التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُعتبر السلطان عبد الحميد الثاني من أشهر السلاطين العثمانيِّين بشكلٍ عام، وترجع شهرته لأمور كثيرة ميَّزت فترة حكمه الطويلة.
السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م)
يُعتبر السلطان عبد الحميد الثاني من أشهر السلاطين العثمانيِّين بشكلٍ عام، ولا ترجع شهرته إلى كثرة الإنجازات؛ بل لأمورٍ أخرى كثيرة ميَّزت فترة حكمه الطويلة، التي امتدَّت ثلاثًا وثلاثين سنةً كاملة؛ فقد كان السلطان عبد الحميد الثاني هو آخر الحكام الفعليِّين للدولة العثمانية، وفي عهده فقدت الدولة أراضي كثيرةً للغاية، كما شهدت صراعاتٍ داخليَّةً كبرى، وشهدت -أيضًا- نموًّا ملحوظًا للتيَّار القومي الذي أسَّس جمهوريَّة تركيا لاحقًا. شهدت فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني -أيضًا- مناداته وأنصاره بفكرة «الخلافة الإسلاميَّة»، والتي لم تكن مطروحةً بشكلٍ جدِّيٍّ في كلِّ تاريخ الدولة العثمانية قبل ذلك، و-أيضًا- شهدت صراعًا كبيرًا بين السلطان واليهود من أجل السيطرة على فلسطين، وبين السلطان والأرمن من أجل الحصول على استقلال دولتهم.
لا يتَّفق المؤرِّخون أبدًا على توصيف شخصيَّة السلطان عبد الحميد الثاني؛ فبعضهم يُدافع عنه بكلِّ سبيل، ويجعله من أعظم المصلحين، ويُطلق عليه «السلطان المظلوم»، وبعضهم يُهاجمه بكلِّ طاقته، ويجعله سببًا رئيسًا للخسائر الضخمة التي عانت منها الدولة في زمانه، ويُطلق عليه «السلطان الأحمر»، لاتهامه بالدمويَّة الشديدة، وقليلٌ من المؤرِّخين مَنْ يتوازن بين هذا وذاك[1]! إنها من أكبر الشخصيَّات الجدليَّة في تاريخ المسلمين، وعادةً عندما يوجد فريقان من المؤرِّخين متباعدان بهذه الصورة فإن الحقَّ على الأغلب يكون بينهما! لقد كان السلطان عبد الحميد الثاني رجلًا نزيهًا يريد الخير لدولته والمسلمين، ويعيش حياةً جادَّةً يصرف وقته فيها لصالح أمَّته، ولكنه كان في الوقت نفسه منفردًا في آرائه، لا يرى للشورى أهميَّة، ويحكم بطريقةٍ أوتوقراطيَّةٍ صِرْفة غير مناسبةٍ للعصر الذي يعيش فيه، كما أنه لم يكن سياسيًّا محترفًا، وكانت له أخطاءٌ جسيمة نتيجة قلَّة الخبرة، وعدم الأخذ بآراء الآخرين. في المجمل هو رجلٌ اجتهد -بطريقته- لإصلاح الدولة، ولكنَّه كان يحكم دولةً منهارةً لا سبيل البتَّة لإنقاذها، وكان عليه أن يُشْرِك العقلاء معه في إدارتها كي يخرج بأقلِّ الخسائر الممكنة، ولكنَّه لم يفعل، فحَمَلَ أمام التاريخ أوزار العقود والقرون الضعيفة التي سبقته!
