التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
شاء الله أن تنتهي حياة السلطان العثماني مراد الثاني في الثالث في1451م، وهو في السابعة والأربعين فقط من عمره.
عاد السلطان مراد الثاني إلى أدرنة، وعاد الأمير محمد الثاني إلى مانيسا، واستراح الجيش من عناء الرحلة الطويلة، وانشغل السلطان في بعض الأمور الداخليَّة في أدرنة، ولكنَّ انشغاله لم يَدُمْ طويلًا؛ إذ شاء الله عز وجل أن تنتهي حياته رحمه الله في الثالث من فبراير عام 1451م[1] الموافق الثاني والعشرين من ذي الحجة 854هـ[2]. لقد حدث ما كان يتوقَّعه مراد الثاني؛ إذ مات وهو في السابعة والأربعين فقط من عمره! ليترك المجال لابنه محمد الثاني لارتقاء العرش وهو في التاسعة عشرة من العمر.
فقدت الدولة العثمانيَّة بموته شخصيَّةً جديرةً بالاحترام حقًّا..
قال عنه السخاوي: «وصار من عظماء ملوك الروم (أي أرض الروم، التي هي الأناضول وشرق أوروبا)، وأهلك الله على يديه مَلِكًا عظيمًا من ملوك بني الأصفر (يقصد ڤلاديسلاڤ الثالث Vladislav III ملك بولندا والمجر في معركة ڤارنا)[3].
ويقول عنه المؤرِّخ الألماني هانز كيسلينج Hans Kissling: «بولاية مراد الثاني اكتسبت الدولة العثمانيَّة سلطانًا قادرًا وحازمًا، الذي كان في الوقت نفسه محترِمًا للقانون، مؤْثِرًا للإصلاح الهادئ. كانت الحرب بالنسبة إليه شرًّا غير متجنَّب وليست جزءًا لا يتجزَّأ من الحياة»[4].
ومثل هذه الأقوال المادحة من المؤرِّخين المسلمين والغربيِّين كثيرة؛ لكنَّني في الواقع أحبُّ أن أتوقَّف مع ثلاث شهاداتٍ ذات طابعٍ خاصٍّ قيلت في حقِّ مراد الثاني، هذا السلطان العظيم؛ لأنَّها شهاداتٌ قالها المؤرِّخون البيزنطيُّون المعاصرون له، ووجه الأهميَّة القصوى لهذه الشهادات أنَّها أوَّلًا قيلت في حقِّ رجلٍ يقود دولةً معاديةً للدولة البيزنطيَّة، وبينهما تاريخٌ طويلٌ من الحرب، والحقُّ ما شَهِدَت به الأعداء، وثانيًا أنَّهم معاصرون، فإمَّا أنَّهم التقوا السلطان ذاته، أو على الأقل عاشوا في زمانه، ولم يكتبوا شهادتهم نقلًا عن أحد، إنَّما بمعايشتهم للأحداث، وسماعهم من الشعب الذي عاش معه.
أمَّا الشهادة الأولى فهي شهادة المؤرِّخ البيزنطي لاونيكوس تشالكوكونديليس Laonikos Chalkokondyles، الذي كان يعيش في أثينا في زمان مراد الثاني، فقد قال عنه: «كان رجلًا يُحبُّ العدل والقانون، وكان موفَّقًا تَسِيرُ الأمورُ إلى جانبه. كان يُقاتل للدفاع فقط، ولم يبدأ أيَّ أعمالٍ عدائيَّة، لكنَّه كان يُقاتل فورًا مَنْ قاتله. إذا لم يَتَحَدَّه أحدٌ للحرب فإنَّه لا يكون متحمِّسًا أبدًا للحملة العسكريَّة، ومع ذلك فهو لم يكن يخشى الحرب إذا حدثت. إذا قرَّر القتال فإنَّه يستطيع أن يفعل ذلك في الشتاء، وفي أسوأ الأحوال، ولا يهتمُّ حينئذٍ بالتعب أو المخاطر»[5].
أمَّا الشهادة الثانية فهي شهادة المؤرِّخ البيزنطي دوكاس Doukas، الذي كان يعمل لدى حكومة چنوة الإيطاليَّة، التي أرسلته أكثر من مرَّة في مباحثاتٍ دبلوماسيَّةٍ مع البلاط العثماني[6]، وذلك في عهد مراد الثاني، وكذلك في عهد ابنه محمد الثاني[7].
