التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
استمر حصار القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح أربعة وخمسين يومًا كاملًا، وسيظل حصار القسطنطينية وفتحها حدثًا حيويًا مهما تعاقبت الأعوام.
مع أنَّ حصار القسطنطينيَّة حدث منذ أكثر من خمسة قرون فإنَّ المعلومات عنه ما زالت متجدِّدة إلى زماننا هذا! السبب في ذلك أنَّ العشرات والمئات بل الآلاف من الوثائق ما زالت تُكتَشَف كلَّ عام، وكثيرٌ من هذه الوثائق مكتوبةٌ بلغاتٍ غير متداولةٍ في عصرنا، مثل اللاتينيَّة القديمة، أو اليونانيَّة القديمة، وأيضًا التركيَّة القديمة، وهذه الوثائق تشمل مؤلَّفات كتبها معاصرون للحدث، وتشمل خطابات رسميَّة متداولة بين الحكام، أو السفراء، أو القساوسة، وتشمل كذلك رسائل خاصَّة كتبها بعض المحاصرين، أو بعض الجنود إلى أهلهم، وفوق كلِّ ذلك فهناك المعلومات المحفوظة في الأرشيفات الحكوميَّة، مثل: الأرشيف العثماني، أو البندقي، أو الچنوي. بل هناك وثائق محفوظة في أرشيفاتٍ لبعض الدول لم تكن مشتركةً في الحدث، ولكنَّها تدخَّلت فيه بصورةٍ عابرة، أو سرِّيَّة، مثل: أرشيفات المجر، وفلورنسا، وميلانو Milan، وفرنسا، وفضلًا عن أرشيفات الكنائس والأديرة، وفي مقدِّمتها الڤاتيكان.
هذا الزخم الضخم من المعلومات يُخْرِج لنا كلَّ يومٍ جديدًا، وهذا الجديد يُغَيِّر أحيانًا من مفهومنا عن بعض الأمور ويُرجِّح رؤيةً معيَّنة، وقد يُقَدِّم أو يُؤخِّر، أو يدفع شبهة، أو يُبيِّن غامضًا، وهكذا سيظلُّ حصار القسطنطينيَّة وفتحها حدثًا حيويًّا متجدِّدًا مهما تعاقبت الأعوام، وأنا أعتقد أنَّه لو كتب مؤرِّخٌ معاصرٌ عن هذا الحدث كتابًا، وراجعه ألف مرَّة، فإنَّه في كلِّ مرَّةٍ سيُضيف جديدًا، ويُغيِّر ترتيبًا، طالما أنَّه دائم البحث، وكثير القراءة!
استمرَّ حصار القسطنطينية أربعةً وخمسين يومًا كاملًا، من يوم 6 أبريل 1453م إلى يوم 29 مايو من السنة نفسها، ويُمكن إضافة أربعة أيَّامٍ أخرى سبقت هذا التاريخ، أي بداية من يوم 2 أبريل؛ حيث بدأ ظهور الجيش العثماني في المنطقة، ومع أنَّ الحصار لم يكن قد أُحْكِم بعد، فإنَّ هناك بعض المناورات والأحداث التي كانت تمهيدًا مباشرًا للحصار، ومِنْ ثَمَّ يُفَضَّل أن تُضاف هذه الفترة ليوميَّات الحصار الكبير.
ولقد اجتهدتُ في جمع معلوماتٍ كثيرةٍ عن هذا الحصار وآليَّاته من أكثر من مصدر، ولاحظت تناقضاتٍ كثيرةً بين الروايات، فحاولت التوفيق بينها قدر المستطاع، كما ظهر لي بوضوح انحيازات بعض المؤلِّفين في تصويرهم للأحداث حسب مرجعيَّتهم الثقافيَّة، أو انتماءاتهم الدينيَّة أو العرقيَّة، فعلى سبيل المثال تظهر الرؤية المنحازة للطبيب البندقي نيكولو باربارو في كتاباته عن الحصار؛ فهو ينحاز أوَّلًا للشعب المحاصَر بشكلٍ عامٍّ، وهذا طبيعيٌّ لأنَّه محاصرٌ معهم، ويُعاني من كلِّ ما يُعانون منه، ولا ينظر هنا باربارو إلى خلفيَّات الصراع، ولا إلى أسبابه، ولا إلى تاريخ العلاقة بين العثمانيِّين والبيزنطيِّين، أو بين المسلمين والرومان بشكلٍ عامٍّ؛ إنَّما يحكم على حدثٍ معيَّنٍ اقتطعه من سياق أحداثٍ كثيرةٍ امتدَّت إلى قرون، فتأتي رؤيته قاصرة، وحكمه غير دقيق، مع قناعاتنا التامَّة أنَّ الشعب المحاصَر يُعاني، ويتضرَّر، ولكن هذه طبيعة الحروب، وما لاقاه الشعب البيزنطي في حصار القسطنطينيَّة لاقاه كذلك الشعب المسلم في حصار القدس، أو دمشق، أو حلب، أو غيرها من المدن التي حاصرها الصليبيُّون قبل ذلك، ثم إنَّ باربارو ينحاز من جديد للنصرانيَّة ضدَّ الإسلام، وهذا -أيضًا- مفهوم ومتوقَّع، خاصَّةً في هذا الزمن الذي كان الدين داخلًا في حياة الشعوب بشكلٍ أكبر بكثيرٍ من زماننا المعاصر، وكانت الحروب بشكلٍ عامٍّ تأخذ الطابع الديني، ومِنْ ثَمَّ فالحديث دائمًا عن الطرف الآخر يأتي بألفاظٍ تصفه بالكفر، أو الإجرام، أو النفاق، أو ما إلى ذلك من صفاتٍ تُوضِّح نفسيَّة المؤلِّف ورؤيته للأمور، كذلك عند الحديث عن قادة النصرانيَّة، فإنَّه لا يتحدَّث عن غدرهم أو خيانتهم لعهدهم مع المسلمين؛ إنَّما يتحدَّث عن أدبهم، ورقَّتهم، وشجاعتهم، وإيمانهم، وهذا كلُّه متوقَّعٌ من حليفٍ أو صديقٍ يكتب عن الحدث، وفوق انحياز باربارو إلى الشعب المحاصَر، وإلى النصرانيَّة بشكلٍ عامٍّ، فإنَّه منحازٌ للبنادقة بشكلٍ خاص، خاصَّةً إذا كان هناك حدثٌ يرتبط بالچنويِّين مثلًا؛ فالعداء بين البندقيَّة وچنوة ينعكس بوضوح على رؤيته للأحداث؛ فالبنادقة دائمًا نبلاء وكرماء وشجعان ومُقْبِلون، والچنويون دومًا غدَّارون وبخلاء وجبناء ومنسحبون، وهذه الرؤية تجعله يوظِّف الأحداث بالصورة التي يُريد، وقد يتعذَّر على القارئ ليوميَّاته أن يُفرِّق بين الصدق والكذب، أو بين الحقِّ والباطل.
وما قلناه عن كتابات باربارو يُقال عن غيرها من اليوميَّات والرسائل التي كُتِبت في هذه الفترة؛ فهو يُقال عن كتابات ليوناردو قِس خيوس Leonardo of Chios، وكتابات كاردينال كييڤ إيزيدور Isidore of Kiev، وكتابات التاجر الفلورنسي چاكوبو تيدالدي Jacopo Tedaldi، وكتابات المؤرِّخ اليوناني كريتوبولوس Kritoboulos، وكذلك كتابات الوزير اليوناني چورچ فرانتزس George Phrantzes، وغير هذه من الكتابات، بل إنَّ هذا ينطبق على كتابات المسلمين، خاصَّةً الأتراك منهم؛ لأنَّه قد يكون فيها انحيازٌ واضحٌ يُغيِّر من الرؤية في بعض الأحداث.
وما قلناه عن كتابات المعاصرين للحدث يُقال كذلك عن كتابات المؤرِّخين في العصور المختلفة، فعلى سبيل المثال نلاحظ أنَّ كتابات المؤرِّخين في القرن التاسع عشر متأثِّرةٌ بشكلٍ كبيرٍ بالفكر السائد في هذه الفترة، وهو فكر القوميَّة والثورات، خاصَّةً إذا كان المؤلِّف من البلاد التي تسعى للبحث عن كينونتها، مثل: مؤرخي البلقان، أو اليونان، أو بلغاريا، أو صربيا، أو غيرها. فهؤلاء ينحازون بشكلٍ جليٍّ لقضايا بلادهم المعاصرة، ويستمدُّون دعمًا لذلك من التاريخ، فينعكس هذا على رؤيتهم للأحداث التاريخيَّة المتعلِّقة ببلادهم، وهذا كلُّه يُؤثِّر في التصوُّر النهائي للحدث.
إنَّ المخرج من هذه التناقضات يكون بالاطِّلاع على المصادر المختلفة، والمقارنة بينها، واستخدام العقل والمنطق في تحليل الروايات، ومعرفة شيءٍ عن خلفيَّات كلِّ مؤلِّف. وكلَّما ازداد المؤلف إحاطةً بالأحداث وقراءةً للروايات المنتاقضة، استطاع بشكلٍ أفضل أن يصل إلى الحقيقة وسط هذه التناقضات.
بعد الرجوع إلى كثيرٍ من المصادر وَصَلْتُ إلى تصوُّرٍ تقريبيٍّ لحصار القسطنطينيَّة، واجتهدت في الجمع بين الروايات لنصل إلى تسلسلٍ زمنيٍّ منطقي، ولتسهيل الأمر على القارئ فإنَّني سأسرد هذه الأحداث في صورة يوميَّاتٍ قدر المستطاع، مع العلم أنَّ هذا قد يكون متعذِّرًا في بعض الأحيان؛ لتداخل الأحداث مع بعضها البعض، فالقوات البرِّيَّة تُحارب في الوقت نفسه الذي تُحارب فيه الأساطيل البحريَّة، وقد يتزامن مع هذا حدثٌ سياسيٌّ أو دبلوماسي، وهناك أحداثٌ داخل القسطنطينيَّة تتزامن مع أحداثٍ في المعسكر العثماني، وقد يبدو عدم الترابط بينها، ولكنَّها في النهاية تُؤثِّر بشكلٍ أو آخر في بعضها البعض. أضف إلى هذا أنَّ الروايات المختلفة تذكر الحدث نفسه بتواريخ مختلفة، وأحيانًا متباعدة، ممَّا يزيد من صعوبة الأمر. إنَّني على ثقةٍ من أنَّ القارئ سيتفهَّم هذه التشابكات، وبعد قراءة جزءٍ من هذه اليوميَّات سينتقل بفكره ومشاعره إلى هذه الحقبة المهمَّة في التاريخ ليُعايش هذه اللحظات المؤثِّرة التي غيَّرت -بوضوح- من مسار شرق أوروبَّا، بل أوروبَّا كلها، بل -دون مبالغة- العالم بأسره!
ومع هذه اليوميَّات!
***
الاثنين 2 أبريل:
في هذا اليوم ظهرت طلائع الجيش العثماني في محيط مدينة القسطنطينيَّة. خرجت لهم فرقةٌ من الجيش البيزنطي والتقتهم في مواجهةٍ عسكريَّة؛ الحقُّ أنَّ هذه كانت مغامرةً من البيزنطيِّين، وأراها غير محسوبة؛ فإمَّا أنَّ مخابراتهم لم تنقل لهم معلومات عن عدد الجيش العثماني وعدَّته، وإمَّا أنَّهم كانوا يظنُّون أنَّ هذه الروح القتاليَّة يُمكن أن تُشْعِر العثمانيِّين بالقلق أو التردُّد، لكن فكرة الانتصار بهذه الفرقة على الجيش العثماني هي فكرةٌ مستحيلةٌ في كلِّ الأحوال، أو لعلَّ الفرقة البيزنطيَّة كانت تشتري وقتًا لحين الانتهاء من بعض الاستعدادت في المدينة؛ على كلِّ حالٍ التقى البيزنطيُّون العثمانيِّين، فقتلوا بعضهم، وجرحوا آخرين، لكن ما لبثت بقيَّة الطلائع العثمانيَّة أن ظهرت فولَّت الفرقة البيزنطيَّة الفرار، وعادت إلى المدينة الحصينة وأغلقت الأبواب[1].
كانت هذه هي المعركة الوحيدة التي تجرَّأ فيها الجيش البيزنطي على الخروج من المدينة أثناء الحصار، ومن ساعتها لم يخرج البيزنطيُّون للقتال قط من وراء الأسوار.
في هذا اليوم أمر الإمبراطور البيزنطي برفع السلسلة الحديديَّة على مدخل القرن الذهبي[2]، مانعًا بذلك أيَّ سفينةٍ عثمانيَّةٍ من الدخول إلى الخليج، ولم يكتفِ الإمبراطور بذلك؛ إنَّما أمر بتدمير الجسور الموجودة فوق الخندق الذي يُحيط بالمدينة من ناحيتها الغربيَّة[3]، وهكذا بدأ البيزنطيُّون في التقوقع الكامل في المدينة إلى أن يرحل العثمانيُّون، فهذه هي البداية الحقيقيَّة للحصار على الرغم من عدم اكتمال وجود الجيش العثماني بعدُ.
الثلاثاء 3 أبريل والأربعاء 4 أبريل:
توالى في هذه الفترة وصول قوَّات الجيش العثماني، وهي مقسَّمةٌ إلى عدَّة كُتَلٍ كبرى ممثِّلة لقوَّات الأناضول والروملي[4].
الخميس 5 أبريل:
قبل شروق الشمس بساعة وصل محمد الثاني إلى مسافة أربعة كيلو مترات من أسوار القسطنطينيَّة، وبذلك ظهر من بعيد لأولئك البيزنطيِّين الذين يُراقبون الموقف من فوق الأسوار[5]. لا شَكَّ أنَّ وجود السلطان بنفسه ألهب حماس جنوده، وأشعرهم بالمشاركة الحقيقيَّة في الهموم والمخاطر، وهذا بطبيعة الحال يستخرج طاقات الجيش.
لم يكن السلطان محمد الثاني منشغلًا في هذا اليوم بترتيب القوَّات حول أسوار القسطنطينيَّة؛ إنَّما أراد أن يتوصَّل إلى حلٍّ سلميٍّ مع القسطنطينيَّة يُوفِّر عليه وعليها الكثير من الجهود والدماء، وكان ينطلق في هذا التوجُّه من الشريعة الإسلاميَّة التي تقضي بإنذار القوم قبل غزوهم[6]؛ بل يرى فقهاء الحنفية، وهو المذهب الذي عليه محمد الثاني والدولة العثمانية بشكل عامٍّ؛ أنه من الأفضل للمسلمين أن يسعوا إلى الصلح مع أهل الحرب؛ إن كان الصلح خيرًا للمسلمين[7]، وهذا ما كان محمد الثاني يحاول أن يفعله.
في هذا اليوم -في 5 أبريل- أرسل محمد الثاني مجموعةً من السفراء يحملون علمًا أبيض دلالةً على المهمَّة السلميَّة، يعرضون على الإمبراطور التفاوض في أمر المدينة، وكما يروي كريتوبولوس فإنَّ محمدًا الثاني عرض على الإمبراطور تسليم المدينة له في مقابل أن يعيش هو وكلُّ شعب المدينة في أمان، هم وأزواجهم، وأولادهم، مع الحفاظ على كامل ممتلكاتهم، وعدم التعرُّض لهم بأيِّ صورةٍ من الأذى، بل سيتركهم يُمارسون أعمالهم الوظيفيَّة في المدينة كما كانوا يفعلون تمامًا قبل تسليمها[8].
كان محمد الثاني يعلم صعوبة أن يُسلِّم الإمبراطور مدينته؛ لأنَّ هذا يعني سقوط الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة العريقة؛ لكنَّه كان يطمح في هذا الأمل، خاصَّةً وهو يرى الحالة الضعيفة التي وصلت إليها الإمبراطوريَّة في هذا الزمن، بالإضافة إلى الهيئة المهيبة التي كان عليها الجيش العثماني، التي يُمكنها أن تُقنع الإمبراطور أنَّ سقوط الإمبراطوريَّة أمرٌ حتمي، ولهذا كانت هذه الرسالة عرضًا منطقيًّا منه، وقد أعطى البيزنطيِّين يومًا وليلةً للتفكير في العرض، ومع ذلك فقد جاء الردُّ قاطعًا؛ حيث رفض الإمبراطور تسليم المدينة، وأعلن أنَّه قابلٌ لأيِّ شرطٍ يعرضه السلطان إلَّا التنازل عن القسطنطينيَّة[9].
كان الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر يرى أنَّ المدينة حصينةٌ بما يكفي لمنع العثمانيِّين من اقتحامها، وعلى الرغم من قلَّة عدد جيشه، ونقص المؤن في المدينة، فإنَّه كان منتظرًا المساعدة من الغرب، ويتوقَّع وصول سفن إغاثةٍ من البندقيَّة، كما أنَّ محاولاته المتكرِّرة في المدينة لدعم فكرة الدمج بين الكنيستين الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة كانت تُعطيه الأمل في أنَّ البابا سيُحرِّك الجيوش الأوروبِّيَّة لنجدة القسطنطينيَّة. إنَّه فقط -في رؤيته- يحتاج للصبر أسابيع قليلة، وبعدها ستعود الأمور إلى سابق عهدها، بل قد يتطوَّر الأمر -مع بعض التفاؤل- ويتمكَّن الأوروبِّيُّون من إقصاء العثمانيِّين من أوروبَّا!
هكذا رفض الإمبراطور البيزنطي عرض التسليم ليبدأ السلطان محمد الثاني من اليوم التالي مباشرةً في الإعداد الفعلي لعمليَّة اقتحام القسطنطينيَّة!
