التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
هل نجح السلطان محمد الفاتح في حصار رودس عام 1480م، ماذا تعرف عن ذلك؟
في أوائل شهر مايو 1480م= شهر صفر 885هـ خرج أسطولٌ كبيرٌ للغاية من إسطنبول، وعبر المضايق خرج إلى بحر إيجة، وهناك انقسم إلى أسطولين: أحدهما كبير، اتَّجه جنوبًا إلى رودس، والآخر أصغر، اتَّجه إلى البحر الأدرياتيكي، وشعر البنادقة بالوجل، وجاءت الأوامر من الحكومة البندقية لقائد أسطولهم في الأدرياتيكي سورانزو بأن يكون على أهبَّة الاستعداد للدفاع عن الموانئ البندقية في حال هجوم العثمانيِّين عليها، أمَّا إذا لم يُقْدِم الجيش العثماني على مهاجمة البنادقة فينبغي لأسطول البندقية ألَّا يتحرَّش بالعثمانيِّين بأيِّ صورةٍ من الصور[1]، وبطبيعة الحال لم يكن السلطان الفاتح يعزم على أيِّ تعدٍّ أيًّا كان على جمهوريَّة البندقية، ولكن خروج أحد أساطيله إلى الأدرياتيكي كان يهدف -في اعتقادي- إلى ثلاثة أمور: الأوَّل هو التورية على أسطول رودس، بحيث تضطرب عيون الجواسيس فلا يستيقنون من الوجهة النهائيَّة التي سيُمارس فيها الجيش العثماني نشاطه، والثاني هو إبقاء القوَّات الإيطاليَّة، سواء للبندقيَّة، أم لنابولي، أم للبابا، أم لغيرهم، في منطقة الأدرياتيكي تحسُّبًا لأيِّ هجومٍ عثمانيٍّ عليها، وهذا سيُعطي فرصةً أفضل للجيش العثماني في رودس لأداء مهمَّته دون أن يتلقَّى فرسان القديس يوحنا مساعدةً ملموسةً من الإيطاليِّين، أمَّا الهدف الثالث فهو انتهاز أيِّ فرصةٍ للوثوب الحقيقي على الشاطئ الإيطالي ومهاجمة نابولي!
كان الأسطول العثماني المتَّجه إلى الأدرياتيكي بقيادة كديك أحمد باشا القائد العام لكلِّ الأساطيل العثمانيَّة، وقد جعل وجهته الأخيرة إلى مدينة ڤلور Vlore الألبانيَّة على الساحل الشرقي للأدرياتيكي، وهناك عسكر في انتظار أوامر جديدة[2].
في 23 مايو = 13 ربيع الأول ظهر الأسطول العثماني فجأةً عند الشاطئ الغربي لجزيرة رودس، وبالتحديد عند خليج ترياندا Gulf of Trianda[3][4]، وهو مكانٌ يقع شمال فاني Fanes بحوالي عشرين كيلو مترًا، وفاني هي المنطقة التي حاول مسيح باشا أن يُنزل جيشه بها في الحملة السابقة، وواضحٌ أنَّه رأى في حملته السابقة أنَّ هذا المكان الجديد عند خليج ترياندا أنسب لحصار مدينة رودس؛ حيث إنَّه أوَّلًا أقرب إلى المدينة، وثانيًا بلا قلاعٍ أو حصونٍ مشهورة.
لم يجد مسيح باشا مقاومةً في هذا المكان؛ إذ كان من الواضح أنَّ جيش فرسان القديس يوحنا اختار التقوقع داخل الحصون وعدم المواجهة المباشرة، فجيشهم حوالي عُشْر الجيش العثماني، ولن تكون هناك فرصةٌ للنصر عليه، ومِنْ ثَمَّ قام مسيح باشا بإنزاله العسكري بسهولة، ثم اتَّجه إلى تلِّ سان استيفين Mount St. Stephen، حيث نصب خيمته، وكذلك وضع مدافعه الستَّة عشر على التلِّ في مواجهة المدينة[5]. كان المدى الذي يُمكن أن تصل إليه القذائف العثمانيَّة هو خمسمائة ياردة (أربعمائة وخمسون مترًا تقريبًا)[6]، لذلك أعتقدُ أنَّ هذا المعسكر العثماني كان أوَّليًّا؛ لأنَّ المسافة بينه وبين الأسوار تصل إلى حوالي كيلو متر واحد، وغالبًا تحرَّك العثمانيُّون بعد ذلك شمالًا وشرقًا ليكونوا أقرب من المناطق المهمَّة في شمال المدينة؛ كالقصر الرئاسي، والأبراج الكبرى مثل: برج نيكولاس، وبرج نايلاك، وبرج سان بيتر.
بدأ مسيح باشا مهمَّته بإرسال رسله إلى فرسان القديس يوحنا يعرض عليهم التسليم مقابل العفو العام عن المدينة وممتلكاتهم، ولكن هذا الطلب قوبل بالرفض التام[7]، ولذلك بدأت العمليَّات العسكريَّة فورًا.
بعد دراسةٍ سريعةٍ للموقف أدرك مسيح باشا أنَّ المناطق المهمَّة في المدينة هي المناطق الشماليَّة، وأنَّ غزوها ينبغي أن يكون من البحر، وذلك حيث يوجد الميناءان الكبيران للمدينة: ميناء ماندراكي، والميناء التجاري. وأدرك أيضًا أنَّ الحماية الرئيسة لهذين الميناءين كانت من خلال برج سان نيكولاس المتمركز على نهاية اللسان الحجري الضخم؛ فهو يقع بين الميناءين، وبذلك يُوفِّر بمدافعه الكبيرة حمايةً مزدوجةً لهما معًا. هذا كلُّه دفع مسيح باشا إلى تثبيت مدافعه بالقرب من شمال غرب المدينة، وبدأ من فوره في إطلاق النيران الكثيفة على هذا البرج العملاق[8]، وكانت المسافة بين موقع بطاريَّات المدافع العثمانيَّة وبرج سان نيكولاس لا تتجاوز المائتي ياردة[9]، ولهذا فالبرج كان في متناول مدافع الجيش العثماني بشكلٍ جيِّد، وهذا أدَّى إلى إصاباتٍ بالغةٍ للبرج منذ اللحظات الأولى للقصف.
لم يجعل العثمانيُّون قصفهم على برج نيكولاس فقط، وإن كان هو الهدف الرئيس في القصف؛ إنَّما قصفوا كذلك ثمانية أبراجٍ في شمال وغرب المدينة، كما قاموا بقصف القصر الرئاسي ممَّا أحدث به أضرارًا بالغة[10]، وغالبًا لم يكن الهدف هو اختراق المدينة من خلال هدم هذه الأبراج الثمانية أو القصر الرئاسي؛ إنَّما كان الهدف هو تشتيت جهد المدافعين عن برج سان نيكولاس ممَّا يُعطي فرصةً أكبر للسيطرة على هذا البرج الاستراتيجي.
كان فرسان القديس يوحنا -كالعثمانيِّين- يُدركون الأهميَّة القصوى لبرج سان نيكولاس، لذلك وظَّفوا ألف عاملٍ يعملون في دوريَّاتٍ متواصلةٍ في الليل والنهار لإصلاح الأعطاب الناتجة عن القصف، ويقومون بحماية البرج، بالإضافة إلى حماية اللسان الحجري كلِّه، كما وضعوا بطاريَّة مدفعٍ كبيرةٍ في شمال غرب المدينة لتقوم بقصف بطاريَّات المدافع العثمانيَّة، وكذلك لقصف أيِّ سفينةٍ تُحاول الاقتراب من ميناء ماندراكي[11].
في 28 مايو 1480م وبعد خمسة أيَّامٍ من الحصار، أرسل بيير دي أوبسون خطابًا دينيًّا حماسيًّا ليوزَّع على كلِّ فرسان القديس يوحنا في أوروبا الغربيَّة، يدعوهم فيه إلى القدوم إلى رودس للمشاركة في الدفاع المقدَّس عن المدينة، وفي اليوم نفسه حاول المهندس الألماني ميستر چورچ -وهو أحد مصادر المعلومات عند العثمانيِّين كما أسلفنا- محاولةً جريئةً للحصول على معلوماتٍ حديثةٍ عن التحصينات من داخل المدينة؛ إذ اقترب من أحد بوابات المدينة ليطلب اللجوء إلى داخل الحصون مدَّعيًا الهروب من العثمانيِّين المسلمين والانضمام إلى إخوانه النصارى، ففُتحت له الأبواب وأدخله فرسان القديس يوحنا. لم يطمئن فرسان القديس يوحنا إلى المهندس الألماني، ويُقال: إنَّ أحد الرودسيِّين الذين كانوا محبوسين سابقًا في إسطنبول قد تعرَّف عليه، وأخبر عنه السلطات[12]، وسواءٌ أكان هذا هو السبب أم غيره فإنَّه وُضِع تحت التَّعذيب حتى اعترف أنَّه يتعامل مع مسيح باشا، وكانت النتيجة أن أُعدِم فورًا[13]، وهكذا لم يعرف العثمانيُّون حتى هذه اللحظة نقاط الضعف الحقيقيَّة التي يُمكن أن تُسهِّل عليهم عمليَّة الفتح، ومِنْ ثَمَّ استمرَّ قصف برج نيكولاس، واستمرَّ في الوقت نفسه استكمال مراقبة بقيَّة أطراف الأسوار والأبراج بحثًا عن أضعف أماكن التحصينات.
