التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
أتمَّ السلطان محمد الفاتح فتح جنوب صربيا، وبقيت صربيا في حوزة العثمانيِّين لمدَّة أربعة قرونٍ كاملةٍ بعد هذا الفتح.
فتح جنوب صربيا وجنوب اليونان وأماسرا وإسفنديار وطرابزون
كان الملف الأكثر أهميَّة عند الفاتح في عام 1459م هو ملفُّ صربيا. لقد استطاع الفاتح في العام الماضي أن يُؤسِّس قاعدةً قويَّةً في جنوب صربيا وشرقها بالحملة الناجحة التي قادها محمود أنچلوڤيتش، لكن بقيت مدينة سمندرية Smederevo في أيدي الصرب المدعومين بالمجر، بل كانت سمندرية تحت حكم ابن ملك البوسنة، وكان ملك البوسنة توماسيڤيتش Tomašević قد زوَّج ابنه استيفين Stephen لابنة أمير صربيا الراحل لازار، وذلك برعايةٍ مجرية، وصار استيفين من ساعتها حاكم سمندرية، وبالتالي حاكم صربيا الجنوبيَّة، وكان ذلك في شهر مارس وأبريل من عام 1459م[1]. كانت هذه الأنباء مزعجةً بالنسبة إلى الدولة العثمانية من أكثر من جانب؛ فأوَّلًا: هذه الولاية الجديدة قد تُنذر بنموِّ المقاومة ضدَّ الدولة العثمانيَّة، ومِنْ ثَمَّ ضياع مكاسب الحملة الناجحة في العام الماضي، ثانيًا: دخول ملك البوسنة في المعادلة قد يُؤثِّر فيها لصالح الصرب والمجريِّين، خاصَّةً أنَّ ملك البوسنة كان يدفع الجزية إلى الدولة العثمانية منذ عام 1432م[2]، وقد يعني هذا التطوُّر الجديد خروج البوسنة من اتِّفاقيَّتها مع الدولة العثمانية، وبالتالي اشتعال الجبهة الغربيَّة للدولة بشكلٍ كبير، وثالثًا: فإنَّ الرعاية المجريَّة لزواج ابن ملك البوسنة من ابنة لازار قد تعني تدخُّل المجر بشكلٍ مباشرٍ في صربيا، وهذا قد يزيد تعقيد الموقف.
في هذا الوقت كانت هناك عدَّة مؤامرات كبرى تُحاك في المجر على ملكها الجديد ماتياس، وكان عددٌ كبيرٌ من النبلاء يسعى لتسليم المجر إلى إمبراطور النمسا فريدريك الثالث، وبالتالي كان ماتياس منشغلًا للغاية في هذه الأحداث الداخليَّة[3][4].
انتهز الفاتح هذه الفرصة، وتحرَّك بسرعةٍ في اتجاه صربيا، ووصلت الأخبار إلى استيفين ابن ملك البوسنة في سمندرية فارتعب لتحرُّك السلطان الفاتح بنفسه إلى صربيا، وأدرك أنَّه لن تكون له طاقةٌ بحربه. أضف إلى ذلك أنَّ استيفين وجد أنَّ معظم شعب سمندرية يميل إلى العثمانيِّين أكثر من ميله إلى المجريِّين[5]؛ ولعلَّ هذا بسبب أرثوذكسيَّة صربيا التي ترفض بشكلٍ عامٍّ الانصياع لحكم المجريِّين الكاثوليك. لم يكن ملك المجر قادرًا على إرسال أيِّ معونةٍ عسكريَّةٍ في ذلك الوقت، ولذلك لم يتحرَّك جنديٌّ واحدٌ من المجر إلى سمندرية[6]. استنجد استيفين بأبيه ملك البوسنة، ولكنَّ الوالد كان أكثر واقعيَّة؛ فعقد اتفاقيَّةً مع السلطان الفاتح يُسلِّم فيها سمندرية له في مقابل أن يأخذ مدينةً حدوديَّةً بين البوسنة وصربيا هي مدينة سريبرينيكا Srebrenica، وكذلك تأمين خروج استيفين سالمـًا إلى البوسنة[7]، وهكذا سُلِّمت سمندرية إلى الدولة العثمانية في 20 يونيو 1459م دون قتال[8]. حوَّل الفاتح سمندرية إلى مقاطعةٍ عثمانيَّةٍ مباشرة بعد فتحها، وعيَّن عليها واليًا عثمانيًّا، وشملت هذه المقاطعة كلَّ جنوب صربيا حتى بلجراد[9].
هكذا أتمَّ السلطان محمد الفاتح فتح جنوب صربيا، واستقرَّت الأوضاع بشكلٍ كبير، ولم يكن هذا الاستقرار لعامٍ أو عامين؛ إنَّما بقيت صربيا في حوزة العثمانيِّين لمدَّة أربعة قرونٍ كاملةٍ بعد هذا الفتح!
بينما كان هذا النجاح يتحقَّق جاءت الأخبار بتطوُّراتٍ مزعجةٍ في المورة اليونانيَّة! لقد حدث صراعٌ بين الأخوين تُوماس وديمتريوس، واستطاع تُوماس أن يحتلَّ عدَّة مدنٍ كانت تابعةً لأخية ديمتريوس، بل زاد تهوُّره فاحتلَّ مدينة كالاڤريتا Kalavryta، وهي تابعةٌ للدولة العثمانيَّة منذ العام السابق 1458م[10]. أرسل السلطان محمد الفاتح قائده العسكري الشهير زاجانوس باشا إلى المورة لمواجهة تُوماس، واستطاع الجيش العثماني أن يُحقِّق نصرًا كبيرًا على تُوماس في موقعة ليونداري Leondari، ولكن بعد الموقعة انتشر طاعون في الجيش العثماني فاضطرَّ زاجانوس باشا للعودة بجيشه إلى الشمال دون استكمال مطاردة تُوماس وإنهاء المسألة بشكلٍ حاسم[11].
