التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان السلاطين العثمانيين مواظبين على عادة حبس وليِّ العهد، كان عبد الحميد الثاني من أولئك المحبوسين، وظل في محبسه حتى بلغ السادسة والثلاثين.
كان السلاطين العثمانيين في معظم فترات التاريخ العثماني مواظبين على عادة حبس وليِّ العهد، وكلِّ المؤهَّلين للحكم، بحجَّة تأمين العرش، ومنع الفتنة!
في هذا الحبس الملكي يجري تعليم المحبوس القرآن والسُنَّة، وبعض العلوم، وكذلك بعض الفنون والهوايات، كما يُغْدَق عليه بألوان الطعام، والشراب، والنساء.
يمكن أن يخرج الرجل من هذا الحبس تقيًّا، ورعًا، صالحًا أخلاقيًّا، عارفًا بالدين، محبًّا له، ولكنَّه «دومًا» لا يفقه في السياسة، ولا يدري شيئًا عن زمانه، ولا علم له بالمتغيِّرات الكبرى التي شهدها العالم، وأقول «دومًا» لأنَّ هذا التجهيل بالسياسة يحدث «عمدًا» لكيلا يتدخل يومًا في شئون الدولة، منعًا للفتنة كما يقولون.
ثم فجأة يموت السلطان الحاكم، فتُلْقَى على أكتاف هذا الحبيس مهمَّة قيادة دولةٍ بحجم الدولة العثمانية! أيُّ نتيجةٍ نتوقَّع؟! إن هذا السلوك من العائلة العثمانية هو في الواقع نوعٌ من الجنون لا أدري كيف وافقت عليه الأمَّة بعلمائها وأبنائها!
كان السلطان عبد الحميد الثاني من أولئك المحبوسين المساكين، الذي قضى زهرة عمره -حتى بلغ السادسة والثلاثين- وهو يقرأ في الكتب الدينيَّة والتاريخيَّة، ويمارس النجارة والموسيقى، ثم فجأة «قالوا» له: هيَّا يا سمو الأمير، ستحكم إمبراطوريَّة العثمانيِّين! كان الرجل صالحًا وتقيًّا، وكان محبًّا لأمَّته راغبًا في نفعها، لكنَّه لم يتعلَّم في حبسه شيئًا عن السياسة، ولم يُلَقِّنه أحدٌ دروسًا عن مكائد الإنجليز، ولا عن شراسة الروس، ولا عن خداع الفرنسيين. لم يعلم كذلك آليَّات الإدارة، ولم يتعرَّف بشكلٍ عميقٍ على التيَّارات الفكريَّة التي صارت تموج بها بلاده. إن النتيجة ستكون كارثيَّة، على الأقل في السنوات الأولى من حكمه، إلى أن يكتسب «الخبرة» بطريقة «المحاولة والخطأ» Trial and error.
هذه هي بداية قصَّة السلطان عبد الحميد الثاني الذي ظلمه عمُّه السلطان عبد العزيز بحبسه وإخوته تأمينًا لعرشه! كانت النتيجة هي حدوث كوارث في الدولة في السنوات التسع الأولى، من 1876م إلى 1885م، وهي ما أطلقتُ عليها «المرحلة الأولى» في حياة السلطان. كان السلطان في هذه المرحلة «يُجرِّب» طرقًا مختلفةً للتعامل مع الوزراء والولاة، «ويُجرِّب» كذلك طرقًا مختلفةً للتعامل مع الإنجليز والروس، «ويُجرِّب» طرقًا ثالثةً للتعامل مع الشعب! كانت النتيجة هي فقد مساحاتٍ شاسعةٍ من الأرض، وتعرُّض الدولة لخسائر فاضحة. في النهاية اكتسب السلطان «الخبرة» وصار يتعامل بصورةٍ أفضل نسبيًّا مع الأمور في المرحلتين الثانية والثالثة من فترة حكمه. في هاتين الفترتين قام بالإصلاحات الداخليَّة الجيِّدة، ووقف مواقفه المشرِّفة ضدَّ الصهاينة، وتعامل بشكلٍ حاسمٍ مع مشاكل الأرمن، واليونان، ومقدونيا. لقد «نضج» السلطان في هذه المراحل.
لكن تبقى مشكلةٌ لم يكن لها حلٌّ واقعي! كان السلطان نتيجة حبسه فترةً طويلةً لا يدري شيئًا عن المتغيِّرات الفكريَّة التي شهدها العالم ودولته في القرن الأخير، ومِنْ ثَمَّ كان يريد قيادة إمبراطوريَّته بآليَّات القرن السادس عشر! في هذا القرن -المعروف تاريخيًّا بالقرن العظيم- كان السلطان يُدير الإمبراطوريَّة كلَّها «بمفرده». لا يوجد رأيٌ آخر، ولا معارضة، ولا مشاورةٌ مع أحد. الآن يريد السلطان عبد الحميد الثاني أن يُعيد أمجاد سليمان القانوني، أو سليم الأول، أو حتى السلطان العظيم محمد الفاتح، بالطريقة الإداريَّة نفسها! هذا في الواقع غير ممكن! أولًا تَلَقَّى هؤلاء العظماء تربيةً «سياسيَّةً» عظيمةً في طفولتهم وشبابهم، وثانيًا كانت الدولة العثمانية آنذاك قويَّةً للغاية، وذات «نظامٍ» ثابتٍ محكمٍ لا يحتاج إلا لإدارةٍ يسيرة، وثالثًا كان العالم كلُّه يسير بالطريقة الفرديَّة ذاتها، وكانت الشعوب تتقبَّل ذلك، ولا تشعر بشيءٍ من المعاناة إذا تولَّى أمورها فردٌ دون أن يرجع إليها، ورابعًا لم تكن الاتصالات، والمواصلات، والعلوم، وقدرات الدول ومقدَّراتها، بهذا التعقيد والتشابك الذي صار في القرن التاسع عشر وبعده، لهذا لم يعد الحكم الفردي صالحًا بأيِّ حالٍ من الأحوال لهذا الزمن.