في أوَّل يونيو، وبعد حوالي ثمانية أيَّام من الحصار استطاعت سفينة من صقلية أن تخدع الأسطول العثماني وأن تدخل إلى ميناء رودس، وكانت محمَّلة بكميَّاتٍ كبيرةٍ من الحبوب، كما كانت تحمل مائةً من الجنود العسكريِّين[14]، ومع أنَّ هذا المدد كان سفينةً واحدةً فإنَّها رفعت من الروح المعنويَّة لفرسان القديس يوحنا، ليس فقط لقيمة ما تحمله معها من موادٍّ أو جنود، ولكن لشعورهم أنَّ أوروبا على علمٍ بخطورة الموقف، ومِنْ ثَمَّ صاروا يتوقَّعون مددًا آخر، وفي الوقت نفسه شدَّد مسيح باشا من الحصار البحري حول الجزيرة حتى يمنع تكرار عبور السفن الأوروبيَّة إلى الميناء، غير أنَّ قدوم هذه السفينة من صقلية كان يحمل معنًى آخر في غاية الأهميَّة، وهو احتمال تَدَخُّل إسبانيا في الصدام، والسبب أنَّ مملكة إسبانيا، التي كانت قد تكوَّنت عام 1479م وذلك باتِّحاد مملكتي أراجون وقشتالة، كانت تحكم صقلية بشكلٍ مباشر[15]، ومعنى هذا أنَّ سفينة الإغاثة الصقلِّيَّة جاءت بأمرٍ مباشرٍ من ملوك إسبانيا، الذين كانوا في صدامٍ شرسٍ مع مسلمي الأندلس، وها هم -أي ملوك إسبانيا- يبحثون عن حربٍ جديدةٍ مع المسلمين في الشرق، أعني العثمانيِّين، فهذا تصعيدٌ قد تكون له أبعادٌ كبيرة، ليس على مستوى رودس فقط؛ ولكن على مستوى الدولة العثمانية ككل. عمومًا أحدث مرور تلك السفينة الصقلية الإسبانيَّة توتُّرًا في الجيش العثماني، ومِنْ ثَمَّ سعى لإنهاء المسألة بسرعة، ولذلك قرَّر مسيح باشا القيام بمحاولة اختراق بحريَّة عن طريق عدَّة سفنٍ محمَّلةٍ بالجنود والمدافع الخفيفة، وذلك عن طريق دخول ميناء ماندراكي، وهو ليس محميًّا بسلسلةٍ كالميناء التجاري، ولكن بمجرَّد اقتراب السفن العثمانيَّة انهالت القذائف الرودسيَّة من الأبراج العالية على الفرقة العثمانيَّة ممَّا أدَّى إلى انفجار سفينة، وانسحاب بقيَّة السفن تحت عاصفةٍ كثيفةٍ من السهام والنيران[16].
هكذا فشلت محاولة الاختراق الأولى، ويبدو أنَّها كانت متسرِّعة، ومع ذلك فلم تكن خسائرها كبيرة.
في يوم 9 يونيو حاول مسيح باشا أن يقوم بمحاولة اختراقٍ جديدة، فأنزل جنوده قبيل الفجر بقليل بواسطة بعض السفن عند برج سان نيكولاس، محاولًا السيطرة على البرج المهم، ولكن للأسف لم تكن المحاولة ناجحةً كذلك، بل كانت نهايتها أصعب من سابقتها؛ إذ فقد العثمانيُّون في هذه الهجمة سبعمائة مقاتل[17]!
لم ييأس الجيش العثماني من فشل المحاولتين السابقتين، وسعى لإجراء محاولةٍ ثالثة، وفي هذه المرَّة فكَّر مسيح باشا في بعض الابتكارات التي يُمكن أن ترفع من فرص النجاح. كانت الخطَّة تقتضي بأن يُثبِّت الجيش العثماني بعض المدافع على أبراجٍ خشبيَّةٍ عاليةٍ تقوم بقصف برج سان نيكولاس بشكلٍ متواصلٍ مدَّةً من الزمن، وبعد أن يطمئن العثمانيُّون إلى تأثُّر البرج بالقصف، وإلى انشغال الرودسيِّين بعمليَّات الإصلاح لِمَا انهار من أجزائه، يقوم العثمانيُّون بصناعة جسرٍ عائمٍ خشبيٍّ يربط بين طرفي ميناء ماندراكي، وبذلك يُمكن للجيوش البرِّيَّة أن تنتقل عليه إلى اللسان الذي عليه برج سان نيكولاس، ومنه بعد ذلك إلى المدينة، وسوف تقوم عدَّة سفنٍ عثمانيَّةٍ بمتابعة العمليَّة للدخول في الوقت المناسب إلى الميناء لاستكمال غزو المدينة.
هذه هي الخطَّة، وهي خطَّةٌ طموحة، لكنَّها خطرةٌ للغاية؛ لأنَّ مسرح العمليَّات كلَّه واقعٌ تحت مدى مدافع فرسان القديس يوحنا.
بدأ تنفيذ الجزء الأوَّل من الخطة يوم 13 يونيو 1480م، وتحرَّك برجٌ خشبيٌّ كبيرٌ إلى الساحل الغربي من ميناء ماندراكي، ومن أعلى هذا البرج قصف الجيش العثماني برج سان نيكولاس لمدَّة أربعة أيَّامٍ متواصلة دون توقُّف[18].
في هذه الأثناء كان العثمانيُّون يجتهدون في صناعة جسرٍ عائمٍ كبيرٍ يُمكن أن ينتقل عليه الجنود من الناحية الغربيَّة لميناء ماندراكي إلى ناحيته الشرقيَّة؛ أي إلى اللسان الذي عليه برج سان نيكولاس، ولمـَّا كان هذا الجسر قصيرًا بالنسبة إلى عرض الميناء (يبلغ عرض الميناء أكثر من مائتي متر)، فقد فكَّر العثمانيُّون في ربط حلقةٍ حديديَّةٍ ضخمةٍ في الصخور أسفل برج سان نيكولاس، وأن يُمرَّر حبلٌ سميكٌ من خلال هذه الحلقة، ويُربط هذا الحبل في الجسر، وبهذا يُمكن سحبه إلى اللسان الحجري وعليه الجنود، ثم يُعاد بالطريقة نفسها إلى الناحية الأخرى ليأتي بجنودٍ جدد، وهكذا حتى ينتقل الجنود المطلوبون لإتمام عمليَّة غزو المدينة[19].
بالإضافة إلى هذا النقل عبر الجسر العائم، أعدَّ مسيح باشا ثلاثين سفينةً عسكريَّةً جعلها قريبةً جدًّا من الميناء لتتدخَّل في الوقت المناسب[20].
بدأ تنفيذ الجزء الثاني من الخطَّة في منتصف الليل من يوم 17 يونيو، (ليلة 18 يونيو)، حيث ثبَّت أحدُ الغواصين الأتراك الجسورين الحلقةَ المعدنيَّة الكبيرة في أسفل برج سان نيكولاس وربط فيها الحبل الذي يصل إلى الناحية الأخرى من الميناء، وبدأ إنزال الجسر العائم، وكان عرضه يتَّسع لستَّة جنودٍ متجاورين[21].
كانت الأمور تسير على ما يُرام في جنح الظلام، وكانت حركة الجنود على الجسر العائم هادئة، وكان يُمكن لكلِّ شيءٍ أن يسير وفق الخطَّة المرسومة، لولا أنَّ أحد جنود المراقبة الرودسيِّين سمع صوت مجدافٍ في ميناء ماندراكي، فشاهد الحبل الممتدَّ إلى الشاطئ الآخر! وقد بحثتُ عن هذه الليلة فوجدتُ أنَّها توافق التاسع من ربيع الآخر عام 885 هجريَّة، ومعنى هذا أنَّ ضوء القمر كان يسمح برؤيةٍ جيِّدة، خاصَّةً في شهور الصيف وغياب السحب، ولهذا فقد فَهِم الجنديُّ الغرضَ من هذا الحبل، ولعلَّه رأى الجسر من بعيد، وتصرَّف الجنديُّ بسرعةٍ حتى قبل أن يرجع إلى قائده، فغطس تحت الماء أسفل برج سان نيكولاس، واهتدى إلى الحلقة المعدنيَّة، ففصل عنها الحبل المربوط بها، واقتلع الحلقة وعاد بها إلى بيير دي أوبسون شخصيًّا! تذكر بعض الروايات أنَّ هذا الجندي إنجليزي واسمه روبرت چيرڤز Robert Jervis[22] أو روچر چيرڤز Roger Jervis[23]، بينما تذكر رواياتٌ أخرى أنَّه يوناني الجنسيَّة[24]، وهكذا لم يعد بالإمكان توجيه الجسر العائم إلى اللسان الحجري إلَّا عن طريق التجديف والسفن المساعدة، وهذا يأخذ وقتًا طويلًا ممَّا سيُغيِّر من مسار الخطَّة المرسومة.
لم تكن المشكلة الحقيقيَّة في فشل سحب الجسر العائم بسرعة إلى اللسان لنقل الجنود في جنح الظلام؛ إنَّما كانت المشكلة الأكبر هي اكتشاف فرسان القديس يوحنا للخطَّة، والحقُّ أنَّ ردَّ فعلهم كان سريعًا للغاية؛ فقد جاءت الأوامر من بيير دي أوبسون بإطلاق النيران الكثيفة على سطح ميناء ماندراكي كلِّه، ولم يكن الإطلاق من برج سان نيكولاس القريب فقط، بل شاركت فيه المدفعيَّة المثبَّتة على برج الطواحين (برج فرنسا)، وكذلك المدافع الموجودة في القصر الرئاسي، الذي يوجد على مسافة ثلاثمائةٍ وخمسين مترًا تقريبًا من الميناء[25].
كانت الكارثة كبيرة على العثمانيِّين!
أصابت إحدى القذائف الجسر العائم فانفجر، وأدَّى ذلك إلى غرق الجنود الذين كانوا على سطحه[26]، وغرقت أيضًا أربع سفنٍ عسكريَّة[27]، وأحضر بيير دي أوبسون «كلَّ» قاذفات اللهب ومدافع المدينة إلى هذه الناحية[28]، وأضاء المكان كلَّه بالمتفجرات، واحترقت عدَّة سفنٍ تركيَّةٍ فأُجبرت على الانسحاب تاركين بعض الجنود على اللسان الحجري دون حماية، ممَّا أدَّى إلى حصارهم وقتلهم[29].
استمرَّ القصف الرودسي طوال الليل، وكذلك في ساعات الصباح الأولى، ممَّا أرغم مسيح باشا على وقف كامل العمليَّات العسكريَّة العثمانيَّة والانسحاب بعيدًا عن مرمى النيران[30].