يمكن تقسيم فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني إلى أربع مراحل كبرى، ويندرج في الواقع تحت كلِّ مرحلةٍ أحداثٌ كثيرة. المرحلة الأولى تمتدُّ عبر تسع سنوات، من 1876 إلى 1885م، وهي المرحلة التي شهدت ضغوطًا خارجيَّةً كارثيَّة، وذلك في شكل حروبٍ ضدَّ روسيا، وبريطانيا، وفرنسا، وفَقَدَت فيها الدولة من الأقطار ما لم تفقده في كلِّ تاريخها! المرحلة الثانية كانت تتميَّز بالهدوء النسبي، وهي تسع سنواتٍ أخرى، من 1885م إلى 1894م، وأبرز فيها السلطان اهتمامًا بالشأن الداخلي، كما شهدت هذه المرحلة تأسيس جماعة الاتحاد والترقي المشهورة. ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي ثلاث عشرة سنةً كاملة، من 1894 إلى 1907م، وفيها تعرَّضت الدولة لفتنٍ داخليَّةٍ كبيرة واضطرابات، ومحاولات انفصالٍ غير ناجحة، كما أنَّها شهدت نشاطًا سياسيًّا بارزًا ضدَّ السلطان، ثم تأتي المرحلة الرابعة والأخيرة، وهي سنتان فقط، ولكنَّهما عصيبتان، من 1907 إلى 1909م، وتفاقمت فيهما الاضطرابات، حتى انتهى الأمر بعزل السلطان من منصبه. وفي هذه المقال سوف نتحدث عن المرحلة الثانية:
المرحلة الثانية: الهدوء النسبي والإصلاحات (1885-1894م)
استقرَّ الوضع بدايةً من عام 1885م على ما هو عليه. هدأت الهجمة الأوروبِّيَّة، وانشغلت بريطانيا وفرنسا وبقيَّة الدول الأوروبية القويَّة كذلك، نسبيًّا بإفريقيا، في ظاهرةٍ عُرِفَت في التاريخ بظاهرة «التدافع على إفريقيا» Scramble for Africa؛ حيث قرَّر الأوروبِّيُّون تغيير منهجيَّتهم في التعامل مع ممالك إفريقيا، من السيطرة غير المباشرة عن طريق التجارة والسياسة «Informal imperialism»، إلى السيطرة الإمبراطوريَّة الإمبرياليَّة المباشرة عن طريق الاحتلال العسكري، وتكوين المستعمرات «Colonial imperialism»[2]. -أيضًا- كانت بريطانيا مشغولةً -بالإضافة إلى إفريقيا- بمستعمرتها الأهم في الهند؛ حيث انتبهت إلى التهميش المبالغ فيه الذي كان يُعاني منه الشعب الهندي، الذي أدَّى إلى ثورته الكبيرة في عام 1857م. كادت هذه الثورة أن تُهدِّد الوجود الإنجليزي في الهند الثريَّة، وبالتالي صَرَفَت بريطانيا كثيرًا من جهدها في أخريات القرن التاسع عشر في إصلاحاتٍ ضخمةٍ في الهند شملت المجالات الاقتصاديَّة، والتعليميَّة، والاجتماعيَّة، والدينيَّة، وغير ذلك من المجالات المدنيَّة[3]. استغلَّ السلطان عبد الحميد الثاني هذا الانشغال الأوروبي في هذه الحقبة في الاهتمام ببعض أمور دولته الداخليَّة. يمكن دراسة أحوال هذه المرحلة تحت العناوين التالية:
الإصلاحات الداخليَّة:
كانت حياة السلطان عبد الحميد الثاني حياةً جادَّة؛ حيث لم يُنفق وقتًا في اللهو أو الانشغال بشيءٍ عن إصلاح أحوال دولته، وكان هذا يشمل كلَّ فترة حكمه، ولكن كان الاهتمام بالإصلاحات يزيد في الأوقات التي تهدأ فيها المشكلات الخارجيَّة. عمل السلطان على النهوض بالزراعة، وتحديث الصناعة، وتنشيط التجارة، وإصلاح القضاء، وتحسين الخدمة الصحِّيَّة، كما اهتمَّ بالبرق، والبريد، وبعض مشاريع المياه[4][5]. اهتمَّ السلطان كذلك بالجيش؛ فاستقدم جنرالات ألمان لتدريبه، كما أرسل بعض البعثات العسكريَّة، واشترى بعض المعدَّات الحديثة[6].