يقول دوكاس في لغةٍ عاطفيَّةٍ عجيبةٍ وهو يصف مرادًا الثاني: «أعتقد أنَّ اللهَ عاملَ الرجل بحسب الأعمال الصالحة التي قام بها من أجل مصلحة الشعب، وبحسب الشفقة التي أبداها للمعوزين، ليس فقط لأولئك المحتاجين من أمَّته وأبناء عقيدته ولكن للنصارى كذلك. المعاهدات التي عقدها وأقسم عليها بالأيمان المقدَّسة كان لا ينقضها أبدًا حتى النهاية. لو أنَّ بعض النصارى انتهكوا المعاهدات ونقضوا الأَيْمَان فإنَّهم كانوا لا يفلتون من عقاب الله. لقد كانوا يُعَاقَبون بعدالةٍ من المنتقم. لم يكن غضب مراد الثاني مُفْرِطًا. بعد النصر لم يَكن يشرع في مطاردةٍ حاميةٍ للجيش الهارب، بل أكثر من ذلك لم يكن متعطِّشًا للتدمير الكامل للأمم المهزومة، ولكن بمجرَّد أن تتقدَّم الأمَّة المغلوبة بطلب السلام فإنَّه يقبل عرضها بشغف، ويُعيد سفراءهم في سلام. لقد كان بحقٍّ يزدري الحرب، ويُحبُّ السلام، ولهذا فقد منحه الله موتًا سِلْمِيًّا بدلًا من أن يموت بالسيف»[8]!
أمَّا الشهادة الثالثة والأخيرة في حديثنا هذا فهي شهادة المؤرِّخ البيزنطي الشهير چورچ فرانتزس George Phrantzes -ويُكتب في كتابات أخرى Sphrantzes-، وهو من أخلص العاملين للدولة البيزنطيَّة، وخَدَم ثلاثة أباطرة متتالين: مانويل الثاني، وچون الثامن، وأخيرًا قُسطنطين الحادي عشر آخر الأباطرة البيزنطيِّين، وهو من الذين شهدوا فتح القسطنطينية، وأخذه العثمانيُّون أسيرًا، ثم افتُديَ بالمال بعد ذلك[9]، وهذا التاريخ من المفترض أن يُوغِر صدره تجاه العثمانيِّين، ومع ذلك فهو يقول: «لقد مَيَّز مراد الثاني نفسه باهتمامه بممارسة العدل، وبإصلاحاته للتعدِّيَّات الظالمة التي كانت منتشرةً تحت حكم الأباطرة اليونانيِّين. لو أنَّ أيَّ واحدٍ من قادته أو قضاته ظلم رعاياه النصارى فإنَّه كان يُعاقبهم بلا رحمة». وقد نقل هذه الشهادة المؤرِّخ الأسكتلندي چورچ فينلاي في كتابه عن تاريخ اليونان، وذكر أنَّ مثل هذه الشهادة في حقِّ مراد الثاني تكرَّرت كذلك في حقِّ السلاطين الأربعة الذين سبقوه، وهم: أورخان، ومراد الأول، وبايزيد الأول، ومحمد الأول. وقال: «إنَّ هذا السلوك من السلاطين الخمسة -هؤلاء الأربعة ومراد الثاني- هو الذي فتح الطريق لفتح اليونان، خاصَّةً إذا ما قُورِن بعنايةٍ بسلوك الأباطرة المعاصرين»[10]!