كانت الخسارة العثمانيَّة عظيمة!
تُقدِّر المصادر الأوروبيَّة القتلى بألفين وخمسمائة جندي[31][32]، بينما ذكرت المصادر التركيَّة أنَّ الشهداء تجاوزوا الألف[33]! وأيًّا كان الرقم في هذا الهجوم فإنَّه كبير، وكان النصر حاسمًا لصالح فرسان القديس يوحنا، وذكر القسُّ دي كورتي Fra de Curti في رسالته لأخيه بالبندقيَّة أنَّ البحر في ميناء ماندراكي تلوَّن بالأحمر من دماء الأتراك، كما علَّق الفرسان رءوس بعض الإنكشاريَّة على أعالي الأبراج ليراها الرودسيُّون وكذلك الجيش العثماني[34].
بعد هذه الكارثة أدرك مسيح باشا أنَّ الاستيلاء على برج سان نيكولاس أمرٌ غير ممكنٍ أبدًا، على الأقل بهذه الإمكانات والظروف، ومِنْ ثَمَّ قرَّر التوقُّف عن محاولات الغزو البحري، وبدأ في البحث عن أضعف الأماكن في الأسوار الداخليَّة التي يُمكن أن يغزوها من ناحية البرِّ[35].
كانت هذه الكارثة هي إحدى اللحظات الفارقة في هذا الحصار الصعب؛ إذ إنَّها تركت آثارًا إيجابيَّةً كبيرةً على أهل رودس، بينما كان أثرها سلبيًّا بشكلٍ واضحٍ في الروح المعنويَّة للجنود العثمانيِّين.
أقام بيير دي أوبسون بعد هذه المعركة احتفالًا دينيًّا كبيرًا في مراسم شكرٍ خاصَّة[36]، ولعلَّ مثل هذه الانتصارات، وكذلك هذا التوجُّه الديني الواضح عند فرسان القديس يوحنا، كان سببًا في تعاون اليونانيِّين الأرثوذكس، وهم أهل رودس الأصليُّون، مع الفرسان اللاتين وهم كاثوليك، في الدفاع عن مدينة رودس، والاشتراك سويًّا في الحرب، وكذلك في إعادة بناء التحصينات التي تهدَّمت، وقد حرص بيير دي أوبسون على دعم هذه الروح، فكان في خطبه يُشير دومًا إلى أنَّه لا يحكم اللاتين أو اليونانيِّين؛ إنَّما يحكم «المسيحيين» في رودس، محاولًا عدم الدخول مطلقًا في الفروق العقائديَّة بين الكاثوليك والأرثوذكس[37].
ويبدو أنَّ مسيح باشا قد أدرك وجود مثل هذا التعاون بين اللاتين واليونانيِّين، فأراد أن يُحدث انقسامًا في داخل المدينة، فكتب رسائل يُعطي فيها الأمان لليونانيِّين في حال تسليمهم، ويُخبرهم فيها أنَّهم سيعيشون في ظلِّ الدولة العثمانيَّة كبقيَّة الأرثوذكس في الدولة، الذين يحصلون على كامل حقوقهم، وأرسل هذه الرسائل المربوطة في أسهم داخل أسوار المدينة لعلَّها تُحدث اضطرابًا في العلاقات الداخليَّة، أو تُحدث قناعات عند بعض الأفراد فيخرجوا للعثمانيِّين، ومع ذلك فهذه الرسائل لم تأتِ بنتيجةٍ ملموسة[38].
أيضًا حاول مسيح باشا أن يُجدِّد محاولات التوصُّل إلى حلٍّ سلمي، فأرسل أحد مبعوثيه، وهو سليمان باشا، ليعرض على بيير دي أوبسون التسليم في مقابل أن يُصبحوا تابعين للسلطان الفاتح مع بقائهم يحكمون رودس، ويحتفظون بكلِّ أملاكهم، وإلَّا فإنَّه عند سقوط المدينة سيخسرون كلَّ شيء، ولكن بيير دي أوبسون ردَّ بأنَّ المباحثات السلميَّة لن تُجرى إلَّا بعد رحيل الجيش العثماني بكامله من رودس، وأنَّ هذه ستكون مهمَّة السفراء، وليست مهمَّة الجنود[39]، وكان من الواضح أنَّ انتصارات الفرسان في المحاولات السابقة قد أعطتهم قوَّة، وكانوا يرون محاولات مسيح باشا للتوصُّل إلى حلٍّ سلميٍّ ما هي إلَّا علامة من علامات ضعف الجيش العثماني، فزادوا إصرارًا على المقاومة.
تزامن مع هذه الأحداث أمرٌ آخر أسهم في رفع الروح المعنويَّة عند فرسان القديس يوحنا، وهو وصول سفينة محملة بالجنود والمؤن من ڤيرونا الإيطالية Verona، وكانت تحت قيادة رجلٍ اسمه بينيديتو Benedetto، وهو من عائلةٍ نبيلةٍ مشهورة كانت تحكم ڤيرونا عدَّة عقود، وهي عائلة ديلا سكالا Della Scala[40]، والغريب أنَّ السفينة استطاعت دخول ميناء رودس سالمةً ممَّا يُؤكِّد أنَّ الحصار البحري المضروب من قِبَل العثمانيِّين لم يكن مُحْكَمًا.
كانت هذه هي السفينة الثانية التي تدخل ميناء رودس، بعد سفينة صقلية التي دخلت في أوَّل أيَّام الحصار، ويلفت النظر في هذه السفينة الأخيرة أمرٌ غريب، وهو أنَّ ڤيرونا كانت تابعةً للبندقيَّة منذ عام 1405م[41]، ونحن نعلم أنَّ البندقية لم تكن مشاركةً بأيِّ صورةٍ من الصور في دعم رودس، ويبدو أنَّ السفينة كانت جهدًا شخصيًّا من بعض أهالي ڤيرونا دون علم البنادقة، خاصَّةً أنَّه لا توجد أيُّ رواياتٍ تُفيد بحدوث توتُّرٍ بين الدولة العثمانيَّة والبندقية لقدوم هذه السفينة، بل على العكس سنرى حرص البندقية على عدم المشاركة في حملات دعم رودس كما سيتبيَّن في الصفحات القادمة.
استغلَّ بيير دي أوبسون هذا النصر لرفع درجة الحماسة عند البابا والأوروبيِّين للمساعدة، فأرسل مبعوثًا للبابا، فوصله أوَّل يوليو 1480م يُخبره بالتطوُّرات الإيجابيَّة في رودس، ويطلب الدعم العاجل لإكمال المهمَّة[42].
كانت إيطاليا في ذلك الوقت على شفير حربٍ أهليَّةٍ كبيرة، وكانت قد انقسمت على نفسها عدَّة انقسامات، وقد غزا ملك نابولي بالفعل سيينا Siena، فيما عُرِف بحرب توسكان Tuscan war، وتكوَّنت عدَّة أحزابٍ معقَّدة، فكان البابا وملك نابولي ضدَّ فلورنسا، ومن ورائها ميلانو والبندقية، وتدخَّل كذلك ملك فرنسا لويس الحادي عشر في الصراع[43].
كان ردُّ فعل البابا سريعًا؛ إذ دعا إلى اجتماعٍ عاجلٍ لكلِّ السفراء الإيطاليِّين في روما، وذلك في 3 يوليو 1480م؛ أي بعد يومٍ واحدٍ أو يومين من قدوم مبعوث فرسان القديس يوحنا[44]، وفي هذا الاجتماع ذكر أنَّ الوقت لا يسمح بقتالٍ داخليٍّ في إيطاليا، وأنَّه دخل هذه الحرب مضطرًّا، ولكنَّه سيُوقف كلَّ الصراعات الداخليَّة لأنَّ هناك مسألةً أهم، وهي حصار العثمانيِّين لرودس، حيث ينبغي لكلِّ القوى الإيطاليَّة أن تتعاون في دفع هذا الخطر، وذكر البابا أنَّ المهمَّة لا تقتضي رفع الحصار فقط؛ إنَّما ينبغي إعداد حملةٍ صليبيَّةٍ كبيرة تهدف إلى هزيمة الأتراك وليس مجرَّد دفعهم عن الجزيرة، وأنَّ هذا الإجراء يتطلَّب عددًا كبيرًا من السفن العسكريَّة يصل إلى ثماني سفنٍ عملاقة، بالإضافة إلى أربعين سفينةً صغيرة، وأنَّ هذا سوف يتكلَّف مالًا كثيرًا يتجاوز الستِّين ألف دوكا ذهبيَّة، وعليه فقد قرَّر البابا فرض ضريبةٍ خاصَّةٍ أطلق عليها «ضريبة الدِّفاع عن رودس» «tassa per defesa de Rodi»، ثم قدَّر هذه الضريبة بأرقامٍ متفاوتةٍ حسب الإمكانات الاقتصاديَّة للإمارات والممالك الإيطاليَّة المختلفة، فكانت التقديرات كالآتي: على البابا شخصيًّا عشرة آلاف دوكا، ومملكة نابولي عشرون ألف دوكا، ودوقيَّة ميلانو خمسة عشر ألف دوكا، ومجلس فلورنسا ثمانية آلاف دوكا، ودوقيَّة فيرارا أربعة آلاف دوكا، ومجلس سيينا أربعة آلاف دوكا، وماركيزيَّة مانتوا ألف دوكا، وماركيزيَّة منتفيرات ألف دوكا، ومجلس لوكا ألف دوكا، ودوقيَّة ساڤوي ثلاثة آلاف دوكا، وهذا يُعطي إجمالي سبعةٍ وستِّين ألف دوكا[45][46].
