهد الذي بذله هذا السلطان لحَوَّلت الدولة الصفوية شعوبَ العراق، والشام، والأناضول، وكذلك مصر، والحجاز، وشمال إفريقيا، إلى المذهب الشيعي؛ ذلك أن الشاه إسماعيل الصفوي، بتعصُّبه الشديد، ودمويَّته الجارفة، كان عازمًا على تحقيق ذلك بسرعة، ولم يكن ليقبل بتبعيَّة الشعوب له مع بقائها على مذهبها السُّنِّيِّ.
لا تَظهر أهمية السلطان سليم الأول فقط في إدراكه الخطر الشيعي، ولكن في سرعة هذا الإدراك؛ إذ إنَّه واجه الدولة الصفوية غير مرَّة وهو على إمارة طرابزون في حياة أبيه السلطان بايزيد الثاني، ثم قرَّر أن يتفرَّغ لها كليًّا بعد حسمه لمسألة إخوانه، ولهذا فقد عَقَد في عام 1513م عدَّة معاهدات هدنة مع البندقية، والمجر، وروسيا[1]، وبذلك أَمِنَ نسبيًّا الجانب الأوروبي، وفي الوقت نفسه سعى لعلاقات دبلوماسية جيِّدة مع دولة المماليك في مصر[2] في عامي 1513 و1514م، مع قناعاته بأنَّ الصدام معها سيكون قريبًا لتنافسهما على الحدود بين الأناضول والشام، ولإيواء المماليك لابن أخيه أحمد، ولأطماعه التوسُّعيَّة التي لم يُطْلِع عليها أحدًا، ولكن هذا ما كانت تتطلَّبه المرحلة! هكذا صار الطريق مفتوحًا إلى إيران، فكان الترتيب لحملة همايونية ضخمة لتحقيق نصرٍ حاسم.
جهَّز السلطان سليم جيشًا عملاقًا قوامه مائة وأربعين ألف مقاتل[3]، لكن الأهم من العدد هو التسليح؛ حيث كان هذا الجيش مُجَهَّزًا بالمدفعية المتحركة، وكان جنوده -وخاصَّةً الإنكشارية- مزوَّدين بالبنادق النارية، وهذه أسلحةٌ لم تكن متوفِّرةً لدى الشاه إسماعيل[4]، ممَّا مثَّل فارقًا مهمًّا لصالح الجيش العثماني.
تقدَّم السلطان سليم بجيشه شرقًا، حتى وصل إلى حدود الدولة العثمانية عند سيواس (خريطة رقم 23)، وهنا ترك أربعين ألفًا من جنوده لحماية الحدود، ثم توغَّل مقتحمًا الأراضي الصفوية[5].
سار السلطان سليم الأول بجيشه الكبير مسافةً طويلةً شرقًا دون أن يجد مقاومةً من الصفويين، وكان الشاه إسماعيل قد اختار ألا يواجه هذا الجيش العثماني المنظَّم، وفضَّل اتِّباع سياسة الأرض المحروقة[6]؛ حيث كان جيش الشاه يحرق المزروعات والمحاصيل في كامل المناطق التي يتوقَّع أن يسير فيها الجيش العثماني، فإذا علمنا أن شرق الأناضول صحراوي جبلي أدركنا أن الجيش العثماني سيُعاني في رحلته كثيرًا! كان الشاه يريد أن يحتمي في عاصمته تبريز ولا يُغامر بملاقاة جيش سليم، وأدرك السلطان العثماني المحنَّك هذه الغاية فأراد أن يستفزَّ الشاه ليُجبره على ملاقاته في حربٍ مفتوحةٍ خارج تبريز، وذلك لعلمه بحصانة المدينة.
أرسل السلطان سليم عدَّة رسائل للشاه يتَّهمه فيها بالجبن والهروب، واتَّهم كذلك رجاله بأنهم لا يقدرون على مواجهة رجال الدولة العثمانية[7]! اضطرَّ الشاه إسماعيل إلى انتظار الجيش العثماني، وكان هذا خطأً منه، ولكنَّه أخطأ بدرجةٍ أكبر عندما تقاعس عن مباغتته، ممَّا أعطى العثمانيين فرصة ترتيب قوَّاتهم بشكلٍ جيد[8].
وصل الجيش العثماني إلى صحراء تشالديران Chaldiran، وهي تقع في أقصى شمال غرب إيران الآن جنوب مدينة ماكو Maku الإيرانية، وهي تقع على بعد ستمائة كيلو متر من سيواس، مما يوضح مدى العمق الذي اقتحمه سليم الأول ليصل إلى هناك، كما يوضح مدى الإرهاق الذي كان عليه الجيش العثماني. كان الجيشان متكافئين من ناحية العدد؛ كلٌّ منهما يبلغ مائة ألفٍ تقريبًا، كما كانت القيادة في كليهما على أعلى مستوى؛ حيث كان كلُّ جيشٍ يضمُّ كبار رجال الدولة من وزراء وأمراء في كلِّ بلد، بل يضمُّ كذلك عددًا لا بأس به من قيادات البلاد التابعة لكلِّ دولة، بالإضافة إلى وجود قائدٍ داهيةٍ لكلِّ طرف؛ فالسلطان سليم، والشاه إسماعيل، كلاهما من عمالقة الفكر العسكري في هذه الحقبة! الذي كان يُمثِّل عاملًا فارقًا في المسألة كان مسألة التسليح.