***
الجمعة 6 أبريل:
كانت خطوات الجيش العثماني في اتِّخاذ مواقعه حول أسوار القسطنطينيَّة سريعة؛ فبعد صلاة الجمعة مباشرةً بدأ السلطان محمد الثاني في تنسيق قوَّاته في الأماكن الاستراتيجيَّة حول المدينة[10].
يُمكن أن نتحدَّث عن الجيش العثماني في هذا الحصار تحت ثلاثة محاور: محور القوَّات البرِّيَّة، ومحور المدفعيَّة، وأخيرًا محور الأسطول البحري.
أوَّلًا: القوَّات البرِّيَّة:
ذكرنا قبل ذلك التفاوت في تقدير عدد الجيش العثماني في حصار القسطنطينيَّة، ونحن نميل إلى أنَّه كان في حدود المائة ألف مقاتل تقريبًا، وأيًّا ما كان الأمر فإنَّ هذه القوَّات كانت منظَّمة للغاية، وذات تكتيك عسكري واضح، وحرفيَّة عالية، وانضباط أدائي رائع، وكان من الواضح أنَّ السلطان محمدًا الثاني وقادته قد درسوا تضاريس المنطقة وتحصينات البيزنطيِّين بشكلٍ جيِّدٍ جدًّا، ومِنْ ثَمَّ جاءت توزيعاتهم لفرق الجيش حول الأسوار منطقيَّةً وهادفة؛ وبالنظر إلى هذا التوزيع نجد أنَّ القوَّات البرِّيَّة قد انقسمت إلى قسمين رئيسين: الأوَّل كبيرٌ جدًّا، ويتمركز أمام الأسوار الغربيَّة، والثاني صغيرٌ نسبيًّا، ويتمركز شمال القرن الذهبي إلى الغرب من منطقة جالاتا.
كانت مهمَّة اقتحام الأسوار مُوكَلَة إلى القسم الأوَّل من الجيش العثماني، وقد قام السلطان محمد الثاني بتوزيع فرق هذا القسم على الأماكن المهمَّة في الأسوار الغربيَّة، فجاء ترتيبه على النحو الآتي (خريطة رقم 6):
كانت أهمُّ هذه الفرق هي فرقة الإنكشاريَّة الاحترافيَّة، وهي أقوى فرق الجيش العثماني، وكان قوامها في هذا الحصار اثني عشر ألف مقاتل يقودهم السلطان محمد الثاني بنفسه[11]، وقد وضع السلطان هذه الفرقة في أهمِّ مكانٍ حول السور، وهو بوَّابة سان رومانوس، وهي البوَّابة الأضعف في السور كلِّه ومِنْ ثَمَّ يُتوقَّع أن يكون الضغط الرئيس على السور في هذا الموضع، ولقد نصب السلطان خيمته -وكانت مميَّزة باللونين الذهبي والأحمر- في مقدِّمة فرقة الإنكشاريَّة، واضعًا نفسه بذلك في أخطر الأماكن التي سيدور عندها القتال[12]. كان الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي مع السلطان محمد الثاني في هذا القسم من الجيش[13]. صار هذا القسم بهذه الوضعيَّة مواجهًا لمنتصف الأسوار تقريبًا، وسيكون عن يمينه ويساره فرقٌ أخرى، وبذلك تكون مجموعة السلطان في قلب الجيش، وهذا يوفِّر له سهولةً في التواصل مع فرق جيشه المنتشرة على طول الأسوار الغربيَّة؛ أي على مسافةٍ تقترب من ستَّة كيلو مترات كاملة.
إلى اليمين من قوَّات السلطان -أي من الناحية الجنوبيَّة من الأسوار الغربيَّة- كانت قوَّات الأناضول تحت قيادة والي الأناضول إسحاق باشا Ishak Pasha، وكان هذا القسم من الجيش يُحاصر الأسوار حتى نقطة التقائها مع أسوار البحر عند بحر مرمرة، أمَّا على يسار السلطان -أي في الناحية الشماليَّة من الأسوار الغربيَّة- فكانت قوَّات الروملي تحت قيادة والي الروملي قرة چه باشا Karadja Pasha، وكان هذا القسم من الجيش يُحاصر الأسوار حتى نقطة التقائها مع أسوار البحر عند خليج القرن الذهبي. كانت هذه الأقسام الثلاثة: الإنكشاريَّة، وقوَّات الأناضول، وقوَّات الروملي، تواجه بشكلٍ مباشر الأسوار الغربيَّة، ومع ذلك فقد كان هناك قسمٌ رابعٌ يُمثِّل قوَّاتٍ احتياطيَّةً، وكان هذا القسم يقف صفًّا ثانيًا خلف قوَّات السلطان محمد الثاني[14].
في شمال القرن الذهبي كانت هناك فرقةٌ أخرى من فرق الجيش العثماني تحت قيادة زاجانوس باشا Zaganos Pasha[15]، وكانت هذه الفرقة بهذه الوضعيَّة بعيدةً عن الأسوار، وبالتالي فهي على الأغلب لن تُشارك في عمليَّة الاقتحام، ويبدو من وضعها الجغرافي أنَّ مهمَّتها كانت مراقبة منطقة جالاتا القريبة؛ وذلك تحسُّبًا لأيِّ غدر من أهلها الچنويِّين، الذين اتَّفقوا مع السلطان على البقاء على الحياد وعدم مساعدة القسطنطينيَّة، كما يُمكن أن يكون لهذه الفرقة دورٌ في مراقبة القرن الذهبي الذي توجد به سفن الدولة البيزنطيَّة وسفن حلفائها.
وذكرت عدَّة مصادر أنَّ الجيش العثماني كان يضمَّ فرقةً من الصربيِّين النصارى يبلغ قوامها ألفًا وخمسمائة مقاتل[16][17][18]، ومع أنَّ عدد هذه الفرقة قليلٌ بالقياس إلى حجم الجيش العثماني؛ فإنَّ وجودها كان له رمزيَّةٌ مهمَّة؛ فهو يُؤكِّد أوَّلًا على تبعيَّة الصرب للدولة العثمانيَّة، وكانت الاتفاقيَّة بينهما تقضي بأن يقوم الصرب بإمداد الدولة العثمانيَّة بالجنود في حالة الحاجة إليها، ومع أنَّ الزعيم الصربي برانكوڤيتش قام بالتعدِّي على أراضي الدولة العثمانيَّة بعد اعتلاء السلطان محمد الثاني العرش فإنَّه لم يستطع أن يُصعِّد الأمور برفضه مساعدة الجيش العثماني على عمليَّاته العسكريَّة، وثانيًا فإنَّ وجود نصارى أرثوذكس في جيش الدولة العثمانيَّة سيُؤثِّر سلبًا في معنويَّات البيزنطيِّين، وثالثًا قد تُستخدم هذه الفرقة في بعض الأعمال التقنيَّة التي يتميَّزون فيها، وقد ذكرت بعض المصادر أنَّ السلطان محمدًا الثاني استخدمهم في محاولة حفر الأنفاق تحت الأسوار؛ حيث كان بالفرقة عددٌ من المهندسين المتخصِّصين في ذلك[19].
وأخيرًا فإنَّه يُمكن تمييز بعض أنواع الفرق العسكريَّة داخل كلِّ قسمٍ من أقسام الجيش العثماني، ونوع الفرقة يتحدَّد بطريقة تشكيلها، أو بوسيلة حركتهم (مشاة أو فرسان)؛ فكان منهم السباهيَّة Sipahi، وهؤلاء يُمثِّلون معظم فرسان الجيش العثماني، وهي فرقةٌ احترافيَّةٌ عالية التدريب، ومنهم الآقنجي Akinji (Akinci)، وهي فرق فرسانٍ خفيفة غير نظاميَّة، ومنهم الإنكشاريَّة، وهم جميعًا من المشاة، ومنهم العزب Azaps، وهي فرق مشاةٍ غير نظاميَّة، وأخيرًا قوَّات الباشي بازوك Bashi-bazouk (وتُكتب في بعض المصادر باشي بوزوق)، وهي قوَّاتٌ غير نظاميَّةٍ تُجْمَع من أماكن مختلفة وقت الحرب فقط[20]. هذه القوَّات الأخيرة -أعني الباشي بازوك- كانت تُمثِّل معظم القوَّات الاحتياطيَّة الموجودة خلف قسم السلطان[21]، وحيث إنَّها غير احترافيَّةٍ فإنَّها لم تكن تُسْتَخدم في العمليَّات الحرفيَّة بقدر استخدامها في إرهاق الجيش المعادي بالحرب، كما سيتبيَّن لنا عند مطالعة أحداث الحصار، والجدير بالذكر أنَّ هذه القوَّات كانت تُجْمَع من بلادٍ مختلفة، ولم يكن لهم رواتب ثابتة؛ إنَّما كانوا يتقاضون الأجر عند كلِّ معركة، فهم أشبه ما يكون بالمرتزقة[22]. هذه هي القوَّات البِّريَّة في الجيش العثماني، وتوزيعها في بداية الحصار.
ثانيًا: المدفعيَّة في حصار القسطنطينيَّة:
كان الجيش العثماني في حصار القسطنطينيَّة مزوَّدًا بأحدث المدفعيَّة الموجودة في زمانه، بل كانت به بعض أنواع المدافع غير المتوفِّرة في أيِّ جيشٍ آخر من جيوش العالم، وهذا يُعطينا فكرةً عن مدى الاستعداد التقني الذي كان عليه الجيش.
ذكرت الكثير من المصادر أنَّ عدد المدافع العثمانيَّة في الحصار كان سبعين مدفعًا[23][24]، ومع ذلك فحجم المدافع كان متفاوتًا بشكلٍ كبير، ويُمكن الحديث عنها تحت ثلاثة أقسام:
القسم الأوَّل يضمُّ مدفعًا واحدًا، هو أكبر مدفعٍ في العالم آنذاك، وهو الذي صمَّمه المهندس المجري أوربان، وقد قدَّم لنا المؤرِّخ اليوناني المعاصر للحصار كريتوبولوس وصفًا دقيقًا لحجم المدفع، فذكر أنَّ طوله ثمانية أمتار، وعرض فوَّهته ستَّةٌ وسبعون سنتيمتر، ويُمكن له أن يُلقي بقذيفةٍ بوزن ألفٍ ومائتي رطل (حوالي خمسمائة وأربعة وأربعين كيلو جرامًا)، وذلك لمسافة ميل واحد (1.6 كيلو متر)، محدثًا حفرةً بقطر مترين[25]، وهذه القياسات -كما يشهد المؤرِّخ الأميركي العسكري تشارلز ستانتون Charles Stanton- لم تكن موجودةً في العالم آنذاك، بل هي بدايةٌ لعهدٍ جديدٍ في الحروب، وإنهاء للعصور الوسطى[26].
وُضِع هذا المدفع العملاق في مواجهة بوَّابة سان رومانوس إلى المقدِّمة من خيمة السلطان محمد الثاني[27]، وكان واضحًا أنَّ تركيز الهجوم العثماني سيكون على هذه المنطقة الأضعف في السور، وقد أطلق اليونانيُّون على هذا المدفع اسم بازيليكا Basilica، أي المدفع الملكي[28]؛ وذلك غالبًا لوجوده إلى جوار خيمة السلطان.
القسم الثاني من المدافع يشمل المدافع الكبرى التي تُلقي قذائف بوزن خمسمائة رطل، وكان الجيش العثماني يمتلك منها ثلاثة عشر مدفعًا؛ اثنان منها كبيران جدًّا، ويقتربان في الحجم من مدفع أوربان، وقد وُضِعا إلى جواره أمام بوَّابة سان رومانوس[29]، وأحد عشر مدفعًا آخر، وقد وُزِّعت على الأماكن الأخرى في السور خاصَّةً الناحية الشماليَّة[30]، فهذه أربعة عشر مدفعًا مؤثِّرًا (أي بالإضافة إلى مدفع أوربان)، ولعلَّ هذه المدافع هي المقصودة في كتابات بعض المؤرِّخين عندما ذكروا أنَّ الجيش العثماني في حصار القسطنطينيَّة كان يمتلك أربع عشرة بطاريَّة مدفع[31][32].
أما القسم الثالث من المدافع فكان يشمل المدافع الصغيرة، وهي مدافع سهلة الحركة، وإن كانت قذائفها ضعيفة نسبيًّا، وكان عددها يتجاوز الخمسين، وكانت تُلقي قذائف بزنة مائتي رطل فقط[33].
ثالثًا: الأسطول البحري العثماني:
كعادة المصادر القديمة فإنَّ التقديرات لعدد سفن الأسطول العثماني متفاوتةٌ جدًّا؛ فالمقلِّل منهم كتيدالدي الفلورنسي يذكر أنَّ الأسطول العثماني يتكوَّن من اثنتين وتسعين سفينة، بينما المكثِّر كفرانتزس يصل بعدد السفن إلى أكثر من أربعمائة[34][35]، وقد يكون سبب هذا التفاوت هو اختلاف حجم السفن؛ فبعض السفن تكون كبيرةً بالدرجة التي تسمح لها بأن تكون عسكريَّةً مقاتلة، وبعضها صغيرٌ للغاية كمراكب الصيد، وهذه الأخيرة قد يُهملها البعض في الحساب، أو قد يُحصيها فيرتفع بها عدد السفن، لكن عمومًا فإنَّ الدراسات الحديثة المنطقيَّة تجعل الرقم حول مائةٍ وستٍّ وعشرين سفينةً[36].
كان الأسطول العثماني -على الرغم من اهتمام السلطان محمد الثاني به- في مراحل نموِّه الأولى، ولم يكن من الناحية التقنيَّة الحربيَّة على مستوى الأساطيل العملاقة التي تمتلكها الجمهوريَّات البحريَّة الإيطاليَّة كالبندقيَّة، أو چنوة، أو كالتي تمتلكها إسبانيا، أو فرنسا؛ لأنَّ عهد العثمانيِّين بالبحر قريب، وخبرتهم به محدودة، ولهذا كانت كلُّ السفن العثمانيَّة تُدار بالمجاديف، ولم يكن عند الدولة العثمانيَّة سفنٌ تُدار بالشراع[37]، وهذا لا شَكَّ كان يُقلِّل من قدرتها على المناورة والقتال.
ومع كون الأسطول العثماني في بداياته فإنَّ الروح القتاليَّة عند البحَّارة كانت عالية، وهمَّتهم كانت كبيرة، وهذا كان يُعطي الأسطول العثماني هيبةً لا تتوازى على وجه الحقيقة مع إمكاناته العسكريَّة، ويُمكن لنا أن نُطالع وصف المؤرِّخ اليوناني كريتوبولوس للأسطول عندما رآه لنفهم هذه الحقيقة. يقول كريتوبولوس وهو يصف حركة الأسطول العثماني من جاليبولي -حيث صُنِّع- إلى بحر مرمرة حيث سيمكث استعدادًا لحصار القسطنطينيَّة: «انطلق البحَّارة العثمانيُّون في سرعةٍ عظيمة، مع صيحاتٍ وضجيج، وابتهاج، وكانوا يترنَّمون بأغانٍ خاصَّةٍ أثناء التجديف، ويُحمِّس بعضهم بعضًا بصيحاتٍ معيَّنة. عندما غادروا مضيق الدردنيل أحدثوا أعظم دهشةٍ وخوفٍ عند كلِّ مَنْ رآهم. لم يكن هناك -ولمدَّةٍ طويلةٍ من الزمن- أسطولٌ بهذا الحجم والإعداد»[38]!
هذا التصوير العاطفي من كريتوبولوس يُعطي الانطباع أنَّه لا مثيل للأسطول العثماني في هذه الحقبة، وهذا يأتي على هوى بعض المؤرِّخين، وخاصَّةً الأتراك منهم، أو المحبِّين بشكلٍ عامٍّ للسلطان محمد الثاني، ولكن الواقع غير ذلك، وقد يكون السبب في اندفاع كريتوبولوس هو تأثُّره بالروح العالية عند البحَّارة العثمانيِّين المتحمِّسين، الذين يعملون في سبيل قضيَّةٍ كبيرة، وليسوا كالمرتزقة الذين يُقاتلون فقط من أجل المال، أو قد يكون متأثِّرًا برؤيته للأسطول البيزنطي الهزيل الذي لا يُقارَن بطبيعة الحال بالأسطول العثماني؛ ليس لقوَّة العثمانيِّين ولكن لضعف البيزنطيِّين في هذه الفترة.
عمومًا كان الأسطول العثماني في أفضل حالاته، إذا ما قارنَّاه بمراحله التاريخيَّة المختلفة، وكان السلطان محمد الثاني قد جهَّزه ببحَّارةٍ محترفين من الأماكن الساحليَّة في الدولة العثمانيَّة، ووضع على رأسه القبطان سليمان بلطه أوغلو Suleiman Baltoghlu، وهو من أصولٍ بلغاريَّة، وهو حاكم جاليبولي، وله تاريخٌ جيِّدٌ في البحريَّة العثمانيَّة[39].
تحرَّك الأسطول العثماني في الدردنيل شمالًا، ثم في بحر مرمرة، وأخيرًا دخل مضيق البوسفور؛ حيث رسا على بعد ثلاثة كيلو مترات شمال مدينة القسطنطينيَّة عند ميناء العمودين Double Column (Diplokionion)[40]، وهو مكان ميناء بيشيكتاش Beşiktaş الآن، وهذا المكان يُوفِّر له قربًا من مدينة القسطنطينيَّة أوَّلًا، ومن القرن الذهبي حيث الأسطول البيزنطي ثانيًا، ومن منطقة جالاتا حيث الجالية الچنويَّة ثالثًا، وهذه كلُّها أماكن مهمَّةٌ بالنسبة إلى الأسطول العثماني.