وعلى الرغم من عودة زاجانوس باشا دون استكمال المهمَّة إلَّا أنَّ تُوماس أدرك مدى تهوُّره، ولذلك سعى من جديد لإجراء مباحثات سلامٍ مع السلطان الفاتح، والعودة لدفع الجزية، لكن السلطان لم يقبل منه ذلك، بل استعدَّ لتجهيز حملةٍ كبرى ينهي بها مسألة المورة نهائيًّا[12]، وعقد العزم أن تكون هذه الحملة في العام المقبل بعد أن يستقرَّ وضع صربيا.
انتهت حملة السلطان الفاتح في صربيا بسرعة، وحقَّق نجاحًا عظيمًا دون جهدٍ كبير؛ إذ سُلِّمت أهم المدن في جنوب صربيا -وهي سمندرية- دون قتالٍ كما مرَّ بنا، وهذه السرعة غير المتوقَّعة دفعت الفاتح إلى تحقيق هدفٍ جديدٍ مهمٍّ مستغلًّا الحالة المعنويَّة المرتفعة للجيش بعد هذا النجاح، وكان هذا الهدف هو تحرير جزر بحر إيجة الشماليَّة من قبضة البابا، الذي كان قد احتلَّ بأسطوله جزر ليمنوس، وثاسوس، وساموتراس في 1457م كما مرَّ بنا. توجَّه الأسطول العثماني بقيادة زاجانوس باشا أوَّلًا إلى جزيرة ليمنوس، وبعد مفاوضاتٍ توسَّط فيها المؤرِّخ اليوناني كريتوبولوس، تسلَّم العثمانيُّون الجزيرة دون قتال[13]، وبعد هذا توجَّه الأسطول العثماني إلى جزيرتي ساموتراس وثاسوس فتمكَّن من السيطرة عليهما بعد قتال، وكان ذلك في شهر أغسطس 1459م[14]. بذلك يكون السلطان الفاتح قد أعاد تأمين المضايق المؤدِّية إلى إسطنبول ممَّا جعلها مؤهَّلةً في هذا التوقيت لتكون عاصمةً للدولة العثمانيَّة، وكانت أدرنة حتى ذلك الوقت هي المقرُّ الرئيس للسلطان الفاتح وحكومته، ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل الفاتح يُصدِر أمرًا في عام 1459م إلى كلِّ النبلاء والأغنياء في الدولة العثمانية أن يقوموا ببناء القصور الفخمة، والمساجد الكثيرة، ومراكز التجارة المتميِّزة، بل الفنادق والحمَّامات، في إسطنبول، لتُصبح مدينةً حيَّةً عامرة، تصلح أن تكون عاصمةً رائعةً للدولة العثمانية[15]، وأعتقد أنَّ هذه هي السنة التي استقرَّ فيها السلطان الفاتح في إسطنبول بدلًا من أدرنة.
هكذا أُسدل الستار على عام 1459م، وقد تمَّ للدولة العثمانية فتح جنوب صربيا، واستعادة جزر بحر إيجة الشماليَّة، فضلًا عن وجود العلَّة المناسبة لاستكمال فتح اليونان، ولم يكن هناك من الأحداث المهمَّة في هذا العام غير ما ذكرناه؛ اللهمَّ إلا ولادة طفلٍ جديدٍ للفاتح سمَّاه چم Jem، وكان ذلك في 2 ديسمبر 1459م، وهو أوَّل طفلٍ في العائلة المالكة العثمانيَّة يُولَد في إسطنبول[16].
أراد البابا بيوس الثاني أن تكون بداية عام 1460م ساخنة، فأعلن حربًا صليبية لمدَّة ثلاث سنوات على الدولة العثمانية، وذلك في يوم 14 يناير، ووعد إمبراطورُ النمسا وأمراءُ ألمانيا بتوفير اثنين وثلاثين ألفًا من المشاة، وعشرة آلافٍ من الفرسان لهذه الحرب[17]، ومع ذلك فكلُّ وعود أمراء أوروبا ذهبت أدراج الرياح، وكان الوحيد الذي قرَّر أن يسير في خطَّة البابا هو ڤلاد الثالث أمير الإفلاق، ولكنَّه فقط أراد التأجيل إلى أن تستقرَّ أموره[18].
هكذا لم تُزعج أخبار هذه الحملة المرتقبة الفاتح، وكان يعتزم أن يتحرَّك بجيشه جهة الشرق في الأناضول لإنهاء عدَّة جيوبٍ خطرة في هذه المنطقة المهمَّة من الدولة العثمانية، فهناك إمبراطوريَّة طرابزون البيزنطيَّة، وميناء أماسرا Amasra الچنوي، بالإضافة إلى إمارة إسفنديار التركمانيَّة، وكلُّ هذه الأماكن تُمثِّل خطرًا على الدولة العثمانية، فضلًا عن إمارة قرمان المضطربة دومًا، وإلى الشرق من كلِّ هذا يوجد أوزون حسن سلطان إيران صاحب الأطماع التوسُّعيَّة في الأناضول. كان عزم الفاتح أن يتَّجه إلى هذه المنطقة في عام 1460م لولا تهوُّر الأمير البيزنطي تُوماس، والحرب الأهليَّة التي أثارها في اليونان، وكذلك تعدِّيَّاته على المدن العثمانيَّة هناك، ممَّا دفع الفاتح إلى تأجيل حملة الشرق، والتركيز على ملفِّ اليونان في هذه السنة.
أراد الفاتح أن يُبَكِّر في حملته على اليونان لكي يستفيد من موسم الحرب كلِّه، وكانت الجيوش في ذلك الزمن لا تستطيع القتال بأمانٍ إلَّا في الشهور من أبريل إلى سبتمبر؛ حيث تُناسب الحرارة العمليَّات العسكريَّة، أمَّا في وجود البرد والثلوج فإنَّ ذلك يكون عسيرًا عليها بدرجةٍ كبيرة، ولهذا أسرع الفاتح بإرسال زاجانوس باشا في ربيع هذه السنة لتمهيد الأمر لقدوم الحملة الهمايونيَّة الكبرى، التي سيقودها الفاتح بنفسه، ولقد استطاع زاجانوس باشا أن يرفع حصارًا بيزنطيًّا كان مضروبًا على قلعة أكايا Achaea بالقرب من مدينة باتراس Patras، وبذلك فتح الطريق الآمن لجيش السلطان لأن يأتي من شمال اليونان ويصل إلى شبه جزيرة المورة[19].