هكذا تمَّ جانبٌ مهمٌّ في عمليَّة الإنقاذ لرودس، وهو الجانب المادِّي. أمَّا الجانب العسكري، وهو إعداد السفن بعد جمع هذه الأموال، فهذا يأخذ وقتًا إلى حدٍّ ما، ومِنْ ثَمَّ فقد قرَّر البابا أن يُجهِّز سفينتين على وجه السرعة، وكذلك فعل ملك نابولي فرديناند الأول[47]، وكان البابا قد عزم على تجهيز السفينتين في چنوة، ولكن يبدو أنَّ چنوة قد تلكَّأت في الاستجابة لكونها تخشى أن يُحوِّل السلطان الفاتح هجومه من رودس إلى جزيرة خيوس Chios التابعة لها في بحر إيجة إذا علم بتعاون چنوة مع الصليبيين في الدفاع عن رودس، وهكذا لم يعد متاحًا للمساعدة العسكريَّة الفوريَّة إلَّا ملك نابولي فقط[48].
ولعلَّنا قد لاحظنا أنَّ البابا لم يفرض ضريبة الدفاع عن رودس على جمهوريَّة البندقية، ولا طلب منها إعدادًا عسكريًّا؛ لأنَّه كان يعلم موقفها الحريص على استمرار السلام مع الدولة العثمانيَّة، ولكنَّه كان يأمل أن تتحرَّك البندقية من تلقاء نفسها عندما ترى هذا الاجتماع الإيطالي غير المعتاد ضدَّ العثمانيِّين[49].
أمَّا البندقية فلم تُفكِّر قط في أيِّ نوعٍ من المشاركة في التحالف الصليبي ضدَّ العثمانيِّين، بل على العكس من ذلك أرسل مجلس الشيوخ في البندقية خطابًا تحذيريًّا إلى سفيرها في روما زكريا باربارو Zaccaria Barbaro تُشدِّد عليه في عدم الدخول في أيِّ أحلافٍ ضدَّ الدولة العثمانيَّة، ولا حتى في مناقشة مثل هذه الأحلاف[50]!
هذا هو الوضع في إيطاليا بخصوص مسألة رودس، آخذين في الاعتبار أنَّ هذا التفاعل الكبير مرجعه إلى أمورٍ متشابكةٍ متعدِّدة؛ منها تاريخهم الطويل في الحملات الصليبية ضدَّ المسلمين بشكلٍ عامٍّ، وضدَّ الدولة العثمانيَّة بشكلٍ خاص، ومنها اعتقادهم الجازم أنَّ رودس وفرسان القديس يوحنا هم خطُّ الدفاع الأوَّل الآن للكاثوليكيَّة في العالم، وإذا انهار فإنَّ الخطوة القادمة ستكون ضدَّهم بشكلٍ مباشر، ومنها أنَّ القسم الثاني من الأسطول العثماني يُرابض الآن في مدينة ڤلور الألبانيَّة على بُعْد ثمانين كيلو مترًا فقط من شاطئ إيطاليا الشرقي، فالخطر صار قريبًا جدًّا من حدودهم، ومنها أنَّ فكرة غزو روما وفتحها كانت متداولة في الدولة العثمانيَّة بشكلٍ كبيرٍ منذ فتح القسطنطينية، وهو الأمر الذي كان يُنادي به الجنود العثمانيون أثناء حصار شقودرة كما مرَّ بنا[51]، فهذه كلُّها أمورٌ دفعت البابا إلى مثل هذا الإجراء العاجل.
وعودة إلى مسيح باشا قائد الأسطول العثماني، وماذا عليه أن يفعل بعد التطوُّرات الأخيرة؟
بعد فحص كامل الأسوار أدرك مسيح باشا أنَّ أضعف المناطق في التحصينات الداخلية هي المنطقة الجنوبيَّة الشرقيَّة، وهي المواجِهة للحيِّ اليهودي، وبها برج إيطاليا، وهو البرج الذي يقوم على حمايته الفرسان الإيطاليُّون[52]، ومِنْ ثَمَّ نقل مسيح باشا كلَّ مدافعه إلى هذه المنطقة، وبدأ عمليَّة القصف المباشر المستمرّ ليلًا ونهارًا على المكان نفسه: البرج والسور؛ بغية إحداث فتحةٍ كبيرةٍ تسمح بدخول الجيش العثماني من خلالها، وتذكر الروايات أنَّ العثمانيِّين قذفوا على هذه المنطقة ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة كرةٍ صخريَّةٍ كبيرةٍ خلال فترة الحصار[53]، فلو علمنا أنَّ حصار هذه المنطقة استمرَّ حوالي خمسة وثلاثين يومًا كان معدَّل القذائف اليوميَّة هو مائة قذيفة، وهو رقمٌ كبير، خاصَّةً إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الأحجار كانت كبيرةً للغاية؛ فقد ذكر القسُّ دي كورتي أنَّ الأرض كانت تتزلزل تحت أقدام المحاصرين مع كلِّ قذيفة[54]، وقد كان صوت القذائف يُسْمَع في جزيرة كوس Cos أو Kos وهي على بعد مائة كيلو متر تقريبًا شمال غرب جزيرة رودس[55]!
واجهت الجيش العثماني مشكلة أخرى كبيرة، وهي مشكلة الحُفَرِ العميقة الموجودة خارج الأسوار؛ فهي ضخمةٌ للغاية، ولن يتمكَّن عددٌ كبيرٌ من أفراد الجيش العثماني من اقتحام الثغرات التي ستُحدثها المدافع في الأسوار إلَّا بعد ردم عددٍ من هذه الحفر؛ لأنَّ الممرَّات التي بينها ضيِّقة جدًّا، ولهذا جمع العثمانيُّون الحجارة والنفايات من كلِّ مكانٍ لملء الحفر القريبة من المكان الذي يُخطِّطون لاختراقه، ولكن فوجئ العثمانيُّون بعد عدَّة أيَّامٍ من ملء الحفر بالحجارة أنَّها لا تمتلئ بالمعدَّل الصحيح؛ إذ إنَّها دومًا أقلُّ من المتوقَّع! وأخيرًا اكتشف العثمانيُّون أنَّ فرسان القديس يوحنا حفروا نفقًا تحت الأسوار يصل إلى الحفر التي يملؤها العثمانيُّون بالحجارة، وفي أثناء الليل يتسلَّل الفرسان من خلال النفق لسحب جانبٍ من الحجارة لإدخاله إلى المدينة، فهكذا ينتقص في الليل ما يجتهد الجيش العثماني في عمله بالنهار[56]!
أيضًا أطلق الجيش العثماني السهام الحارقة، وقنابل اللهيب، داخل المدينة، ممَّا أدَّى إلى إحداث حرائق كبرى، غير أنَّ بيير دي أوبسون كوَّن فرقة إطفاءٍ متخصِّصةٍ لا تعمل إلَّا في هذا المجال، فقاوموا بشكلٍ كبيرٍ حدوث حرائق ضخمة، وكان الأمر تحت سيطرتهم إلى درجةٍ كبيرة[57].
ويبدو أنَّ الفرقة الإيطاليَّة الموكَّلة بحماية السور في المنطقة التي تتحمل عبء القصف كلِّه قد شعرت باقتراب انهيار الأسوار، فطلبت مقابلة سكرتير بيير دي أوبسون، وهو چيان ماريا فيليلفو Gian Maria Filelfo، وعرضت عليه فكرة تسليم المدينة قبل أن يُصبح الأمر متأخرًا جدًّا؛ لأنَّ التسليم سيحفظ لهم حياتهم وأموالهم، أمَّا السقوط فسيُؤدِّي إلى خسارة كلِّ شيء! عرض السكرتير هذا الأمر على رئيس الفرسان، فاستدعى الفرقة الإيطاليَّة بكاملها وأخبرهم أنَّه لن يمنع أحدًا منهم من الرحيل من رودس، فلهم مطلق الحرِّيَّة في المغادرة حفاظًا على حياتهم، أمَّا البقاء في رودس فلا يعني عنده إلَّا القتال حتى النهاية[58][59]، فكان هذا الردُّ الصارم والواضح دافعًا لهم للاستمرار في المهمَّة الدفاعيَّة بكامل طاقتهم!
هكذا وضح في هذا الحصار القيادة غير العاديَّة لبيير دي أوبسون، الذي يَعُدُّه الكثيرون من المؤرِّخين أفضل قادة الفرسان في كلِّ مراحل تاريخهم، وهو الملقَّب عند الغرب «بدرع الكنيسة Shield of the church»، وذلك كما ذكرت موسوعة تشامبرس Chambers الإنجليزيَّة الشهيرة[60].
أدرك مسيح باشا أنَّ الوقت ليس في صالحه؛ فالأيَّام تمر، ونجاحات فرسان القديس يوحنا في إحباط محاولات العثمانيِّين تتكرَّر، وقد تصل نجدات أوروبيَّة تُغيِّر من المعادلة لصالح الرودسيِّين، ومِنْ ثَمَّ قرَّر الإعداد لهجومٍ عامٍّ على المدينة بعد التركيز ليلًا ونهارًا على منطقة محدَّدةٍ في السور، ومحاولة الدخول بأعدادٍ كبيرةٍ من الجنود للقتال المباشر، ووقع الاختيار على يوم 27 يوليو لبداية العمل الضخم، فبدأ اليوم بملء الحفر المواجهة للمنطقة المقصودة بالحجارة، وذلك في عملٍ متواصلٍ سريعٍ سيكون متبوعًا بالاختراق قبل أن ينجح الفرسان في رفع الحجارة كما كانوا يفعلون من قبل، وتزامن مع هذا الردم للحفر ضربٌ متواصلٌ بالنيران الكثيفة والأحجار الثقيلة لنقطةٍ محدَّدةٍ في السور عند الحيِّ اليهودي، وذلك قبل فجر يوم 27 يوليو، ودون أيِّ انقطاع، وبالإضافة إلى كلِّ ذلك تجمَّعت أعدادٌ كبيرةٌ من الجنود العثمانيِّين حول هذا الجزء من السور استعدادًا للدخول المباشر بمجرَّد سقوط السور[61].
اشترك في هذه العمليَّة الجريئة أربعون ألف جنديٍّ تركي[62]!
