التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
منحت معاهدة زيتڤاتوروك السلام للحدود العثمانية النمساوية لأكثر من نصف قرن.
كان من الممكن للدولة العثمانية أن تحصل على اتفاقيَّةٍ أفضل مع النمسا لولا تفاقم الموقف في الجبهة الشرقيَّة. اضطرَّت الدولة لقبول أشياءٍ لم تكن تقبلها في المعتاد؛ لذا تُعتبر هذه المعاهدة مهمَّةً من الناحية التاريخيَّة؛ لأنها تُعبِّر بوضوحٍ عن طبيعة المرحلة التاريخيَّة الجديدة التي تعيشها الدولة العثمانية.
اتَّفق الطرفان على أن تبقى البلاد التي يُسيطر عليها كلُّ طرفٍ في يده مع تغييراتٍ طفيفةٍ للغاية، وهذا يعني تقريبًا أن الوضع سيعود للحالة التي كان عليها قبل اشتعال الحرب عام 1593م[1]؛ ممَّا يؤُكِّد أن هذه الفترة كلَّها كانت استنزافًا بلا معنى للطرفين، وهذا ما دعانا إلى لوم مراد الثالث حينها على الدخول في مثل هذه الحرب بلا رؤيةٍ مستقبليَّة. في هذه المعاهدة -أيضًا- أُعفيت النمسا من الضريبة السنوية التي كانت تدفعها للدولة العثمانية[2] منذ عام 1568م، على أن تدفع النمسا مبلغًا قدره مائتي ألف فلورين ذهبي مرَّةً واحدةً على سبيل التعويض عن خسائر الحرب[3].
كان هذا مكسبًا دبلوماسيًّا للنمسا؛ حيث تخلَّصت من الجزية التي تعني التبعيَّة، ولو شكليًّا. ليس هذا فقط؛ ولكن قبلت الدولة العثمانية في هذه المعاهدة -وللمرة الأولى في تاريخها- بأن تُخاطِب حاكم النمسا بعد ذلك بلقب «الإمبراطور»، وكانت قبل ذلك لا تُخاطبه إلا بلقب «ملك»[4]، وكانت تفعل ذلك منذ أيَّام محمد الفاتح لتحتفظ بحقِّها في المطالبة بحكم روما وبقيَّة أملاك الدولة الرومانيَّة القديمة، على أساس أن محمد الفاتح قد ورث كلَّ هذه الأملاك بعد فتحه للقسطنطينية. كان هذا أمرًا يبدو نظريًّا؛ لكن كانت النمسا تقبل به مضطرَّةً لتفاوت القوَّة دومًا مع الدولة العثمانية لصالح العثمانيين. الآن فَرَضَ التعادلُ في القوَّتين على الدولة العثمانية أن تقبل بهذا التنازل للمرَّة الأولى في تاريخها. لن تُعْطِي الدولة العثمانية هذا اللقب -الإمبراطور- لأيِّ زعيمٍ أوروبيٍّ آخر حتى عام 1774م -بعد 168 سنة من زيتڤاتوروك- عندما توافق على مخاطبة إمبراطورة روسيا كاترين الثانية به[5]! هذا يوضِّح حجم الخسارة الدبلوماسيَّة العثمانية، وإن كانت تبدو للبعض يسيرة!
كانت هذه هي المرَّة الأولى -أيضًا- في تاريخ الدولة العثمانية التي تقبل فيها بتوقيع معاهدةٍ خارج أرضها[6]، وكان في هذا دلالةٌ -أيضًا- على عدم قوَّة الموقف العثماني؛ ولكن في المقابل قَبِلَت النمسا بالوضع الراهن في المجر وترانسلڤانيا، وهو في صالح العثمانيين، وقبلت كذلك بأن يستمرَّ هذا الاتفاق لمدَّة عشرين سنةً كاملة[7]؛ ممَّا يعني قناعتها بأنها لا تقدر على غزو الدولة العثمانية في القريب العاجل.
من الناحية العمليَّة منحت هذه المعاهدة السلام للحدود العثمانية النمساوية لأكثر من نصف قرن، وهذا أعطى الفرصة للدولة العثمانية للتفرُّغ لمشاكلها مع الصفويين والمتمرِّدين، كما سيمنحها الفرصة لاحقًا للحرب مع بولندا. أمَّا النمسا فستتفرَّغ لمشاكلها الداخليَّة التي ستتفاقم في عام 1618م عندما تشتعل حرب الثلاثين عامًا[8].
[1] نعيمة، مصطفى: روضة الحسين في أخبار الخافقين (تاريخ نعيما)، مطبعة عامرة، إسطنبول، 1283هـ=1866م.الصفحات 1/455-458.
[2] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م. الصفحات 148، 149.
[3] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 560.
[4] Birdal, Mehmet Sinan: The Holy Roman Empire and the Ottomans: From Global Imperial Power to Absolutist States, I. B. Tauris, London, UK, 2011., p. 6.
[5] Lewis, Bernard: What Went Wrong? Western Impact and Middle Eastern Response, Oxford University Press, New York, USA, 2002., p. 164.
[6] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م. صفحة 277.
[7] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 273.
[8] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 626، 627.
التعليقات
إرسال تعليقك