كان واضحًا أنَّ مهمَّة الأسطول العثماني تكمن في ثلاثة أمور إذن؛ الأوَّل هو محاولة الهجوم على القسطنطينيَّة سواءٌ من ناحية بحر مرمرة، وهذا احتمالٌ أقل، أم من ناحية القرن الذهبي لو تيسَّر له بصورةٍ أو أخرى دخول الخليج، والثاني هو منع أيِّ سفن إمدادٍ من دخول القرن الذهبي، وبالتالي الوصول إلى المحاصَرين داخل المدينة، وهذا سيُقلِّل من قدرة المدينة على المطاولة في الحصار، والثالث هو مراقبة أهل چنوة في ميناء جالاتا لمنعهم من مناصرة القسطنطينيَّة.
هذا هو الجيش العثماني في حصار القسطنطينيَّة، بقوَّاته البرِّيَّة، ومدافعه، وأسطوله البحري.
ولقد حوصرت القسطنطينيَّة قبل ذلك مرارًا، ولكن هذا الحصار الأخير يختلف عن الحصارات السابقة في أمرين مهمَّين؛ الأمر الأوَّل هو قوَّة المدفعيَّة العثمانيَّة في هذا الحصار، فعلى الرغم من استخدام مراد الثاني للمدفعيَّة في حصاره للقسطنطينيَّة عام 1422م[41]، فإنَّ مدفعيَّته كانت أقلَّ تطوُّرًا بكثيرٍ من مدفعيَّة ابنه محمد الثاني، والأمر الثاني هو استخدام الأسطول البحري بالتعاون مع القوَّات البرِّيَّة في حصار المدينة، وحيث إنَّ المياه تُحيط بالقسطنطينيَّة من كلِّ جوانبها باستثناء الناحية الغربيَّة فإنَّ وجود أسطولٍ بحريٍّ يُحاصر المدينة يُمكن أن يُحْدِث فرقًا مهمًّا في معادلة النصر.
هكذا اكتمل ترتيب الجيش العثماني بفرقه المتعدِّدة في يوم 6 أبريل، ولم يُضَيِّع السلطان وقتًا إنَّما بدأ من فوره في قصف المدينة الحصينة، وكانت بداية القصف عند بوَّابةٍ اسمها كاريسياس Charisius[42]، وهي تقع على مسافة ثمانمائة متر شمال بوابة سان رومانوس حيث يعسكر السلطان محمد الثاني، وهذه البوَّابة هي نفسها بوَّابة أدريانوبل Adrianople الآن[43]، ولم أقف على السبب الذي من أجله بدأ محمد الثاني قصفه للمدينة عند هذه النقطة تحديدًا، لأنَّها فيما يبدو لي منطقةٌ صعبة الاختراق؛ حيث إنَّ البوَّابة تقع على أعلى نقطة في مدينة القسطنطينيَّة (أربعون قدمًا فوق سطح البحر)[44]، وهذا يُعطي المدافعين فرصةً جيِّدةً للمقاومة، وكذلك لإصلاح الانهيارات إذا حدثت. ومع أنَّ القصف على البوَّابة المرتفعة كان صعبًا فإنَّ النتائج كانت مبشِّرة؛ إذ بدأ، قبل غروب شمس يوم 6 أبريل، جزءٌ من السور في التصدُّع[45]، لكن لأنَّ الجيوش كانت لا تُحارب في المعتاد ليلًا في هذه الفترة، فإنَّ المدافع توقَّفت عن القصف انتظارًا لليوم التالي.
***
السبت 7 أبريل:
استيقظ الجيش العثماني في صباح هذا اليوم ليجد في انتظاره مفاجأة! لقد أصلح البيزنطيُّون ما تصدَّع من الأسوار، وعاد لحالته التي كان عليها قبل القصف[46]! كان من الواضح أنَّ القصف لم يكن دقيقًا بالدرجة الكافية، ولعلَّ ذلك بسبب بُعد المدافع عن الأسوار، لذلك أمر السلطان محمد الثاني جنوده بتقريب المدافع ومعسكرات الجيش من الأسوار حتى وصلت إلى مسافة أربعمائة متر تقريبًا منها[47]. استأنف الجيش العثماني قصف الأسوار، وفي نهاية اليوم سقط جزءٌ جديدٌ منها[48].
الأحد 8 أبريل:
في صباح هذا اليوم اكتشف العثمانيُّون مرة أخرى أنَّ الأسوار عادت لحالتها الطبيعيَّة من جديد، وكان من الواضح أنَّ قدرة البيزنطيِّين على إصلاح آثار القصف فائقة، ويكشف لنا الجرَّاح البندقي باربارو السِّرَّ وراء سرعة إصلاح الأضرار بقوله: «عمل الجميع، رجالًا ونساءً، كبارًا في السنِّ ويافعين، وكذلك عمل القساوسة؛ حيث اشترك الجميع في ترميم الأسوار بسبب الحاجة الملحَّة والعاجلة لذلك»[49]. إِذَنْ كانت المدينة كلُّها تعمل في إصلاح الأضرار، ولم يكن للعثمانيِّين القدرة على الاقتراب جدًّا من الأسوار لمنع البيزنطيِّين من الإصلاح؛ لخوفهم من دخولهم في مرمى السهام والنيران البيزنطيَّة، كما أنَّ الخندق العظيم الذي يُحيط بالأسوار كان يمنع الجيش العثماني من الوصول إليها، وهكذا كان المسلمون يعودون إلى نقطة الصفر صباح كلِّ يوم بعد الإصلاحات التي تتمُّ في الليل.
كان على السلطان محمد الثاني التفكير في استراتيجيَّاتٍ جديدة تُساعد على تذليل هذه الصعاب التي تواجهه في عمليَّة الاقتحام، ولهذا فقد أمر السلطان بتوقُّف القصف ابتداءً من يوم 8 أبريل، لئلَّا يُهدِر قوَّته، وقذائفه، ووقته، وقرَّر القيام ببعض الأعمال الأخرى التي يُمكن أن تُساعد على المهمَّة.
من الأحد 8 أبريل إلى الثلاثاء 10 أبريل:
استغلَّ السلطان محمد الثاني هذه الأيَّام الثلاثة في محاولة تحقيق هدفين كبيرين؛ أمَّا الهدف الأوَّل فهو محاولة تحسين فرصة اقتحام الأسوار، والهدف الثاني هو استغلال الوقت الذي سيتوقَّف فيه القصف في السيطرة على القلاع والمدن البيزنطيَّة الموجودة خارج حدود المدينة.
لتحقيق الهدف الأوَّل قام السلطان ببعض الأعمال؛ كان منها محاولة المهندسين العثمانيِّين الحفر تحت الأسوار لوضع بعض المتفجِّرات، أو لإضعاف الأساس الذي يقوم عليه البناء لتسهيل انهياره عند القصف، وكان منها -أيضًا- سعي بعض الكتائب العمَّاليَّة لملء الخندق بالحجارة وغيرها من الموادِّ لكي يُعطي الجيش فرصة الاقتراب بصورةٍ أكبر من الأسوار، وكان منها كذلك تحريك المدفع العملاق -مدفع أوربان- لكي يقترب من السور بشكلٍ يُعطيه كفاءةً أكبر في العمل[50].
أمَّا الهدف الثاني فقد سعى السلطان لتحقيقه عن طريق إرسال عدَّة كتائب عسكريَّة للسيطرة على القلاع القريبة من القسطنطينيَّة؛ فنجحت الكتيبة الأولى في السيطرة على قلعة ثيرابيا Therapia، وهي قلعةٌ على مضيق البوسفور شمال القسطنطينيَّة، بينما نجحت الكتيبة الثانية في السيطرة على قلعة ستودياس Studius الموجودة على بحر مرمرة غرب القسطنطينيَّة[51]، أمَّا الكتيبة الثالثة والمكلَّفة بإسقاط قلعة سيليمبريا Selymbria -وهي قلعةٌ على بعد حوالي خمسين كيلو مترًا غرب القسطنطينيَّة- فقد فشلت في تحقيق هذه المهمَّة، ومع أنَّ حصار القلعة لم ينقطع؛ فإنَّها لم تسقط إلَّا بعد سقوط القسطنطينيَّة لاحقًا[52].
الأربعاء 11 أبريل:
استأنف الجيش العثماني قصفه للأسوار، وابتداءً من هذا اليوم، ولمدَّة سبعة أسابيع لم يتوقَّف القصف قط[53]، وفي هذا اليوم حدثت إصابةٌ مهمَّةٌ للأسوار، وبدا أنَّ القصف صار أكثر دقَّةً وقوَّة[54]، والأهمُّ من تهدُّم بعض أجزاء السور الأثرُ النفسي الذي كانت تتركه طلقات المدافع عند المحاصَرين، خاصَّةً من جرَّاء إطلاق المدفع الكبير لقذائفه الضخمة، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ تجربة التعرُّض لقذائف ناريَّة هي تجربةٌ جديدةٌ تمامًا على معظم الأجيال التي تعيش الآن في القسطنطينيَّة؛ لأنَّ المدينة لم تُقصف بالمدافع إلَّا مرَّةً واحدةً منذ إحدى وثلاثين سنة، ويومها كانت المدافع بدائيَّة، وأثرها هيِّنًا، وكانت الدولة البيزنطيَّة نفسها لا تمتلك إلَّا مدافع قليلة ضعيفة للغاية، ولذلك فخبرة الجيش والسكان بانفجارات القذائف محدودة. يُصوِّر لنا باربارو أثر طلقات المدفع الكبير بقوله: «فإنَّ صوت انفجارها يجعل جميع أسوار المدينة والأراضي الداخلية بها تصاب بالارتجاج؛ حتى السفن في الميناء تشعر أيضًا بالاهتزاز من جرَّاء ذلك»[55].
الخميس 12 أبريل:
في هذا يوم كانت أولى محاولات الأسطول العثماني لغزو القسطنطينيَّة. بعد الظهر بقليل ظهر الأسطول لأوَّل مرَّةٍ في الأفق، وهو يتقدَّم مسرعًا في تصميمٍ تِجَاه القرن الذهبي. امتلأت أسوار القرن الذهبي وبحر مرمرة في هذه الناحية بالسكان يُشاهدون اقتراب السفن، وامتلأت قلوبهم بالفزع لسماع الصيحات العالية التي كان يُطلقها البحَّارة العثمانيُّون، مع دويِّ الموسيقى العسكريَّة التي معهم. دفع النصارى عدَّة سفنٍ ناحية السلسلة الحديديَّة استعدادًا لقصف الأسطول العثماني عند اقترابه منها. على الرغم من صِغر حجم السفن العثمانيَّة فإنَّ عددها الكبير وتصميم البحَّارة على الإقدام، هزَّ ثقة البحَّارة النصارى[56]، حتى الإيطاليين منهم -كما يعترف باربارو[57]. ذكرت بعض المصادر حدوث مناوشات عسكريَّة بين الطرفين، وتبادل إطلاق النار، ومحاولات اختراق القرن الذهبي، لكن كلها لم تُجْدِ نفعًا لقوَّة السلسلة الحديديَّة، وضراوة المقاومة من الأسطول النصراني، خاصَّةً السفن البندقيَّة والچنويَّة منه، ومِنْ ثَمَّ انسحب قائد الأسطول العثماني سليمان بلطه أوغلو في آخر النهار عائدًا إلى ميناء العمودين حيث المركز الرئيس الآن[58].
بعد هذا الهجوم البحري قرَّر النصارى وضع مراقبة دائمة لمضيق البوسفور ليلًا ونهارًا؛ وذلك لرؤية الأسطول العثماني عند بدء تحرُّكه من ميناء العمودين، وقد وضعوا هذه المراقبة في مدينة جالاتا الچنويَّة على الرغم من اتِّفاقها مع العثمانيِّين على الوقوف على الحياد، وكان سبب وضع المراقبة في هذا المكان تحديدًا قربه من مكان رسو الأسطول العثماني، فبذلك تُكْتَشف حركته عند أوَّلها، وإذا ما حدث ورأى المراقبون سفينةً تتحرَّك فإنَّهم يُطلقون صفَّارات إنذارٍ معيَّنةٍ تنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ بالتتابع حتى تصل فورًا إلى ألڤيسو ديدو Alviso Diedo، وهو القبطان البندقي المكلَّف بقيادة الأسطول النصراني كلِّه[59].
لم يكن العثمانيُّون حتى هذه اللحظة متأكِّدين من الدور المزدوج الذي يلعبه الچنويُّون في جالاتا، ولذلك لم يحدث أيُّ تعدٍّ منهم على المدينة، ولم تُعْرَف هذه التفاصيل إلَّا لاحقًا بعد أن قرأ الجميع يوميَّات الحصار، وبعد سقوط القسطنطينيَّة.
عمومًا، أدرك العثمانيُّون بعد هذه المحاولة صعوبة اختراق السلسلة الحديديَّة، ومِنْ ثَمَّ لم تكرَّر المحاولات عبر هذا الطريق مرَّةً أخرى طوال فترة الحصار.
من الجمعة 13 أبريل إلى الاثنين 16 أبريل:
ما زال القصف مستمرًّا، ومع ذلك ظهرت مشكلةٌ في المدفع الكبير، الذي يعوِّل عليه السلطان محمد الثاني في هدم الأسوار السميكة، وهي ارتفاع درجة حرارة المدفع جدًّا بعد الإطلاق، ومِنْ ثَمَّ يحتاج إلى التبريد فترةً من الزمن، كما يحتاج إلى دهن باطنه بشحومٍ بشكلٍ دوريٍّ بعد كلِّ إطلاق، وهذا جعله غير قادرٍ على العمل إلَّا سبع مرَّاتٍ فقط في كلِّ يوم[60]، وهذه المساحة الزمنيَّة الفارقة بين كلِّ طلقةٍ وأخرى كانت تُعطي البيزنطيِّين الفرصة لإصلاح بعض آثار التدمير التي نتجت عنه، ممَّا يُقلِّل من كفاءة العمل بشكلٍ ملحوظ.
لم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ، ولكن حدثت للمدفع الكبير مشكلةٌ أكبر، وهي انفجار المدفع، وتفكُّكه إلى أجزاء بعد إحدى الطلقات، ولم يكن الانفجار يسيرًا، إنَّما كان في الواقع مميتًا؛ إذ قَتَل عددًا من الجنود المحيطين به، بل كان ممَّن قُتِل من جرَّاء الانفجار المهندس المجري أوربان نفسه، الذي كان يتولَّى عمليَّة الإطلاق[61][62][63]! كانت هذه نهايةٌ عجيبةٌ لرجلٍ قضى عمره في إتقان علوم المدفعيَّة والسلاح، ولكنَّه باع كلَّ شيءٍ من أجل المال! لقد خان نصرانيَّته، وخان بلده الأم المجر، عدوَّة العثمانيِّين، وخان الإمبراطور النصراني المحاصَر، كل ذلك من أجل الزيادة الماليَّة التي أعطاها له السلطان محمد الثاني، ومع أنَّ بعض المؤرِّخين يُشكِّك في رواية مقتله، قائلين: إنَّ هذه الروايات نشرها المؤرِّخون النصارى المعاصرون لكي يُظهروا التشفِّي في المهندس النصراني الذي ساعد المسلمين[64]. فإنَّه من الثابت أنَّ أوربان لم يعد له ذكرٌ قط بعد حصار القسطنطينيَّة، بل يتَّفق المؤرِّخون أنَّه مات في العام نفسه؛ أي في عام 1453م، سواء من جرَّاء الانفجار أم بعيدًا عنه[65].
وأمر خيانة الدين والوطن من أجل المال أو السلطة ليس قاصرًا على دينٍ معيَّن، أو قوميَّةٍ بذاتها، بل يفعله كثيرٌ من الطامحين في الثراء السريع، أو الراغبين في الملك ولو كان بمساعدة الأعداء، ولم يكن الأمر في مسألة القسطنطينيَّة قاصرًا على أوربان النصراني الذي ساعد المسلمين، بل كان هناك -أيضًا- أورخَان المسلم، وهو سليل العائلة العثمانيَّة المطالب بالعرش، الذي كان موجودًا في القسطنطينيَّة وقت حصارها؛ فقد وجدنا هذا الرجل الطامح في السلطة يُدافع مع النصارى عن القسطنطينيَّة[66]، بل ذكرت الكثير من المصادر أنَّه كان قائدًا لفرقةٍ تحرس أسوار القرن الذهبي[67]، أو بحر مرمرة[68]!
إنَّ الخيانة لا وطن لها ولا ملَّة..
وعلى كلِّ الأحوال اختفى أوربان من ساحة القتال، وأخذ فريقٌ من المهندسين العثمانيِّين يعمل على إصلاح المدفع من جديد، وكان من الواضح أنَّ هذا الإصلاح سيتطلَّب أيَّامًا أو أسابيع، وهذا وضع الجيش العثماني في حرجٍ شديد!
