التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في سنة 1922م اجتمع مجلس النوَّاب، وصَوَّت بالأغلبيَّة على إلغاء السلطنة، تمهيدًا للإعلان الجمهوري في وقتٍ لاحق.
إلغاء السلطنة وترحيل السلطان محمد السادس:
لعلَّ القارئ لهذه الصفحات الأخيرة من تاريخ الدولة العثمانية قد «نسي» أن الحاكم «الشكلي» للدولة العثمانية، أو «الأناضول، وإسطنبول، وتراقيا الشرقية»، هو السلطان محمد السادس! لقد حدثت أمورٌ جسامٌ في هذه الحقبة التاريخيَّة لم يكن للسلطان أيُّ دورٍ فيها، بل لعله لا يعلم عنها شيئًا. شمل ذلك حروبًا مع أرمينيا، وفرنسا، واليونان، وشمل معاهداتٍ عالميَّة مثل معاهدات موسكو، وقارص، وأنقرة، ومودانيا، وشَمِل تكوين مجلس شعبٍ جديد، وحكومةٍ تنفيذيَّةٍ بها عدَّة وزارات. كان هذا الوضع هو تراكمات العقود الماضية التي اختفى فيها دور السلطان تدريجيًّا، حتى وصل إلى هذا الوضع الشكلي.
اجتمع مجلس النوَّاب في الأول من نوفمبر 1922م، بعد ثلاثة أسابيع من التحرير الكامل -باستثناء إسطنبول- للدولة التي حدَّدها الميثاق الوطني، ورأى أن وجود «السلطنة العثمانية» هو أمرٌ مثيرٌ للاضطراب في الداخل والخارج على حد سواء، وأن المستقبل لهذه البلاد هو الحكم الجمهوري القائم على الانتخاب من الشعب دون التقيُّد بعائلةٍ معيَّنة، خاصَّةً أن العائلة العثمانية صارت ضعيفةً للغاية، ولا وجود لأثرها على الشعب. صَوَّت مجلس النوَّاب بالأغلبيَّة على إلغاء السلطنة، تمهيدًا للإعلان الجمهوري في وقتٍ لاحق[1].
مع أن هذا القرار كان مُغَيِّرًا لوضعٍ عاشته البلاد أكثر من ستَّة قرون، وهو وضع توارث الحكم بين أبناء عثمان، إلا أنه لم يكن صعبًا على مجلس النوَّاب؛ لأن المجلس يُدير البلاد فعلًا منذ تأسيسه دون رجوعٍ للسلطان، بل كان السلطان مكبِّلًا لخطواته؛ إذ كان بقراراته الداعمة للإنجليز معينًا للاحتلال على الشعب التركي، وكان أقرب ما يكون للخديوي توفيق في عونه للإنجليز ضدَّ الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي والشعب في مصر، وهذا الذي دعا مصطفى كمال من قبل إلى قول إنه لا يريد للشعب التركي أن يلقى مصير الشعب المصري أو الهندي؛ أي مصير الاحتلال الإنجليزي المدعوم بقيادة محلِّيَّة موالية. أضف إلى هذا أن العالم أجمع صار يتَّجه للحكم عن طريق الانتخاب لا التوريث، ممَّا جعل قرار مجلس النوَّاب التركي متمشِّيًّا مع حركة الشعوب العالميَّة آنذاك.
صوَّت مجلس النواب كذلك على مسألة بقاء منصب الخلافة في العائلة العثمانية، فكانت الأغلبيَّة في هذه المرحلة تُؤيِّد بقائه وأوصت بوجوب تميُّز صاحبه بالناحيتين العلميَّة والأخلاقيَّة[2]. هذا يعني قبول مجلس النوَّاب لبقاء الخلافة منصبًا شكليًّا أقرب إلى الوظيفة الدينيَّة منها إلى السياسيَّة، وهو الوضع الذي عاشته الأمَّة قديمًا أيَّام المماليك، عندما كان الحكم بيد المماليك في ظلِّ وجود خليفة عباسي يعيش في القاهرة «كصورةٍ» للخلافة. أعتقد أن قرار مجلس النوَّاب آنذاك ببقاء مركز الخلافة كان مجرد «تَدَرُّج» سياسي في إقصاء العائلة العثمانيَّة عن الحكم؛ لأن التمسُّك بالخلافة صار لا معنى له عند الوطنيِّين في تركيا؛ إذ إنهم في الميثاق الوطني أعلنوا حدود دولتهم المقصورة على الأناضول وتراقيا الشرقية، تاركين حرِّيَّة الاختيار للشعوب العربيَّة في الانضمام لهم، وعامَّة الشعوب كانت لا تريد هذا الانضمام، على الأقل في هذه المرحلة.