هذه هي المشكلة التي أتعست السلطان عبد الحميد الثاني ودولته طوال فترة حكمه! لم يكن السلطانُ متقبِّلًا -على صلاحه ونزاهته- أن يُشاركه في الحكم أحدٌ، ولم يستوعب أن يُسهم أحدٌ من «الرعيَّة» معه ببرلمان أو هيئة مستشارين. إن آباءه كانوا يأمرون فيُطاعون، ولا يملك أحدٌ أن يرفع النظر إليهم، بل كان الرعيَّة يُقَبِّلون أطراف أثواب السلاطين ولا يُقَبِّلون أيديهم لكيلا يلمسون أجسادهم الشريفة! لم يُدرك السلطان عبد الحميد الثاني أن الزمن تغيَّر، ولم تعد الطرق القديمة تصلح مع هذه الشعوب الحديثة.
خَلَقَ له هذا السلوك الانفرادي الاستبدادي أعداء من كلِّ الاتجاهات، ولم يكن كلُّ أعدائه أشرارًا كما يُصوِّرهم أنصار السلطان؛ بل كان كثيرٌ منهم محبًّا للإصلاح، راغبًا في تقدُّم الدولة، بل كان كثيرٌ منهم إسلاميًّا كالسلطان نفسه أو أشد، لكنَّهم جميعًا كانوا يكرهون أن يعتقد السلطان أنه لا توجد آراءٌ صالحةٌ إلى جوار رأيه. لم تكن أصول جُلِّ أعداء السلطان يهوديَّة، ولم يكن أغلبهم ماسونيين، أو ملحدين، ولم يكونوا عملاء للدول الأوروبِّيَّة، ولم يكونوا مفتونين بالغرب بائعين لدينهم في سبيل دنياهم؛ إنما فقط كانوا «معارضين» له، وقد اعتاد فريقٌ من الأنصار على «شيطنة» الطرف الآخر بغية نصرة فريقه، وهذا في الواقع تدليس. لم تكن صراعات السلطان حربًا بين الملائكة والشياطين؛ إنما كانت صراعاتٍ فكريَّةً ودنيويَّة، وكان كلُّ فريقٍ يبحث عن مَنْ يُساعده وينجده، لذلك تعاون ضدَّ السلطان إسلاميُّون، وقوميُّون، ويهود، وأرمن، مع أن كلَّ واحدٍ منهم لم يُغيِّر ولاءه لفكرته أو عقيدته، والسلطان نفسه فعل ذلك كثيرًا في حياته، وليس معنى أنه لجأ إلى بريطانيا في حربه ضدَّ الروس أنه صار إنجليزيًّا، ولا أنه قَبِل من اليهود أن يُساعدوه في قضيَّة الأرمن أنه صار ماسونيًّا يهوديًّا. إن النظر بتروٍّ في الأحداث سيجعلنا نُقدِّر بشدَّة مواقف الطرف الآخر، ولعلنا لو كنَّا في مكانه لفعلنا أكثر منه. هذا هو التوازن الذي نريده في الحكم على الأحداث.
جديرٌ بالذكر، ونحن نطوي صفحة السلطان عبد الحميد الثاني، أن نذكر أنه -للأسف- ارتكب مع وليِّ عهده محمد رشاد «الجريمةَ» نفسها التي ارتُكِبَت معه! فقد حبسه طوال الثلاثة والثلاثين عامًا التي حكمها[1]، فضلًا عن السنوات التي قضاها هذا الأمير المسكين في الحبس زمن السلطان عبد العزيز[2]! الآن يخرج الأمير محمد رشاد من حبسه بعد خمسٍ وستِّين سنةً كاملةً من السجن والتجهيل ليحكم بلاد المسلمين!! فلتستقبل الدولة العثمانية إذن مصائب جديدة في ظلِّ هذا السلطان المسكين![3].
[1] آصاف، عزتلو يوسف: تاريخ سلاطين بني عثمان من أول نشأتهم حتى الآن، تقديم: محمد زينهم محمد عزب، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415هـ=1995م.صفحة 141.
[2] باتريك، ماري ملز: سلاطين بني عثمان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ=1986م.صفحة 145.
[3] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 1176- 1180.
التعليقات
إرسال تعليقك