وصل السلطان الفاتح بحملته الهمايونيَّة إلى المورة اليونانيَّة في شهر مايو 1460م[20]، وجعل وجهته الرئيسة مدينة ميسترا Mistra، وهي عاصمة الإقليم في ذلك الوقت، وفور وصول أنباء قدوم الجيش العثماني الضخم تباينت ردود أفعال الأخوين ديمتريوس وتُوماس بشكلٍ كبير!
أمَّا ديمتريوس فقد قرَّر الاستسلام للسلطان الفاتح، وأتى لاستقباله عند قدومه، وقد أحسن السلطان استقباله ووعده خيرًا، وذلك بعد أن يُسلِّمه كلَّ المدن اليونانيَّة التي في حوزته، على أن يُعطيه السلطان عطاءً آخر يُمكن أن يحفظ به مكانته المرموقة كأمير[21]. هكذا سقط شرق المورة كلَّه في يد السلطان الفاتح بسهولة، ولم ترفض أيُّ مدينةٍ أن تفتح أبوابها للجيش العثماني باستثناء مدينةٍ واحدةٍ فقط هي مدينة مونمڤاسيا Monemvasia، وهي مدينةٌ حصينةٌ على الساحل الشرقي للمورة، وقد دفعت حصانة المدينة وموقعها المتميِّز الذي يُعطيها مناعةً طبيعيَّةً، أهلها إلى رفض التسليم للفاتح، وأعلنوا نقل ولائهم من ديمتريوس إلى أخيه تُوماس[22].
كان هذا ردُّ فعل الأمير ديمتريوس.
أمَّا الأمير تُوماس فعلم أنَّ تعدِّيَّاته السابقة على الدولة العثمانية لن تترك مجالًا للتفاوض، فضلًا عن الخلاف العميق الذي كان بينه وأخيه ديمتريوس، فاختار لذلك طريق الهروب من اليونان تاركًا شعبه وجنوده من وراءه دون حماية! كانت وجهة هروبه الأولى إلى جزيرة كورفو Corfu التابعة للبندقيَّة، وهي جزيرةٌ في البحر الأيوني، ومنها هرب إلى روما حيث سيلجأ للبابا هناك، وسوف يظلُّ هذا الأمير البائس هاربًا في روما إلى أن يموت هناك في 12 مايو 1465م[23]!
بعد هذا الهروب المفاجئ للأمير تُوماس استسلمت المدن اليونانيَّة الموجودة في غرب المورة للجيش العثماني، ولم تمتنع إلَّا قلعةٌ واحدةٌ فقط هي قلعة سالمينيكو Salmeniko، وهي قلعةٌ حصينةٌ في شمال المورة بالقرب من مدينة باتراس[24].
أدَّى هذا الهروب المفاجئ لتُوماس -أيضًا- إلى أن نقلت مدينة مونمڤاسيا ولائها منه إلى البابا في روما مباشرة[25]، أمَّا قلعة سالمينيكو فقد ظلَّت مقاوِمَةً لحالها، وستظلُّ هذه المقاومة عامًا كاملًا حتى تسقط في 1461م[26].
في هذه الحملة -أيضًا- وجَّه الفاتح قوَّةً عسكريَّةً لفتح منطقة أكارنانيا Akarnania، وهي المنطقة الواقعة بين مدينتي ڤونيتسا Vonitsa، وأنچيلوكاسترون Angelokastron، ومع أنَّ المنطقة تقع خارج حدود المورة إلى الشمال منها فإنَّ الفاتح حرص على فتحها، وذلك لأنَّها كانت تابعةً للأمير ليوناردو الثالث توكُّو Leonardo III Tocco، وهو الأمير الذي يحكم هذه المنطقة بالإضافة إلى عدَّة جزر في البحر الأيوني، وكان هذا الأمير قد ساعد إسكندر بك المنشقَّ الألباني في حربه للدولة العثمانية، فلذلك كانت هذه الحملة العثمانيَّة، وقد نجحت الحملة في ضمِّ المنطقة كلِّها باستثناء مدينة ڤونيتسا، التي بقيت تابعةً للأمير ليوناردو الثالث حتى عام 1479م، أمَّا الأمير نفسه فقد هرب إلى جزره الأيونيَّة حيث استقرَّ بها[27][28].
بهذا يكون الفاتح قد سيطر على معظم شبه جزيرة المورة، ولم يبقَ فيها إلَّا بضعةُ نقاطٍ محدودةٍ خارجةٍ عن السيطرة العثمانيَّة، وهي تحديدًا أربع مدن ساحليَّة تتبع البندقيَّة، وهي مودون Modon (Methoni)، وكورون Coron (Koroni)، ونوبليا Nauplia (Nafplio)، وأرجوس Argos، بالإضافة إلى مدينة مونمڤاسيا وقلعة سالمينيكو، كما مرَّ بنا، وبهذا يكون معظم اليونان قد دخل في حكم الدولة العثمانية، وهو الوضع الذي سيستمرُّ إلى القرن التاسع عشر، وبذلك يُعَدُّ السلطان الفاتح هو الفاتح الحقيقي لهذه المنطقة المهمَّة من العالم.
انتهى الفاتح من هذه الحملة الكبيرة في خريف 1460م، وزار أثينا زيارةً سريعةً وهي زيارته الثانية والأخيرة لها، ثم عاد إلى إسطنبول مباشرة[29].
بعد عودة الفاتح إلى إسطنبول وَفَى بوعده لديمتريوس، فجعله أميرًا على جزر ليمنوس، وساموتراس وثاسوس وإمبروس، بالإضافة إلى مدينة إنيز، على أن يكون تابعًا له ويدفع الجزية بانتظامٍ إلى الدولة العثمانية[30][31]، وقد ظلَّ في هذا المنصب إلى عام 1467م[32]، والفاتح بهذا العطاء فتح الباب للأمراء الآخرين في عموم الدولة العثمانية للتعاون معه، وفي الوقت نفسه سيكون قبول الشعب اليوناني في هذه الجزر لحكم ديمتريوس نافعًا من ناحية الاستقرار.
