التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
لم يكن عبد المجيد الثاني مناسبًا لأن يكون خليفة للمسلمين؛ لا من الناحية السياسية ولا الدينية، ولم يحاول أن يمارس السلطة بأي صورة من الصور.
الخليفة عبد المجيد الثاني (1922-1924م) مجلس النوَّاب، ونشأة الجمهوريَّة التركيَّة
لم يكن عبد المجيد الثاني في الحقيقة مناسبًا لأن يكون «خليفةً» للمسلمين؛ لا من الناحية السياسيَّة، ولا من الناحية الدينيَّة، ولم يحاول أن يمارس السلطة بأيِّ صورةٍ من الصور[1]، وكان منشغلًا طوال حياته بهواياته فقط، خاصَّةً الموسيقى والرسم. يصفه المؤرِّخ التركي يلماز أوزتونا بقوله: «كان مُلَحِّنًا في الموسيقى الغربيَّة، عازفًا على البيانو، عازفًا على الكمان، شاعرًا، خطَّاطًا، نحَّاتًا، رسَّامًا، ومؤلِّفًا، وهو أكثر بني عثمان تقدُّمًا في مجال الموسيقى والرسم، وله ثلاثمائة لوحة، تُعَدُّ ذات قيمةٍ كبيرة، وتُعْرَض في المتاحف»[2]! -أيضًا- لم تكن لوحاته مرتبطةً بالضوابط الشرعيَّة، ولا حتى بالتقاليد الشرقيَّة، فأشهر لوحاته هي لوحة «التأمل في قصر الحريم» Goethe in the harem، وتعرض صورةً من الحياة داخل قصر الحريم، وفيها امرأةٌ بملابس أوروبِّيَّة دون حجاب متَّكئةً على أريكة[3]، وعَرَضَ هذه الصورة عام 1918م في معرض فنِّي بڤيينا[4]، ورسم زوجته شيهسوار هانم Şehsuvar Hanım وهي تعزف الكمان، في اللوحة المعروفة باسم «تناغم في قصر الحريم» Harmony of the Harem[5]. في الواقع فإن شهرة عبد المجيد الثاني تعود إلى كونه رسَّامًا احترافيًّا لا خليفة[6]! لذلك يُعلِّق المؤرخ الأميركي فيليب چنكينس Philip Jenkins على إقصائه من إسطنبول -لاحقًا- بأن هذا الإقصاء كان رحمةً له وليس عقابًا؛ لأنَّه تفرَّغ لهوياته[7]!
على كلِّ حالٍ يمكن أن ندرس الأحداث التاريخيَّة المهمَّة في فترة تواجد عبد المجيد الثاني في إسطنبول تحت العناوين التالية:
مؤتمر لوزان (1922-1923م):
افتتح مؤتمر لوزان Conference of Lausanne بسويسرا في 20 نوفمبر 1922م، وكان الوفد التركي برئاسة عصمت إينونو، الذي صار وزير الخارجيَّة، ومعه أعضاءٌ آخرون أهمُّهم رضا نور وزير الصحة، وحسين بك السقا الخبير المالي[8][9]. كان أهمُّ الوفود الغربيَّة هو الوفد الإنجليزي برئاسة وزير الخارجيَّة اللورد كرزن Lord Curzon، الذي كان رئيس المؤتمر بوصفه أكبر الأعضاء سنًّا، كما كانت فرنسا وإيطاليا واليونان من الوفود الرئيسة، بالإضافة إلى وجود وفود مراقبة، مثل: أميركا، والاتحاد السوفيتي، ويوغوسلاڤيا، ورومانيا، وبلغاريا، والبرازيل، وغيرها[10].
لم يكن الأمر سهلًا؛ فبريطانيا تريد فرض معاهدة سيڤر مع إمكانيَّة تقديم بعض التنازلات، أمَّا الوفد التركي فيُريد تحقيق الميثاق الوطني كاملًا، وبالتالي يعرض أمورًا يراها الطرف الإنجليزي مستحيلة. استمرَّت السجالات بين الطرفين شهرين ونصف، واحتدم النقاش حتى وصل إلى مشاجراتٍ صريحةٍ بين عصمت إينونو وكرزن وزير الخارجيَّة الإنجليزي! لم تصل الأطراف إلى أيِّ نتيجة، ومِنْ ثَمَّ فشل المؤتمر، وانفضَّ المشاركون في 4 فبراير 1923م دون توقيع اتفاق[11][12]!