هكذا تأتي شهادات المؤرِّخين البيزنطيِّين في حقِّ مراد الثاني بشكلٍ خاص، وفي حقِّ الدولة العثمانية وسلاطينها بشكلٍ عامٍّ، بل إنَّ بابينجر يُناقش مسألةً عجيبةً في كتابه عن محمد الفاتح، فيقول: «إنَّنا نُلاحظ أنَّه ليس فقط المؤرِّخون العثمانيُّون هم الذين يُثنون على مراد الثاني، بل كذلك يفعل المؤرِّخون البيزنطيُّون، فيتحدَّثون بأعلى درجات الثناء على عدل السلطان مراد الثاني، واعتداله، وأمانته، وحزمه. أحيانًا -والكلام لبابينجر- يُفسِّر بعضهم هذا التركيز على الجانب المضيء في حياة السلطان مراد الثاني على أنَّه وسيلةٌ لإظهار الجانب الأسود في حياة محمد الفاتح». (يقصد أنَّ الغرب يكره محمدًا الفاتح لانتصاراته الكثيرة عليه، فلذلك فَهُمْ قد يُظْهِرون محاسن مَنْ قَبْله ليَظْهر التضاد بين الشخصيَّتين، فيكون هذا طعنًا غير مباشرٍ في محمد الفاتح). ثم يُكمل بابينجر كلامه قائلًا: «ولكن عندما نفحص كلام هؤلاء المؤرِّخين البيزنطيِّين بدقَّةٍ نجد أنَّهم كانوا يعنون كلَّ كلمةٍ قالوها بمنتهى الإخلاص»[11]!
هذه شهادات رائعة..
هذا هو الرجل الذي ربَّى محمدًا الثاني، وزرع فيه بشكلٍ عمليٍّ هذه الخصال..
هذه هي الأجواء التي نشأ فيها الأمير محمد الثاني، ومِنْ ثَمَّ كانت تربيته على هذه الخصال أمرًا طبيعيًّا تلقائيًّا غير متكلَّف..
عند النظر إلى قصَّة محمد الثاني، الذي سيُصبح محمدًا الفاتح، أحد أشهر رجال الحكم والسياسة والحرب والحضارة في العالم، لا بُدَّ من النظر إلى هذه الخلفيَّة. لم يمت مراد الثاني إلَّا بعد أن مهَّد الطريق تمامًا لعملٍ كبيرٍ قادم، والواقع أنَّنا يُمكن أن نقف وقفةً سريعةً عند هذه النقطة لنتدبَّر في حقيقة الوضع الذي وصلت إليه الدولة العثمانيَّة عشيَّة موت مراد الثاني، واستلام محمد الثاني لزمام الحكم، لنعرف قيمة الجهد المبذول في هذه السنوات الثلاثين التي حكمها مراد الثاني.
أوَّلًا: ترك مراد الثاني دولةً واسعةً مترامية الأطراف، تقترب من حجم الدولة التي كان يحكمها بايزيد الأوَّل قبل كارثة أنقرة عام 1402م، فبعد هذه الكارثة العسكريَّة تفكَّكت الدولة تمامًا، ثم أعاد بعد ذلك محمد الأول (محمد چلبي)، وبعده مراد الثاني، الدولةَ إلى قريب مما كانت عليه، وكانت الدولة عند موت مراد الثاني قد وصلت إلى مساحةٍ 650 ألف كيلو متر مربع، وكانت تضمُّ أجزاءً تُدار بشكلٍ مباشرٍ تشمل: الثلث الغربي من الأناضول، والجزء الأوروبي من تركيا الحديثة باستثناء إسطنبول، وشمال شرق اليونان، ودول بلغاريا، ومقدونيا، وكوسوڤو. وكانت تضمُّ كذلك أجزاءً تتبع الدولة العثمانيَّة وإن كانت تُدار بأهلها، وهذه هي: إمارتا قرمان وإسفنديار في الأناضول، ومملكة البوسنة، ودوقيَّة الهرسك، وجمهوريَّة راجوزا (دوبروڤنيك)، وإمارة المورة اليونانيَّة، وإمارة أتيكا التي تشمل مدينة أثينا في اليونان (خريطة رقم 4). بالإضافة إلى بعض الإمارات التي لم تكن مستقرَّةً في ولائها، مثل: الإفلاق الرومانيَّة، وصربيا، وألبانيا. لكن على العموم كانت دولة مراد الثاني من الدول الراسخة الكبيرة في أوروبَّا والأناضول، ولم يكن من الممكن لأيِّ دولةٍ في هذه المناطق الواسعة أن تأخذ قرارًا في سياساتها دون حساب أمر هذه الدولة الكبيرة القويَّة، وهذا ولا شَكَّ أعطى محمدًا الثاني عند بداية حكمه مكانةً محترمةً يُمكن أن ينطلق منها إلى آفاقٍ أوسع.