من المجالات المهمَّة التي شهدت اهتمامًا من السلطان عبد الحميد الثاني مجال المواصلات، ووُصِلت إسطنبول بڤيينا عن طريق قطار الشرق السريع في عام 1888م[7]، ووصلت شبكة السكة الحديديَّة في عهده إلى 5800 كيلو متر، وكانت 1800 كيلو متر فقط في أوَّل عهده[8]، وأُنشئ الخط المهم بين إسطنبول والحجاز، فوصل إلى المدينة المنورة[9]، وكان المشروع يهدف إلى الوصول إلى مكة، ثم اليمن، لكن السلطان خُلِعَ قبل إتمامه، فتعطَّل المشروع[10].
أيضًا من أبرز المجالات التي اهتمَّ بها السلطان مجال التعليم؛ فقد أنشأ المدارس المتوسطة، والعليا، والمعاهد الفنِّيَّة[11]، وأنشأ مدرسة الشئون الماليَّة، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون الجميلة، ومدرسة التجارة، ومدرسة الهندسة المدنيَّة، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الشرطة، ومدرسة الجمارك، ومدرسة الطب، ومدرسة الزراعة، ومدرسة التجارة البحريَّة، ومدرسة اللغات، ومدرسة المعادن، ومدرسة المعوقين، ودار المعلمات، ومدرسة الفنون النسويَّة، وافتتح متحف الآثار القديمة، وكذلك المتحف العسكري، كما افتتح مكتبتي يلدز، وبايزيد[12][13].
على الرغم من وجود هذه المشروعات، فإنَّنا ينبغي أن نُشير إلى أن هذه في الواقع كانت مشروعاتٍ عاديَّة، وليست مبهرة؛ إنما هي من قبيل التسديد والمقاربة، وفعل ما يمكن فعله في ظلِّ الظروف الاقتصاديَّة، والعلميَّة، والسياسيَّة، التي تعيشها الدولة، وإنَّني أحزن عندما أجد بعض المتحمِّسين للسلطان أو للدولة العثمانية، يصفون هذه المشاريع «بغير المسبوقة» مثلًا، أو بأنها بلغت «الذروة» في مجالات الإصلاح! وهذا في الواقع تدليس؛ لأنَّ أضعاف هذه المشاريع يُنْشَأ مثله في أصغر مدينةٍ أوروبِّيَّة، كما أن المشاريع كلَّها استهلاكيَّة وليست إنتاجيَّة، وكثيرٌ منها يُنْشَأ عن طريق الاستدانة، كما أن معظمها كان يتمُّ في إسطنبول فقط، وأحيانًا قليلة في بعض المدن الكبرى، أمَّا عموم الدولة فكان يُعاني من التخلُّف الحقيقي. إنه ينبغي لنا ذكر الحقيقة مجرَّدةً حتى نفهم لماذا انهارت الدولة، ولماذا تسلَّطت عليها بريطانيا وغيرها من القوى، ولماذا هُزِمَت، واستدانت، واستجدت المعونة من أعدائها!
أخيرًا نلفت النظر إلى أنه على الرغم من أن الدولة استمرَّت في سياسة الاقتراض من الغرب فإن السلطان حرص على ضغط نفقات الدولة، ووجَّه قسمًا كبيرًا من دخل الدولة لسداد الديون الخارجيَّة. في عام 1881م، بعد ثلاث سنواتٍ من تولِّي عبد الحميد الثاني لقيادة الدولة، كانت الديون العثمانيَّة قد تجاوزت مائتين وخمسين مليون ليرة عثمانيَّة، فاستطاع تخفيضها في آخر عهده إلى حوالي مائة مليون ليرة عثمانيَّة[14]، وهذا يُحْسَب له بلا جدال.