لم تكن هذه النتيجة الأوليَّة مفاجِئةً لي؛ وذلك لأن موقف الأتراك كان مُعَقَّدًا للغاية، والموازنات فيه في غاية الصعوبة. إنهم في المحصلة النهائيَّة مهزومون من الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وأنصارهم الألمان صاروا بلا شوكةٍ بعد سحق قوَّتهم في الحرب، وعون الروس لهم غير مضمون، وفي الوقت نفسه حقَّقوا انتصارًا كبيرًا على اليونان، وفرنسا، وأرمينيا، وهذا النصر وضع في أيديهم بعض أوراق الضغط على أوروبَّا، وهم يعلمون أن الشارع البريطاني يرفض الحرب تمامًا، وكذلك الشارع الأوروبي بشكلٍ عام، ولذا فهي فرصتهم لتحقيق أكبر المكاسب دون توقُّع حربٍ كبيرة. هذه الموازنات بين الضعف والقوَّة كانت تحتاج إلى قياساتٍ في غاية الدقَّة، كما كانت تحتاج إلى صبر، وثبات، واتِّساع أفق، ودبلوماسيَّةٍ احترافيَّة.
أيضًا كانت الأهداف التركيَّة من المؤتمر مُعَقَّدةً بشكلٍ كبير. كان الأتراك يهدفون -في رأيي- للجمع بين أمرين كبيرين؛ الأمر الأوَّل هو السيادة الكاملة على «أرضهم»، وهي الأرض التي حدَّدها الميثاق الوطني؛ أي الأناضول وإسطنبول وتراقيا الشرقية، وهذه السيادة تشمل الأوجه السياسيَّة، والعسكريَّة، والاقتصاديَّة، وعدم الموافقة على التدخل الأجنبي في الشأن التركي بأيِّ صورةٍ من الصور. أمَّا الأمر الثاني المعاكس فهو الحفاظ على العلاقات الجيِّدة مع أوروبا في المرحلة الجديدة؛ لأن الأتراك يعلمون أن النموَّ الاقتصادي والعلمي للبلد لن يتمَّ إلا بعلاقاتٍ مستمرَّةٍ وقويَّةٍ مع الكيانات الأوروبِّيَّة الكبيرة، خاصَّةً بعد سقوط ألمانيا، التي كانت الحليف الأساس للدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة. كان هذان الهدفان «التركيَّان» يعنيان أن الوفد لن يكون معنيًّا في الواقع بأمر البلاد «العربيَّة» الواقعة الآن تحت الاحتلال البريطاني، والفرنسي، والإيطالي؛ لأنها كلَّها ليست داخلةً في حدود دولتهم التركيَّة، فالوفد «التركي» الآن ليس وفدًا «عثمانيًّا» يبحث عن أملاك الدولة العثمانية؛ إنما هو وفدٌ يُمثِّل «تركيا» فقط، وقد أسقط هو بنفسه «السلطنة العثمانية» منذ أيَّامٍ قليلة. ومع ذلك، وعلى الرغم من الحديث عن المسألة التركية فقط، فإن الجمع بين الإصرار على السيادة التركيَّة على أرضها والعلاقات الجيِّدة مع أوروبا، كان صعبًا؛ لأن كلَّ دول أوروبا -خاصَّةً بريطانيا- لا تريد استقلالًا لتركيا، ولا لأيِّ بلدٍ مسلم، وهذا الذي قاد إلى فشل المؤتمر.
ومع ذلك، ولرغبة أوروبا في إنهاء المسألة بشكلٍ حاسم، ولقوَّة الأتراك في المطالبة بحقوقهم، قَبِل الأوروبِّيُّون بافتتاح المؤتمر من جديد في 23 أبريل 1923، واستمرَّت المفاوضات لمدَّة ثلاثة أشهرٍ كاملة، وفي النهاية وصل المؤتمرون إلى صيغةٍ نهائيَّة في 24 يوليو 1923[13]، وهي المعروفة بمعاهدة لوزان، وهي التي أنهت الخلافات بين تركيا والحلفاء، وهي التي رسمت حدود تركيا الحديثة المعترف بها دوليًّا.