***
الثلاثاء 17 أبريل:
حقَّقت البحريَّة العثمانيَّة في هذا يوم نجاحًا نسبيًّا عندما استطاعت السيطرة على جزر الأمراء في بحر مرمرة[69]، ومع أنَّ هذه الجزر صغيرة، وتقع خارج القسطنطينيَّة، فإنَّ السيطرة عليها كانت خطوةً مهمَّةً في حصار المدينة؛ لأنَّها تُعَدُّ مهربًا طبيعيًّا لحكومة القسطنطينيَّة في حال سقوط المدينة، وقد يستمرُّون في البقاء في قلاع الجزر فترةً أطول من الزمان انتظارًا لمساعدةٍ من الغرب، فكانت السيطرة عليها تعني غلق كلِّ الأبواب الخارجيَّة عن المدينة، كما أنَّ هذا النصر حقَّق رفعًا للروح المعنويَّة عند المسلمين، خاصَّةً أنَّهم بعد عشرة أيَّامٍ من القصف لم تظهر لهم بوادر انهيارٍ للأسوار، فضلًا عن تأثُّرهم النفسي لعطب المدفع الكبير ومقتل مخترعه، وقد ذكرت بعض المصادر أنَّ هذا الفتح كان في 15 أبريل وليس في 17 أبريل[70]، وجعلته مصادر أخرى مبكِّرًا عن ذلك[71]، وفي كلِّ الأحوال كانت الخطوة جيِّدة؛ حيث إنَّها فضلًا عن أهميَّتها المعنويَّة، أتاحت للأسطول العثماني نقطة ارتكازٍ مهمَّةٍ يُمكن أن ينطلق منها في معاركه البحريَّة.
الأربعاء 18 أبريل:
هذا هو اليوم الثامن من القصف المتوالي. كان معدَّل الطلقات في الأسبوع الماضي كلِّه هو حوالي مائة وعشرين طلقةً في اليوم، وذلك باستخدام كلِّ المدافع الكبرى التي يمتلكها الجيش العثماني[72]. هذه الضراوة في القصف أدَّت إلى تهدُّم أجزاءٍ من السور مع سقوط برج سان رومانوس[73]. ومع أنَّ نتيجة القصف تُعَدُّ ناجحة، بمعنى أنَّ المدافع حقَّقت المطلوب بهدم الأسوار، فإنَّ عمليَّة إصلاح ما تهدَّم كانت تتمُّ بشكلٍ دوري، خاصَّةً بعدما اعتاد البيزنطيُّون على صوت المدافع وقذائفها. لقد كان البيزنطيُّون -سواءٌ من الجنود أم المدنيِّين- يشتركون جميعًا في سدِّ الثغرات التي تُحدثها المدافع بشبكاتٍ كثيفةٍ من الأعمدة الخشبيَّة، ثم يلقون في داخلها الحجارة، وكميَّاتٍ كبيرةً من الأتربة، بحيث يرأبون الصدع الذي تكوَّن، وكانوا يفعلون ذلك كلَّه تحت جنح الظلام، بحيث إذا أشرق الصباح عادت الأسوار إلى حالتها الطبيعيَّة أو قريبًا منها، بل إنَّ استخدام الأتربة الكثيفة في الإصلاح مع تحويلها إلى طينٍ بعد سكب الماء عليها، كان يجعل هذه الأجزاء ليِّنة بصورةٍ تُمكِّنها من امتصاص أثر صدمة القذيفة، فلا يحدث اهتزازٌ في السور كما كان يحدث من قبل[74]! ومع هذا فالقصف المتوالي دون كللٍ كان لا بُدَّ أن يُحدِث أثرًا! في هذا اليوم -أي في يوم 18 أبريل- لاحظ السلطان محمد الثاني حدوث تهدُّمٍ كبيرٍ في الأسوار، وتوقَّع أنَّ هذه الثغرة الكبيرة يُمكن أن تسمح للجنود العثمانيِّين بدخول المدينة[75]. لم يشأ السلطان أن ينتظر لصباح اليوم التالي ليبدأ هجومه؛ لأنَّه توقَّع أن يقوم البيزنطيُّون بإصلاح الهدم، أو على الأقل تقليل مساحة الثغرة، ولهذا فبعد غروب الشمس بحوالي ساعتين أصدر السلطان أوامره بالهجوم العامِّ على الأسوار في أوَّل محاولةٍ للجنود العثمانيِّين لاختراق الأسوار منذ بدأ الحصار[76].
كان هجومًا عجيبًا! في جنح الظلام انطلقت الموسيقى العسكريَّة العثمانيَّة الصاخبة عاليةً في سكون الليل! سمع المحاصَرون دقَّات الطبول، ونفخات المزامير، وأصوات الصنج النحاسيَّة، مصحوبة بصيحاتٍ مفزعةٍ من المقاتلين! وأمر السلطان في الوقت ذاته بحركةٍ كاملةٍ من المشاة تحت غطاءٍ كاملٍ من السهام والقذائف لتأمين وصول الجنود إلى الأسوار! دقَّت صفَّارات الإنذار وأجراس الكنائس في القسطنطينيَّة، وعاد الجنود إلى أماكنهم، وكان وقع المفاجأة عليهم كبيرًا، واستغلَّ العثمانيُّون هذه الصدمة فعبروا الخندق من بعض أماكنه التي ألقوا فيها الحجارة والأخشاب، وصاروا تحت الأسوار، وبالقرب من الثغرات، ودارت بذلك معركةٌ شرسةٌ بين الطرفين، حيث كان القتال فيها مباشرًا بين الجنود عند الثغرات، كما كانت هناك محاولاتٌ مضنيةٌ من العثمانيِّين لوضع سلالم على الأسوار لتسلُّقها، ولكن هذه المحاولات الأخيرة كانت تُقَابَل بإلقاء النيران اليونانيَّة التي لا تُطفأ بالماء، وإلقاء الزيت المغلي، والماء الساخن، مع الحجارة والسهام، وكلِّ ما يُمكن أن يطرد المتسلِّقين عن الأسوار. كان البيزنطيُّون يقذفون هذه الأشياء من فوق الأسوار وهم يقفون خلف براميل مَلَئُوها بالأتربة والحجارة لتقيهم من سهام العثمانيِّين وطلقاتهم، فحاول الجنود العثمانيُّون أن يجذبوا هذه البراميل بخطاطيف طويلة لكنَّهم لم يُوَفَّقوا في ذلك. استمرَّ القتال بين الفريقين أربع ساعات كاملة تقريبًا، وفي النهاية لم يتمكَّن العثمانيُّون من اجتياز الثغرات، وبدأت الخسائر تكثر في جيشهم، فأمر السلطان بالانسحاب[77][78][79][80]. فَقَدَ العثمانيُّون في هذا الهجوم حوالي مائتي جندي، بينما كانت خسائر البيزنطيِّين طفيفة[81].
لم تتأثَّر عزيمة المسلمين كثيرًا، فهذه أوَّل محاولة، وكان من الممكن أن يُكتب لها النجاح،، وما لم يُحقِّقوه في هذه المرَّة يُمكن أن يُحقِّقوه في مرَّةٍ قادمة، ولقد اكتسب الجيش العثماني خبرةً في هذه الهجمة، وعَلِم بعض نقاط القوَّة والضعف في المقاومة البيزنطيَّة، وهذا كلُّه يُضيف إلى الخبرات التي يحتاجونها لتحقيق النصر.
وإذا كان المسلمون قد تعاملوا مع خسارتهم بطريقةٍ واقعيَّة، وعلموا أنَّ الجولات عادةً ما يكون فيها نصرٌ وهزيمة، فمرَّت الأزمة بسلام، فإنَّهم تعرَّضوا لأزمةٍ أخرى في اليوم نفسه تقريبًا أشعرتهم بقلقٍ أكبر بكثيرٍ من قلقهم لفشل محاولة الاقتحام! هذا القلق الجديد جاء من استقبالهم لسفارةٍ من مملكة المجر تحمل أخبارًا سيِّئة! لقد أبلغهم السفراء أنَّ المجر قرَّرت فسخ معاهدتها مع الدولة العثمانيَّة، وهي تُهدِّد في الوقت ذاته بأنَّه ما لم ترفع الدولة العثمانيَّة حصارها عن القسطنطينيَّة فإنَّ الغرب سيجمع قوَّته ويتدخَّل في المسألة[82]!
كانت علَّة المجر واهيةً ومفتعلة؛ فقد ذكرت السفارة أنَّ مجلس الشيوخ في المجر قد سحب صلاحيَّات الحكم من الحاكم العسكري چون هونيادي، وأعادها إلى الملك الصغير ڤلاديسلاڤ، ومِنْ ثَمَّ صارت المعاهدات التي أجراها هونيادي غير فاعلة[83]، وهذا بالطبع اعتذارٌ غير مقبول؛ لأنَّ الدولة العثمانيَّة لم تتعاهد مع هونيادي بصفته الشخصيَّة؛ إنَّما تعاهدت مع مملكة المجر، ولا يهمها إذا كان الذي يُمثِّلها في المعاهدة هو هونيادي، أو ڤلاديسلاڤ، أو غيرهما، لكنَّها كانت طبيعة الدول الأوروبِّيَّة آنذاك؛ أعني طبيعة نكث العهود، والتنصُّل من الاتفاقيَّات، وكان من الممكن أن يحدث هذا الغدر فجأةً دون إعلان، كما حدث قبل ذلك في ڤارنا عام 1444م، لولا أنَّ المجريِّين كانوا يهدفون بإرسال هذه السفارة في هذا التوقيت تشتيتَ الجيش العثماني عن القسطنطينيَّة، وصرف جزءٍ من طاقته لمنطقة الدانوب تحسُّبًا لقدوم جيوشٍ غربيَّة، أو على الأقل إحداث هزَّةٍ نفسيَّةٍ عند قادة الجيش المسلمين قد تدفعهم إلى إعادة الحسابات، فضلًا عن رفع الروح المعنويَّة عند البيزنطيِّين ممَّا قد يدفعهم إلى الصبر أكثر على الحصار.
ومع خطورة الأمر فإنَّه حتى هذه اللحظة لم تظهر في الجيش العثماني ولا عند السلطان محمد الثاني بوادر التفكير في الانسحاب، بل لعلَّ هذه الأحداث دفعت السلطان للتفكير في طريقةٍ يُنجز فيها مهمَّته بشكلٍ أسرع، ليتفرَّغ بعدها للجيوش الأوروبِّيَّة إنْ صدق تهديد المجر، وعليه فإنَّ الجيش العثماني أكمل حصاره بكامل طاقته دون تغيير.
الخميس 19 أبريل:
مرَّ هذا اليوم هادئًا، فلم تذكر الروايات عنه شيئًا، وغالبًا كان الطرفان يستريحان من عناء الليلة السابقة، أو أنَّه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة!
***
الجمعة 20 أبريل:
كان هذا اليوم من الأيَّام المشهودة في حصار القسطنطينيَّة!
مرَّ على الحصار الآن أسبوعان كاملان، ولم يدخل المدينةَ أيُّ إعانةٍ خارجيَّةٍ حتى هذه اللحظة، وكان استمرار الحصار على هذه الصورة المـُحْكَمَة يُعطي الأمل في أن يضطرَّ البيزنطيُّون إلى الاستسلام قسرًا، ولكن في هذا اليوم كانت أولى المحاولات التي سعت إلى إدخال بعض المؤن والرجال إلى المدينة!
كان الإمبراطور البيزنطي قد أرسل سفينةً كبيرةً من القسطنطينيَّة قبل الحصار لشراء بعض المؤن من صقلِّيَّة Sicily[84]، وقد تزامنت عودة هذه السفينة مع تحرُّك ثلاث سفن تابعة لچنوة من جزيرة خيوس Chios في بحر إيجة، وهي محمَّلةٌ بالمؤن والرجال، وكان البابا قد دفع ثمن حمولة هذه السفن لچنوة[85]. كانت السفن الچنويَّة سفنًا شراعيَّة مقاتِلة، وكانت مزوَّدة بالمدافع والبحَّارة المحترفين، أو كما يقول المؤرِّخ الصربي شيدوميلي مياتوڤيتش Čedomilj Mijatović وهو يعلق على الحدث: «لقد وُلِد الطاقم الچنوي واليوناني للسفن بحَّارة»[86]! دلالةً على احترافيَّتهم العالية.
التقت السفن الچنويَّة مع سفينة الإمبراطور عند مدخل الدردنيل، وانطلقوا سويًّا حتى دخلوا بحر مرمرة في حدود الساعة العاشرة صباحًا، حيث شاهدهم الفريقان: العثماني والبيزنطي. كانت السفن الچنويَّة ترفع علم الدولة (صليب أحمر على خلفيَّة بيضاء)، وكانت السفينة البيزنطيَّة معروفة للجميع، ومن هنا علم المراقبون أنَّ هذه سفن إغاثةٍ للقسطنطينيَّة، فقامت الدنيا ولم تقعد! حدثت حالة هياجٍ شديدةٍ في داخل المدينة المحاصَرة. لقد كان السكان يخرجون يوميًّا إلى الشواطئ انتظارًا لسفينة إغاثة، فلمَّا قَدِمت هذه السفن امتلأت أسوار المدينة وأسطح المباني العالية بالسكان يُشاهدون حركة السفن في بحر مرمرة. في الوقت نفسه وصل الخبر إلى الأسطول العثماني المرابط في ميناء العمودين في مضيق البوسفور شمالًا، وكذلك وصل الخبر إلى السلطان محمد الثاني، الذي لم يصبر على إرسال رسولٍ إلى قائد أسطوله سليمان بلطه أوغلو، إنَّما ركب فرسه، وأخذ حاشيته، وركض بسرعةٍ في اتِّجاه مركز الأسطول عند ميناء العمودين متَّخذًا الطريق البرِّي شمال القرن الذهبي؛ وذلك حتى يصل برسالته واضحة حاسمة لقائد أسطوله. قال السلطان لقائد الأسطول: «إمَّا أن تأتي بهذه السفن، وإلَّا لا ترجع لي حيًّا»[87]!
نتيجة هذا الإنذار الحاسم خرج سليمان بلطه أوغلو بكامل أسطوله تقريبًا. يذكر باربارو أنَّ البحر كان لا يُرَى حيث تُغطِّيه السفن العثمانيَّة الكثيرة[88]، ويُقدِّر كراولي عدد السفن العثمانيَّة في هذه المعركة بمائة سفينة[89]، بينما يذكر مياتوڤيتش أنَّها كانت مائةً وخمسًا وأربعين سفينة[90]. لم يكتفِ السلطان محمد الثاني بطاقم البحريَّة العسكريَّة؛ إنَّما أضاف لهم عددًا من المشاة، وكذلك مجموعةً من الرُّماة، بالإضافة إلى بعض أفراد الإنكشاريَّة من حَرَسِه الخاص[91]. هذا كلُّه يدلُّ على أنَّ السلطان كان يرى أنَّ هذه المعركة مصيريَّة في تحديد مستقبل الحصار.
انطلق الأسطول العثماني جنوبًا في مواجهة السفن الأربعة. الذي يرى مائة سفينة تتَّجه نحو أربعةٍ فقط يظن أنَّ الأمر محسوم، والنهاية حتميَّة، لكنَّ الأمر لم يكن بهذه السهولة! أقبل البحَّارة العثمانيُّون بصيحاتهم العالية، ودويِّ موسيقاهم الصاخب، لكن هذا لم يمنع السفن الأوروبِّيَّة من التقدُّم في اتِّجاه القرن الذهبي. أمر القبطانُ العثماني سفنَ النصارى بخفض أشرعتها، والتسليم للأسطول العثماني، لكن هذا لم يُغيِّر من الأمر شيئًا، وكان من الواضح أنَّ السفن الأوروبِّيَّة مصمِّمةٌ على دخول القسطنطينيَّة. وصلت السفن تقريبًا إلى جنوب شرق المدينة في بحر مرمرة عند الظهيرة، وصارت قريبةً من مدخل القرن الذهبي، ولهذا أصدر القبطان العثماني أوامره لجنوده بإطلاق النار على السفن الأوروبِّيَّة. كانت السفن الچنويَّة كبيرة، وكانت سفينة الإمبراطور أكبر، بينما كانت السفن العثمانيَّة صغيرةً ومنخفضة، وهذا جعل المدافع الخفيفة لا تُحدث أثرًا يُذكر في السفن النصرانيَّة التي واصلت التقدُّم. اضطرَّ الأسطول العثماني إلى الاقتراب أكثر وأكثر من السفن الأربعة، وأحاطوا بها من كلِّ جانب، ثم ما لبثوا أن بدءوا في محاولة القتال المباشر مع طاقم السفن، وذلك عن طريق إلقاء السلالم على هذه السفن ومحاولة التسلُّق. كان النصارى يُقاتلون من مكانهم المرتفع حيث سفنهم كبيرة وعالية، بينما يُقاتل العثمانيُّون من أسفل، وهذا أعطى النصارى فرصةً أكبر في إسقاط الضحايا، وإغراق السفن العثمانيَّة، ومع كثرة السفن العثمانيَّة إلَّا أنَّ التفوُّق النصراني كان ظاهرًا[92][93][94].
كان القتال شرسًا للغاية، استُخدمت فيه السيوف، والرماح، والسهام، والبلطات الكبرى، كما استُخدمت المدافع الناريَّة أحيانًا، وكانت السفينة البيزنطيَّة تستخدم النيران اليونانيَّة في حربها، وهذا أحدث إصاباتٍ جسيمةً في الجانب العثماني[95].
يُصوِّر المؤرِّخ اليوناني كريتوبولوس الصدام الدموي الذي حدث بين الأسطول العثماني والسفن الأربعة بكلماتٍ مؤثِّرةٍ فيقول: «كان الصراخ عظيمًا والضوضاء؛ إذ كان الجميع من كلِّ جانبٍ يُشجِّع بعضه بعضًا. كانوا يَضْرِبون ويُضْرَبون، يَقْتُلون ويُقْتَلون، يَدْفَعون ويُدْفَعون، يَحْلِفون، يَلْعَنون، يُهدِّدون، ينوحون! لقد كانت ضوضاء رهيبة»[96]!