التعاون مع الألمان:
في ظلِّ الهيمنة البريطانيَّة على السياسة العالميَّة حرص السلطان عبد الحميد الثاني على اختيار صديقٍ أوروبي يمكن أن يحفظ شيئًا من التوازن للدولة. كانت أفضل الدول المرشَّحة لهذا الدور هي ألمانيا[15]؛ فلها تاريخٌ من التعاون مع الدولة العثمانية، وليس بينها وبين العثمانيِّين حروبٌ سابقة، فالعلاقة بينهما جيِّدة، ولذلك استغلَّ السلطان عبد الحميد الثاني صعود القيصر الألماني ولهلم الثاني Kaiser Wilhelm II إلى العرش في 1888م[16]، وتواصل معه لدعم العلاقات العسكريَّة، والتجاريَّة، والعلميَّة، بين البلدين. سُرَّ القيصر الألماني من هذا التواصل، ووجد في التعاون مع الدولة العثمانيَّة فرصةً لتحقيق شيءٍ من التوازن ضدَّ بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والنمسا[17]، وقد بلغ من حماسته للتعاون أن زار إسطنبول بعد عامٍ واحدٍ من ولايته، في نوفمبر 1889م، ثم كرّر الزيارة في أكتوبر 1898م[18].
كانت الدولة العثمانية تستفيد من الألمان في أوجهٍ علميَّةٍ كثيرة؛ حيث قاموا بتدريب ضباط الجيش[19]، والمهنيِّين، والعمال، على كثيرٍ من التقنيات، كما استثمر الاقتصاديُّون الألمان في مشاريع كثيرة بالدولة العثمانية، وأنشأوا خطَّ سكة حديد مهمًّا عُرِفَ بخطِّ (BBB) Berlin Byzantium Baghdad[20]، واستورد العثمانيون كذلك الأسلحة والتقنيات العلميَّة من ألمانيا[21].
لم تكن ألمانيا مخلصةً تمامًا للدولة العثمانية؛ فقد كانت تبحث أحيانًا عن مصالحها عن طريق خداع العثمانيِّين! ومن ذلك ما فعلوه حين أرسلوا بعثةً للبحث عن الآثار في العراق، ثم تبيَّن للدولة العثمانية أنهم جاءوا للتنقيب عن البترول لا الآثار، وذلك دون أن يُخبروا الحكومة! يقول السلطان عبد الحميد الثاني تعليقًا على هذا الموقف: «أعترف بأنَّني ابتأست لهذا الخداع؛ إذ لو كان الإمبراطور الألماني قد جاء لاقتراح البحث عن البترول؛ لأعطيته الموافقة على أساس وجود بعض الشروط؛ إذ إن هذا يهمُّ بلادي أيضًا، أمَّا أن يكون الأمر إرسال جواسيس يبحثون عن البترول بحجَّة البحث عن الآثار القديمة، فإنه يُفْصِح بوضوح عن نظرة الألمان إلى العثمانيِّين»[22]!
عمومًا، على الرغم من الموقف السابق، كانت ألمانيا هي الصديق الذي دامت صداقته إلى آخر أيَّام الدولة!
تأسيس جمعيَّة الاتحاد والترقي (1889م):
ذكرنا قبل ذلك أن أفكار جمعيَّة تركيا الفتاة انتشرت في قطاعاتٍ كبيرةٍ من المثقفين في الدولة العثمانية، وكانت تتلخص في الرغبة في إقرار دستورٍ للدولة مع تأسيس برلمان. في 21 مايو عام 1889م شكَّل مجموعةٌ من طلاب المدرسة الطبِّيَّة العسكريَّة في إسطنبول منظَّمةً سرِّيَّةً باسم «جمعيَّة الاتحاد العثماني» Committee of the Ottoman Union، التي تحوَّل اسمها لاحقًا إلى «جمعية الاتحاد والترقي» (Committee of Union and Progress (CUP، وكانت تهدف إلى إعادة الحياة الدستوريَّة التي عطَّلها السلطان عبد الحميد الثاني عام 1878م[23][24] -أي منذ أحد عشر عامًا- وحيث إنه مرَّ هذا الوقت الطويل دون أيِّ تفكيرٍ من السلطان في إعادة البرلمان بأيِّ صورةٍ -ولو جزئيَّة- أدرك المؤسِّسون لهذه الجماعة أن العقبة الرئيسة في سبيل ما يريدون تحقيقه هو السلطان عبد الحميد الثاني نفسه، ومِنْ ثَمَّ علموا أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ما يهدفون إليه هو «إجبار» السلطان على تنفيذ ما يريدون بالقوَّة، ولو وصل الأمر إلى خلعه[25]! هذه كانت فلسفة هذه الجماعة من أوَّل أيَّام تأسيسها. اشترك عددٌ صغيرٌ من الطلبة في تأسيس هذه الجمعيَّة؛ منهم إبراهيم تيمو، وعبد الله جودت، ومحمد رشيد، وإسحاق سوكوتي[26]، وغيرهم، ثم ما لبث أن زاد العدد، ولم يعد محدودًا بمدرسة الطب[27]. يُذْكَر أن المجموعة الأولى من المؤسِّسين لم تكن تهتمُّ بمسألة العرقيَّة التركيَّة، بل كان بعضهم غير تركي الأصل، فإبراهيم تيمو ألباني[28]، وعبد الله جودت، وإسحاق سوكوتي من الأكراد[29].