معاهدة لوزان (1923م):
وصلت المعاهدة إلى ما كان الأتراك يريدونه تمامًا، وليس فيها تنازلٌ منهم كما يتوهَّم بعضهم؛ حيث إنهم ذهبوا إلى لوزان وفي رغبتهم الحثيثة استقلال دولة «تركيا» بحدودها التي يريدونها، وبسيادةٍ كاملة، كما أنهم «لا يريدون» ولايةً على أيِّ قطرٍ عربي، ولا يرغبون في ربط مصيرهم بمصير دولٍ لها طموحاتها الخاصَّة. ألم تقم الثورة العربية الكبرى منذ سبع سنوات لكي يُنادي «العرب» بدولةٍ مستقلَّةٍ لهم عن الأتراك، بل وحارب العرب إلى جوار الإنجليز من أجل تحطيم الدولة العثمانيَّة؟ الآن يغضب بعض العرب لأن الأتراك يريدون الحفاظ على حرِّيَّة دولتهم واستقلالها؟!
في معاهدة لوزان Treaty of Lausanne، المكوَّنة من مائةٍ وواحدٍ وأربعين بندًا[14]، رَضَخَ المؤتمرون الغربيُّون إلى رغبة الأتراك في ترسيم حدود «تركيا» الحديثة حسب رؤيتهم، وهي تشمل الأناضول كلَّه، بما فيه كل مدن جنوب الأناضول التي حرَّرها الأتراك مؤخرًا من الاحتلال الفرنسي، و-أيضًا- قارص، وأردهان، كما تشمل هذه الدولة الجديدة إسطنبول بعد خروج قوَّات الاحتلال منها، وتشمل كذلك جزر إمبروس، وتينيدوس، وهي الجزر التي تتحكم في مدخل الدردنيل، بالإضافة إلى تراقيا الشرقية كلها، بما فيها المدينة المهمَّة إدرنة[15][16][17]. -أيضًا- ستُلْغَى كلُّ الامتيازات الأجنبيَّة التي كانت الدولة العثمانية تُعطيها للدول الأوروبِّيَّة[18]، وهذه كانت نقطةً خلافيَّةً كبرى، وتُعَدُّ من أكبر مكاسب تركيا في المعاهدة؛ إذ إنها مسحت الكثير من التنازلات التي قدَّمتها الدولة العثمانية خلال القرنين الأخيرين من عمرها.
ستُقَسَّم ديون الدولة العثمانية على الدول المكوِّنة للدولة العثمانية وقت الاستدانة، وسيكون لتركيا نصيبها من هذه الديون[19]. -أيضًا- اتَّفق المؤتمرون على عمليَّة «تبادل سكاني» بين تركيا واليونان، فيُهاجر المسلمون من اليونان إلى تركيا، ويُهاجر النصارى اليونانيون من تركيا إلى اليونان، ويُستثنى من ذلك يونانيو إسطنبول، وإمبروس، وتينيدوس؛ حيث يحقُّ لهم البقاء إن أرادوا، وكذلك يُستثنى مسلمو تراقيا الغربية التابعة لليونان؛ حيث يحقُّ لهم البقاء فيها إن أرادوا[20][21]. ستُحْفَظ حقوق الأقلِّيَّة غير المسلمة في تركيا، وهي تشمل في ذلك الوقت اليونانيين الأرثوذكس، والأرمن، واليهود، في مقابل أن تحفظ اليونان حقوق المسلمين الموجودين بها، وهذه الحقوق التاريخيَّة للأقليات ظلَّت باقيةً لزماننا، ولذلك تُعْرَف هذه الأقليات -في تركيا واليونان- في القانون الدولي «بأقلية لوزان» Lausanne minorities[22].