ثانيًا: جيش الدولة العثمانية عند وفاة مراد الثاني كان جيشًا قويًّا قاهرًا، ومن أفضل جيوش أوروبَّا بلا جدال، ولم يكن يتميَّز بالعدد الكبير فقط؛ إنَّما بالشجاعة الظاهرة، والمهارة الفائقة، وكانت عُدَّته حديثة معاصرة، وكان مزوَّدًا بالمدافع التي تقذف قذائف البارود، ومزوَّدًا كذلك بالبنادق الناريَّة، علمًا أنَّ جيوشًا كثيرةً في الأرض كانت لا تزال تُقاتل بأسلحة القرون الوسطى من سيوفٍ ورماحٍ وسهام فقط.
ثالثًا: استطاع مراد الثاني قبل موته أن يقمع معظم الأعداء المتربِّصين بالدولة العثمانيَّة، ممَّا سيُوَفِّر لمحمد الثاني وَسَطًا هادئًا يستطيع أن يُحقِّق طموحاته فيه دون مقاومةٍ كبيرةٍ من المناوئين. قنع چون هونيادي حاكم المجر بتجنُّب الدولة العثمانيَّة بعد هزيمتي ڤارنا وكوسوڤو الثانية. قَبِلَت البندقيَّة عقد المعاهدات التجاريَّة مع العثمانيِّين على الرغم من تعرُّضها لهجماتٍ في بحر إيجة. العلاقات مع چورچ برانكوڤيتش زعيم الصرب كانت هادئة ومتعاوِنة. استكان اليونان بعد هزيمة قُسطنطين وإخوته في المورة، حتى عندما تحوَّل قُسطنطين لقيادة الدولة البيزنطيَّة فعل ذلك هادئًا دون تصعيدٍ أمام الدولة العثمانيَّة. كان ملك البوسنة ودوق الهرسك يدفعان الجزية بانتظام، وكذلك كانت تفعل جمهوريَّة دوبروڤنيك الإيطاليَّة.
رابعًا: أدَّت الضربات المتتالية للدولة البيزنطيَّة في عهد مراد الثاني إلى استكانتها بشكلٍ واضح، حتى رأينا البيزنطيِّين يحرصون على أخذ اعتراف مراد الثاني بالإمبراطور الجديد، ورأيناهم عند اختلافهم وصراعهم يلجئون إلى السلطان العثماني ليُعِين أحدهم على الآخر، وهذا كله يصبُّ في إحداث هزيمةٍ نفسيَّةٍ عند البيزنطيِّين، ورفعٍ للمعنويَّات عند العثمانيِّين، وسيكون لهذا الشعور دورٌ مهمٌّ في سير الأحداث المستقبليَّة عند ولاية محمد الثاني.
خامسًا: من أروع ما تركه مراد الثاني في دولته بشكلٍ عامٍّ، وفي البلقان بشكلٍ خاص، حالةُ الرضا الشعبي عن أداء الحكومة العثمانيَّة وقيادتها، وهو ما لمسناه في شهادات المؤرِّخين البيزنطيِّين التي مرَّت بنا منذ قليل، فهذا الهدوء العام، والقبول التلقائي من شعوب الدولة العثمانيَّة -خاصَّةً النصارى منهم- لحكم السلطان مراد الثاني وأجداده من قبله، كان له الأثر المباشر في تهيئة الأجواء لمحمد الثاني لحكم دولةٍ مستقرَّةٍ داخليًّا، ممَّا سيُعطيه فرصةً كبيرةً للتوسُّع خارجيًّا وهو مطمئنٌّ للوضع في بلاده.
سادسًا: ترك مراد الثاني عند وفاته الأناضول هادئًا إلى حدٍّ كبير. نَعَمْ لم يكن العثمانيُّون يحكمون إلَّا ثلث الأناضول الغربي، ونَعَمْ لم تكن إمارة قرمان قابلةً بشكلٍ تامٍّ بأمر التبعيَّة للدولة العثمانيَّة، لكن الأجواء كانت هادئةً منذ عام 1444م، أي لمدَّة سبع سنوات قبل موت مراد الثاني في عام 1451م، مع إمارتي ذي القادر وقرمان، ممَّا دعم بشكلٍ أكبر وَضْع محمد الثاني، وفتح له المجال لإحداث مزيدٍ من التوسُّع والاستقرار في الأناضول.