الجامعة الإسلامية، والحديث عن الخلافة الإسلامية:
سيطر الاستعمار الغربي على كثيرٍ من الأقطار المسلمة، وتفككت الدولة العثمانية بالصورة التي رأيناها، وقبلها حدث هذا التفكك في الهند المسلمة، وكذلك في شرق آسيا؛ في إندونيسيا، وماليزيا، أمَّا إفريقيا المسلمة فكانت أشدَّ معاناة! هذا الوضع دفع الغيورين على البلاد المسلمة إلى سلوك أحد طريقين كبيرين في ذلك الوقت؛ طريق القوميَّة، أو طريق الإسلاميَّة. أمَّا الطريق الأوَّل فهو الطريق الذي سارت فيه معظم أقطار العالم بعد الثورة الفرنسية، وعلى أساسه قُسِّمَت دول العالم في زماننا المعاصر، وبه تفككت الدولة العثمانية، وخاصَّةً في البلقان، ويعتمد على عِرْقِ الآباء والأجداد، أو على اللغة، أو على الانتماء الجغرافي. أمَّا الطريق الإسلامي فهو التجمُّع على أساس الدين، دون النظر إلى الأصول، أو البلاد، أو اللغات، أو الأوضاع الاجتماعيَّة، وهذا هو الطريق الذي أراد لنا الله أن نتجمَّع حوله، وهو النصيحة النبويَّة الخالصة. قال رسول الله ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ»، قَالَ اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13][30].
كان السلطان عبد الحميد الثاني من هذا الفريق الإسلامي، وكان يؤمن أنه لو كانت هناك فرصةٌ للخروج من الأزمة فستكون في تجمُّع المسلمين من كلِّ العالم، ونصرة بعضهم بعضًا، كما أن النجاة ستكون في التزام المسلمين بالشريعة، وعودتهم إلى القرآن والسنة. كانت هذه رؤيةً صائبة، غير أنها كانت متأخِّرة، وجاءت بعد نسيانٍ كبيرٍ لها على مدار السنين، كما أنها كانت قاصرة؛ حيث كان أصحابها يُنادون بها مع علمهم أنهم مخالفون لها في جانبٍ كبيرٍ من حياتهم، فالإسلام يأمرهم بإعداد القوَّة، ويأمرهم بالعلم وأسبابه، وبالشورى، وبالتفاني في العمل، والبعد عن الفساد، وتجنُّب الرِّشوة، وهم في الواقع بعيدون عن هذه الصورة كلَّ البعد، فصار الكلام نظريًّا غير مقنع، ورأى فريق القوميِّين أنه من الأولى أن «نتجمَّع» على القوميَّة خيرٌ من «التفرُّق» على الإسلام. إن بُعْد الإسلاميِّين عن المعاني الحقيقيَّة للإسلام كان فتنةً للناس.