في مقابل هذه المكاسب التركيَّة الكبيرة لن تُطالب تركيا -وهي في الواقع لا تريد أن تُطالب- بأيِّ استردادٍ لملكيَّة الدول التي كانت تحت سيادة «الإمبراطوريَّة» العثمانيَّة، ويشمل ذلك: الشام، والعراق، ومصر، والسودان، والحجاز، واليمن، وليبيا، وقبرص[23]. -أيضًا- ستُدار المضايق بواسطة هيئةٍ دوليَّة، وستكون منطقة المضايق منزوعة السلاح، وسيُسمح في حال السلم لأيِّ سفينةٍ أن تعبر المضايق، أمَّا في حال الحرب فيمكن لتركيا أن تمنع السفن المعادية لها من المرور، أمَّا إن كانت على الحياد فيمكن لكلِّ السفن الحربيَّة أن تمر عبر المضايق. هذه البنود الخاصَّة بالمضايق أغضبت الروس لأنهم لا يريدون عبورًا إلَّا لسفنهم أو سفن الدول المطلَّة على البحر الأسود، كبلغاريا ورومانيا، ولهذا رفض الاتحاد السوفيتي التوقيع على المعاهدة[24]. ستتمكَّن تركيا لاحقًا -بمساعدة الروس- في عام 1936م في مؤتمر مونترو Montreux بسويسرا من تغيير هذا البند، وإلغاء الهيئة الدوليَّة، وإعادة الحماية العسكريَّة التركيَّة للمضايق، وبذلك تكون قد استكملت السيادة على كامل أراضيها[25].
من الجدير بالذكر أن المعاهدة تعرَّضت لانتقاداتٍ شديدةٍ في بريطانيا[26]، وكان من الواضح أن ما أُعْطِي للأتراك في المعاهدة كان خلاف ما توقَّعه المراقبون بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
من المؤكد أن كلَّ مؤرِّخٍ أو سياسيٍّ سيكون له اعتراضاتٌ على بعض البنود في هذه المعاهدة، ومن المؤرِّخين من قد يرفضها جملةً وتفصيلًا، ولكن لكي يُدرك المؤرِّخون قيمة هذه المعاهدة «الواقعيَّة» التي وقَّعتها الحركة الوطنيَّة التركيَّة لا بُدَّ أوَّلًا من قراءة الظروف التاريخيَّة التي كُتِبَت فيها، وثانيًا لا بُدَّ من مقارنتها بمعاهدة سيڤر 1920م التي قَبِلَها السلطان محمد السادس وحكومته، لا أن يُقارنوها بأحلامٍ غير واقعيَّةٍ يتمسَّك فيها الأتراك بحكم عشر دولٍ عربيَّةٍ محتلَّة، ولا تريد أن تنتقل إلى «الاحتلال» العثماني كما كانوا يقولون في الثورة العربية! وثالثًا لا بُدَّ من قراءة واقع تركيا بعد المعاهدة، ومعرفة إن كانت قد استفادت منها أو خسرت، خاصَّةً إذا عقدنا مقارنةً مع دول العالم الإسلامي الأخرى، التي كانت تُعاني كلُّها تقريبًا من الاحتلال المدمِّر!
قيام الجمهورية التركية (1923م):
لم يبقَ بعد الاعتراف العالمي بحدود تركيا الجديدة سوى بعض الخطوات التقنيَّة لتثبيت الشكل القانوني للدولة. قامت الدول التي وقَّع ممثِّلوها في المؤتمر على المعاهدة بالتصديق الرسمي Ratification عليها. كانت تركيا هي أوَّل من صَدَّق على المعاهدة في 23 أغسطس 1923م[27]، وهذا منطقي لحصولها على أعلى المكاسب، وتبعتها اليونان مباشرةً في 25 أغسطس 1923م[28]، على الرغم من كونها الخاسر الأكبر في المعاهدة، ولكن كان من الواضح أن الهزيمة العسكريَّة المشينة التي تعرَّضت لها في حرب الاستقلال التركية جعلتها راغبةً في السلام السريع. في النصف الأوَّل من عام 1924م صَدَّقت إيطاليا واليابان باعتبارهما من دول الحلفاء على المعاهدة، في 12 مارس و15 مايو تواليًا[29]. كانت عمليَّة تصديق بريطانيا على المعاهدة بطيئةً للغاية؛ فكانت آخر دول الحلفاء توقيعًا عليها، وتمَّ ذلك في 6 أغسطس 1924م[30]. تذكر بعض المصادر أن بريطانيا أجَّلت التصديق لأجل مشاكل داخليَّة مع أيرلندا[31]، وإن كنتُ أرى أن التأجيل كان لأجل امتصاص غضب الشعب الإنجليزي الرافض لنتائج مؤتمر لوزان. لم تُوَقِّع فرنسا على المعاهدة لعدم حسم مسألة الموصل، التي تُرِكَت معلَّقة، وكان من الواضح أنها ستُحْسَم مستقبلًا لصالح العراق المحتلَّة من الإنجليز، أي سيكون هذا في صالح بريطانيا، وهو ما منع التوقيع الفرنسي على المعاهدة، ومع ذلك لم يُعطِّل هذا الإعراض الفرنسي تنفيذ المعاهدة دوليًّا[32].