هكذا كانت الأوضاع السياسيَّة والعسكريَّة في الدولة العثمانيَّة عند اللحظات الأخيرة من حكم مراد الثاني وبداية حكم محمد الثاني، ومع ذلك لم تكن كلُّ الأمور على ما يرام؛ بل كانت هناك بعض المشكلات التي لم يصل فيها مراد الثاني إلى حلٍّ يُريح الدولة وسلطانها الجديد، وذلك مثل مشكلة تمرُّد ألبانيا، وكذلك مشكلة تمرُّد الإفلاق، فهاتان الإمارتان ما زالتا خارجتين عن الدولة العثمانيَّة. ألبانيا كانت شبه مستقلَّة ومدعومة من الغرب، والإفلاق كانت تُعطي ولاءها للمجر. وبالإضافة إليهما كانت إمارة صربيا متردِّدةً في ولائها؛ فقد حصلت على استقلالها بعد معاهدة سيجيد عام 1444م، لكن بعد نقض المعاهدة صار العثمانيُّون في حِلٍّ من استقلال صربيا، ومع ذلك فالقوَّة العثمانيَّة لم تكن قادرةً على إعادة ضمِّ صربيا إليها بعد انتصاري ڤارنا وكوسوڤو الثانية، ومِنْ ثَمَّ استمرَّت صربيا في استقلالها، ومع ذلك كان برانكوڤيتش حريصًا على إظهار وُدِّه للسلطان مراد الثاني تجنُّبًا لإعادة ضمِّ صربيا إلى الدولة العثمانيَّة.
وينبغي قبل ترك هذه النقطة -وقبل إنهاء التعليق على جهد مراد الثاني في فترة حكمه- ألَّا نغفل الحديث عن اهتمام السلطان القدير بأمور النهضة، والعمران، والعلوم، والحضارة بشكلٍ عامٍّ؛ فهذه النقلة النوعيَّة للدولة العثمانيَّة من دولةٍ تهتمُّ بالأمور العسكريَّة والجهاديَّة فقط إلى دولةٍ متكاملةٍ تهتمُّ بشتَّى المجالات الحياتيَّة، هي نقلةٌ يرجع فيها الفضلُ لمراد الثاني بلا جدال، فخطواته في هذا المجال ليست مسبوقةً، خاصَّةً في هذه المنطقة من العالم الإسلامي، وهذا سيكون له الأثر الواضح في فكر محمد الثاني وأسلوبه، وهو يُفسِّر بسهولةٍ كثيرًا من القرارات والاتجاهات التي اختارها السلطان الجديد في دولته، وهو ما سيعود بالنفع الغزير على الدولة العثمانيَّة بشكلٍ خاص، وعلى المسلمين بشكلٍ عامٍّ.
هكذا كانت الأوضاع في فبراير 1451م يوم مات السلطان القدير مراد الثاني!
هل حدثت أزمةٌ سياسيَّةٌ أو فتنةٌ داخليَّةٌ عند هذه الوفاة؟
هل حدثت ثورةٌ من الجيش ترفض الانصياع للسلطان الجديد خاصَّةً أنَّ ذكريات تمرُّد الجيش في 1446م على محمد الثاني لا تزال قريبة؟
الواقع أنَّ هذا لم يحدث، بل سارت الأمور في هدوءٍ كبير، قد يُفَسَّر بأنَّ الدولة العثمانيَّة قد بلغت مرحلةً من النضج تستحقُّ التقدير!
تعامل الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي مع موت السلطان بحكمة؛ إذ أخفى خبر الموت، وأرسل فورًا إلى محمد الثاني في مانيسا ليأتي لاستلام العرش، وقد كان الغرض من السرِّيَّة في هذا الأمر عدم إعطاء فرصةٍ لأيِّ مُطالِبٍ بالعرش أن يتحرَّك. وصل محمد الثاني من مانيسا إلى أدرنة العاصمة في 17 فبراير، وتسلَّم العرش في هدوءٍ في اليوم التالي مباشرةً؛ أي في 18 فبراير 1451م، قبل شهرٍ من يوم ميلاده التاسع عشر[12].