في صباح يوم 28 يوليو انهار جزءٌ من السور فأسرع العثمانيُّون بأعدادٍ كبيرةٍ تجاه الجزء المنهار[63]. لقد نجح الجزء الأوَّل من الخطَّة وبقي الاقتحام! كانت جنود الفرسان قد انسحبوا بعيدًا عن الأسوار تجنُّبًا للقصف المستمرِّ الذي فعله الجيش العثماني على مدار الأربع والعشرين ساعةً السابقة، وهذا أتاح للجيش العثماني أن يقترب من الأسوار، وأن يقتحم الجزء المنهار، بل أن يُثبِّت سلالم على الأسوار تُمَكِّن الأعداد الكبيرة من اقتحام المدينة، وما هي إلَّا لحظات حتى دخل العثمانيُّون فعلًا المدينة وعَلَوا أسوارها، بل ثبَّتوا عدَّة رايات خضراء عثمانيَّة على بعض أماكن السور، وكذلك على البرج الإيطالي الذي قارب على الانهيار التام[64].
كانت الأمور تسير على أفضل صورة، وبدا واضحًا أنَّ النصر قريبٌ للغاية؛ لأنَّ أعداد فرسان القديس يوحنا وكامل المدافعين قليلةٌ للغاية بالمقارنة بالجيش العثماني، وكانت المشكلة فقط في فتح مجال لحربٍ مباشرة، وها هي قد جاءت المواجهة، ولذا توقَّع الجميع -العثمانيُّون والفرسان- أنَّ لحظات نهاية المعركة قد اقتربت، وقد كان كذلك، ولكن على صورة تُخالف المتوقَّع!
كيف تطوَّرت الأمور؟!
الذي حدث أنَّ جنود فرسان القديس يوحنا كانوا قد انسحبوا بسرعة خلال اليوم السابق للاقتحام تحت وطأة القصف العنيف، وقد فعلوا ذلك دون استعدادٍ كافٍ، ولذلك تركوا كثيرًا من أسلحتهم وممتلكاتهم على الأسوار وخلفها، فانطلق بعض الجنود العثمانيِّين ليأخذوا هذه الغنائم والأسلاب، التي أحسب أنَّها ليست ثمينة بالدرجة التي تُغري بترك القتال؛ لأنَّ الجندي عادةً لا يحمل أثمن ما يملك معه على أسوار المدينة، ومع ذلك فهذا الذي حدث، ورأى ذلك مسيح باشا، فخشى أن ينشغل الجنود بذلك عن المهمَّة الرئيسة، وخاصَّةً أنَّهم ينتظرهم قتالٌ شرس لقومٍ محصورين ليس لهم نجاةٌ إلَّا خلف سيوفهم وبنادقهم، فهنا عالج مسيح باشا الأمر، ولكن بصورةٍ أحسبها خاطئة؛ وهو أنَّه أصدر أمرًا عامًّا بأنَّ كلَّ ما يُجمَع من غنائم في هذه المعركة سيئول إلى خزينة الدولة ولن يأخذ الجنود منه شيئًا[65]!
كان قرارًا صادمًا للجنود، في هذه السابقة التي لم تحدث قبل ذلك في المعارك العثمانيَّة كلها، وكان أثرها بالغًا؛ إذ توقَّف الجنود العثمانيُّون فجأة عن الحركة، فلم يكمل مَن اقتحم الأسوار طريقه إلى داخل المدينة، ولم يدخل جنودٌ جدد ليُساعدوا إخوانهم على إكمال المهمَّة[66][67].
لم تكن إلَّا لحظات قليلة حتى أدرك فرسان القديس يوحنا أنَّ هناك أمرًا غريبًا حدث في الجيش العثماني، ولم يكن يعنيهم السبب؛ إنَّما كان المهمُّ هو استغلال الحدث، وكان بيير دي أوبسون قريبًا جدًّا من الأسوار، فرفع راية فرسان القديس يوحنا، وأقبل مسرعًا بنفسه، ومعه طائفةٌ من الفرسان، ونشب قتالٌ في غاية الشراسة لم تشهد رودس مثله قبل ذلك[68].
لم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل اكتشف العثمانيُّون أنَّ فرسان القديس يوحنا كانوا قد حفروا خندقًا على مسافةٍ بعيدةٍ نسبيًّا من الأسوار في المنطقة التي يتوقَّعون فيها انهيار التحصينات، وقد تركوا مساحةً واسعةً أمامه تسمح للجنود العثمانيِّين بالتقدُّم فيها، وكان هذا الخندق على هيئة نصف دائرة يصل إلى الأسوار من ناحيتيه، وقد اختبأ جنود الفرسان في هذا الخندق، فلمَّا احتدم القتال خرجوا من أماكنهم مندفعين نحو المسلمين[69].
دارت معركةٌ حاميةٌ استمرَّت ساعتين[70] كانت اليد العليا فيها لفرسان القديس يوحنا؛ خاصَّةً أنَّ ازدحام العثمانيِّين في المنطقة التي دخلوا منها كانت تُعيق حركتهم، وتمنعهم من المناورة، وقد أُصيب بيير دي أوبسون عدَّة إصاباتٍ خطرة، وسقط مرَّتين من على الأسوار، وفي النهاية حمله الجنود بعيدًا إلى داخل المدينة وهم يعتقدون أنَّه لن يعيش بهذه الجراحات العميقة، خاصَّةً أنَّ إحدى إصاباته كانت جرحًا غائرًا في الصدر[71][72].
أدَّى تدافع المسلمين إلى كارثةٍ حقيقيَّة؛ إذ حاول عددٌ من الجنود أن يتراجعوا بعد أن حصرهم فرسان القديس يوحنا، ففوجئوا بأعدادٍ كبيرةٍ دفعها مسيح باشا من الخارج لدخول الثغرة التي في السور، ففي هذا التوتر الكبير لا يُعرف العدوُّ من الصديق، بل الكل يبحث عن النجاة، فكانت كارثةٌ كبيرةٌ تساقط فيها عددٌ كبيرٌ من أفراد الجيش العثماني على الأرض، ووقع بعضهم من فوق الأسوار، وتمكَّن فرسان القديس يوحنا من إغلاق الثغرة، وحَصْرِ من دخل المدينة، ثم قاموا بذبحهم في لحظات[73]!
فقد الجيش العثماني في هذه العملية ثلاثة آلافٍ وخمسمائة جنديٍّ من خيرة جنوده[74]، منهم ثلاثمائة من صفوة الإنكشاريَّة[75]، وقد حرق فرسان القديس يوحنا جثثهم بالكامل خوفًا من انتشار الأوبئة في المدينة[76].
وأكثر من هذا أنَّ جيش فرسان القديس يوحنا تجرَّأ على الجيش العثماني بصورةٍ أكبر، ويبدو أنَّ المفاجأة أذهلت العثمانيِّين؛ إذ خرج الصليبيُّون من حصونهم وتتبَّعوا الجيش العثماني الذي هرب في اتِّجاه معسكره عند تلِّ سان استيفين؛ حيث وصل الفرسان إلى خيمة مسيح باشا، وغنموا عدَّة غنائم، منها الراية السلطانيَّة، وهي رايةٌ خاصَّةٌ عليها علاماتٌ ذهبيَّةٌ وفضيَّة، فكانت ضربةً موجعةً للجيش المسلم، ثم عاد الفرسان بسرعةٍ إلى حصونهم[77]، وقضى فرسان القديس يوحنا يومهم في إصلاح ما انهار من تحصينات.
كان هذا اليوم عصيبًا على الجيش العثماني؛ فقد أدرك فيه مسيح باشا أنَّه لن يتمكَّن من فتح المدينة، ولهذا بدأ في إحصاء خسائره ليُرسل بها إلى السلطان الفاتح ليكون له القرار النهائي في مسألة رودس، وتتَّفق المصادر الغربيَّة والتركيَّة على أنَّ مجموع خسائر الجيش العثماني في حملة رودس ككلٍّ بلغ تسعة آلاف شهيد، وخمسة عشر ألف جريح[78][79][80][81].
إزاء هذه الخسائر الجسيمة أصدر السلطان الفاتح أوامره للجيش العثماني بالانسحاب من رودس، والعودة فورًا إلى القسطنطينية، مع إرجاع قوَّات الأناضول إلى أماكنها هناك[82]، ممَّا يعني أنَّه لن يُكرِّر المحاولة في القريب العاجل.
بقي العثمانيُّون في خنادق دفاعيَّة إلى حين ورود ردِّ السلطان، الذي جاء بعد حوالي ثلاثة أسابيع من يوم الكارثة الأخيرة[83]، وعلى الفور جمع مسيح باشا قوَّاته ومعدَّاته وغادر ساحل رودس في يوم 17 أغسطس 1480م[84].
تزامنت مغادرة الأسطول العثماني لرودس مع وصول سفينتين عملاقتين من مملكة نابولي محمَّلتين بالجنود والمؤن، وعلى الرغم من القتال الشديد الذي دار بين العثمانيِّين والصليبيِّين إلَّا أنَّ السفينتين نجحتا في دخول ميناء رودس بعد أن قُتِل قائد الفرقة العثمانيَّة المكلَّف بمنع هذا المدد من دخول رودس[85]، فكانت هذه خسارةً جديدةً تُضاف إلى خسائر الجيش العثماني في هذه الحملة المأساويَّة، وقد ذكر چون فريلي أنَّ إحدى السفينتين، وهي سفينة سانتا ماريا Santa Maria، هي سفينة تجاريَّة عملاقة معروفة في ذلك الزمن[86]، ممَّا يكشف مدى الدعم الذي تُقدِّمه مملكة نابولي لفرسان القديس يوحنا، ممَّا عمَّق عداوتها مع الدولة العثمانيَّة.
هكذا انتهت الحملة الكبيرة بعد حصارٍ اقترب من ثلاثة شهور، وكان لا بُدَّ لنا من وقفةٍ لنفهم الأسباب الحقيقيَّة لهزيمة العثمانيِّين في هذا الصدام الطويل..
بدايةً لا بُدَّ أن نؤكِّد أنَّ الجهد الذي بذله الجيش العثماني في هذا الحصار كان عظيمًا للغاية، وأنَّ التضحيات كانت غالية، وأنَّ استشهاد تسعة آلاف جندي على مدار ثلاثة شهور ليس أمرًا هيِّنًا، فصبر الجيش على الجهاد لا يُنْكَر، وكفاحه من أجل النصر لا يُنْتَقص، ونحن إن كنَّا نبحث عن أسباب الهزيمة فهذا لكي نستفيد من الدرس في مستقبل الأمَّة، وليس الغرض منه أبدًا التقليل من العمل الشاق الذي قام به هذا الجيش العظيم.