كان الجيش العثماني جيشًا عصريًّا بمعنى الكلمة، بينما كان الجيش الإيراني جيشًا من جيوش العصور الوسطى؛ يعتمد على الخيول، والسيوف[9]، وشجاعة الرجال، ويبدو أن الشاه كان يُدرك هذه الفوارق، ولهذا لم يكن راغبًا في القتال المباشر، وكان رأيه حكيمًا في التزام سياسة الأرض المحروقة، وإرهاق العثمانيين بالتوغُّل في الأراضي الإيرانية دون فائدة[10]، لولا رعونة وتهوُّر بعض قادة جيشه الذين أنفوا من الفرار، ولم يكن عندهم ضابط يُفَرِّق بين التهوُّر والشجاعة، أو بين الجُبْنِ والحكمة.
أيًّا ما كان الأمر التقى الجيشان في تشالديران في 23 أغسطس من عام 1514م، وهو يومٌ تاريخيٌّ تغيَّرت فيه الجغرافيا السياسية للمنطقة! إن المعركة كانت صورةً طبق الأصل من معركة «أُطلق بلي» التي خاضها جدُّ السلطان سليم: السلطان محمد الفاتح، ضدَّ جدِّ الشاه إسماعيل: السلطان أوزون حسن، وذلك منذ إحدى وأربعين سنة؛ في عام 1473م! لقد حَصَدَت المدفعيةُ العثمانية الجيشَ الإيرانيَّ حصدًا! قُتِل الآلاف من الصفويين، خاصَّةً القزل باش[11]، وقُتِل كذلك معظم قادة الجيش الإيراني، والقادة الموالين له، وجُرِح الشاه، واضطر إلى الفرار تاركًا غنائم كثيرة، بل تاركًا زوجته التي أسرها الجيش العثماني[12]! كانت فضيحةً عسكريَّةً بمعنى الكلمة! لم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ، فقد شعر الشاه أن عاصمته تبريز لن تقوى على حمايته، فتركها وشعبها وكنوزها وانسحب بعيدًا إلى شرق إيران حفاظًا على حياته.
استغلَّ السلطان سليم الأول هذا الفرار المخزي فزحف صوب تبريز العاصمة، التي كانت على بعد مائتي كيلو متر جنوب شرق تشالديران. دخل السلطان المدينة العريقة دون مقاومةٍ في 5 سبتمبر 1514م بعد أن أعطى أهلها الأمان[13]. حُمِلَت خزينة الدولة -بما فيها مجوهرات الشاه- إلى إسطنبول[14]. مكث السلطان سليم في تبريز تسعة أيام[15]. كانت رغبة السلطان قوية في تتبُّع الشاه الفارِّ، بل وفي محاولة ضمِّ إيران بأكملها إلى الدولة العثمانية، لكنه وجد تذمُّرًا في الجيش، وخاصَّةً عند قادة الإنكشارية، وذلك لشدَّة إرهاقهم، وطول فترة غيابهم عن ديارهم، فتعامل مع الأمر بواقعيَّة، ووافق على العودة إلى دولته[16] مكتفيًا بما حقَّقه من نتائج كبيرة.
كان لموقعة تشالديران آثارٌ جمَّة؛ أخرجت هذه الموقعة الدولة الصفوية من معادلة موازين القوى ما يقرب من عشرين سنة، فلن تُفكِّر في حرب العثمانيين إلا في عام 1532م. انسحب الشاه إسماعيل الصفوي من الحياة السياسية بعد العار الذي أصابه! ترك إدارة دولته للوزراء، ولم يشترك في أيِّ لقاءاتٍ حكوميَّةٍ منذ هذه الكارثة. لازَم الشاه شرب الخمور[17] حتى مات وهو في السادسة والثلاثين فقط من عمره، وذلك في 23 مايو 1524[18].
أوقف هذا الانتصار كلَّ محاولات التشييع التي كان يقوم بها الشاه، وصار الصراع بعد ذلك سياسيًّا بحتًا، ولم تسعَ الدولة الصفوية بعد هذه الهزيمة إلى تهييج مشاعر المسلمين في الدولة العثمانية أو خارج حدودها، وإن كان القهر على التشيُّع ظلَّ ممارَسًا في داخل الدولة.