كما حدَّدت معاهدة لوزان، بدأت قوَّات الاحتلال في إسطنبول في مغادرة المدينة بدءًا من 23 أغسطس 1923م، وشهدت لندن في ذلك الوقت مظاهراتٍ غاضبةً أمام مكتب وزير الخارجيَّة اللورد كرزن اعتراضًا على استقلال تركيا[33]. أكملت قوَّات الحلفاء انسحابها من إسطنبول في 2 أكتوبر 1923م[34]. في هذه الأثناء كان مصطفى كمال قد أسَّس في سبتمبر 1923م حزب الشعب People's Party، وهو الحزب الذي سيحكم الدولة إلى عام 1950م (نظام الحزب الواحد)[35]. في يوم 6 أكتوبر 1923م كان الدخول الأوَّل لقوَّات الجيش التركي الوطني إلى إسطنبول[36] تحت قيادة الجنرال شكري نايلي Şükrü Naili[37].
في يوم 29 أكتوبر 1923م اجتمع مجلس النواب وأعلن الجمهورية التركية Turkish Republic، واختيرت أنقرة عاصمةً لهذه الدولة[38]، كما انتُخِب مصطفى كمال أوَّل رئيسٍ للجمهوريَّة[39]. ستستمر هذه الرئاسة إلى موته في 10 نوفمبر عام 1938[40]. كان دور مصطفى كمال كبيرًا في تأسيس جمهوريَّة تركيا، وذلك منذ سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وكان دوره كبيرًا كذلك في حروب الاستقلال، والمفاوضات التالية، ثم في بناء تركيا الحديثة بعد إعلان الجمهوريَّة. لأجل هذه الجهود منح البرلمان التركي مصطفى كمال في عام 1934م لقب «أتاتورك» Atatürk؛ أي «أبا الأتراك»[41]، وهو الاسم الذي اشتُهر به بعد ذلك، وإلى يومنا هذا.
إنهاء الخلافة «العثمانية»:
لم يعد هناك أيُّ دورٍ لعبد المجيد الثاني في تركيا، ولا في العالم الإسلامي، وكان نظام الحكم الذي اختاره الشعب التركي -كما رأينا- هو النظام الجمهوري المعتمد على انتخاباتٍ حرَّةٍ من عامَّة الشعب، ولم يكن للأتراك من الحركة الوطنية رغبة -لا من قريبٍ ولا بعيد- في ضمِّ أقطارٍ أخرى إلى بلادهم، بل كان همُّهم الأكبر هو ضمان سيادة هذا الكيان الجديد على أرضه، وشعبه، ومقدَّراته، ومع ذلك فقد تركوا منصب الخليفة بعد إعلان الجمهوريَّة، ولم تكن الرؤية واضحةً تمامًا في مستقبل هذا المنصب الشكلي، أو على الأقل لم تكن تلك الرؤية معلنة.
كان الأمر كذلك إلى أن بدأت تنشط من جديد بعض الدعوات في العالم الإسلامي لإعادة الخليفة العثماني. كانت هذه الدعوات ناشئةً في الهند في الأساس، وخاصَّةً من «حركة الخلافة» Khilafat movement[42]، وهي حركةٌ كانت قد نشأت في عام 1919م في الهند لدعم الخلافة العثمانيَّة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ولكنَّها انزوت وخفتت في عام 1922م بعد جهود الحركة الوطنية التركية، وانتصاراتها على الحلفاء[43]. الآن، بعد قيام الجمهورية التركية، تجدَّدت هذه الدعوات مرَّةً أخرى، بل وأرسل بعض قادتها، وتحديدًا أمير سيد علي Syed Ameer Ali (قاضي هندي)، وأغاخان الثالث Aga Khan III (من سلاطين فرقة الإسماعيلية)، خطابًا في 24 نوفمبر 1923م إلى عصمت إينونو يدعوانه إلى إعادة الخليفة العثماني[44]. اعتبر مجلس النوَّاب هذا الإجراء تدخلًا في الشأن التركي، وإخلالًا بالسيادة التركيَّة على سياستها، ومِنْ ثَمَّ أُثيرت المسألة بقوَّة في المجلس، وانتهى الأمر بالتصويت في 3 مارس 1924 على إلغاء منصب الخلافة من الدولة، ووافق الأغلبيَّة[45][46]، فكانت هذه هي الصفحة الأخيرة في كتاب الدولة العثمانية! بعدها رُحِّل عبد المجيد الثاني وأسرته من تركيا إلى سويسرا، ثم رحل بعد ذلك إلى باريس، حيث عاش فيها إلى موته في عام 1944م[47].[48].