كما لا بُدَّ أن نؤكِّد أنَّ مسيح باشا قائد الأسطول العثماني قام كذلك بجهدٍ كبير، ولا يُمكن بحالٍ أن نُشكِّك في ولائه للإسلام، وفي انتمائه للدولة العثمانيَّة بدعوى جذوره البيزنطيَّة؛ فإنَّه ارتبط بالإسلام وهو طفلٌ صغيرٌ في سنِّ العاشرة[87]، كذلك لا نُشكِّك في قدراته العسكريَّة، أو خبرته في مجال المعارك البحريَّة؛ حيث إنَّه أثبت كفاءته قبل ذلك بسنوات؛ فقد كان أحد المشاركين في فتح جزيرة نيجروبونتي عام 1470م، بل كان أحد البارزين في هذا الفتح الصعب[88]. كما أنَّ قيادته لحصار رودس لم تكن نهاية ارتباطه بالعمل لصالح الدولة العثمانيَّة؛ فإنَّه ظلَّ من قادتها البارزين إلى حين وفاته عام 1501م[89]؛ أي بعد هذا الحصار بإحدى وعشرين سنة.
بعد هذه المقدِّمة يُمكن لنا إيجاز أسباب الهزيمة فيما يلي:
أولًا: لم تكن مصادر المخابرات العثمانيَّة في هذا الحدث كافية؛ فقد اعتمد الجيش العثماني على معلومات قديمة، وعلى عكس قوَّة المخابرات العثمانيَّة في أوروبا فإنَّها كانت ضعيفة في رودس. قد يكون للدولة عذرها في كون جزيرة رودس مغلقة ومحدودة بعكس أوروبا المفتوحة، فيكون تحصيل المعلومات من داخل رودس عسيرًا بعكس ما يُمكن فعله في دولٍ كبرى كالمجر، والبندقية، والنمسا، ومع ذلك فالإقدام على حربٍ صعبةٍ كتلك التي رأيناها كان يستلزم التأنِّي حتى الحصول بشكلٍ أو آخر على معلوماتٍ أدقَّ ترفع من فرص النجاح في الحملة.
ثانيًا: كان التقدير العسكري لتحصينات الموانيء الرودسيَّة غير سليمٍ من الناحية التقنيَّة؛ فقوَّة برج سان نيكولاس، وشدَّة التحصينات في ميناء ماندراكي، وكفاءة المدفعيَّة الرودسيَّة في القصر الرئاسي، كل هذا لم يكن محسوبًا بالدرجة المناسبة، ممَّا دفع الجيش العثماني إلى تضييع الكثير من الجهد والوقت، وكذلك خسارة أرواح وسفن وسلاح، قبل إدراك أنَّ غزو المدينة عن طريق البحر غير ممكنٍ بالإمكانات المتاحة، وكان هذا التعطيل والخسائر سببًا في إحباط الجيش العثماني ورفع معنويَّات فرسان القديس يوحنا، وأحسب أنَّه لو قرَّر مسيح باشا من البداية غزو المدينة عن طريق المنطقة الضعيفة في ناحية الحي اليهودي لكانت النتائج أفضل.
ثالثًا: كان التهاء الفرقة الأولى التي دخلت المدينة يوم 28 يوليو بجمع الغنائم أمرًا كارثيًّا، ومع قناعتنا أنَّ هذه لم تكن طبيعة الجيش بكامله؛ لأنَّه حقَّق انتصارات في أماكن أخرى كثيرة غير رودس، إلَّا أنَّه يكفي أن يلتهي قسمٌ من الجيش بالدنيا حتى تحدث المصيبة، فقد قال الله تعالى في حقِّ جيش المسلمين الذي أُصيب في غزوة أحد: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152]، فهذا الخليط قد لا يُكتب له النصر، وهذا ما حدث في حصار رودس.
رابعًا: إذا كان هناك فريقٌ من الجنود أخطأ في الالتهاء بجمع الغنائم قبل الأوان، فإنَّ علاج هذا الخطأ كان بخطأ أكبر، وهو إعلان مسيح باشا أنَّ كلَّ الغنائم ستئول إلى خزينة الدولة؛ فهذه مخالفةٌ شرعيَّةٌ واضحةٌ كانت لها آثارها الكارثيَّة على الجيش؛ لأنَّه من المعروف شرعًا أنَّ أربعة أخماس الغنيمة تُوزَّع على الجيش المنتصر، والخمس فقط هو الذي يئول إلى خزينة الدولة[90][91][92]، أمَّا ذهاب الغنيمة كلِّها إلى الدولة فلا يكون إلَّا إذا فُتحت المدينة دون قتالٍ؛ صلحًا أو تركها أهلها[93][94][95][96]، وهو ما يُعرف بالفيء، وهذه ليست الحالة التي نحن بصددها؛ بل كان حصار مدينة رودس من أصعب المعارك العسكريَّة، وبذل فيه الجيش العثماني جهدًا مضنيًا، ولم يكن دخول الجنود المدينة إلَّا بعد أكثر من شهرين من الحصار، وكان الشهداء حتى لحظة دخول المدينة قد تجاوزوا الخمسة آلاف (ارتفع بعد ذلك إلى تسعة آلاف كما وضَّحنا)، ورأى الجنود الويلات في ميناء ماندراكي، وكذلك في الشهر الذي قضوه في حصار الحي اليهودي وبرج إِيطاليا.
إنَّ هذا الجهد الكبير كان لا بُدَّ أن يتبعه الجزاء المناسب له، وهو أربعة أخماس الغنيمة، بل قد يُعطي الحاكم مكافأةً إضافيَّةً من خُمس الدولة إذا رأى من الجنود جهدًا مضاعفًا[97][98][99].
ولا مجال هنا للقول بأنَّه ينبغي للجنود بأن تكون نواياهم كاملةً لله ، ولا نظر لهم في الغنيمة مطلقًا؛ فإنَّ الذي وضع تشريع توزيع أربعة أخماس الغنيمة على الجيش المنتصر هو الله عز جل، وهو أعلم بنفوس البشر، وهو يعلم أنَّ الانقطاع الكامل للجيش عن الحياة الآمنة وقبوله بالوجود الخطر في ساحات الجهاد، لا بُدَّ أن يكون له تعويضٌ دنيويٌّ مناسب؛ لكي يتصبَّر الجنود على هذه الصعوبات البالغة التي يواجهونها، مع يقيننا أنَّ الجنود الموجودين في ساحة الجهاد يُريدون الآخرة كما هم يُريدون الغنيمة، وإلا فمجالات العمل الأخرى غير الالتحاق بالجيش المجاهد كثيرة ومتوفِّرة، مثل: الفلاحة، أو الصناعة، أو التجارة، وغيرها. ولم تكن الجيوش العثمانية تُجْمَع بالإكراه أو السُّخرة؛ إنَّما كانت جيوشًا كريمةً عزيزةً تفتخر بعسكريَّتها وجهادها.
ولهذا كلِّه كان الأولى لمسيح باشا أن يُطمئِن جنوده أنَّ الغنائم ستوزَّع عليهم بعد المعركة، بل كان عليه أن يُحمِّسهم بأن المجتهد سينال أكثر من المتوقَّع، وأنَّ هناك مكافآت إضافية من خزينة الدولة، فهذا الذي كان من الممكن أن يُحقِّق نجاحًا، ويُجنِّب المسلمين هذا التراجع الذي رأيناه في المعركة.
خامسًا: إذا كنَّا نذكر أخطاء الجيش العثماني وقيادته في هذا الحصار فلا يُمكن أن نغفل الجهد الكبير والإعداد القوي الذي بذله فرسان القديس يوحنا في تحصين المدينة، وفي التجهُّز بشكلٍ فريدٍ لمقاومة الحصار العثماني، كما لا يُمكن أن نغفل القيادة غير العاديَّة لبيير دي أوبسون، الذي استطاع أن يُحقِّق معجزةً عسكريَّةً بعددٍ قليلٍ من الجنود في مواجهة أضعافهم من العثمانيِّين، خاصَّةً أن الجيش العثماني لم يكن فقيرًا في سلاحه ومعداته؛ بل كان مزوَّدًا بأحدث التقنيات في زمانه.
هذه في رؤيتي أبرز الأسباب التي أدَّت إلى هزيمة الجيش العثماني في هذا الحصار الصعب، والواقع أنَّ فرسان القديس يوحنا لم يتركوا هذه الفرصة النادرة دون استغلالٍ متميِّزٍ ليحصلوا على أفضل النتائج، وليُحوِّلوا أزمتهم السابقة إلى فرصة نجاح، وذلك على أكثر من مستوى..
فعلى المستوى الإعلامي اجتهد فرسان القديس يوحنا في تعزيز صورتهم وسمعتهم في أوروبا، وتعريف الشعوب بحصانة المدينة التي وقفت في وجه الأتراك، وتحميس الحجَّاج النصارى الذاهبين إلى القدس على الاعتماد على رودس كمحطة آمنة في طريقهم لأرض فلسطين[100]، ولم يكتفِ فرسان القديس يوحنا بالمعلومات العامَّة التي يُمكن أن ينشرها عموم أتباعهم في أوروبا؛ إنَّما خصَّصوا لذلك خمسة سفراء يدورون على بلاد أوروبا يشرحون تفاصيل حصار العثمانيِّين للجزيرة، ثم هزيمتهم على أيدي الفرسان[101]، وأكثر من هذا فقد كلَّف بيير دي أوبسون نائبَه الفرنسي جيوم كاورسين بكتابة القصة الكاملة وبشكلٍ احترافي؛ حتى يُمكن أن تبقى القصَّة خالدة، وأن يُعاد حكايتها من مكانٍ إلى آخر بالكيفيَّة نفسها، فبدأ كاورسين بالفعل في كتابة القصَّة بعد رحيل الجيش العثماني مباشرة[102]. استخدم كاورسين طريقة كتابة فنِّيَّة كانت معروفة في القرن الخامس عشر باسم Humanist script، وهي طريقة جمالية تخطف الأبصار[103]، ويصمم فيها شكل الصفحة، وطريقة كتابة الحروف، واستخدام الألوان، بطريقةٍ تُعطي الانطباع عن محتوى الكتاب قبل قراءته؛ بمعنى أنَّها تُجهِّز القارئ نفسيًّا إلى معنى معيَّن مقصود[104]، والطريقة التي استخدمها كاورسين كانت تُعطي الانطباعات الدينيَّة القُدْسِيَّة، وهو بذلك يُمهِّد لِمَا يُريد أن يقوله قبل القراءة، وهذه الطريقة، وإن كانت معقدةً، وتأخذ وقتًا وجهدًا في رسم الحروف والصفحة، إلَّا أنَّها تُحدِث أثرًا أكبر عند المستخدم.