بهذا الإنجاز يكون الفاتح قد فرَّغ نفسه في العام المقبل -أي في عام 1461م- لعمليَّاته العسكريَّة في الأناضول، ولكن بقيت أمامه مشكلةٌ واحدةٌ تعوق حركته إلى الشرق، وهي بقاء ألبانيا متمرِّدة! فتوجَّه الجيوش كلُّها إلى حروبٍ لا يعلم أحدٌ إلَّا الله كم ستستمرُّ في الشرق البعيد، قد تُؤدِّي إلى تزايد أطماع إسكندر بك في زيادة المساحة التي يُسيطر عليها، أو تقوده إلى التعاون مع ملك المجر في غزو صربيا، لذلك أراد الفاتح أن يُوقِف هذه المشكلة ولو بشكلٍ مؤقَّت، فدعا إسكندر بك إلى معاهدة هدنة لمدَّة عشر سنوات على أن يدفع له إسكندر بك الجزية. ويبدو أنَّ فتح السلطان الفاتح لصربيا واليونان في عامي 1459 و1460م قد هزَّ إسكندر بك، وأشعره بنموِّ القوَّة العثمانيَّة، كما أنَّه كان يرى بلا شَكٍّ التراخي الأوروبِّي في التعامل مع المسألة، وهذه المشاعر جعلته يُوافِق على هذا العرض، وقد عُقِدت هذه الهدنة في 1460م[33]، أو في 1461م[34]، ومع أنَّ الفاتح كان يُدرك أنَّ إسكندر بك لن يتردَّد في نقض المعاهدة إذا وجد الفرصة، أو حصل على دعمٍ من البابا أو غيره، فإنَّه وجد أنَّ هذا حلٌّ جيِّدٌ بشكلٍ مؤقَّتٍ يسمح له بالحركة في اتِّجاه الشرق بشيءٍ من الأمان.
بعد هذه الهدنة أخذ الفاتح في إعداد العدَّة لحملته الكبرى على الأناضول، التي بدأت في ربيع 1461م.
كانت هذه الحملة من الحملات المركَّبة التي تهدف إلى تحقيق أكثر من هدف؛ ولذلك يُمكن تقسيمها إلى ثلاث محطَّاتٍ رئيسة:
المحطة الأولى: إسقاط ميناء أماسرا Amasra، وكان تابعًا لچنوة، وكان إسقاطه ضروريًّا قبل التوجُّه إلى مملكة طرابزون في أقصى الشمال الشرقي للأناضول، وذلك حتى لا يضربه الأسطول الچنوي من ظهره. كانت هذه الحملة بقيادة الفاتح نفسه، وكانت في أوائل عام 1461م[35]، وإن كانت بعض المصادر تذكر أنَّها كانت في عام 1459م، وبقيادة محمود أنچلوڤيتش وليس الفاتح[36]، ولكن السياق الزمني للأحداث يدعم أنَّها كانت في عام 1461م قبيل التحرُّك إلى طرابزون.
كانت هذه المحطَّة سهلة؛ إذ استسلم الميناء دون قتال[37]، وكان من الواضح أنَّ فارق القوَّة بين الحملة الهمايونيَّة وقوَّة الميناء الچنوي كان كبيرًا ممَّا أدَّى إلى هذه النتيجة السريعة، وكان هذا تأمينًا جيِّدًا للطريق إلى طرابزون.
المحطة الثانية: فتح إمارة إسفنديار، وهذه إمارةٌ تركمانيَّةٌ مسلمة كانت تابعةً للدولة العثمانية قبل كارثة أنقرة عام 1402م، ثم انفصلت عن الدولة بعد ذلك، فلمَّا وصل إليها السلطان الفاتح بجيشه البري، وكذلك بأسطوله البحري لم يجد أميرها إسماعيل بُدًّا من الاستسلام للفاتح، فخرج إليه بنفسه دون قتال، وسلَّمه الإمارة، وأهمَّ مدنها، وهي سينوب Sinop، وذلك في مقابل أن يُقْطِعَه الفاتح أرضًا أخرى يحكمها لصالح الدولة العثمانية، ووافق الفاتح على إعطائه إقطاعيَّةً بالقرب من بورصا Bursa، أو مدينة فليبة Filibe (Plovdiv)[38].
المحطة الثالثة: فتح إمبراطوريَّة طرابزون البيزنطيَّة.
إمبراطوريَّة طرابزون هي من بقايا الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة العظمى التي كانت تضمُّ مساحاتٍ شاسعةً من آسيا وأوروبَّا وإفريقيا، ولكن بعد غزو اللاتين للقسطنطينيَّة عام 1204م تفتَّتت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة إلى ثلاثة أقسام، فكان القسم الأوَّل هو القسطنطينيَّة وجنوب وشرق اليونان، وهو الأشهر كوارثٍ للإمبراطوريَّة البيزنطيَّة الأم، وكان القسم الثاني معروفًا بإمبراطوريَّة إبيروس Epirus، ويقع في غرب اليونان وألبانيا، وهو الذي حُكِم بعائلة توكو Tocco في آخر عهدها كما مرَّ بنا منذ قليل عند حديثنا عن فتح الجيش العثماني لمنطقة أكارنانيا غرب اليونان[39]، أمَّا القسم الثالث فهو إمبراطوريَّة طرابزون، الذي يشمل شمال شرق الأناضول بالإضافة إلى جنوب شبه جزيرة القرم؛ أي المناطق الواقعة على ساحلي البحر الأسود الجنوبي والشمالي[40].