[1] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. صفحة 695.
[2] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1990 صفحة 2/262.
[3] Şerifoğlu, Ömer Faruk: Abdülmecid Efendi, Ottoman prince and painter, Yapi Kredi Yayinlari, Istanbul, Turkey, 2004., p. 103.
[4] Jenkins, Philip: The Great and Holy War: How World War I Changed Religion For Ever, Lion Books, Oxford, UK, 2014., p. 333.
[5] Shaw, Wendy M. K: Ottoman Painting: Reflections of Western Art from the Ottoman Empire to the Turkish Republic, I.B.Tauris, 2011., pp. 85–8.
[6] Özendes, Engin: Photography in the Ottoman Empire, 1839-1919, Haşet Kitabevi, Istanbul, Turkey, 1987., p. 14.
[7] Jenkins, Philip: The Great and Holy War: How World War I Changed Religion For Ever, Lion Books, Oxford, UK, 2014., p. 333.
[8] شاكر، محمود: التاريخ الاسلامي، المكتب الاسلامي، بيروت، (العهد العثماني، الجزء الثامن، الطبعة الثالثة، 1411هـ=1991م) (التاريخ المعاصر: تركيا 1342-1409هـ=1924-1989م، الجزء السابع عشر، الطبعة الثانية، 1417هـ=1996م).صفحة 17/39.
[9] سيف الدين، بيار مصطفى: تركيا وكردستان العراق الجاران الحائران، أربيل، الطبعة الأولى، 2008م.الصفحات 60، 62.
[10] Sonyel, Salâhi Ramadan: Turkish Diplomacy, 1913–1923: Mustafa Kemal and the Turkish National Movement, Sage Publishing, London, UK, 1982., pp. 191-192.
[11] بروكلمان، 1968 صفحة 694.
[12] أرمسترونج، هـ. س.: الذئب الأغبر مصطفى كمال، دار الهلال-سلسلة كتاب الهلال، القاهرة، العدد 16، 1952م.الصفحات 189، 190.
[13] لويس، برنارد: ظهور تركيا الحديثة، ترجمة: قاسم عبده قاسم، سامية محمد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2016م. صفحة 310.
[14] مانجو، أندرو: أتاتورك (السيرة الذاتية لمؤسس تركيا الحديثة)، ترجمة: عمر سعيد الأيوبي، دائرة الثقافة والسياحة، مشروع كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2018م. صفحة 415.
[15] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 674.
[16] أرسلان، شكيب: تاريخ ابن خلدون، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م. الصفحات 1/404، 405.
[17] Rozakis, Christos L. & Stagos, Petros N.: The Turkish Straits, Martinus Nijhoff Publishers, Leiden, Netherlands, 1987., 1987, p. 93.
[18] بروكلمان، 1968 الصفحات 694، 295.
[19] Waibel, Michael: Sovereign Defaults before International Courts and Tribunals, Cambridge University Press, New York, USA, 2011., pp. 129-130.
[20] أرسلان، 2012 الصفحات 1/404، 405.
[21] Kontogiorgi, Elisabeth: Population Exchange in Greek Macedonia: The Rural Settlement of Refugees 1922-1930, Oxford University Press, New York, USA, 2006., p. 63.
[22] Memisoglu, Fulya: The Legacy of the Nation-State Building Process – Minority Politics in Greece and Turkey, In: Iglesias, Julien Danero; Stojanović, Nenad & Weinblum, Sharon: New Nation-States and National Minorities, ECPR Press, Colchester, UK, 2013., p. 169.
[23] Somel, Selçuk Akşin: Historical Dictionary of the Ottoman Empire, Lanham, Maryland, USA, Scarecrow Press, 2003., p. 307.
[24] Osmańczyk, Edmund Jan: Encyclopedia of the United Nations and International Agreements: A to F, Taylor & Francis, New York, USA, 2003., vol. 1, p. 2204.