تمكَّن السلطان سليم الأول من ضمِّ شرق الأناضول إلى الدولة العثمانية بعد الموقعة مباشرة، ولم تظهر في المنطقة أيَّة اضطراباتٍ مع كونها كانت مواليةً للشاه، ويبدو أن رهبة الانتصار العثماني وَأَدَتْ أيَّ محاولةٍ للتمرُّد، ولمدَّة عقودٍ متتالية. لم يرجع السلطان سليم الأول إلى إسطنبول، التي ترك ابنه سليمان واليًا عليها في فترة غيابه؛ إنما عاد إلى أماسيا في وسط الأناضول ليقضي فيها الشتاء[19]، وقد آثر أن يبقى قريبًا من الأحداث تحسُّبًا لأيِّ ردِّ فعلٍ مفاجئ من الشاه.
ومع أن الصدام كان عثمانيًّا صفويًّا خالصًا حتى هذه اللحظة إلا أن السلطان سليم فتح جبهةً جديدةً فجأة، ودون داعٍ، كاشفًا عن نواياه ضدَّ المماليك! لقد دخلت جيوش الدولة العثمانية إمارة ذي القادر الموالية لدولة المماليك دون مبرِّرٍ منطقي، وضمَّت الإمارة بشكلٍ نهائيٍّ للدولة العثمانية[20]، وهذا ولَّد توترًا كبيرًا عند قنصوة الغوري سلطان المماليك في ذلك الوقت، ولكنه آثر التعامل الدبلوماسي، ولم يُصَعِّد الأمور إلى الحرب.
في ريبع 1516م تمكَّنت الجيوش العثمانية من ضمِّ بعض الولايات الجنوبية في الأناضول كديار بكر، وماردين، وحصن كيفا[21]، بل ووصلت إلى الموصل في شمال العراق[22]، وكان هذا هو أول دخولٍ للعرب في الدولة العثمانية منذ نشأتها.
هكذا سيطر السلطان سليم الأول على الموقف شرق الأناضول، وصارت جبهة الصفويين آمنة، ومِنْ ثَمَّ كان على السلطان أن يُفكِّر في الخطوة القادمة للدولة العثمانية، والواقع أن الخيارات أمامه كانت متعدِّدة، ومع ذلك أحسب أنه اختار أسوأها على الإطلاق وهوالصدام مع المماليك في مرج دابق والريدانية![23].
[1] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 188.
[2] زيدان، جُرجي: مصر العثمانية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م.صفحة 38.
[3] محمود، سيد محمد السيد: تاريخ الدولة العثمانية (النشأة - الازدهار) وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428هـ=2007م.صفحة 236.
[4] Floor, Willem: Safavid Government Institutions, Mazda Publishers, Costa Mesa, California, USA, 2001., p. 189.
[5] شيمشيرغيل، أحمد: سلسلة تاريخ بني عثمان، ترجمة: عبد القادر عبداللي، مهتاب محمد، ثقافة للنشر والتوزيع، أبو ظبي-بيروت، الطبعة الأولى، 1438هـ=2017م.صفحة 3/121.
[6] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 81.
[7] طقوش، 2013 صفحة 158.
[8] Farrokh, Kaveh: Iran at War: 1500-1988, Bloomsbury Publishing, 2011., pp. 23-24.
[9] جباره، تيسير: تاريخ الدولة العثمانية (1280-1924م)، عمادة البحث العلمي والدراسات العليا–جامعة القدس المفتوحة، رام الله–فلسطين، 1436هـ=2015م. صفحة 105.
[10] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م.صفحة 183.
[11] جرامون، ﭼان – لوي باكي: أوج الامبراطورية العثمانية: الأحداث (1512-1606)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م.صفحة 1/211.
[12] شيمشيرغيل، 2017 الصفحات 3/135، 136.
[13] Housley, Norman: The Later Crusades 1274-1580, Oxford University Press, New York, USA, 1992., p. 120.
[14] فريد، 1981 صفحة 190.
[15] شيمشيرغيل، 2017 صفحة 3/140.
[16] جرامون، 1993 صفحة 1/211.
[17] Savory, Roger. M.: Safavid Persia, In: Holt, P. M.; Lambton, Ann Katherine Swynford & Lewis, Bernard: The Cambridge History of Islam: The Central Islamic lands from Pre-Islamic Times to the First World War, Cambridge University Press, New York, USA, 1977, vol. 1, p. 401.
[18] Tucker, Spencer C. (Editor): Middle East Conflicts from Ancient Egypt to the 21st Century: An Encyclopedia and Document Collection, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2019, vol. 2, p. 618.
[19] فريد، 1981 صفحة 191.
[20] أمجن، فريدون: مولد الإمارة العثمانية ونموها، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م.صفحة 1/31.
[21] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول ، 1988 صفحة 1/220.
[22] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 191.
[23] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 383، 388.
التعليقات
إرسال تعليقك