وفي النهاية وضح أنَّ السفن الأربعة ستخترق الأسطول العثماني، وأنَّ سليمان بلطه أوغلو لا يستطيع إكمال المعركة، بل أصدر بوضوح أمرًا لجنوده بالانسحاب إلى ميناء العمودين! كان السلطان محمد الثاني يُراقب الأحداث كلَّها من على شاطئ البوسفور على تبَّةٍ بالقرب من جالاتا، وشاهد بدايات انسحاب الأسطول العثماني، وتوجُّه السفن الأوروبِّيَّة إلى مدخل القرن الذهبي. لم يُصدِّق السلطان ما يرى. غَضِب غضبًا شديدًا. دفع جواده دفعًا إلى الماء! اخترق البحر حتى وصل الماء إلى خصره، وأخذ يصرخ في بحَّارته، يأمرهم بالتجمُّع مرَّةً أخرى، وبالثَّبات أمام السفن النصرانيَّة. لكنَّ كلماته ذهبت هباءً منثورًا! ولم يقدر الأسطول العثماني إلَّا على الانسحاب[97]!
عاد الأسطول العثماني إلى مرساه، والسلطان إلى تبَّته التي كان يُراقب من فوقها الأحداث، أمَّا السفن النصرانيَّة فقد وصلت إلى السلسلة الحديديَّة عند مدخل القرن الذهبي. كان الظلام قد دخل. أرخى البيزنطيُّون السلسلة الحديديَّة، وخرجت سفينتان بندقيَّتان من القرن الذهبي لتأمين دخول السفن الأربعة، ثم دخل الجميع مرَّةً أخرى إلى الميناء، ورُفِعَت من جديد السلسلة الحديديَّة[98][99].
يذكر المؤرِّخ البيزنطي المعاصر فرانتزس أنَّ العثمانيِّين فقدوا في هذه المعركة اثني عشر ألف مقاتل[100]!
لكن يرى المؤرِّخ الصربي مياتوڤيتش أنَّ هناك مبالغةً عظيمةً في هذا الرقم[101]، وأنا أتَّفقُ مع الأخير في أنَّ هناك مبالغةً كبيرةً في عدد الضحايا، ومع ذلك فمن المؤكَّد أنَّ خسائر الأسطول العثماني كانت كبيرةً للغاية؛ وهذا هو الأمر الوحيد الذي يُفسِّر عدم استجابة سليمان بلطه أوغلو لأوامر السلطان بالثبات أمام السفن الأربعة؛ حيث إنَّه شعر أنَّ مزيدًا من الثبات يعني هلكةً أكثر لجيشه وسفنه، فآثر الانسحاب على البقاء في الميدان، مع أنَّه يعلم أن هذا قد يُفْقِدَه منصبه، أو حتى حياته.
كانت الكارثة كبيرةً على الجيش العثماني!
وكان الأثر المعنوي أكبر بكثيرٍ من حجم المعونة التي حملتها السفن الأربعة؛ وأعني بالأثر المعنوي كلا الطرفين: البيزنطي والعثماني. أمَّا على مستوى البيزنطيِّين فقد رفعت هذه المعونة من معنويَّات القيادة والشعب بشكلٍ كبير، ولم يكن هذا بسبب توفُّر الغذاء والسلاح والرجال فقط؛ إنَّما كان -وبشكلٍ أهم- بسبب إدراكهم أنَّ السلطان محمدًا الثاني غير قادرٍ على السيطرة على البحر[102]، ومِنْ ثَمَّ فقدوم مساعدةٍ أخرى، خاصَّةً من البندقيَّة صاحبة أكبر أساطيل العالم آنذاك، يُمكن أن يُحْدِث فرقًا كبيرًا في المعادلة، كما أنَّ البيزنطيِّين سعدوا لقدوم سفن البابا تحديدًا؛ لأنَّ معنى هذا أنَّ البابا متعاطفٌ مع المدينة ممَّا قد يدفعه إلى تحريك القوى الغربيَّة لدفع العثمانيِّين عن القسطنطينيَّة، خاصَّةً أنَّ أخبار السفارة المجريَّة التي نقضت المعاهدة مع العثمانيِّين كانت قد وصلت إلى البيزنطيِّين، فهذا كلُّه يصبُّ في مصلحة القسطنطينيَّة. هذا على الجانب البيزنطي، أمَّا الأثر المعنوي في الجيش العثماني فقد كان سيِّئًا للغاية!
لقد جاءت هذه الكارثة البحريَّة بعد يومين من فشل الجيش العثماني في أولى محاولاته لاقتحام أسوار القسطنطينيَّة، مع فقده لمائتين من الجنود في عمليَّة الاقتحام، وبالتالي فقد راودت الجيش العثماني مشاعر الإحباط، ولم يكن هذا خاصًّا بالجنود العاديِّين وحدهم إنَّما شمل ذلك بعض القادة كذلك. هذه الرؤية القاتمة نقلها الشيخ آق شمس الدين إلى السلطان محمد الثاني في رسالةٍ فوريَّةٍ بعد الكارثة البحريَّة أخبره فيها بالحالة النفسيَّة التي عليها أفراد الجيش، كما شجَّعه في الرسالة على إكمال الحصار حتى سقوط المدينة، لكنَّه في الوقت نفسه نصحه بالأخذ بشدَّة على أيدي المقصِّرين حتى لا يطول المقام بالجيش في هذا الحصار الصعب[103].
وهكذا انتهى هذا اليوم الطويل بأزمته وآلامه، وما أعتقد أنَّ السلطان قد ذاق في هذه الليلة طعم النوم؛ إذ إنَّه كان في انتظار صباح اليوم التالي ليرى ما يُمكن عمله بعد هذه السلسلة من الأحداث!
***
السبت 21 أبريل:
كان هذا من الأيَّام الطويلة في حصار القسطنطينيَّة! بدأ هذا اليوم منذ الصباح الباكر ولم ينتهِ إلَّا في صباح اليوم التالي!
استهلَّ السلطان محمد الثاني يومه بأن اصطحب معه عشرة آلاف من جنوده وانطلق نحو ميناء العمودين على شاطئ البوسفور حيث الأسطول العثماني[104]. كانت أوَّل أعماله عند وصوله إلى الميناء أن استدعى قائد الأسطول سليمان بلطه أوغلو، وفي حضور الوزراء وقادة الجيش قام بتعنيفه بشدَّة، وحمَّله مسئوليَّة الخسارة الفادحة التي تعرَّض لها الجيش، ورفضه الانصياع لأوامر السلطان بالثبات في القتال، ثم أصدر السلطان أمره المفاجئ بإعدام قائد الأسطول[105][106]!
كان القرار صادمًا للجميع، وفور صدوره تقدَّم عددٌ من الوزراء، وكذلك بعض قادة الإنكشاريَّة، يتشفَّعون لقائد الأسطول، وشَهِد بعض قادة البحريَّة بشجاعة قائدهم في القتال لولا الظروف التي كانت خارجةً عن إرادته، ومدلِّلين على ذلك بفقده لعينه أثناء القتال. هدأت نفس السلطان قليلًا بعد هذا الاستشفاع من وزرائه، فألغى حكم الإعدام، ولكنَّه عزل قائد الأسطول من منصبه، وصادر كلَّ ممتلكاته لصالح الدولة[107][108].
كان السلطان محمد الثاني يرى أنَّ صعوبة عمليَّة اقتحام القسطنطينيَّة لن تُذلَّل إلَّا بهذا الحسم الواضح مع جنوده، وإلَّا فسيظهر له في كلِّ يومٍ تخاذلٌ من نوعٍ ما، وقد تظهر بعض دعوات رفع الحصار، وهذا التردُّد سيؤدِّي إلى فشل العمليَّة، ولعلَّه كان متأثِّرًا كذلك بنصائح شيخه آق شمس الدين، الذي نصحه بالحزم الشديد مع المقصِّرين.
قام السلطان بتولية حمزة بك مكان سليمان بلطه أوغلو[109]، وذكر آخرون أنَّ قائد الأسطول الجديد كان أحمد بك بن چالي بك[110]، والأوَّل أصحُّ على الأغلب.
بعد هذه المحاكمة قرَّر السلطان عَقْد اجتماعٍ على أعلى مستويات الأهميَّة، جمع فيه كبار قادة الدولة، وكان هدف الاجتماع الرئيس هو مناقشة العرض المقدَّم من الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر بفتح المفاوضات السلميَّة من جديد، وكان السلطان قد تسلَّم سفارةً من الدولة البيزنطيَّة في اليوم السابق تهدف إلى وضع الحرب بين الفريقين[111].
كان وضع الدولتين العثمانيَّة والبيزنطيَّة قد تغيَّر نسبيًّا بعد الهزيمة البحريَّة؛ فقوَّة الدولة البيزنطيَّة في المفاوضات ستكون أكبر بعد أحداث الأمس، ومع ذلك فما زالت الدولة العثمانيَّة محاصِرةً للقسطنطينيَّة، ومساعدات الغرب للبيزنطيِّين غير مضمونة، ومِنْ ثَمَّ فهناك مجالٌ للحوار بين الطرفين.
كان الاجتماع صاخبًا؛ إذ ظهر فيه منذ البداية فريقان مختصمان! فريقٌ صغيرٌ لكن على رأسه الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي، وهو أهمُّ شخصيَّةٍ في الدولة بعد السلطان، وفريقٌ كبيرٌ يضمُّ معظم رجال الحكومة وقادة الجيش يقوده زاجانوس باشا، ويدعمه الشيخ آق شمس الدين. كان الفريق الأوَّل يُعارض فكرة الحصار، ويرى استغلال فرصة سفارة الإمبراطور البيزنطي في قبول رفع الحصار، بينما يرى الفريق الثاني استمرار الحصار حتى سقوط المدينة. بدأ النقاشَ الصدرُ الأعظم خليل باشا جاندرلي بحديثه عن الوضع السيِّء الذي وصل إليه الجيش العثماني بفشله في محاولة الاقتحام يوم 18 أبريل، ثم بخسارته المهينة في بحر مرمرة في 20 أبريل، وحذَّر بأنَّ الجيوش الأوروبِّيَّة الغربيَّة متوقَّعة في أيِّ لحظة، وذكَّر بأنَّ المجر قد نقضت عهدها بالفعل، وأنَّ البندقيَّة يُمكن أن تحذو حذوها، ونصح السلطانَ والجميعَ بأن يقبلوا عرض الإمبراطور البيزنطي برفع الحصار في مقابل جزيةٍ سنويَّة، واقترح الصدر الأعظم أن تكون الجزية سبعين ألف دوكا ذهبية[112][113].
لم يقبل الفريق الثاني هذا الطرح من الصدر الأعظم خليل باشا جاندرلي، وكان أشدهم معارضةً الشيخ آق شمس الدين[114]، وذكرت بعض المصادر أنَّ الملا كوراني كذلك كان معارضًا لفكرة رفع الحصار[115]، و-أيضًا- ظهرت معارضة قادة الجيش بقوَّة، وهذا يعني أنَّ القيادات العسكريَّة والدينيَّة كلَّها تدفع في اتِّجاه إكمال الحصار، بينما التوجُّه السياسي الممثَّل في الصدر الأعظم يُعارض الحرب، وكان السلطان محمد الثاني يميل -وبقوَّة- في اتِّجاه الاستمرار في العمليَّة الحربيَّة حتى نهايتها[116].
انتهى الاجتماع بالاتِّفاق على إعلام الإمبراطور البيزنطي أنَّ السبيل الوحيد لرفع الحصار هو تسليم المدينة للعثمانيِّين، في مقابل ضمان خروج الإمبراطور آمنًا إلى شبه جزيرة المورة؛ حيث يُمكن أن يظلَّ إمبراطورًا للبيزنطيِّين هناك، ثم يقوم السلطان محمد الثاني بعمل ترضيةٍ للأخوين ديمتريوس وتُوماس اللذين يحكمان هذه المنطقة[117].
كان هذا القرار يعني استمرار الحصار؛ لأنَّ الإمبراطور سيرفض قطعًا تسليم المدينة، خاصَّةً بعد أن راوده الأمل في صمودها بعد قدوم المعونة الچنويَّة، ومع أنَّ الاجتماع حسم مادَّة الخلاف بين القادة، وأكَّد توحيد القوى في سبيل الإسراع في إسقاط المدينة فإنَّ هناك نتيجةً سلبيَّةً له؛ وهي ظهور العداء بين الفريقين المتعارضين، بل أُلقيت الشكوك في هذا الاجتماع حول وجود علاقةٍ ودِّيَّةٍ بين الصدر الأعظم والنصارى، ومن أجل ذلك فهو يدفع في اتِّجاه السلام[118].
في هذه الأثناء، وبينما كان السلطان محمد الثاني يقوم بمحاكمة سليمان بلطه أوغلو، ويعقد اجتماعاته مع الوزراء وقادة الجيش في ميناء العمودين، كان الجيش العثماني ما زال مستمرًّا في قصف الأسوار الغربيَّة، بل كان هذا اليوم -أعنى 21 أبريل- من أكثر الأيَّام التي شَهِدَت قصفًا مكثَّفًا على الحصون البيزنطيَّة، وكأنَّ الجنود كانوا يُفرِّغون شحنات غضبهم وحزنهم من الهزيمة البحريَّة التي حدثت بالأمس! تحقَّق للجيش العثماني في هذا اليوم ما لم يتحقَّق له طوال الأسبوعين الماضيين! لقد انهار برج باكتاتينيان Bactatinian مع جزءٍ كبيرٍ من السور حوله[119]، وتذكر بعض المصادر أنَّ الذي انهار هو برج سان رومانوس[120]، وليس هناك اختلافٌ كبيرٌ في النتيجة؛ إذ إنَّ البرجين يقعان في المنطقة الضعيفة من الأسوار حول نهر لايكوس. صار الطريق مفتوحًا إلى داخل المدينة! يقول باربارو: «لو حاول الأتراك اختراق الأسوار في هذا اليوم بعشرة آلاف جندي فقط لنجحوا في دخول المدينة»[121]! لكن هذه المحاولة لم تتم! والسبب أنَّ السلطان محمدًا الثاني لم يكن موجودًا حول الأسوار في هذا اليوم؛ إنَّما كان موجودًا في ميناء العمودين لمتابعة آثار الهزيمة البحريَّة، ومناقشة وضع الأسطول، وبالتالي لم يستطع الجيش أن يأخذ قرار الاختراق بغير وجود السلطان! هذا ما دعا المؤرِّخ الإنجليزي چيم برادبوري Jim Bradbury إلى القول: «إنَّ هذا الانهيار للبرج حدث في وقت (حظ) اليونانيِّين «Lucky Time[122]! استغلَّ البيزنطيُّون تراجع العثمانيِّين غير المتوقَّع، وتقدَّموا لإصلاح ما تهدَّم من الأسوار، وضاعت الفرصة على الجيش المسلم[123].
ونترك الأسوار، ونعود إلى محمد الثاني في ميناء العمودين!
كان قرار الاجتماع الوزاري المهم الذي تمَّ في هذا اليوم هو إكمال عمليَّة الحصار إلى نهايتها، لكن كان من الواضح أنَّ الاستراتيجيَّة التي يعمل بها الجيش العثماني لن تُحقِّق له نصرًا سريعًا؛ فالأسطول العثماني غير قادرٍ على السيطرة على البحر، والجيش البريُّ غير قادرٍ على اختراق الأسوار، ولم يكن الوقت في صالح العثمانيِّين؛ لأنَّ كلفة البقاء حول الأسوار عاليةٌ جدًّا، ولو دخلت الجيوش الأوروبِّيَّة في المعادلة فقد يتعسَّر الأمر بصورةٍ أكبر، ومن هنا كان لا بُدَّ من تغيير الاستراتيجيَّة.
كان واضحًا أنَّ قصف المدينة من الجانب الغربي فقط غير مُجْدٍ في إحداث الاختراق بشكلٍ حاسم، ومِنْ ثَمَّ فلا بُدَّ من البحث عن طريقةٍ لقصف المدينة من جانبين؛ وذلك لتشتيت المقاومة في ناحيتين، فعندها يُمكن اختراق الأسوار بعد هدم جزءٍ يسيرٍ منها.
لكن كيف يتمُّ ذلك والمدينة محاطة من جوانبها الأخرى بالمياه، والسلسلة الحديديَّة الغليظة تُغلِق خليج القرن الذهبي؟!
هنا وَضَعَ السلطان محمد الثاني أمام قادته خطَّةً غير عاديَّةٍ لتحقيق هذه الغاية! وهي الخطَّة التي انبهر بها المؤرِّخون من المعاصرين والمتأخِّرين، ووصفها كلُّ واحدٍ منهم بوصفٍ يُبرز مدى ابتكاريَّتها وخروجها عن المألوف! وصفها رنسيمان بأنَّها خرجت من العقل البارع لمحمد الثاني[124]، ووصفها فريلي بأنَّها حيلةٌ عبقريَّة[125]، ووصفها أنجولد بأنَّها مغامرةٌ مجنونة[126]، بينما وصفها المؤرِّخ البيزنطي المعاصر فرانتزس -الذي كان محاصَرًا في القسطنطينيَّة آنذاك- بقوله: «لقد كان إنجازًا إعجازيًّا، وخطَّةً رائعة»[127].
ما هذه الخطَّة الباهرة؟!
كانت الخطَّة هي نقل جانبٍ من الأسطول العثماني عبر اليابسة من شمال مدينة جالاتا ليسير فوق الأرض في الاتِّجاه الجنوبي الغربي لينزل في النهاية في القرن الذهبي، وبذلك يتجاوز السلسلة الحديديَّة المغلِقة للخليج، وحينئذ يكون الأسطول العثماني المنقول قادرًا على قصف أسوار المدينة الشماليَّة[128][129]. يتراوح تقدير المسافة البرِّيَّة التي ستتحرَّكها السفن من كيلو متر ونصف[130] إلى ثمانية كيلو مترات[131]، وسبب الاختلاف في التقدير أنَّ الطريق ليس معلومًا الآن على وجه التحديد، وإنْ كانت التقديرات الأقل أوقع لأنَّ عمليَّة النقل تمَّت في ليلةٍ واحدة، ممَّا يُؤكِّد قرب المسافة.