[25] Gutsulyak, Vasiliy: International Maritime Law from the Russian Perspective: A Comprehensive Guide for Lawyers, Shipmasters and Cadets, Universal-Publishers, Irvine, California, USA, 2017., p. 113.
[26] Watt, Donald Cameron; Bidwell, Robin Leonard & Bourne, Kenneth: British Documents on Foreign Affairs--reports and Papers from the Foreign Office Confidential Print: Part II, From the First to the Second World War, Series B, Turkey, Iran, and the Middle East, 1918-1939, University Publications of America, Lanham, Maryland, USA, 1985., p. 38.
[27] Martin, Lawrence: The Treaties of Peace, 1919-1923, The Lawbook Exchange, LTD, Clark, New Jersey, USA, 2007 (B).vol. 1, p. lxxvii
[28] Yıldırım, Onur: Diplomacy and Displacement: Reconsidering the Turco-Greek Exchange of Populations, 1922–1934, Routledge, New York, USA, 2006., p. 245.
[29] Martin, 2007 (B), vol. 1, p. lxxvii
[30] Berridge, G. R.: British Diplomacy in Turkey, 1583 to the present: A study in the evolution of the resident embassy, Martinus Nijhoff Publishers, Leiden, Netherlands, 2009., p. 140.
[31] Martin, 2007 (B), vol. 1, p. lxxvii
[32] Barlas, Dilek: Etatism and Diplomacy in Turkey: Economic and Foreign Policy Strategies in an Uncertain World, 1929-1939, Brill, Leiden, Netherlands, 1998., p. 123.
[33] Adnan Khan: 100 Years of the Middle East: The Struggle for the Post Sykes-Picot Middle East, Maktaba Islamia, Lahore, Pakistani, 2016., p. 58.
[34] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lxviii.
[35] Akan, Taner: Institutional System Analysis in Political Economy: Neoliberalism, Social Democracy and Islam, Routledge, New York, USA, 2016., p. 105.
[36] مانجو، 2018 صفحة 419.
[37] Feyzioğlu, Turhan: Ana Çizgileriyle Atatürk'ün Hayatı ve Eseri (Kronoloji), In: Feyzioğlu, Turhan: Atatürk's Way, A Culturel Publication of Otomarsan, İstanbul, Turkey, 1981., p. 360.
[38] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 485.
[39] بوزرسلان، حميد: تاريخ تركيا المعاصر، ترجمة: حسين عمر، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث-أبو ظبي، المركز الثقافي العربي-بيروت، الطبعة الأولى، 1430هـ=2009م. صفحة 44.
[40] شاكر، محمود: التاريخ الاسلامي، المكتب الاسلامي، بيروت، (العهد العثماني، الجزء الثامن، الطبعة الثالثة، 1411هـ=1991م) (التاريخ المعاصر: تركيا 1342-1409هـ=1924-1989م، الجزء السابع عشر، الطبعة الثانية، 1417هـ=1996م).صفحة 17/71.
[41] بوزرسلان، 2009 صفحة 50.
[42] الندوي، صاحب عالم: موقف مسلمي الهند من حركة الجامعة الإسلامية وتأثيرها في حركة الخلافة في الهند: دراسة تاريخية في ضوء المصادر الهندية والوثائق البريطانية، ضمن كتاب: كوثراني، وجيه: العرب: من مرج دابق إلى سايكس – بيكو (1516 - 1916): تحولات بُنى السلطة والمجتمع من الكيانات والإمارات السلطانية إلى الكيانات الوطنية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، 2019م.الصفحات 168–170.
[43] Niemeijer, A. C.: The Khilafat movement in India, 1919-1924, Martinus Nijhoff Publishers, Brill, Leiden, Netherlands, 1972., p. 84.
[44] Nafi, Basheer M.: The Abolition of the Caliphate in Historical Context, In: Al-Rasheed, Madawi; Kersten, Carool & Shterin, Marat: Demystifying the Caliphate: Historical Memory and Contemporary Contexts, Oxford University Press, New York, USA, 2015., pp. 42-43.
[45] بروكلمان، 1968 صفحة 696.
[46] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 485.
[47] مانجو، 2018 صفحة 432.
[48] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 1277- 1284.
التعليقات
إرسال تعليقك