كان كلُّ قسمٍ من هذه الأقسام الثلاثة يدَّعي أنَّه وارث الإمبراطوريَّة الرومانيَّة القديمة، ولذلك كان زعيم كلِّ قسمٍ يتلقَّب بالإمبراطور، حتى بعد أن صغر حجم كلِّ قسمٍ لدرجةٍ كبيرةٍ لم يتخلَّ واحدٌ منهم عن هذا اللقب، وكانت الدول تتعامل معهم رسميًّا بهذه الصورة، وكان الإمبراطور الحاكم لطرابزون في هذا الوقت هو الإمبراطور ديڤيد كومنينوس David Komnenos، وكان يحكم من سنة 1459م خلفًا لأخيه چون الرابع John IV[41]. لم يكن الفاتح على وفاقٍ مع چون الرابع إمبراطور طرابزون، وكان يَعُدُّ وجوده خطرًا على الدولة العثمانية لأنَّه يُمثِّل بقايا الدولة البيزنطيَّة، ويُمكن أن يُطالب باستعادة القسطنطينيَّة، ومع ذلك فقد عقد الفاتح معه معاهدة، وكان إمبراطور طرابزون يدفع الجزية للفاتح، وكانت تُقدَّر بألفي دوكا ذهبيَّةٍ زيدت لاحقًا لثلاثة آلاف[42]. عندما تولَّى ديڤيد الإمبراطوريَّة بعد موت أخيه چون الرابع -أي عام 1459م- قرَّر أن يبدأ الجهود لإيقاف هذه العلاقة التي ترفع من شأن الدولة العثمانية على حساب إمبراطوريَّة طرابزون، وكان مفعمًا بالآمال من كونه قادرًا على مجابهة الفاتح، واستعادة القسطنطينيَّة، بل استعادة القدس من المماليك[43]!
كانت خطوات الإمبراطور الطرابزوني متهوِّرة، ويبدو أنَّه لم يُقدِّر قوَّة الدولة العثمانية بالشكل المطلوب، ولذلك خطا عدَّة خطواتٍ عدائيَّةٍ منذ ولايته كان لها أكبر الأثر في دفع السلطان الفاتح لإنهاء إمبراطوريَّة طرابزون عسكريًّا كما فعل مع القسطنطينيَّة والمورة، وكان الإمبراطور الطرابزوني قد أرسل إلى الفاتح يطلب إيقاف الجزية التي تدفعها إمبراطوريَّته[44]، كما راسل القوى الغربيَّة يستحثُّها على مساعدته في حرب العثمانيِّين[45]، وكان من أهمِّها چنوة بالطبع، التي تملك مستعمرةً قريبةً من طرابزون هي مستعمرة أماسرا على الشاطئ الجنوبي للبحر الأسود، بالإضافة إلى ذلك أكَّد الإمبراطور الطرابزوني العلاقةَ مع أحلافه المسلمين، وكان يُحالف إمارات إسفنديار وقرمان في الأناضول، بالإضافة إلى أوزون حسن في إيران[46].
هذه الخلفيَّة التي ذكرناها تُوضِّح لنا مسار هذه الحملة الهمايونيَّة الكبرى، وتُفسِّر لنا بعض خطواتها؛ فالسيطرة على ميناء أماسرا الچنوى كانت ضروريَّةً لمنعها من مساعدة طرابزون، وضمُّ إمارة إسفنديار كان ضروريًّا لمنعها كذلك من دعم طرابزون في حصارها المرتقب، ولعلَّ السهولة التي سلَّم بها الأمير إسماعيل إمارته إلى السلطان الفاتح كانت لإدراكه أنَّه بمحالفته لديڤيد الطرابزوني ضدَّ الدولة العثمانية قد ارتكب خطأً فادحًا سيكون ثمنه هو حياته على الأغلب، ولذلك قَبِل في يُسْرٍ شروطَ الفاتح، وسلَّم إمارته في مقابل إقطاعيَّةٍ في مكانٍ آخر.
لم يبقَ أمام الفاتح إِذَنْ غير طرابزون وحليفها الأهم أوزون حسن، أمَّا قرمان فكانت أقلَّ من أن تُحْدِث أثرًا في هذه المعادلة.
على هذا قرَّر الفاتح أن يتحرَّك بجيشه البرِّيِّ إلى الشرق لمجابهة أوزون حسن أوَّلًا، ثم الاتِّجاه إلى طرابزون، ولكنَّه في الوقت نفسه قرَّر إرسال أسطوله البحري للضغط على طرابزون من جهة البحر، بل إنزال قوَّاتٍ برِّيَّةٍ لمحاصرة الإمبراطوريَّة بشكلٍ كامل.
لم تكن علاقة أوزون حسن بإمبراطوريَّة طرابزون علاقة تحالفٍ عاديَّة؛ إنَّما كانت مدعومةً بأواصر مصاهرةٍ قويَّة، فلقد تزوَّج أوزون حسن من ثيودورا Theodora ابنة الإمبراطور الراحل چون الرابع، كما كانت جدَّة أوزون حسن لأبيه أميرةً بيزنطيَّةً من طرابزون، فضلًا عن أنَّ أمَّ أوزون حسن -سارة خاتون- كانت من أصولٍ نصرانيَّةٍ سوريَّة، ممَّا جعلها تُعَدُّ إحدى الدبلوماسيَّات اللاتي يقمن بمفاوضاتٍ سياسيَّةٍ ناجحةٍ خاصَّةً مع طرابزون المسيحيَّة[47].
لهذه الأسباب كان من المنطقي أن يتَّجه السلطان الفاتح بجيشه أوَّلًا إلى أوزون حسن؛ إمَّا لحربه أو لتحييده، وهذا سيجعل طرابزون معزولةً عن أهمِّ حلفائها، ممَّا سيُسهِّل سقوطها.
جهَّز الفاتح جيشًا ضخمًا مكوَّنًا من ثمانين ألف جنديٍّ من المشاة، وستين ألفًا من الفرسان، وتولَّى هو قيادة هذا الجيش مصطحبًا معه محمود أنچلوڤيتش الصدر الأعظم للدولة، كما جهَّز أسطولًا بحريًّا كبيرًا يضمُّ ثلاثمائة سفينةٍ حربيَّةٍ بقيادة قاسم باشا[48].