عمومًا كثر الحديث في هذه الفترة عن «الخلافة الإسلامية»، وصار السلطان، وكذلك المتحمِّسون لإسلاميَّة الفكرة، يُكثرون من إطلاق لقب «الخليفة» على السلطان، مع أن هذا اللقب لم يكن مستعملًا قط في المعاملات العثمانيَّة في معظم تاريخهم، بل كانوا يكتفون بلقب «السلطان» أو «البادشاه». وسيكثر الحديث بصورةٍ أكبر عن مسألة الخلافة هذه بعد سقوط الدولة العثمانية، وأرى أنها كانت مسألةً عاطفيَّةً يحاول بها الإسلاميُّون استثارة حميَّة المسلمين للتجمُّع من جديد، والتحرُّر من الاستعمار الأجنبي، ولم تكن الدولة العثمانية «خلافةً» بالمعنى الذي عرفناه في زمن الخلفاء الراشدين من تجميع «كلِّ» المسلمين، وتطبيق الشريعة الإسلاميَّة، والتجمُّع على أساس الدين، وعدم توارث الحكم بل تسليمه للأصلح. كانت الدولة العثمانية في زمان قوَّتها دولةً قويَّةً تضمُّ كثيرًا من المسلمين، ولكن كانت توجد إلى جوارها -أيضًا- دولٌ أخرى قويَّة ومحترمة في العالم، وغير مندرجةٍ تحت لوائها، ولا يعتبرها العلماء «خارجةً» عن الخلافة، مثل المغرب العربي، ومثل الدول الإسلاميَّة العظيمة في الهند، ومثل دول الأفغان، ومثل ممالك إندونيسيا، ومثل الممالك الإفريقيَّة. ليس بالضرورة أن تكون الدولة العثمانية خلافةً حتى نحزن على سقوطها، بل نحزن على ذلك لأنَّها مسلمة، وكنا نتمنَّى لها البقاء، لكن سُنَّة الحياة أن تشيخ الأمم ثم تموت، وكما يحدث الموت يحدث الميلاد. قال تعالى: ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [غافر: 67].
مع كلِّ ما سبق فإننا نُثني على جهد السلطان عبد الحميد الثاني في هذا المجال، ونحمد له حميَّته الدينيَّة، وحرصه على عودة الأمَّة إلى الإسلام، حتى لو لم تؤتِ كلماته ثمارها فيمكن أن نقول يكفيه أنه حاول، والمحاولة شرفٌ في كلِّ الأحوال! ومع ذلك فإنه ينبغي لفت النظر إلى قصور مفهوم الخلافة عند السلطان عبد الحميد الثاني؛ حيث كان -كبقيَّة السلاطين العثمانيِّين- يشعر بفوقيَّةٍ تركيَّة، وهذه الفوقيَّة تمنع حدوث الأخوَّة الإسلاميَّة بالشكل السليم شرعًا؛ حيث لا يقبل السلطان «التركي» بإشراك العناصر العرقيَّة الأخرى من المسلمين في الحكم ولا في الرأي معه، فصارت «الخلافة» في مفهومه قريبةً من مفهوم الاحتلال عند الغربيِّين. يظهر لنا هذا الفكر بوضوح في كلماتٍ قالها السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته تعليقًا على رغبة رجال تركيا الفتاة في إقامة برلمانٍ يضمُّ ممثِّلين عن الدولة العثمانية من كافَّة الأعراق.
قال السلطان عبد الحميد: «قلتُ، وسأقول: شرحتُ وسأشرح مسألةً مهمَّةً وهي: ألم يكونوا يفكِّرون أنَّ الدولة العثمانية دولةٌ تجمع أممًا شتَّى، والمشروطيَّة (الدستور والبرلمان) في دولةٍ كهذه موتٌ للعنصر الأصلي (يعني التركي) في البلاد. هل في البرلمان الإنجليزي نائب هندي واحد، أو إفريقي، أو مصري؟ وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري واحد؟ وهم يُطالبون بوجود نوَّابٍ من الروم، والأرمن، والبلغار، والصرب، والعرب، في البرلمان العثماني. لا، لا أستطيع أن أقضي على ابن الوطن (التركي) الذي تعلَّم وفكَّر ووهب نفسه لقضيَّته. أقول: إن شباب تركيا الفتاة وببساطة قد خُدِعوا»[31]! إنه في هذه الكلمات ينظر إلى العرقيَّات الأخرى في الدولة العثمانية -بما فيها العرب- كما ينظر الفرنسيون إلى الجزائريين، أو كما ينظر الإنجليز إلى الهنود، وهذه نظرة هيمنةٍ واحتلال غير متوافقةٍ أبدًا مع فكرة الخلافة الإسلاميَّة الحقيقيَّة، ولعلَّ هذا القصور هو ما جعل الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة تتردَّد في قبول فكرة الخلافة التي يُنادي بها المتحمِّسون للسلطان عبد الحميد الثاني؛ فالكلام المذكور يُخالف الواقع المشاهَد، وهذا ما يُسَبِّب الاضطراب والخلط[32].