أمَّا عمليَّة النقل فكانت عن طريق تمهيد الطريق البرِّيِّ، ومدِّ ألواحٍ خشبيَّةٍ على طول الطريق مع دهنها بالشحوم والزيت، ثم سحب السفن ببكراتٍ كبرى باستخدام عددٍ كبيرٍ من الثيران والرجال[132][133].
تمَّت العمليَّة كلُّها في الليل، بعد غروب الشمس في يوم 21 أبريل، كما جاءت معظم الروايات، وذكر آخرون أنَّ العمليَّة كانت في مساء 22 أبريل[134]، والتقدير الأوَّل أدق، ولقد حرص السلطان محمد الثاني على التغطية على العمليَّة تمامًا حتى لا يكتشفها البيزنطيُّون وأعوانهم قبل تمامها، فاستخدم عدَّة أساليب في ذلك؛ كان منها إحداث جلبةٍ عاليةٍ عن طريق الموسيقى العسكريَّة في أكثر من مكان، وكذلك عن طريق قصف المدافع، وكان منها القيام بقصف سفن البيزنطيِّين في القرن الذهبي عن طريق الجيش المرابط في جالاتا، وكان منها إشعال النيران الكثيرة في المنطقة التي تُنْقَل فيها السفن ليُغطِّي الدُّخان الكثيف على العمليَّة[135].
كان التحدِّي الكبير في هذه العمليَّة هو أنَّ النقل لا يتمُّ عبر طريقٍ مستوٍ؛ إنَّما عبر هضبةٍ يبلغ ارتفاعها ستُّون مترًا فوق سطح البحر[136]، وكان من التحدِّيَّات -أيضًا- أنَّ السفن المنقولة كانت كثيرةً للغاية؛ فالبعض قدَّرها بسبع وستِّين سفينة[137]، والبعض قدَّرها باثنتين وسبعين سفينة[138]، بينما قدَّرها آخرون بثمانين سفينة[139]، وكان الإعجاز الحقيقي أن يتمَّ هذا الأمر كلُّه في ليلةٍ واحدة! فقد اكتشف البيزنطيُّون بعد فجر يوم 22 أبريل بقليل أنَّ خليج القرن الذهبي مغطَّى بسفن العثمانيِّين[140].
كانت الفكرة بديعة! وكان التنفيذ أكثر إبداعًا!
حاول الجرَّاح البندقي باربارو في يوميَّاته عن الحصار أن يسحب هذه الفكرة من السلطان محمد الثاني، أو من العثمانيِّين بشكلٍ عامٍّ، ويُعطيها للنصارى، فذكر أنَّ أحد النصارى الذين تحوَّلوا للإسلام هو الذي نصح السلطان بهذه النصيحة بناءً على تجربةٍ سابقةٍ للبنادقة في أحد حروبهم في بحيرة جاردا Garda[141]. والحقُّ أنَّ البنادقة فعلًا قاموا بمثل هذه العمليَّة قبل السلطان محمد الثاني بأربعة عشر عامًا؛ أي في عام 1439م، عندما نقلوا ثمانين سفينةً من نهر أديچي Adige إلى بحيرة جاردا Garda عبر البرِّ لمسافة ثمانية كيلو مترات في خلال خمسة عشر يومًا[142]، ومع ذلك فليس هناك دليلٌ نقليٌّ يُثبت أنَّ أحد النصارى هو الذي نقل الفكرة للمسلمين، حتى لو كان هذا حدث فالتَّحدِّي أكبر في حالة العثمانيِّين لأنَّ النقل البندقي للسفن -كما يقول رنسيمان- كان عبر أرضٍ منبسطةٍ وليس على هضبةٍ عاليةٍ كما في حالة الجيش العثماني[143]، كما أنَّه أخذ أسبوعين كما ذكرتُ منذ قليل وليس ليلةً واحدة، والأهمُّ من ذلك أنَّه -كما يقول مياتوڤيتش- أنَّه حتى لو كانت الفكرة قد نُقِلت إلى السلطان محمد الثاني، فإنَّ الفضل يرجع له في إقراره لتنفيذها، وفي رؤيته أنَّ تطبيقها -على غرابتها- أمرٌ ممكنٌ وقابلٌ للنجاح[144].
والذي لا يعلمه باربارو ولا البنادقة أن هذا الابتكار الفريد، أعني نقل السفن بالبر لإنزالها في بحر بعيد هو ابتكار إسلامي في الأساس، وإن لم يكن عثمانيًّا! فقد قام به المماليك عندما فكَّكوا عددًا من السفن، وحملوها على جمال، لينقلوها من أحد فروع النيل الصغيرة إلى فرع دمياط من النيل، وذلك لمواجهة السفن الفرنسية القادمة من دمياط، وقد نجحت خطتهم، وباغتوا الأسطول الفرنسي، وأسروا منه اثنتين وخمسين سفينة، وكان هذا في عام 1250م، أي قبل حالة البنادقة عند بحيرة جاردا بما يقرب من قرنين (189 سنة كاملة)[145][146][147]!.
وعمومًا فإنَّ العمليَّة تؤكِّد -كما قال برادبوري- على مثابرة السلطان محمد الثاني وإبداعه في الوقت نفسه[148].
هل ظهرت هذه الفكرة فجأةً بعد الكارثة البحريَّة التي حدثت في اليوم 20 أبريل؟!
تتَّجه الكثير من التحليلات إلى أنَّ الفكرة بزغت في اللحظة التي حدثت فيها الكارثة البحريَّة، وذلك بعد قناعة السلطان محمد الثاني بعدم قدرته على السيطرة على البحر خارج القسطنطينيَّة، ومع ذلك فأنا أعتقد أنَّ فكرة نقل السفن عبر البرِّ كانت في ذهن السلطان منذ أوَّل أيَّام الحصار، بل عمل على تنفيذ جزءٍ منها قبل هذه الليلة التي تمَّ فيها النقل بأكثر من أسبوعين! الذي يدعوني إلى هذا الاستنباط ما ورد من أدلَّةٍ تُؤكِّد أنَّ الجيش العثماني مهَّد الطريق شمال جالاتا منذ أوَّل أيَّام الحصار[149]، وكان البيزنطيُّون، وكذلك كثيرٌ من المؤرِّخين، يعتقدون أنَّ هذا الطريق مُهِّد بهذه الصورة لتسهيل التواصل بين الجيش العثماني الموجود حول الأسوار الغربيَّة، والجيش العثماني شمال خليج القرن الذهبي، ولكنَّ الواقع أنَّ بذل هذا الجهد الكبير من أجل مجرَّد التواصل بين الجيشين لا معنى له، وهو جهدٌ مهدر، خاصَّةً أنَّ جيش زاجانوس -والموجود شمال خليج القرن الذهبي- لا دور له تقريبًا في عمليَّة الحصار لبعده عن المدينة، ولذا فأنا أتوقَّع أنَّ هذا الجيش وُضِع في هذا المكان لتأمين هذا الطريق الذي يُمكن أن تُنْقلَ عبره السفن حين الحاجة؛ خاصَّةً أنَّ الطريق قريبٌ جدًّا من جالاتا الچنويَّة، ولا يبعد أن يمنع الچنويُّون عمليَّة النقل إن شعروا بضعف التأمين العسكري له.
كان من الواضح إِذَنْ أنَّ السلطان محمدًا الثاني درس طبوغرافيَّة المنطقة جيِّدًا، وعلم أنَّ هناك طريقًا من البوسفور إلى خليج القرن الذهبي؛ لأنَّه من الصعب أن يكون السلطان قد وجد وقتًا لدراسة هذه الجغرافيَّة في يوم 21 أبريل نفسه مع انشغاله في هذا اليوم بمحاكمة سليمان بلطه أوغلو، وكذلك باجتماع الوزراء. لقد كانت خطَّة نقل السفن في ذهن السلطان كخطَّةٍ بديلة، وكان اللجوء إليها في هذا التوقيت بعد حدوث الكارثة البحريَّة بعد التيقُّن من صعوبة سلوك طريقٍ آخر في حصار القسطنطينيَّة، وكان التمهيد لها مبكِّرًا، ولم يكن متبقيًّا غير اختيار التوقيت فقط، وهذا هو الذي يُمكن أن يُفسِّر إنجاز الأمر كلِّه في ليلةٍ واحدة.
استيقظ البيزنطيُّون هذا الصباح على هذا المشهد المفزع! عشرات السفن العثمانيَّة في الخليج المحمي بالسلسلة الحديديَّة! وكانت الآثار لهذه العمليَّة الجبَّارة عظيمة ومتعدِّدة؛ يُمكن أن نذكر منها في هذا التحليل خمسة:
أوَّلًا: وهذا من أهمِّ الآثار: الهزيمة النفسيَّة التي حدثت للبيزنطيِّين والإيطاليِّين على حدٍّ سواء، ويكفي أن ننقل هنا كلام المؤرِّخ اليوناني كريتوبولوس تعليقًا على هذه المفاجأة! يقول كريتوبولوس: «لقد صُدِموا من المشهد الذي يرون استحالة تحقيقه، وأُصيبوا بأعظم درجات الفزع والارتباك، ولم يُدركوا ماذا يفعلون من الآن فصاعدًا. لقد كانوا في يأسٍ ظاهر»[150]!
ثانيًا: صارت هناك فرصةٌ للجيش العثماني لقصف المدينة من ناحية أسوار القرن الذهبي، وهي أسوارٌ ضعيفة[151]؛ لأنَّ البيزنطيِّين لم يهتمُّوا بإصلاحها لقناعتهم أنَّ السلسلة الحديديَّة ستمنع الأساطيل المعادية من دخول القرن الذهبي، فلن يكون هناك سبيلٌ للوصول إلى هذه الأسوار.
ثالثًا: ستضطرُّ مجموعةٌ من القوَّة المدافعة عن الأسوار الغربيَّة إلى الاتِّجاه إلى أسوار القرن الذهبي للدِّفاع عنها بعد دخول الأسطول العثماني إلى الخليج، وهذا سيُقلِّل من القوَّة المدافعة عن الأسوار الغربيَّة، وبالتالي ستكون فرصة اختراق هذه الأسوار الأخيرة أعلى.
رابعًا: ستقلَّ فرصة دخول أو خروج سفن بيزنطيَّة أو معاونة؛ لأنَّ وجود الأسطول العثماني في هذا المكان القريب من الأساطيل النصرانيَّة سيُقلِّل من فرصة حركتها، خاصَّةً إذا كان الأسطول العثماني محميًّا بقوَّات المدفعيَّة المصاحبة لزاجانوس باشا في شمال الخليج.
خامسًا: سيكون الأسطول العثماني مانعًا للتواصل بين مدينة القسطنطينيَّة، ومدينة جالاتا الچنويَّة عبر القرن الذهبي[152]، وعلى الرغم من إعلان الچنويِّين في جالاتا أنَّهم على الحياد فإنَّ غدرهم متوقَّع، خاصَّةً أنَّ هناك فرقةً چنويَّةً قويَّةً تُدافع عن القسطنطينيَّة من داخلها بقيادة چوستينياني، ومن المحتمل حدوث تعاونٍ بينهما، فكان وجود الأسطول العثماني قاطعًا للتواصل بين الفريقين.
إنَّنا يُمكن أن نختم الحديث عن هذا الحدث الكبير بكلمات المؤرِّخ البيزنطي دوكاس وهو يصف انبهاره بالسلطان محمد الثاني قائلًا: «لقد حوَّل السلطان محمد الثاني الأرض إلى بحار، وأخذ سفنه على قمم الجبال، وكأنَّها فوق أمواج البحر. لقد فاق محمد الثاني بذلك الإسكندر الأكبر»[153]!
***
الأحد 22 أبريل:
مرَّ هذا اليوم هادئًا! كان الجانب العثماني يحتاج إلى راحةٍ بعد المجهود العنيف الذي بُذِل في نقل السفن وتأمين عمليَّة النقل، وكان الجانب البيزنطي مذهولًا من رؤية الأسطول العثماني في الخليج، ومشلولًا عن التفكير تمامًا، وكان يحتاج إلى بعض الوقت لكي يُحسن التعامل مع الموقف الجديد.
الاثنين 23 أبريل:
استفاق البيزنطيُّون واللاتين من صدمتهم، ودعا الإمبراطور قُسطنطين الحادي عشر إلى مجلس حربٍ حضره كلُّ القادة العسكريِّين[154]. نُوقِشَت عدَّة خياراتٍ في هذا الاجتماع؛ فكان منها محاولة الضغط على الچنويِّين في جالاتا لتوفير أسطولٍ مساعدٍ يشترك مع الأسطول البندقي في حربٍ مفتوحةٍ للأسطول العثماني، مستفيدين بذلك من التفوُّق المهاري والتقني عند الأساطيل النصرانيَّة، ومستفيدين -أيضًا- من النصر الأخير الذي حقَّقته السفن الأربعة على الأسطول العثماني يوم 20 أبريل، وكان من الخيارات -أيضًا- محاولة إنزال مجموعةٍ من الجنود في الشاطئ الشمالي لخليج القرن الذهبي لمحاولة تدمير المدافع العثمانيَّة الموجودة هناك، وبالتالي حرمان الأسطول العثماني من التغطية التي تُقدِّمها هذه المدافع له[155]. ومع منطقيَّة هذين الحلَّين إلَّا أنَّهما رُفِضَا؛ لأنَّ الچنويِّين في جالاتا كانوا متردِّدين في المشاركة لاتِّفاقهم مع العثمانيِّين على البقاء على الحياد، أمَّا إنزال الجنود في الشاطئ الشمالي للخليج فكان عمليَّةً خطرةً للغاية يُمكن أن تُودي بحياة هذه الفرقة، وفي ظلِّ النقص العددي الذي تُعاني منه الدولة البيزنطيَّة لم يكن مقبولًا أن تقبل هذا الحلِّ. بعد رفض هذين الاقتراحين تقدَّم أحد القادة البنادقة، وهو چياكومو كوكو Giacomo Coco، بأحد الاقتراحات الذي حظي بمناقشةٍ طويلة، ثم قبولٍ في النهاية، وهو محاولة إحراق الأسطول العثماني في مكانه عن طريق أسطولٍ خفيفٍ يتحرَّك في جنح الظلام دون الدخول في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الأسطول العثماني لتقليل فرصة الخسارة، وتطوَّع هذا القائد البندقي لقيادة هذه العمليَّة الجريئة[156]. كان القائد البندقي جاهزًا ومتحمِّسًا لأداء المهمَّة في مساء اليوم نفسه، ولكن اتُّفِق في الاجتماع على تأجيل العمليَّة إلى يوم 24 أبريل ليتجهَّز الأسطول البندقي المرافق له، كما اتُّفِق على كتمان الأمر عن الچنويِّين في جالاتا خوفًا من تسرُّب الأمر إلى العثمانيِّين[157]. في هذا الاجتماع -أيضًا- أَمَر قُسطنطين الحادي عشر بإصلاح الأسوار في منطقة القرن الذهبي، وأمر السكان في البيوت العالية القريبة من الأسوار بأخذ أهبَّة الاستعداد لاحتمال هجومٍ عثمانيٍّ على المدينة، فيُمكن عند ذلك استغلال الأسطح في رمي الجنود العثمانيِّين بالسهام أو النيران[158].
كان هذا على الجانب البيزنطي..
أمَّا العثمانيُّون فقد انشغلوا في ذلك اليوم بتجميع عددٍ كبيرٍ من البراميل الفارغة، مع ربطها إلى جوار بعضها البعض بسلاسل حديديَّة. كان هذا العمل يتمُّ على ساحل القرن الذهبي الشمالي، ولم تكن معالمه واضحةً بعد، وهو الذي سيتبيَّن بعد إتمامه أنَّه جسرٌ عائمٌ يهدف إلى ربط ناحيتي القرن الذهبي، ومِنْ ثَمَّ سهولة حركة الجنود والمدافع[159]!
لقد كانت أيَّامًا شاقَّةً حقًّا على الطرفين!
الثلاثاء 24 أبريل:
على الرغم من محاولة البنادقة كتم أمر الهجوم الليلي الذي يعزمون على القيام به مساء هذا اليوم فإنَّ الأخبار وصلت بشكلٍ أو آخر إلى أهل جالاتا الچنويِّين! كان البنادقة يُريدون أن يقوموا بالعمل بمفردهم لينالوا شرف النصر وحدهم، خاصَّةً أنَّهم يكرهون الچنويِّين ولا يُريدون لهم ادِّعاء الفخر معهم! وهذا عين ما كان يُفكِّر فيه الچنويُّون! فقد رغبوا في المشاركة في العمل لئلَّا يُنْسَب النصر للبنادقة وحدهم، ولذلك أرسل أهل جالاتا يطلبون تأجيل العمليَّة العسكريَّة إلى يوم 28 أبريل لتكون هناك فرصةٌ لهم في المشاركة[160]. لم يكن هذا على هوى البنادقة، وخاصَّةً قائدهم المتحمِّس چياكومو كوكو، ولكنَّهم اضطرُّوا للقبول، خاصَّةً مع ضغط الإمبراطور البيزنطي، الذي كان يُريد توفير أكبر فرصةٍ لنجاح العمليَّة، ويتَّهم الجرَّاح البندقي باربارو الچنويِّين في أنَّهم ما طلبوا التأجيل إلَّا لإخبار السلطان محمد الثاني بالأمر لكي يأخذ حذره من البنادقة[161]، وأيًّا ما كان الأمر فإنَّ هذا التأجيل كان في مصلحة الجيش العثماني الذي أكثر من وضع المدافع في أماكن استراتيجيَّة في ساحل القرن الذهبي، وكذلك استكمل العمل على بناء الجسم العائم، فضلًا عن استقرار الأسطول العثماني في وضعه الجديد مع تحميله بالسلاح والمدفعيَّة اللازمة.