أرسل السلطان محمد الثاني أباه مرادًا الثاني ليُدْفَن في بورصا حسب وصيَّته، واحتفظ بخليل باشا جاندرلي صدرًا أعظم، وعيَّن إسحاق باشا Ishak Pasha واليًا على الأناضول[13].
من المهمِّ أن نسعى لتفسير حالة الهدوء والرضا التي صحبت صعود محمد الثاني إلى كرسي الحكم، مع أنَّ توقُّعات البعض كانت مخالفةً لذلك، خاصَّةً إذا نظرنا إلى الذكريات السيِّئة المتعلِّقة بفترة حكمه الأولى. الواقع أنَّ الأمر اختلف الآن بشدَّة عن المرَّة الأولى؛ الآن محمد الثاني في التاسعة عشرة من عمره، وهو سنٌّ -مع كونه صغيرًا- إلَّا أنَّه مقبولٌ عُرْفًا، وخاصَّةً في هذا الزمان، لشغل منصب حاكم الدولة. أيضًا الآن لا يوجد بديلٌ قويٌّ لمحمد الثاني؛ فالأب قد مات بالفعل وليس كالحالة الأولى التي اعتزل فيها الأب الحكم مع وجوده، فالثائرون عام 1446م كانوا يُطالبون بعودة السلطان الحكيم مراد الثاني إلى العرش، أمَّا الآن فبعد موته لا يوجد بديلٌ عن وليِّ العهد. يُضاف إلى ذلك أنَّ السنوات الثلاث الأخيرة حملت ظهورًا متميِّزًا لمحمد الثاني، سواءٌ في حملة ألبانيا الأولى عام 1448م، أم في موقعة كوسوڤو الثانية في السنة نفسها، أم في حملة ألبانيا الثانية عام 1450م، فضلًا عن حكمه للأناضول، وعلاقات المصاهرة التي دعَّمت موقفه هناك.
لقد صار صعود محمد الثاني إلى العرش أمرًا طبيعيًّا بخلاف الحال في عام 1444م عندما تنازل له الأب عن الحكم وهو في الثانية عشرة فقط من عمره.
لم يكن هذا التقبُّل لمحمد الثاني حاكمًا للدولة العثمانيَّة على المستوى الداخلي فقط؛ بل كان عالميًّا كذلك، بل لفت نظر المؤرِّخ الأسكتلندي چورچ فينلاي حالة الإفراط في المبالغة في التهنئة من الزعماء النصارى، فقال: «عند صعود محمد الثاني إلى العرش بالغت القوى النصرانيَّة في الشرق في الاهتمام بالتهنئة. ازدحم سفراؤهم في أدرنة ليُقدِّموا التهنئة للسلطان، والتعزية له في والده، وكذلك لإبراز الإجلال والاحترام. أرسل إمبراطور القسطنطينيَّة، وإمبراطور طرابزون، وأمراء المورة، ودوق أثينا، ودوق ناكسوس Naxos، وأمراء أكارنانيا Akarnania، وليسبوس Lesbos، وخيوس Chios، وزعيم الإيطاليِّين في جالاتا Galata، والسيد الأعظم لرودس Rhodes، كلُّ هؤلاء أرسلوا مبعوثيهم للتأكيد على استمرار علاقات الصداقة التي كانت على عهد مراد الثاني»[14].
والواقع أنَّ مَلَكَات محمد الثاني ومواهبه كانت سببًا في هذا القبول الداخلي والخارجي له كسلطانٍ للدولة العثمانيَّة الكبيرة، ولا شَكَّ أنَّ ظهور محمد الثاني على الساحة السياسيَّة والعسكريَّة في السنوات الثلاث الأخيرة كشف عن هذه المواهب والإمكانات بصورةٍ أقنعت جميع المراقبين بقدرات هذا الشابِّ الناضج، ولقد كتب المؤرِّخ الإنجليزي دونالد نيكول Donald Nicol واصفًا محمدًا الثاني يوم تسلَّم الحكم في بلاده، فقال: «لكونه ذكيًّا بالفطرة، وحادَّ الإدراك، وموهوبًا بطاقةٍ تلقائيَّة، ورغبةٍ حثيثةٍ في التعلُّم، فإنَّ محمدًا الثاني امتصَّ بسرعةٍ وشغفٍ ما علَّمه له أساتذته في الفلسفة والعلوم واللغات، وما علَّمه له والده من الإدارة والحرب. والآن بعد أن انتهت عاصفة الحرب الصليبيَّة الأخيرة في أوروبَّا، وبعد السلام الذي أقرَّه والده في آسيا، وَرِثَ محمد الثاني دولةً منظَّمةً ومزدهرةً هي الدولة العثمانيَّة، وهي دولةٌ مكتملةٌ اللهمَّ إلَّا من مدينة القسطنطينيَّة»[15].