ولم يكتفِ كاورسين بالشكل، إنَّما اهتمَّ بالمحتوى، فكتب الكتاب حيًّا يصف كلَّ الأحداث بتفصيلات كثيرة دقيقة، وبشكلٍ قصصيٍّ مُسَلٍّ، كما حرص على إبراز المعاني الدينيَّة، فكانت الفكرة من وراء الكتاب هي أنَّ فرسان القديس يوحنا يُدافعون عن «المسيحية» لا عن رودس[105].
كانت النُسَخ الأصليَّة التي كتبها كاورسين بيده باللغة اللاتينيَّة، واستغلَّ فرسان القديس يوحنا وجود المطابع حديثًا في أوروبا في طباعة كميَّات من الكتاب للتوزيع على عامَّة الناس، فطُبع الكتاب باللغة اللاتينيَّة في العام نفسه -أي في 1480م- في عدَّة مدنٍ إيطاليَّة، مثل ڤينيسيا Venice، وبارما Parma، وطُبع كذلك في السنة نفسها في مدينتين بلچيكيَّتين، هما بروجيه Bruges، ولوڤان Louvain، وفي مدينةٍ ألمانيَّةٍ هي باساو Passau، ثم طُبع عام 1481م في برشلونة بإسبانيا، وفي عام 1482م طُبِع في روما Rome بإيطاليا، ثم في أودينز Odense بالدنمارك. ولم يكتفِ فرسان القديس يوحنا بطباعة الكتاب باللغة اللاتينيَّة، ولكن تُرجِم في العام نفسه 1480م إلى اللغات الإيطاليَّة، والألمانيَّة، ثم الدنماركيَّة، وطُبِع بهذه اللغات لتسهيل انتشاره[106]. ثم حدثت طفرة كبيرة في نشر الكتاب عندما ترجمه إلى اللغة الإنجليزيَّة الشاعر الإنجليزي چون كاي John Kay، وهو أحد الشعراء الذين كانوا يكتبون الشعر للملك الإنجليزي إدوارد الرابع Edward IV[107]، وطُبع في لندن London باللغة الإنجليزيَّة عام 1483[108]. والواقع أنَّ چون كاي لم يُترجم الكتاب ترجمةً حرفيَّة؛ إنَّما أضاف له أمورًا كثيرةً عن الحصار وعن الفرسان، وكانت مصادره في ذلك رسائل بيير دي أوبسون إلى ملوك أوروبا، وكذلك بعض المعلومات التي حصل عليها بنفسه بصفته مهتمًّا بالأمور التاريخيَّة والعسكريَّة بالإضافة إلى اهتمامه بالشعر، وهذا جعل ترجمة چون كاي وكأنَّها مصدرٌ جديدٌ منفصلٌ يُضاف إلى مصدر كاورسين لدراسة أخبار حصار رودس[109]. ولم يكن استغلال فرسان القديس يوحنا للكتاب متوقِّفًا عند الأعوام الأولى للحصار، بل نشر كاورسين كتابه على نطاق واسع عندما توصَّل إلى اتِّفاقٍ مع الإنجليزي وليام كاكستون William Caxton، وهو أحد روَّاد الطباعة في العالم، وأوَّل من أدخل الطباعة إلى إنجلترا، فطَبع الكتاب باللغة الإنجليزيَّة في لندن عام 1496م تحت عنوان: «الأخبار السارَّة عن الانتصار العظيم للرودسيِّين على الأتراك»[110].
هكذا انتشر كتاب كاورسين في الدنيا بطبعات مختلفة، وبلغات متعدِّدة، وما زلنا في زماننا هذا نحتفظ بأربع نسخٍ أصليَّةٍ من الكتاب اللاتيني الأوَّل: نسختان في ألمانيا؛ في جامعتي فرايبورج Freiburg، وفورتسبورج Würzburg، ونسخة في المجر في المتحف القومي ببودابست، ونسخة في فرنسا في المكتبة القوميَّة بباريس[111].
هكذا ذاع صيت فرسان القديس يوحنا في كلِّ مكانٍ في أوروبا، وصارت أسماء قادتهم مألوفة ومحبوبة، وعُدَّ بيير دي أوبسون أحد أبطال الكاثوليكيَّة، وحرصت المصادر الكاثوليكيَّة في العالم على تسجيل قصَّته كقدِّيس محارب، ويُمكن مراجعة كتابات روبين بارسونز Reuben Parsons في مجلَّة «العالم الكاثوليكي الجديد» كمثالٍ على ذلك[112].
ولم يحرص فرسان القديس يوحنا على تخليد اسم بيير دي أوبسون وحده، بل نشروا أسماء بقيَّة الفرسان على نطاقات واسعة، وخاصَّةً في البلاد التي ينتمي إليها فرسان كلِّ طائفةٍ أو لسانٍ من ألسنتهم، وذلك مثل اعتبار روچر چيرڤز Roger Jervis، وتُكْتَب كذلك Roger Gervas، أحد أمثلة البسالة الإنجليزيَّة[113]، وروچر چيرڤز هو الجندي الذي أحبط محاولة احتلال برج سان نيكولاس عن طريق قطع حبل الجسر العائم، وحُفِظَت كذلك في إنجلترا أسماء قتلاهم السبعة، وكذلك أسماء الذين قاتلوا ولم يموتوا في المعركة[114]، ومثل الذي حدث في إنجلترا رأيناه في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
إنَّها كانت ثورة إعلاميَّة بمعنى الكلمة، ومع أنَّ القصَّة في النهاية حلقة واحدة من سلسلة طويلة من الصدامات بين الدولة العثمانيَّة والغرب، بل بين المسلمين والصليبيِّين على مدار التاريخ، فإنَّ هذا الجهد الإعلامي الضخم جعل حصار رودس عام 1480م علامةً كبرى من علامات المجد التي يحتفل بها النصارى[115]، وهذا ما جعل هذا الحصار أشهر من الحصار الذي سيعقبه باثنتين وأربعين سنة -عام 1522م- على يد سليمان القانوني، وفيه ستسقط رودس في أيدي الدولة العثمانيَّة، ولكن لأنَّه لم يأخذ هذا الزخم الإعلامي الكبير فإنَّ الكثيرين -حتى من المسلمين- لا يعرفونه بتفصيلاته كما يعرفون الحصار الأوَّل.
وحرص فرسان القديس يوحنا على دعم المعنى الديني في المسألة، وأظهروا القضيَّة على أنَّهم يُنفِّذون الإرادة الإلهيَّة[116]، وأكثروا من الحديث عن المعجزات الخارقة التي ادَّعوا أنَّها حدثت أثناء الحصار، مثل رؤية صليبٍ ذهبيٍّ كبيرٍ في السماء، أو ظهور السيدة مريم في السماء كذلك، أو نزول القدِّيس يوحنا من السماء ومعه حاشية كبيرة لنصرة الفرسان، ونحو ذلك من قصص[117].
ودعم بيير دي أوبسون هذا التوجُّه بإنشائه كنيسةً في الحيِّ اليهودي عند بوابة إيطاليا تخليدًا لذكرى المعركة الأخيرة، وأطلق عليها اسم «كنيسة القديسة مريم للنصر» «Church of St. Mary of Victory»[118].
ولا شَكَّ أنَّ هذا النشاط الإعلامي والديني قد أعقبه جني ثمارٍ كثيرةٍ على أكثر من مستوى وفي مجالات متعدِّدة مهمَّة، يُمكن أن نذكر منها المجال السياسي، والاقتصادي، وكذلك العسكري.
فعلى المستوى السياسي حرص بيير دي أوبسون على استغلال الحدث في إقامة علاقات مباشرة مع كبار ملوك أوروبا والبابا، فأرسل رسالةً تفصيليَّة -على سبيل المثال- إلى فريدريك الثالث Frederick III إمبراطور النمسا (وهو إمبراطور الدولة الرومانيَّة المقدَّسة)، وهو أعظم ملوك أوروبا آنذاك[119]، وهذه العلاقة المباشرة مع إمبراطور النمسا ستعود بالفائدة الحاليَّة والمستقبليَّة على فرسان القديس يوحنا؛ حيث ستمنحهم هذه الإمبراطوريَّة الملجأ بعد رحيلهم من الجزيرة عام 1522م على يد السلطان سليمان القانوني. وأرسل بيير دي أوبسون كذلك رسالةً تفصيليَّةً إلى ملك فرنسا لويس الحادي عشر، الذي تفاعل بقوَّة مع الفرسان، فألقى خطابًا عامًّا في الشعب في مدينة أنجيه Angers جنوب غرب باريس في يوم 29 نوفمبر 1480م أثنى فيه على نصر الفرسان، ودعا فيه إلى دقِّ أجراس الكنائس في شتَّى أنحاء البلاد، مع إقامة صلوات الشكر والاحتفالات في سائر أرجاء فرنسا[120]. ومثلما حدث مع إمبراطور النمسا وملك فرنسا، فعل بيير دي أوبسون الشيء نفسه مع بقيَّة ملوك أوروبا، ولهذا فقد أتته الهدايا من كافَّة أنحاء أوروبا تكريمًا له على النصر[121].