الأربعاء 25 أبريل إلى الجمعة 27 أبريل:
لم يتوقَّف القصف في هذه الأيَّام. كان القصف العثماني مركَّزًا على الأسوار الغربيَّة كالمعتاد، وكان الأمر يجري على وتيرة الأيَّام السابقة نفسها؛ حيث تنهار أثناء النهار بعض أجزاء السور، ويقوم البيزنطيُّون بإصلاحها أثناء الليل، وهكذا[162]!
***
السبت 28 أبريل:
هذا يوم تنفيذ عمليَّة محاولة حرق الأسطول العثماني!
قبل فجر هذا اليوم بحوالي ساعتين، وفي جنح الظلام، تحرَّك الأسطول النصراني المكلَّف بالمهمَّة. كان الأسطول مكوَّنًا من سفينتين كبيرتين؛ الأولى بندقيَّة، والثانية چنويَّة، وهاتان السفينتان كانتا في المقدِّمة ليُمثِّلا حائط دفاعٍ عن بقيَّة سفن الأسطول، وكانتا محمَّلتين بلفائف كبرى من القطن والصوف لامتصاص أثر القذائف الصخريَّة التي تقذفها المدافع العثمانيَّة. يأتي بعد هاتين السفينتين ثلاث سفن صغيرة، كانت إحداها تحت قيادة القائد البندقي چياكومو كوكو، وهو صاحب فكرة عمليَّة حرق السفن العثمانيَّة، ثم تأتي بعد هذه السفن الأخيرة مجموعةٌ أخرى من القوارب الصغيرة محمَّلة بالموادِّ القابلة للاشتعال، من النيران اليونانة، والزفت، والبارود، وغيرها[163].
تذكر المصادر أنَّ چياكومو كوكو لم يكن صابرًا على الحركة البطيئة للسفن، ولذلك سبق بسفينته بسرعةٍ متقدِّمًا على السفينتين الكبيرتين، ومقتربًا من الأسطول العثماني بصورةٍ أكبر[164][165]. كان واضحًا أنَّ القائد البندقي يسعى لفخرٍ ذاتيٍّ يُنْسَب إليه أو إلى البنادقة، وخاصَّةً أنَّ فكرة حرق الأسطول العثماني كانت فكرته، فكان منه هذا التصرُّف المخالف للخطَّة الموضوعة.
كان السكون يعمُّ المكان، وكانت حركة السفن النصرانيَّة هادئة، ولم تكن هناك أيُّ حركةٍ في المعسكر العثماني، واقتربت سفن البندقيَّة وچنوة أكثر وأكثر، تسبقها بمسافة سفينة چياكومو كوكو. وفجأةً قَطَعَ صمتَ المكان انفجارٌ كبير، وتحوَّل ظلام الخليج إلى ضوءٍ ساطعٍ لعدَّة لحظات! لقد أُطْلِقَت قذيفةٌ قويَّةٌ من المعسكر العثماني صوب سفينة چياكومو كوكو فأغرقتها من ضربةٍ واحدة، وذهبت السفينة بكلِّ طاقمها، وكذلك بالقائد البندقي، إلى قاع الخليج[166]! لم تُدرك السفن الكبرى ما حدث، ولم تُقدِّر حجم المشكلة؛ لأنَّ الظلام كان دامسًا، ولأنَّ سفينة كوكو كانت قد اختفت في قاع البحر، كذلك كانت سحب الدخان كثيفة، وبينما كان قائد إحدى السفينتين الكبيرتين -وهو البندقي جابريل تريڤيسان Gabriele Trevisan- يُحاول فهم ما حدث إذا به يتلقَّى هو الآخر طلقة مدفعٍ أخرى فاشتعلت النيران في سفينته، لكنَّها لم تغرق، بل تدارك قائدها الأمر بسرعةٍ واتَّجه منسحبًا إلى الناحية الجنوبيَّة من خليج القرن الذهبي[167]. أدرك الجميع أنَّ العمليَّة صارت مكشوفة، وفتحت المدافع العثمانيَّة نيرانها على الأسطول النصراني، وانطلقت السفن العثمانيَّة للإمساك بالأسطول النصراني، ودارت موقعةٌ بين الطرفين لمدَّة ساعةٍ ونصف تقريبًا انتهت عند طلوع الفجر وبزوغ النور[168].
كانت النتيجة نصرًا حاسمًا للجيش المسلم؛ فقد الأسطول النصراني ثمانين فردًا منهم كوكو قائد المجموعة، وأمسك الجيش العثماني بأربعين من البحَّارة البنادقة كانوا يُحاولون الفرار عن طريق السباحة، وغرقت سفينة كوكو، بالإضافة إلى عدَّة سفنٍ صغيرة، بينما أحرق النصارى سفينةً عثمانيَّةً واحدة، ولم يفقد العثمانيُّون رجالًا في هذه المعركة[169].
أصدر السلطان محمد الثاني أمرًا بقتل البحَّارة الذين أُمْسِكَ بهم في المعركة، وأَمَر أن يكون الإعدام على مرأى ومسمع من البيزنطيِّين، فنُفِّذ الحكم على الشاطئ الشمالي من خليج القرن الذهبي، وردَّ الإمبراطور البيزنطي بقتل مائتين وستِّين أسيرًا عثمانيًّا كانوا في السجون البيزنطيَّة، وعلَّق جثثهم على أسوار القرن الذهبي[170][171][172]، وكان هذا العمل من الطرفين إعلانًا باستحالة التوصُّل إلى حلٍّ دبلوماسيٍّ سلميٍّ للمسألة، ولن يكون هناك طريقٌ إلَّا الحسم العسكري.
يُعزي كثيرٌ من المؤرِّخين الفشلَ النصرانيَّ في هذه العمليَّة إلى الخلاف الحادِّ بين البنادقة والچنويِّين[173][174]، بل تذكر بعضُ المصادر أنَّ ضوءًا لمع من برج مدينة جالاتا عند بدء تحرُّك الأسطول النصراني، وأنَّ هذا الضوء كان تنبيهًا من الچنويِّين في جالاتا للجيش العثماني ببدء العمليَّة العسكريَّة[175]. لم يكن اتِّهام البنادقة للچنويِّين بالخيانة أمرًا سرِّيًّا يدور في محافل البنادقة فقط؛ بل أعلنوه في وجه الچنويِّين بشكلٍ صريحٍ بعد الهزيمة، ولم يسكت الچنويُّون إنَّما أعلنوا أنَّ البنادقة يُريدون بهذا الاتِّهام دفع التُّهمة عن أنفسهم؛ فهم السبب في الهزيمة نتيجة قلَّة خبرتهم، ونقص مهاراتهم، وأنَّهم لو تركوا القيادة والعمل للچنويِّين وحدهم لكان النصر حليفهم! هكذا دار الصراع بين الطرفين، وتعالت الأصوات، وكادت تحدث معركةٌ داخل أسوار القسطنطينيَّة لولا أن أسرع الإمبراطور بنفسه يتوسَّل إلى الطرفين قائلًا: «استحلفكم بالله ألَّا تتقاتلوا مع بعضكم البعض، العدوُّ خارج الأسوار يكفي»[176]!
لا شَكَّ أنَّ هذا الصراع الداخلي كان أحد مقوِّمات نجاح الجيش العثماني في إحكام الحصار، وتحقيق النجاح، وخاصَّةً أنَّ الطرفين المتصارعين -أعني البنادقة والچنويِّين- ليسا على وفاقٍ أصلًا مع المـُصلِح بينهما، وهو الإمبراطور الأرثوذكسي قُسطنطين الحادي عشر، فكانت هذه الجذور التاريخيَّة ممَّا يزيد من تعقيد الموقف!
***
الأحد 29 أبريل، والاثنين 30 أبريل:
كان من الطبيعي أن يمرَّ هذان اليومان هادئين، في الناحيتين العثمانيَّة والبيزنطيَّة، بعد الأحداث الساخنة في اليوم السابق، ولم يقطع صمت هذين اليومين إلَّا بعضُ القذائف العثمانيَّة على الأسوار الغربيَّة، وإن كانت أقلَّ من بقيَّة الأيَّام[177].
الثلاثاء أوَّل مايو:
ظهرت في هذا اليوم بوادر أزمةٍ كبيرةٍ في القسطنطينيَّة، وهي أزمة نقص المؤن، وخاصَّةً الخبز[178]، وتفاقم الأمر عندما أدرك بعضَ الجنود في الحراسة على الأسوار الفزعُ على أُسَرِهم من نقص الغذاء، فتركوا أماكنهم وعادوا إلى بيوتهم للاطمئنان على أهلهم، واستغلَّ الجيش العثماني فرصة نقص الحراسة فهجم على الأسوار في بعض الأماكن الضعيفة، ولكن رُدُّوا بعد قتالٍ عنيف[179]، لكن هذا الحدث لفت نظر الإمبراطور إلى الأزمة. كانت أسعار الطعام قد ارتفعت جدًّا في داخل المدينة، فاضطرَّ الإمبراطور إلى فرض ضريبةٍ على البيوت الغنيَّة، وكذلك على الكنائس والأديرة، ومن هذا المال المحصَّل اشترى طعامًا ووزَّعه على الأسر الفقيرة، وخاصَّةً تلك الأسر التي يعمل أفرادها في الحراسة[180].
الأربعاء 2 مايو:
جمع الإمبراطور جنوده وألقى فيهم خطبةً حذَّرهم فيها من ترك أماكن الحراسة، واشتكى إليه الجنود قلَّة الطعام، فطمأنهم بأنَّه يسعى لتوفير المال لشراء الطعام، لكنَّه في الوقت نفسه أمر أحد قادته بالبحث عن كلِّ مَن يستطيع حمل السلاح ولم يُشارك في الدِّفاع عن المدينة ليُرْغَم على فعل ذلك، في محاولةٍ لتوفير عددٍ من المدافعين يُمكن أن يتبادلوا الأماكن مع أولئك الذين ضجروا من طول الحصار[181].
لقد كان من الواضح أنَّ المدينة مقبلةٌ على فتنةٍ داخليَّة، وكان لا بُدَّ من أخذ التدابير لمنع هذا الأمر، وكان الأمل في قدوم معونةٍ خارجيَّةٍ تُعيد ضبط المعادلة في المدينة.
الخميس 3 مايو:
كان الأمل يُراود الإمبراطور البيزنطي وشعبه في أن تأتي إعانةٌ من الطعام والرجال والسلاح، من البابا، أو البندقيَّة، أو چنوة، وكانوا يُراقبون جنوب بحر مرمرة يوميًّا أملًا في قدوم سفينةٍ من بحر إيجة، ولكن هذا تأخَّر كثيرًا، ولذا قرَّر الإمبراطور في هذا اليوم إخراج سفينةٍ من القسطنطينيَّة للإبحار في بحر إيجة بحثًا عن سفن الإغاثة المنتظرة، وفي حال العثور على إحداها فإنَّ عليهم استعجالها قدر المستطاع لإنقاذ المدينة. تطوَّع اثنا عشر من البحَّارة البنادقة للقيام بهذا العمل الجريء؛ حيث إنَّ خروج سفينةٍ وحيدةٍ من القرن الذهبي قد يُعرِّضها لهجومٍ من الأسطول المرابط في ميناء العمودين، ولقد أخذت السفينة البندقيَّة حذرها برفع أعلامٍ عثمانيَّةٍ عليها للتمويه على الأسطول العثماني الذي انطلت عليه الحيلة، وأبحرت السفينة بسلام[182]!
في هذا اليوم كذلك لاحظ البيزنطيُّون حركةً غير عاديَّةٍ في المعسكر العثماني، وكأنَّها حركة إعدادٍ لهجومٍ عام، وهذا زاد الحرج في المدينة[183]!
لقد كان من الواضح أنَّ الحالة النفسيَّة في المدينة تتهاوى بشكلٍ سريع!
الجمعة 4 مايو، والسبت 5 مايو:
في هذين اليومين تمَّت عمليَّاتٌ بحريَّةٌ كانت في صالح الجيش العثماني؛ ففي يوم الجمعة 4 مايو سعى الچنويُّون لحرق الأسطول العثماني بعمليَّةٍ مشابهةٍ لعمليَّة يوم 28 أبريل، ولكنَّها تعرَّضت للمصير نفسه؛ حيث أُغْرِقَت السفينة الچنويَّة، وفي اليوم التالي -أي يوم 5 مايو- ردَّ الجيش العثماني بقصف سفينةٍ چنويَّةٍ كانت راسيةً بالقرب من السلسلة الحديديَّة فغرقت كذلك. كانت هذه العمليَّات مصحوبةً بقصفٍ مستمرٍّ على الأسوار الغربيَّة، الذي لم يكن يتوقَّف تقريبًا في أيِّ يوم[184].
الأحد 6 مايو:
مرَّ في هذا اليوم شهرٌ كاملٌ على الحصار وبدايات القصف، ولقد استطاع العثمانيُّون في هذا اليوم إصلاح العطب الذي أصاب المدفع الكبير[185]، وإن كان مياتوڤيتش ذكر أنَّ هذا الإصلاح كان في 30 أبريل[186]، وأيًّا ما كان الأمر فإنَّ القصف قد تزايد بشدَّة في هذا اليوم[187]. في آخر النهار في هذا اليوم حدث انهيارٌ كبيرٌ في أحد أجزاء السور، ولكي لا يتمكَّن البيزنطيُّون من إصلاح الثغرة التي حدثت في التحصينات استمرَّ الجيش العثماني في القصف طوال الليل، وبالتالي لم يستطع البيزنطيُّون الاقتراب من الأسوار[188]. لقد كان واضحًا أنَّ التجهيزات التي رآها البيزنطيُّون في المعسكر العثماني يوم الخميس 3 مايو كانت فعلًا للإعداد لهجومٍ على المدينة، وأنَّ هذا الهجوم بات قريبًا جدًّا!
الاثنين 7 مايو:
استمرَّ القصف في هذا اليوم طوال النهار، ثم توقَّف فجأةً عند أوَّل المساء[189]، وكان القصف كلُّه في منطقة الميزوتيكيون Mesoteichion عند نهر لايكوس، وهي المنطقة الضعيفة من الأسوار[190]. كانت الأسوار في هذه المنطقة قد انهارت بشكلٍ مؤثِّر، وصارت هناك ثغرةٌ كبيرةٌ من جرَّاء القصف الذي لم ينقطع قط منذ صباح الأمس حتى مساء اليوم، ولهذا توقَّع البيزنطيُّون هجومًا عثمانيًّا في أيِّ لحظة. قبيل منتصف الليل بساعةٍ تقريبًا فوجئ البيزنطيُّون بهجومٍ عثمانيٍّ كاسحٍ على الجزء المنهار من السور، وقد قدَّرت المصادر عدد المهاجمين بثلاثين ألف مقاتل[191][192]. اندفع البيزنطيُّون بقيادة چوستينياني الچنوي وآخرين لقتال المسلمين، ودارت معركةٌ شرسةٌ لمدَّة ثلاث ساعاتٍ تقريبًا، ولم يفلح المسلمون في دخول المدينة من هذه الثغرة بعد أن تعرَّضوا لخسارةٍ كبيرةٍ في جيشهم[193]. يذكر شاهد عيان للأحداث -وهو بينڤينوتو Benvenuto، وهو قنصل أنكونا Ancona في القسطنطينيَّة- أنَّ قتلى الأتراك كانوا سبعة آلاف، وأنَّ قتلى البيزنطيِّين كانوا أربعين فقط[194]! ومع أنَّ المبالغة واضحةٌ فإنَّه من المؤكَّد أنَّ خسارة العثمانيِّين كانت أكبر بكثيرٍ من خسارة عدوِّهم؛ فطبيعة المعركة تُشير إلى ذلك، لأنَّ البيزنطيِّين يُقاتلون من فوق الأسوار على ارتفاع أكثر من عشرة أمتار فوق العثمانيِّين، ممَّا يجعل إلقاء النيران اليونانيَّة والزيت المغلي سهلًا فوق رءوس الجيش العثماني، كما أنَّ الفتحة التي أحدثتها المدافع في الأسوار لا تسمح إلَّا بدخول عددٍ محدودٍ من الجنود ممَّا يجعل مقاومتهم من الحامية البيزنطيَّة أمرًا متوقَّعًا، بالإضافة إلى وجود الخندق الكبير حول الأسوار ممَّا يجعل عبور الجيش إلى الأسوار أمرًا صعبًا، وهذا كلُّه يُعطي الجيش البيزنطي ومعاونيه فرصةً لضرب السهام أو المدافع على الجنود في الخندق، ويُضاف إلى كلِّ ذلك الشجاعة المفرطة عند الجنود العثمانيِّين، التي كانت تجعلهم يُقْدِمون على مخاطر كبرى يكون من نتيجتها استشهاد عددٍ ضخمٍ منهم. هذه الشجاعة لم يشهد بها المؤرِّخون الأتراك وحدهم إنَّما شهد بها المعاصرون للحدث من البنادقة وغيرهم، ولننظر إلى ما قاله باربارو على سبيل المثال تصويرًا لهذه الشجاعة. يقول باربارو: «وعندما كان يُقْتَل أحد الأتراك كان الباقون يأتون بسرعةٍ ويسحبونه بعيدًا، غير آبهين بمدى قربهم من أسوار المدينة، وكان رجالٌ يُطلقون عليهم رصاص البنادق والسهام، مختارين في ذلك التركي الذي يحمل ابن جلدته الصريع أو الجريح، فيسقط كلاهما على الأرض ميتًا، وعندها يأتي أتراكٌ غيرهم ليسحبوا جثث رفاقهم، دون أن يخشى أحدهم الموت، بل كانوا يُفضِّلون الموت على عار ترك جثَّة رجلٍ مسلمٍ قرب الأسوار»[195]!