لقد كان دونالد نيكول عميقًا في توصيفه للحدث؛ فقد ذكر مواهب محمد الثاني وقدراته دون أن يغفل الدور العظيم الذي قام به مراد الثاني في التمهيد لحكم ابنه محمد، وقد أوجز هذا الدور في أمرين عظيمين: هما القضاء على الطموحات الأوروبِّيَّة بهزيمة الأوروبِّيِّين في حملتهم الصليبيَّة الأخيرة، وبإقرار السلام والاستقرار في الأناضول (آسيا).
وأجمل من هذا الوصف وأعمق، وبه نختم هذا الفصل، ما ذكره المؤرِّخ البيزنطي المعاصر چورچ فرانتزس، الذي رأى محمدًا الثاني في بلاط أبيه مراد الثاني يوم زاره كسفير، فقد كتب واصفًا السلطان الجديد يوم تولَّى الحكم فقال: «جمع محمد الثاني بين إقدام وبسالة الشباب مع عقل وحكمة الشيوخ، وذلك في الحرب والسياسة على حدٍّ سواء. لقد كان حازمًا، وذكيًّا، وساعيًا بجدِّيَّةٍ للتعلم، والبحث عن التوجيهات العلميَّة. لقد حقَّق تقدُّمًا كبيرًا في علم الفلك، وهو العلم المفضَّل في زمانه عند النصارى والمسلمين، وكان مُغْرمًا بالقراءة. لقد تكلَّم بطلاقةٍ خمسَ لغاتٍ إلى جوار لغته التركيَّة الأم: اليونانيَّة، واللاتينيَّة، والعربيَّة، والفارسيَّة، والسلاڤيَّة (أي الصربية)»[16]!
هذا هو بطل قصَّتنا: محمد الثاني..
الذي سيُصبح محمدًا الفاتح![17].
[1] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. إستانبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م. صفحة 1/129.
[2] أحمد آق كوندز وسعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة [كتاب]. - إستانبول: وقف البحوث العثمانية، 2008م.صفحة 120.
[3] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت، لبنان: دار الجيل، 1412هـ= 1992م، م صفحة 10/152.
[4] Kissling Hans [et al.] The Last Great Muslim Empires [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 1969., vol. 3, p. 16.
[5] Cazacu Matei Dracula [Book]. - The Netherlands : Brill, Leiden, 2017., pp. 98-99.
[6] Kazhdan Alexander and Cutler Anthony Oxford Dictionary of Byzantium [Book]. - Oxford, UK : Oxford University Press, 1991.., 1991, p. 656.
[7] Doukas Decline and Fall of Byzantium to the Ottoman Turks [Book] / trans. Magoulias Harry J.. - Detroit, USA : Wayne State University Press, 1975., p. 186.
[8] Doukas, 1975, pp. 188-189.
[9] Necipoğlu Nevra Byzantium Between the Ottomans and the Latins [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2009, p. 9.
[10] Finlay George A History of Greece: Mediaeval Greece and the empire of Trebizond, A.D. 1204 – 1461 [Book]. - [s.l.] : The Clarendon Press, Oxford, 1877., vol. 3, p. 479.
[11] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978., p. 61.
[12] Freely, 2009, p. 20.
[13] Venning, 2006, p. 722.
[14] Finlay, 1877, vol. 3, p. 497.
[15] Nicol Donald M. The Last Centuries of Byzantium, 1261-1453 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 1993., p. 372.
[16] Finlay, 1877, vol. 3, p. 498.
[17] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441ه= 2019م، 1/ 124- 133.
التعليقات
إرسال تعليقك