تحرَّك الأسطول والجيش في وقتٍ متزامن. كانت وجهة الأسطول طرابزون مباشرة، وأمَّا الفاتح فقد توجَّه إلى سيواس في وسط الأناضول، ومنها إلى إرزنجان Erzincan في شرق الأناضول طالبًا اللقاء مع أوزون حسن. هناك في إرزنجان أرسل أوزون حسن أمَّه سارة خاتون لعقد اتفاقيَّةٍ مع السلطان الفاتح، وكان أوزون حسن قد أدرك أنَّه غير مستعدٍّ -على الأقلِّ في الوقت الحاضر- للحرب مع الدولة العثمانية، فكان العرض الذي قدَّمته سارة خاتون يشمل معاهدة سلامٍ بين الطرفين، وقد قَبِل السلطان الفاتح بهذا العرض على ألَّا يُدْخِل إمبراطوريَّة طرابزون في المعاهدة، وعلى الرغم من محاولات سارة خاتون إثناء الفاتح عن حرب طرابزون فإنَّ الفاتح أصرَّ على شروطه، ومِنْ ثَمَّ رضخت سارة خاتون، وتمَّ الاتفاق، وبذلك حُيِّد أوزون حسن، وصار الطريق إلى طرابزون مفتوحًا[49][50].
كان طريق البحر مفتوحًا، بعكس الطريق البرِّي المليء بالعوائق الطبيعيَّة، ولذلك وصل الأسطول العثماني مبكِّرًا إلى طرابزون، وأنزل الأدميرال قاسم باشا قوَّاتَه البحريَّة، وحُوصِرت المدينة لمدَّة اثنين وثلاثين يومًا كاملًا قبل وصول الجيش العثماني[51].
بعد انتهاء الفاتح من مفاوضاته تحرَّك بجيشه شرقًا أبعد بكثير من طرابزون، حتى دخل حدود چورچيا شمال شرق الأناضول، قبل أن يعود أدراجه في اتجاه طرابزون[52]، ويبدو أنَّه فعل ذلك لإرهاب ملك چورچيا، وكان من حلفاء إمبراطوريَّة طرابزون، وذلك حتى لا يتقدَّم الچورچيُّون بجيوشهم لنجدة طرابزون.
كان الطريق البرِّي إلى طرابزون في غاية المشقَّة، وكان على الجيش العثماني أن يعبر جبال بُنطس Pontic العالية، وهو عبورٌ عجيبٌ لم يقدر عليه إلَّا القليل من القادة العسكريِّين، خاصَّةً إذا كانوا يقودون جيوشًا عملاقة، ولقد ذكر كريتوبولوس أنَّ القادة الذين نجحوا في عبور هذه الجبال في كلِّ التاريخ هم أربعةٌ فقط: الإسكندر الأكبر، وبومبي العظيم (القائد الروماني الشهير)، وتيمورلنك، ومحمد الفاتح[53]!
ويُصوِّر لنا أحد المرافقين للجيش -وهو كونستانتين ميهيلوڤيتش Constantin Mihailović- صعوبة الطريق بقوله: «ومشينا بقوَّةٍ عظيمةٍ وجهدٍ كبيرٍ إلى طرابزون، ولم يُعانِ الجيش وحده بل السلطان كذلك؛ أوَّلًا بسبب المسافة، وثانيًا بسبب تحرُّش الأهالي، وثالثًا بسبب الجوع، ورابعًا بسبب الجبال العظيمة العالية، وبجانب هذا كانت المستنقعات وبرك المياه، كما أنَّ المطر لم يتوقَّف، وكان يملأ الطرق بالمياه، حتى كانت الخيول تخوض في البرك فتصل المياه إلى بطونها»[54]!
هذه صورةٌ من حياة المجاهد محمد الفاتح وجيشه العظيم!
في نهاية المطاف اقترب الجيش العثماني جدًّا من المدينة، وأرسل السلطان محمد الفاتح صدره الأعظم محمود أنچلوڤيتش لإجراء مباحثاتٍ مع إمبراطور ديڤيد كومنينوس، ووصل محمود أنچلوڤيتش إلى المدينة قبل الفاتح بيومٍ واحد[55].
كان العرض الذي قدَّمه الصدر الأعظم مختصرًا ومحدَّدًا؛ فقد عرض على الإمبراطور الطرابزوني التسليم دون مقاومة، على أن يخرج من المدينة سالمـًا بأسرته، وإلَّا فإنَّ المدينة ستُستباح، ولن يُبْقِيَ العثمانيُّون فيها على شيء، لا من الممتلكات ولا من الأرواح[56]!
فكَّر الإمبراطور الطرابزوني في الأمر، ووجد أنَّ حلفاءه قد تركوه وحيدًا، ولا أمل في قدوم إعانةٍ غربية، ولا شَكَّ أنَّه قد استعرض قصَّة قُسطنطين الحادي عشر الإمبراطور البيزنطي الأخير ومقتله في القسطنطينيَّة حين اختار خيار المقاومة، وليس مع إمبراطور طرابزون جيشٌ چنويٌّ أو بندقيٌّ كما كان مع قُسطنطين، كما أنَّ حصانة طرابزون ليست كحصانة القسطنطينيَّة، فإن كان الفاتح قادرًا على إسقاط القسطنطينيَّة فإنَّه على إسقاط طرابزون أقدر!
هذه الهواجس والحسابات دفعت الإمبراطور الطرابزوني إلى سرعة أخذ القرار، فوافق مباشرةً على التسليم دون مقاومة، على أن يُعْطَى إقطاعيَّةً في أوروبا شرق البلقان يعيش فيها مع أسرته، ولقد وافق الصدر الأعظم محمود أنچلوڤيتش على هذا العرض، وتمَّت الاتِّفاقيَّة قبل وصول السلطان محمد الفاتح[57].
وصل السلطان محمد الفاتح إلى طرابزون، وأقرَّ الاتِّفاقيَّة، وفتحت المدينة أبوابها، ودخلها الفاتح بجيشه في 15 أغسطس 1461م، منهيًا بذلك إمبراطوريَّة طرابزون من التاريخ بعد مائتين وسبعٍ وخمسين سنةً من إنشائها[58].
أبدى الفاتح إعجابه الشديد بحصانة المدينة وروعة مبانيها، وتفقَّد التحصينات المختلفة، وصعد إلى قلعتها وقصرها، وأثنى على طرق التأمين المتَّبعة في بناء كلِّ شيء[59].