هكذا انتهت المحاولة العثمانيَّة الثانية لاقتحام الأسوار، وكانت الأولى في يوم 18 أبريل، ولا شَكَّ أنَّ هذا الفشل في دخول المدينة أثَّر سلبًا في الجيش العثماني، بينما رفع نسبيًّا من معنويَّات المحاصَرين، ممَّا كان يُنذر بأنَّ الحصار سيطول عمَّا كان متوقَّعًا!
الثلاثاء 8 مايو إلى الجمعة 11 مايو:
لم ييأس العثمانيُّون من فشل محاولتي الاقتحام، بل أمر السلطان أن يستمرَّ القصف بصورةٍ متَّصلةٍ في الأيام التالية، فشهدت هذه الأيَّام الثلاثة قصفًا مركَّزًا على الأسوار القريبة من قصر بلاكيرني Blachernae[196]، وهو يقع عند الجزء الشمالي من الأسوار الغربيَّة قريبًا من منطقة الميزوتيكيون التي حدث عندها الهجوم يوم 7 مايو، وكان من الواضح أنَّ هجومًا عامًّا سيحدث بعد ذلك عند هذه المنطقة.
في هذه الأيَّام -أيضًا- انشغل الأسطول البندقي الموجود في القرن الذهبي بنقل الأسلحة من السفن ووضعها في الترسانة البحريَّة المحصَّنة؛ وذلك خوفًا من هجومٍ عثمانيٍّ على السفن في الميناء وحرقها بأسلحتها[197]، بالإضافة إلى أنَّ البنادقة شعروا أنَّ القتال البحري في القرن الذهبي غير مجْدٍ في هذه المرحلة؛ حيث كان التركيز العثماني واضحًا على الأسوار الغربيَّة، ومِنْ ثَمَّ سحب البنادقة أربعمائة من البحَّارة في السفن ووضعوهم عند بوابة سان رومانوس، التي يتوقَّعون أن يكون الضغط عليها كبيرًا في المرحلة القادمة[198].
السبت 12 مايو:
استمرَّ القصف طوال اليوم حتى آخر النهار على الأسوار القريبة من قصر بلاكيرني، وفي أوَّل المساء وقبل أن يتَّجه البيزنطيُّون كالعادة إلى إصلاح الأسوار هجم الجيش العثماني في محاولته الثالثة لاقتحام المدينة[199]. كانت هذه هي أكبر المحاولات العثمانيَّة حتى هذه اللحظة؛ إذ قُدِّر عدد المهاجمين بخمسين ألف مقاتل[200]. للأسف لم تكن النتيجة أفضل من المحاولتين السابقتين! استطاع المدافعون أن يردُّوا الهجمة بكفاءة[201]. ذكرت بعض المصادر أنَّ قتلى العثمانيِّين في هذا الهجوم كانوا حوالي عشرة آلاف جندي[202]! كان من الواضح أنَّ الجيش العثماني يحتاج إلى استراحةٍ لإعادة تقويم الموقف[203].
[1] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009., p. 34.
[2] Nicol Donald M. The Last Centuries of Byzantium, 1261-1453 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 1993., p. 382.
[3] Feldman Ruth Tenzer The Fall of Constantinople [Book]. - Minneapolis, MN, USA : Twenty-First Century Books, 2007., p. 85.
[4] Crowley Roger 1453: The Holy War for Constantinople and the Clash of Islam and the West [Book]. - New York : Hyperion , 2005., p. 99.
[5] Freely, 2009, p. 34.
[6] عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلاَلٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ؛ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ وَالْفَىْءِ شَىْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ». مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها (1731)، وأبو داود (2612)، والترمذي (1617)، والنسائي (8680)، وابن ماجه (2858).
[7] المولى خسرو: درر الحكام في شرح غرر الأحكام، - [مكان غير معروف] : دار إحياء الكتب العربية، 1291هـ= 1874م.، 1874م، صفحة 1/284.
[8] Kritovoulos History of Mehmed the Conqueror [Book] / trans. Riggs Charles T.. - [s.l.] : Greenwood Press, Westport, Connecticut, 1954., p. 40.
[9] Schwartzwald Jack L The Collapse and Recovery of Europe, AD 476-1648 [Book]. - Jefferson, Nc, USA : McFarland, 2015., p. 58.
[10] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 86.
[11] Dereksen David The crescent and the cross: the fall of Byzantium, May 1453 [Book]. - New York, USA : Putnam, 1964., p. 184.
[12] Feldman, 2007., p. 86.
[13] Philippides Marios and Hanak Walter K. The Siege and the Fall of Constantinople in 1453 [Book]. - UK : Ashgate Publishing, Ltd, 2011., p. 574.
[14] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978., p. 86.
[15] Freely, 2009, p. 35.
[16] Babinger, 1978, p. 84.
[17] Freely, 2009, p. 32.
[18] Malcolm Noel Kosovo: A Short History [Book]. - London, UK : Macmillan, 1998., p. 91.
[19] Philippides, et al., 2011, p. 366.
[20] Freely, 2009, p. 32.
[21] Babinger, 1978, p. 86.
[22] Arnold Guy Historical Dictionary of the Crimean War [Book]. - Lanham, Maryland, USA : Scarecrow Press, 2002., p. 20.
[23] Skaarup Harold Siegecraft - No Fortress Impregnable [Book]. - New york, USA : iUniverse, 2003, p. 93.
[24] Marshall Chris Warfare in the Medieval World [Book]. - Austin, Tx, USA : Raintree Steck-Vaughn, 1999., p. 68.
[25] Kritovoulos, 1954., p. 43.
[26] Stanton Charles D Medieval Maritime Warfare [Book]. - south Yorkshire, Uk : Pen & Sword Books, 2015, p. 290.
[27] Babinger, 1978, p. 86.
[28] Crowley, 2005, p. 112.
[29] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 114.
[30] Kinard Jeff Artillery: An Illustrated History of Its Impact [Book]. - santa Barbara, CA, USA : ABC-CLIO, 2007., p. 49.
[31] Bradbury Jim The Medieval Siege [Book]. - Rochester, N Y, USA : Boydell Press, 1992, p. 294.
[32] Jessup John E Balkan Military History [Book]. - New York, USA : Garland publishing, Inc, 1986., p. 49.
[33] Kinard, 2007, p. 49.
[34] Sphrantzes Georgios Memorii 1401 – 1477 [Book]. - Bucharest, Romania : Editura Academiei Republicii Socialiste Romania, 1966, p. 97.
[35] Bartusis Mark C The Late Byzantine Army: Arms and Society [Book]. - Philadelphia, USA : University of Pennsylvania Press, 1997, p. 131.
[36] Nicolle David Constantinople 1453 The End of Byzantium [Book]. - Oxford, UK : osprey publishing, 2000, p. 44.
[37] Feldman, 2007, p. 87.
[38] Kritovoulos, 1954, p. 38.
[39] Babinger, 1978, p. 84.
[40] Feldman, 2007, p. 87.
[41] Setton, 1976, vol. 2, p. 114.
[42] Feldman, 2007, p. 87.
[43] Setton, 1976, vol. 2, p. 113.
[44] Turnbull Stephen The Walls of Constantinople AD 324–1453 [Book]. - Oxford, UK : Osprey Publishing, 2012 (B).p. 27.
[45] Freely, 2009, p. 35.
[46] Feldman, 2007, p. 87.
[47] Freely, 2009, p. 34.
[48] Freely, 2009, p. 36.
[49] باربارو الفتح الإسلامي للقسطنطينية (يوميات الحصار العثماني 1453م)/ المترجمون دراسة وترجمة وتعليق: حاتم عبد الرحمن الطحاوي. - القاهرة : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2002م. صفحة 156.
[50] Freely, 2009, p. 36.
[51] Crowley, 2005, p. 111.
[52] Rosser John H Historical Dictionary of Byzantium [Book]. - Lanham, Maryland, USA : The Scarecrow Press, 2012., p. 427.
[53] Freely, 2009, p. 36.
[54] Kinard, 2007, p. 49.
[55] باربارو، 2002م الصفحات 156-157.
[56] Crowley, 2005, p. 128.
[57] باربارو، 2002م صفحة 120.
[58] Freely, 2009, p. 36.
[59] Crowley, 2005, p. 128.
[60] Hammer Paul E .J. Warfare in Early Modern Europe 1450–1660 [Book]. - NewYork, USA : Ashgate, 2007., p. 302.
[61] Overy Richard A History of War in 100 Battles [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 2014., p. 332.
[62] Grumeza Ion The Roots of Balkanization: Eastern Europe C.E. 500-1500 [Book]. - Lanham, Maryland, USA : University Press of America, 2010, p. 201.
[63] Philippides Marios and Hanak Walter K. The Siege and the Fall of Constantinople in 1453 [Book]. - UK : Ashgate Publishing, Ltd, 2011., p. 396.
[64] Crowley, 2005, p. 117.
[65] Schmidtchen Volker «Riesengeschütze des 15. Jahrhunderts. Technische Höchstleistungen ihrer Zeit» in Deutsch [Article] // Technikgeschichte. - Düsseldorf : VDI-Verlag GmbH, 1977. - 44., p. 237.
[66] Freely, 2009, p. 30.
[67] Runciman Steven The Fall of Constantinople 1453 [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, 1965., p. 93.
[68] Crowley, 2005, p. 105.
[69] Güleryüz Naim and Keribar İzzet The Synagogues of Turkey: The synagogues of Istanbul [Book]. - Istanbul,Turkey : Gözlem Gazetecilik Basın ve Yayın AŞ, 2008., p. 79.
[70] Fuller John Frederick Charles A Military History of the Western World: From the Earliest Times to the Battle of Lepanto [Book]. - London, UK : Minerva Press, 1967., p. 512.
[71] Crowley, 2005, p. 111.
[72] Crowley, 2005, p. 118.
[73] Setton, 1976, vol. 2, p. 117.
[74] Harris Jonathan Constantinople: Capital of Byzantium [Book]. - New York, USA : Bloomsbury, 2017., p. 192.
[75] Grumeza, 2010, p. 201.
[76] Crowley, 2005, p. 120.
[77] Roberts Andrew The Art of War [Book]. - London, Uk : Quercus, 2008., p. 369.
[78] Freely, 2009, p. 36.
[79] Crowley, 2005, pp. 120-121.
[80] Grumeza, 2010, p. 201.
[81] Freely, 2009, p. 36.
[82] أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/134.
[83] Crowley, 2005, p. 117.
[84] Feldman, 2007, p. 88.
[85] Runciman, 1965, p. 100.
[86] Mijatović Čedomilj Constantine, The Last Emperor of the Greeks [Book]. - London, UK : Sampson Low, Marston & Company, 1892., p. 158.
[87] Crowley, 2005, p. 132.
[88] باربارو، 2002م صفحة 125.
[89] Crowley, 2005, p. 133.
[90] Mijatović, 1892, p. 158.
[91] Crowley, 2005, p. 132.
[92] Runciman, 1965, pp. 100-103.
[93] Crowley, 2005, pp. 132-134.
[94] Mijatović, 1892, p. 158.
[95] Norwich John Julius Viscount Byzantium: The Decline and Fall [Book]. - New York, USA : Viking, 1995., p. 420.
[96] Kritovoulos, 1954, p. 54.
[97] Babinger, 1978, p. 87.
[98] Mijatović, 1892, pp. 158-159.
[99] Freely, 2009, p. 36.
[100] Sphrantzes Georgios The fall of the Byzantine Empire [Book]. - Nottingham, UK : Nottinghamshire County Council, 1980., p. 108.
[101] Mijatović, 1892, p. 159.
[102] Bartusis, 1997, p. 132.
[103] İnalcık Halil Mehmed the Conqueror (1432-1481) and His Time [Article] // Speculum. - Chicago, USA : The University of Chicago Press, 1960., vol. 35, no. 3, p. 411.
[104] Mijatović, 1892, p. 159.
[105] Freely, 2009, p. 36.
[106] Babinger, 1978, p. 87.
[107] Runciman, 1965, p. 104.
[108] Babinger, 1978, p. 87.
[109] Freely, 2009, p. 36.
[110] أوزتونا، 1988م صفحة 1/134.
[111] Mijatović, 1892, p. 160.
[112] أوزتونا، 1988م صفحة 1/134.
[113] Mijatović, 1892, pp. 160-161.
[114]Angold Michael The Fall of Constantinople to the Ottomans: Context and Consequences [Book]. - New York, USA : Routledge, 2014, p. 6.
[115] Mijatović, 1892, p. 161.
[116] Angold, 2014, p. 6.
[117] Mijatović, 1892, p. 161.
[118] Angold, 2014, p. 6.
[119] Runciman, 1965, p. 103.
[120] Mijatović, 1892, p. 159.
[121] باربارو، 2002م صفحة 129.
[122] Bradbury, 1992, p. 224.
[123] Feldman, 2007, p. 89.
[124] Runciman, 1965, p. 103.
[125] Freely, 2009, p. 37.
[126] Angold, 2014, p. 6.
[127] Sphrantzes, 1980, p. 146.
[128] Norwich John Julius Viscount Byzantium: The Decline and Fall [Book]. - New York, USA : Viking, 1995., p. 376.
[129] Runciman, 1965, pp. 104-105.
[130] Bartusis, 1997, p. 132.
[131] Mijatović, 1892, p. 162.
[132] Crowley, 2005, p. 147.
[133] Gregory Timothy E. A History of Byntizaum [Book]. - west Sussex, UK - Wiley-Blackwell, Malder, M A, USA : Wiley- Blackwell, 2010., p. 395.
[134] Runciman, 1965, p. 104.
[135] Mijatović, 1892, p. 163.
[136] Runciman, 1965, p. 104.
[137] أوزتونا، 1988م صفحة 1/134.
[138] Freely, 2009, p. 37.
[139] Rogers, 2010, vol. 1, p. 430.
[140] Mijatović, 1892, p. 164.
[141] باربارو، 2002م صفحة 131.
[142] Mallett Michael E. and Hale John Rigby The Military Organisation of a Renaissance State: Venice C.1400 to 1617 [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2006., p. 98.
[143] Runciman, 1965, p. 104.
[144] Mijatović, 1892, p. 163.
[145] اليونيني: ذيل مرآة الزمان- القاهرة - مصر: دار الكتاب الإسلامي، 1413هـ = 1992م.الصفحات 2/210، 211.
[146] الدواداري: كنز الدرر وجامع الغرر، تحقيق: سعيد عبد الفتاح عاشور- القاهرة : عيسى البابي الحلبي، 1391هـ = 1972م. الصفحات 7/377، 378.
[147] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، المترجمون تحقيق: محمد عبد القادر عطا. - بيروت، لبنان : دار الكتب العلمية، 1997م. الطبعة الأولى. صفحة 1/409.
[148] Bradbury, 1992, p. 224.
[149] Freely, 2009, p. 37.
[150] Kritovoulos, 1954, p. 57.
[151] Turnbull, 2012 (B), p. 16.
[152] Angold, 2014, p. 6.
[153] Philippides, et al., 2011, p. 447.
[154] Setton, 1976, vol. 2, p. 119.
[155] Runciman, 1965, p. 105.
[156] Mijatović, 1892, pp. 164-165.
[157] Runciman, 1965, pp. 105-106.
[158] Turnbull, 2012 (B), p. 16.
[159] Mijatović, 1892, p. 165.
[160] Runciman, 1965, p. 106.
[161] باربارو، 2002م الصفحات 136-137.
[162] Mijatović, 1892, p. 166.
[163] Runciman, 1965, p. 106.
[164] Setton, 1976, vol. 2, p. 119.
[165] Runciman, 1965, pp. 106-107.
[166] Freely, 2009, p. 37.
[167] Setton, 1976, vol. 2, p. 119.
[168] Runciman, 1965, p. 107.
[169] Setton, 1976, vol. 2, p. 119.
[170] Mijatović, 1892, pp. 167-168.
[171] Setton, 1976, vol. 2, p. 119.
[172] Runciman, 1965, p. 107.
[173] Bartusis, 1997, p. 132.
[174] Feldman, 2007, p. 90.
[175] Runciman, 1965, p. 106.
[176] Setton, 1976, vol. 2, p. 120.
[177] Mijatović, 1892, pp. 168-169.
[178] Freely, 2009, p. 37.
[179] Mijatović, 1892, p. 170.
[180] Nicol, 1993, p. 384.
[181] Mijatović, 1892, p. 171.
[182] Feldman, 2007, p. 90.
[183] Mijatović, 1892, p. 172.
[184] Mijatović, 1892, pp. 174-175.
[185] Angold, 2014, p. 6.
[186] Mijatović, 1892, p. 169.
[187] Runciman, 1965, p. 115.
[188] Mijatović, 1892, p. 175.
[189] Mijatović, 1892, pp. 175-176.
[190] Runciman, 1965, p. 115.
[191] Freely, 2009, p. 38.
[192] Mijatović, 1892, p. 176.
[193] Freely, 2009, p. 38.
[194] Angold, 2014, p. 7.
[195] باربارو، 2002م صفحة 122.
[196] Freely, 2009, p. 38.
[197] Runciman, 1965, p. 117.
[198] Mijatović, 1892, p. 177.
[199] Freely, 2009, p. 38.
[200] Mijatović, 1892, p. 178.
[201] Freely, 2009, p. 38.
[202] Mijatović, 1892, p. 181.
[203] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441ه= 2019م، 1/ 178- 221.
التعليقات
إرسال تعليقك