[1] العزاوي، قيس جواد: التباسات الكتابات العربية عن التاريخ العثماني: المستور في «محافظة» عبد الحميد الثاني و«حداثة» مدحت باشا، دار بدائل للطبع والنشر والتوزيع، الجيزة-مصر، الطبعة الأولى، 2018م.صفحة 43.
[2] Shillington, Kevin: History of Africa, St. Martin's Press, New York, USA, 1995., p. 301.
[3] Spear, Percival: A History of India, Volume II (From the sixteenth century to the twentieth century), Penguin Books, New Delhi, India, 1990., vol. 2, p. 147.
[4] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م. الصفحات 520-525.
[5] باتريك، ماري ملز: سلاطين بني عثمان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ=1986م. صفحة 125.
[6] طوران، مصطفى: أسرار الانقلاب العثماني، ترجمة: كمال خوجة، دار السلام، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1405هـ=1985م. صفحة 38.
[7] باتريك، ماري ملز: سلاطين بني عثمان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ=1986م. صفحة 129.
[8] ﭼورﭼو، فرانسوا: النزاع الأخير (1878 - 1908)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م. صفحة 2/184.
[9] باتريك، 1986 صفحة 141.
[10] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 2/157.
[11] Shaw, Stanford Jay & Shaw, Ezel Kural: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Reform, Revolution and Republic: The Rise of Modern Turkey, 1808-1975, Volume II, Cambridge University Press, New York, USA, 1977., vol. 2, p. 249.
[12] طوران، 1985 الصفحات 37، 38.
[13] Shaw & Shaw, 1977, vol. 2, p. 248.
[14] أوزتونا، 1990 صفحة 2/127.
[15] بكديللي، كمال: الدولة العثمانية من معاهدة قينارجه الصغرى حتى الانهيار، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/115.
[16] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 627.
[17] الشناوي، عبد العزيز محمد: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1983م. صفحة 3/1346.
[18] Landau, Jacob M.: Pan-Islam: History and Politics, Routledge, New York, USA, 2016., p. 46.
[19] لوتسكي، 1985 صفحة 386.
[20] رافق، 1974 صفحة 428.
[21] الشناوي، 1983 صفحة 3/1347.
[22]عبد الحميد الثاني: مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، دار القلم، دمشق، 1412هـ=1991م. صفحة 157.
[23] آصاف، عزتلو يوسف: تاريخ سلاطين بني عثمان من أول نشأتهم حتى الآن، تقديم: محمد زينهم محمد عزب، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415هـ=1995م. صفحة 134.
[24] رامزور، ارنست أ .: تركية الفتاة وثورة 1908، قدم له وراجعه: نقولا زياده، ترجمة: صالح أحمد العلي، مؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر، بيروت–نيويورك، 1960م. صفحة 49.
[25] Altunışık, Meliha Benli & Tür, Özlem: Turkey: Challenges of Continuity and Change, RoutledgeCurzon, New York, USA, 2005, p. 7.
[26] رامزور، 1960 الصفحات 49، 50.
[27] آصاف، 1995 صفحة 134.
[28] رامزور، 1960 صفحة 49.
[29] Bajalan, Djene Rhys: Origins and History, In: Maisel, Sebastian: The Kurds: An Encyclopedia of Life, Culture, and Society, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2018., p. 12.
[30] أبو داود: كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب (5116)، والترمذي (3270)، عن أبي هريرة t واللفظ له، وأحمد (8721)، وقال الألباني: حديث حسن. انظر: صحيح الجامع (1787).
[31] عبد الحميد الثاني، 1991 صفحة 131.
[32] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 1149- 1157.
التعليقات
إرسال تعليقك