حوَّل الفاتح أكبر كنائس المدينة إلى مسجد، وهي كنيسة بانايا كريسوكيفالوس Panayia Chrysokephalos، وتعني باليونانيَّة كنيسة السيِّدة مريم ذات الرأس الذهبيِّ، وكانت في وسط المدينة، وعُرِف المسجد بعد ذلك بمسجد الفاتح، وهو موجودٌ إلى زماننا الآن بحالةٍ جيِّدة[60]. هجَّر الفاتح -أيضًا- عددًا من نبلاء المدينة ومراكز القوَّة فيها إلى القسطنطينيَّة مع أسرهم وكلِّ ممتلكاتهم[61]، وكان من الواضح أنَّ الفاتح يخشى أن تتمرَّد المدينة بعد ذلك، أو يأتيها دعمٌ من الغرب بشكلٍ من الأشكال، خاصَّةً أنَّ المدينة بعيدةٌ جدًّا عن القسطنطينيَّة (ما يقرب من ألف كيلو متر)، ولن يتمكَّن الفاتح من إرسال نجدةٍ سريعةٍ إذا ما تطوَّرت فيها الأمور، ولذلك أراد ألَّا يُبْقِيَ فيها رءوسًا يُمكن أن يقودوا الناس إلى إحداث ثوراتٍ أو انقلابات.
كان هذا الفتح عجيبًا في سهولته! فعلى الرغم من الصعوبات الضخمة التي قابلت الجيش العثماني في سبيل الوصول إلى طرابزون، وكذلك الجهد الكبير الذي بُذِل للإعداد للحملة؛ سواءٌ في تجهيز الجيش الضخم، أم في إسقاط ميناء أماسرا الچنوي، أم ضمِّ إمارة إسفنديار، أم المباحثات الدبلوماسيَّة مع أوزون حسن، أم الوصول إلى چورچيا لمنع جيشها من المشاركة في الدفاع عن طرابزون، على الرغم من كلِّ هذا الجهد الكبير في الإعداد جاء الفتح نفسه سهلًا للغاية؛ فالجيش المحاصِر لطرابزون لم يستخدم المدافع في قصف المدينة، ولم يأتِ أصلًا بالمدافع العملاقة، ولا بآلات الحصار الكبرى، نظرًا إلى بُعْد المسافة عن إسطنبول، وقد عاد إلى العاصمة بعد الفتح دون أن يستخدم سلاحًا ولا معدَّات[62]، وحتى المفاوضات الدبلوماسيَّة التي أجراها السلطان مع الإمبراطور الطرابزوني جاءت يسيرةً وسريعة، واستسلم الإمبراطور في الوقت الذي كان متوقَّعًا منه المقاومة بشكلٍ أكبر! لقد كان المسار هنا عكس ما حدث في القسطنطينيَّة تمامَّا؛ فالوصول إلى القسطنطينيَّة، ونصب آلات الحصار حولها، وقصفها بالمدافع العملاقة كان أمرًا يسيرًا نسبيًّا على الجيش العثماني لوجود القسطنطينيَّة في وسط الدولة العثمانيَّة، وكانت الصعوبة بعد ذلك في المباحثات، ثم القتال والفتح القسري للمدينة، أمَّا هنا في طرابزون فكان الوصول إلى المدينة صعبًا بينما كان الفتح من أسهل الأمور! إنَّه من الواضح من هذا التحليل أنَّ الفتح لن يتمَّ إلَّا ببذل أقصى الجهد، وغاية الوسع، ثم يأتي التيسير بعد ذلك من ربِّ العالمين، ولكنَّنا لا نختار في الواقع مقدار السهولة والصعوبة في كلِّ خطوةٍ من خطوات العمليَّة؛ وإنَّما الذي يفعل ذلك هو الله عزَّ وجل. قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68]. هكذا قد يكون الإعداد سهلًا والفتح صعبًا، أو الإعداد صعبًا والفتح سهلًا، وسبحان الذي يجعل الحَزَن إذا شاء سهلًا!
هكذا تمكَّن السلطان الفاتح من السيطرة على أملاك الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة في أوروبَّا وآسيا، وتمكَّنت أساطيله من السيطرة على موانئ الإمبراطوريَّة على البحر الأبيض والأسود، ومن هنا جاء اللقب الذي تلقَّب به الفاتح بعد هذا النصر؛ إذ صار «سلطان البرَّين، وإمبراطور البحرين»[63]؛ فالبرَّان هما أوروبَّا وآسيا، والبحران هما الأبيض والأسود!
استهلكت هذه الحملات شهور الصيف والخريف من عام 1461م، وعاد السلطان الفاتح إلى القسطنطينية، وبينما كان من المفترض أن يأخذ هو وجيشه راحةً كافيةً وجد أنَّ الأمور تزداد توتُّرًا فوق توتُّرها! ذلك أنَّ غياب الفاتح لهذه الشهور الطويلة في هذه الحملة المرهقة أدَّى إلى تزايد أطماع الراغبين في الانفلات من قبضة العثمانيِّين، خاصَّةً مع وجود البابا المتعصِّب والداعم بقوَّةٍ لفكرة الحرب الصليبيَّة. لقد حدثت عدَّة تجاوزاتٍ ضدَّ الدولة العثمانية في الإفلاق[64]، وفي جزيرة ليسبوس[65]، وتفاقَمَ الأمر أكثر حين وصلت أنباء الحملة العثمانيَّة الناجحة على إمبراطورية طرابزون، التي كان البابا بيوس الثاني يُعوِّل عليها كثيرًا؛ حيث كان قد أرسل إليها قبل ذلك رسولًا من طرفه، هو الأب لويس Father Louis، يدعوه لتكوين حلفٍ ضدَّ الدولة العثمانية[66]، ولكن الآن انتهى كلُّ شيء، وضاعت أحلام البابا في تكوين أحلافٍ مع الشرق!
هذه التطوُّرات في الإفلاق وليسبوس، وهذا الإحباط الذي أصاب البابا، سيرسم ملامح حركة السلطان الفاتح في العام المقبل؛ أي عام 1462م، حيث سيتحرك لغزو الإفلاق وفتح ليسبوس، وهو ما سنتحدَّث عنه في المقال القادم [67].