بعد إلغاء السلطنة طلب السلطان محمد السادس من بريطانيا أن تساعده في الخروج من إسطنبول[3][4]، الواقعة تحت احتلالهم آنذاك، فوافق الإنجليز، وذلك دون علم الحركة الوطنية[5]، وأُخرِج إلى مالطة في يوم 16 نوفمبر 1922م على متن بارجةٍ بريطانيَّة[6]! بعد فترةٍ وجيزةٍ في مالطة تلقَّى السلطان دعوةً من الشريف حسين لزيارة مكة، على الرغم من أنه كان محاربًا له منذ ستِّ سنوات في الثورة العربية، فزارها، ثم عاود الرحيل إلى أوروبَّا بالسفينة عن طريق مصر؛ ليستقرَّ في سان ريمو San Remo بالريڤيرا الإيطالية Italian Riviera، وفيها مات في 16 مايو 1926م بعد أقلَّ من أربع سنواتٍ من خلعه، وهو في الخامسة والستين من العمر، ودُفِن في مسجد السلطان سليم الأول في دمشق[7].
بعد هذا الإلغاء صارت البلاد تُدار بالحركة الوطنية عن طريق مجلس النوَّاب، وفي 20 نوفمبر 1922م بدأ مؤتمر كبير في لوزان Lausanne بسويسرا[8] لتحديد مصير معاهدة سيڤر، والتغييرات التي سيتَّفق عليها الأتراك مع الحلفاء حول مستقبل تركة الدولة العثمانية، وفي هذا المؤتمر قَبِلَ المنظِّمون أن يكون أعضاء مجلس النوَّاب (الحركة الوطنية التركية) ممثِّلين عن الدولة العثمانية في أعمال المؤتمر[9].
انتخب المجلس في أنقرة في 19 نوفمبر -بعد ترحيل السلطان محمد السادس بثلاثة أيَّام- خليفةً جديدًا «للمسلمين»، وهو عبد المجيد الثاني، ابن السلطان الراحل عبد العزيز[10]؛ أي ابن عمِّ السلطان محمد السادس. لم يكن لهذا الخليفة غير الوضع الشرفي فقط دون أيِّ صلاحيَّاتٍ من أيِّ نوع، وكان مستقرُّه في إسطنبول[11]. كانت هذه خطوةً تمهيديَّةً لإلغاء منصب الخليفة بالكلِّيَّة من تركيا.
ومع أن «الخليفة» عبد المجيد الثاني -وليس «السلطان» لإلغاء السلطنة- لم يكن له من الأمر شيء، إلا أنَّنا سندرس المرحلة التاريخيَّة المقبلة تحت اسمه تمشيًّا مع المنهج الأكاديمي فقط، الذي يُعْنَى بالدولة «العثمانية» وأفرادها، وإن كانت المرحلة ينبغي أن تُدْرَس في الحقيقة تحت عنوان: مجلس النوَّاب ونشأة الجمهوريَّة التركيَّة[12].
[1] لويس، برنارد: ظهور تركيا الحديثة، ترجمة: قاسم عبده قاسم، سامية محمد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2016م. الصفحات 313، 314.
[2] دروزه، محمد عزة: تركيا الحديثة، مطبعة الكشاف، بيروت، 1365هـ=1946م. صفحة 55.
[3] بكديللي، كمال: الدولة العثمانية من معاهدة قينارجه الصغرى حتى الانهيار، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م.الصفحات 1/143، 144.
[4] مانسيل، فيليب: القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم 1453 – 1924، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1436هـ=2015م. الصفحات 2/254، 255.
[5] دروزه، 1946 الصفحات 56، 57.
[6] واحدة، شكران: الاسلام في تركيا الحديثة: بديع الزمان النورسي، المراجعة: إحسان قاسم الصالحي، ترجمة: محمد فاضل، 2007م. صفحة 259.
[7] Moreau, Odile & Schaar, Stuart: Subversives and Mavericks in the Muslim Mediterranean: A Subaltern History, University of Texas Press, Austin, Texas, USA, 2016, p. 71.
[8] لويس، 2016 صفحة 310.
[9] دروزه، 1946 صفحة 55.
[10] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 353.
[11] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م.صفحة 485.
[12] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 1273- 1276.
التعليقات
إرسال تعليقك