[1] Pálosfalvi Tamás V. László [Book Section] // Magyarország vegyes házi királyai [The Kings of Various Dynasties of Hungary] (in Hungarian) / book auth. Kristó Gyula. - [s.l.] : Szukits Könyvkiadó, 2018, p. 198.
[2] أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل ، 1988م صفحة 1/123.
[3] Kubinyi András Matthias Rex [Book] / trans. Gane Andrew T.. - Budapest : Balassi Kiadó, 2008, p. 63.
[4] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001, p. 299.
[5] İnalcık Halil Mehmed the Conqueror (1432-1481) and His Time [Article] // Speculum. - Chicago, USA : The University of Chicago Press, 1960., 1960, vol 35, no. 3, p. 421.
[6] Pálosfalvi, 2018, p. 199.
[7] İnalcık, 1960, vol 35, no. 3, p. 421.
[8] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press,, 1978, p. 163.
[9] أوزتونا، 1988م صفحة 1/150.
[10] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 86.
[11] Finlay George A History of Greece: Mediaeval Greece and the empire of Trebizond, A.D. 1204 – 1461 [Book]. - [s.l.] : The Clarendon Press, Oxford,, 1877, vol.4, p. 261.
[12] Pitcher, 1973, p. 86.
[13] Buttigieg Emanuel and Phillips Simon Islands and Military Orders, c.1291-c.1798 [Book]. - New York, USA : Routledge, 2016, p.36.
[14] Babinger, 1978, p. 172.
[15] Kritovoulos History of Mehmed the Conqueror [Book] / trans. Riggs Charles T.. - [s.l.] : Greenwood Press, Westport, Connecticut, 1954, p.140.
[16] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 67.
[17] Setton, 1976, vol. 2, p. 213.
[18] Florescu Radu R and McNally Raymond T. Dracula, Prince of Many Faces: His Life and his Times [Book]. - [s.l.] : Back Bay Books., 1989, p. 129.
[19] Pitcher, 1973, p. 86.
[20] Finlay, 1877, vol.4, p. 263.
[21] Setton, 1976, vol. 2, pp. 223-224.
[22] Finlay, 1877, vol.4, p. 263.
[23] Freely, 2009, p. 66.
[24] Pitcher, 1973, p. 86.
[25] Setton, 1976, vol. 2, p. 224.
[26] Fine, 1994, p. 567.
[27] Pitcher, 1973, p. 86.
[28] Miller William The Latins in the Levant: A History of Frankish Greece (1204–1566) [Book]. - New Yourk : E. P. Dutton and Company, 1908, p. 458.
[29] Finlay, 1877, vol. 4, p. 266.
[30] Pitcher, 1973, p. 84.
[31] Miller William Essays on the Latin Orient [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1921, p. 297.
[32] Fine, 1994, p. 567.
[33] Kissling Hans [et al.] The Last Great Muslim Empires [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 1969, p. 23
[34] Hupchick Dennis P. The Balkans: From Constantinople to Communism [Book]. - [s.l.] : Palgrave Macmillan , 2002, p. 120.
[35] أوزتونا، 1988م صفحة 1/151.
[36] Imber Colin The Ottoman Empire 1300-1650 The Structure of Power [Book]. - New York, USA : Palgrave Macmillan, 2009., 2009, p. 27.
[37] Imber, 2009, p. 28.
[38] Pitcher, 1973, p. 77.
[39] انظر ص PAGEREF عائلةتوكو02 \h 380.
[40] Vasiliev Alexander A. History of the Byzantine Empire, 324–1453 [Book]. - Wisconsin, USA : University of Wisconsin Press, 1958, vol. 2, p. 506.
[41] Rosser John H Historical Dictionary of Byzantium [Book]. - Lanham, Maryland, USA : The Scarecrow Press, 2012, p. 259.
[42] Babinger, 1978, p. 190.
[43] Nicol Donald M. The Last Centuries of Byzantium, 1261-1453 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 1993, p. 407.
[44] Babinger, 1978, p. 190.
[45] Nicol, 1993, p. 407.
[46] Runciman Steven The Fall of Constantinople 1453 [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, 1965, p. 173.
[47] Freely, 2009, p. 68.
[48] Freely, 2009, p. 67.
[49] Babinger, 1978, p. 192.
[50] Venning Timothy A Chronology of the Byzantine Empire [Book]. - Now York, USA : palgrave Macmillan, 2006. - Introduction by Jonathan Harris, p. 732.
[51] Chalkokondyles Laonikos The Histories [Book]. - [s.l.] : Harvard University Press, 2014., 2014, vol. 2, p. 359.
[52] Mihailović Konstantin Memoirs of a Janissary Published under the auspices of the Joint Committee on Eastern Europe, American Council of Learned Societies, by the Department of Slavic Languages and Literatures [Book]. - [s.l.] : University of Michigan, 1975, p. 59.
[53] Kritovoulos, 1954, p. 169.
[54] Mihailović, 1975, p. 59.
[55] Kritovoulos, 1954, p. 173.
[56] Freely, 2009, p. 68.
[57] Chalkokondyles, 2014, vol. 2, pp. 361-363.
[58] Babinger, 1978, p. 195.
[59] Kritovoulos, 1954, p. 175.
[60] Parker Philip The Empire Stops Here: A Journey along the Frontiers of the Roman World [Book]. - London, UK : Pimlico, 2010, , p. 281.
[61] Kritovoulos, 1954, p. 175.
[62] Wilkins Ernest H. Harvard Library bulletin [Book]. - Cambridge, Ma, USA : Harvard University Library, 1958, vol. 12, p. 321.
[63] Freely, 2009, p. 69.
[64] Treptow Kurt W. Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula [Book]. - [s.l.] : The Center of Romanian Studies, 2000, p. 119.
[65] İnalcık, 1960, vol 35, no. 3, p. 423.
[66] Miller William Trebizond; the last Greek empire of the Byzantine era 1204-1461 [Book]. - Chicago, USA : Argonaut, 1926, p. 99.
[67] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 375- 388.
التعليقات
إرسال تعليقك