وعلى المستوى السياسي أيضًا حرص بيير دي أوبسون على زيادة رعب الأوروبيِّين من الأتراك، فكان دائم التكرار في رسائله على مسألة أنَّ الأتراك عائدون إلى غزو رودس قريبًا، ومنها بعد ذلك إلى كامل أوروبا[122]، وانتشر الفزع من الأتراك في أوروبا، وهذا انعكس على ألفاظ الشعراء والمؤلِّفين في هذه الحقبة، وكما ذكرنا قبل ذلك فإنَّ الشاعر الإنجليزي چون كاي أضاف عند ترجمة كتاب كاورسين أشياء من عنده غير موجودة في الكتاب، وكان من هذه الأشياء إظهار الأتراك بالشكل الخائن، وتكرار نعتهم بالكفار، وإظهار الوحشيَّة والقسوة، ولهذا فعندما كتبت المؤرِّخة تيريزا ڤان Theresa vann فصلها في موسوعة التنظيمات العسكريَّة عن چون كاي وترجمته لكتاب كاورسين جعلت عنوان هذا الفصل: «چون كاي والأتراك المرعبون» (John Kaye & the Dread Turk)[123]!
وعلى الناحية الأخرى فإنَّ فرسان القديس يوحنا حرصوا على إبراز أنَّهم القادرون على قمع هؤلاء الأتراك المرعبين، وكدعمٍ لهذا المعنى أرسل بيير دي أوبسون عددًا من الأتراك الذين أُسروا إلى البيع في أسواق العبيد الكبرى في أوروبا لصالح الفرسان تأكيدًا على قدرتهم على التغلُّب على جيوش العثمانيِّين[124].
هذا كله على المستوى السياسي الخارجي، أمَّا على المستوى السياسي الداخلي فإنَّ الحدث كان مؤثِّرًا كذلك؛ فقد حرص بيير دي أوبسون على تقوية البناء الداخلي للفرسان، فدعا رؤساء الأقسام من مدن العالم المختلفة إلى زيارة رودس، وذلك في شهر سبتمبر 1480م؛ أي في الشهر التالي مباشرةً لرحيل الجيش العثماني، وذلك حتى يُشاهدوا بأعينهم ساحات المعارك، وحالة الحصون، ويُقابلوا الفرسان المقاتلين، وأهل البلد، وغير ذلك من أمور، وذلك حتى يُعايشوا فرسان رودس بصورةٍ أكبر[125]، وهكذا ازدادت الرابطة بين أفراد التنظيم على مستوى العالم، ولم يَنْسَ بيير دي أوبسون أهل رودس من اليونانيِّين والأوروبيِّين، من الفلاحين والحرفيِّين وغيرهم، فهؤلاء عانوا أثناء الحصار الطويل، ومن الخطورة بمكانٍ أن يكون الضغط عليهم كبيرًا؛ إذ إنَّ هذا يفتح لهم بابًا للتعاون مع العثمانيِّين، وخاصَّةً أنَّهم في النهاية محكومين بغيرهم، فإمَّا بالفرسان الكاثوليك، وإمَّا بالعثمانيِّين المسلمين، وجُلَّهم كان من الأرثوذكس، ولذلك حرص بيير دي أوبسون على تحسين أحوالهم بعد انقضاء الحصار، وكان ممَّا فعله تجاه الجزيرة كلِّها أن أعفاهم من الضرائب لمدَّة خمس سنوات[126]، كما صرف مكافآت لمن أبلى في المعارك بلاءً حسنًا، وصرف بعض التعويضات للمتضرِّرين[127]، بل حرص بيير دي أوبسون على الاهتمام بكلِّ مَنْ شارك معه في الدفاع عن رودس، إلى درجة أنَّه توسَّط عند ملكة إسبانيا إيزابيلا Isabella لتعفو عن أحد المتَّهمين في جريمة في إسبانيا، وكانت الملكة قد أطلقته بشرط أن يُقاتل في رودس، والآن بعد أن انتهى القتال رغب في العودة إلى بلاده إسبانيا، لكن كان يخاف من إكمال عقوبته هناك، فتوسَّط بيير دي أوبسون له فأُعيد سالمـًا[128]، وهذا الموقف يُشجِّع المقاتلين والمتطوِّعين، وعامَّة الأوروبيِّين، على التعاون مع فرسان القديس يوحنا؛ لأنَّ الفرسان لا يتركونهم بعد انتهاء مصلحة القتال..
هذه بعض المصالح السياسيَّة التي حقَّقها فرسان القديس يوحنا بعد انتصارهم..
أمَّا على المستوى الاقتصادي فالنجاح كان كبيرًا كذلك..
لقد كان الغرض الرئيس من الحملة الإعلاميَّة، وتأليف كتاب كاورسين، والرسائل التي أرسلها بيير دي أوبسون -كما تقول تيريزا ڤان- هو جمع المال لدعم فرسان القديس يوحنا[129]، فالحاجة إلى المال صارت أكبر بكثير من قبل الحصار؛ لأنَّ الدمار الذي حلَّ بالتحصينات يحتاج إلى إصلاح، والمباني والديار التي تهدَّمت تحتاج إلى إعادة إعمار، والمزارع والأشجار التي قُطعت تحتاج إلى استصلاح، ثم إنَّ احتياج الجزيرة إلى مرتزقة محترفين صار كبيرًا للغاية؛ لأنَّ عودة العثمانيِّين إلى حرب رودس متوقَّعة، وأمام هذه القوَّة الضخمة للدولة العثمانيَّة فإنَّ المقاتلين المرتزقة يطلبون مبالغ باهظة للقتال، هذا فضلًا عن حاجة الجزيرة للمدافع، والبارود، وأنواع الأسلحة المختلفة، وهذا كله يتطلَّب أرقامًا ضخمةً من المال.
لهذا كلِّه كان على الفرسان أن يهتموا بالشقِّ المالي بصورةٍ حاسمة، وكانت البداية هي الطلب المباشر بالعون المادِّي من أولئك الزعماء الذين يدعمونهم بشكلٍ دائم، وهم تحديدًا البابا سيكستوس الرابع، وفرديناند الأول ملك نابولي، ولهذا كانت أوَّل خطوةٍ قام بها الفرسان بعد رحيل الجيش العثماني هي إرسال مبعوثٍ لروما ونابولي لطلب الإعانة العاجلة[130]، ثم قام بيير دي أوبسون بدراسة جدوى موسَّعة لتقويم حجم الخسارة في التحصينات، وحدَّد بالتالي المبلغ المطلوب لإعادة المدينة إلى وضعٍ آمن بصورةٍ أفضل من سابقتها، ومِنْ ثَمَّ أرسل عدَّة مبعوثين إلى أقطار أوروبا المختلفة لجمع التبرُّعات للوصول إلى هذا المبلغ المطلوب[131]، ولم يكن إرسال المبعوثين محدودًا بالدول التي ينتمي إليها الفرسان كفرنسا وإيطاليا؛ إنَّما كان أيضًا إلى بلادٍ ليس فيها مراكز للفرسان، ولا يحقُّ لأهلها -طبقًا لقوانين الفرسان- الانضمام إلى تنظيمهم! ومن هذا مثلًا ما حدث في الدنمارك؛ فقد ذكر المؤرِّخ الدنماركي چينوس چينسين Janus Jensen أنَّ مبعوث الفرسان چوان دي كاردونا Juan de Carduna قد جاء إلى مدينة لوبيك Lübeck الدنماركيَّة عام 1480م لجمع التبرُّعات لرودس[132]، ومع ذلك فالتبرُّعات الكبرى جاءت من مراكز الفرسان الأساسيَّة، وأهمها فرنسا وإنجلترا؛ فقد كان لويس الحادي عشر ملك فرنسا أكبر الداعمين ماليًّا، وذلك عن طريق تقديم مبلغٍ كبيرٍ لأنطوان دي أوبسون أخي بيير دي أوبسون لدعم رودس[133]، أمَّا ملك إنجلترا فقد سمح ببيع صكوك الغفران مع نُسخ كتاب كاورسين في إنجلترا ممَّا وفَّر مبلغًا كبيرًا من المال[134].
ولم يكتفِ بيير دي أوبسون بذلك لتوفير المال، بل استغلَّ سلطاته الواسعة داخل تنظيم فرسان القديس يوحنا، خاصَّةً أنَّ هذه السلطات تأكَّدت بقوَّة بعد انتصار رودس الأخير، ففرض ضريبةً على مراكز الفرسان التي لم تُرسِل أحدًا من رجالها لرودس أثناء الحصار[135]، وهو يُحقِّق بذلك فائدتين: الأولى هي توفير المال، والثانية فرض نوعٍ من العقاب على أولئك الذين لم يُبرزوا نشاطًا كافيًا في نصرة الفرسان في رودس.
وهكذا استطاع الفرسان توفير المال اللازم لإعادة تحصين رودس، ومِنْ ثَمَّ بدأ العمل الفوري في ذلك في السنة نفسها التي رُفِع فيها الحصار عن الجزيرة.
كان هذا هو جهدهم على المستوى السياسي والاقتصادي، أمَّا التجديدات التي قاموا بها في المجال العسكري فكانت وافرة، فكان منها على سبيل المثال تحويل برج سان نيكولاس الذي كان أكثر الأبراج تعرُّضًا للدمار، إلى قلعةٍ كاملة وليس مجرَّد برج؛ وذلك بعد أن تبيَّن للفرسان قيمته القصوى في الدِّفاع عن المدينة[136]، وكان منها أيضًا إلغاء البوَّابات، وتحويلها إلى معاقل «Bastions»، وذلك لزيادة حصانتها[137]، كما أصلح الفرسان برج إيطاليا إصلاحًا كاملًا، وكذلك منطقة الحي اليهودي التي تعرَّضت للدمار الشامل أثناء قصف اليوم الأخير من أيَّام المعارك، وقد ترك الفرسان بعض الصخور التي قذفها العثمانيُّون والتصقت بالجدار في مكانها، وذلك للتذكير الدائم بهذا الحصار[138]. استكمل الفرسان أيضًا هدم كنيسة سان أنتوني St. Anthony، والموجودة شمال غرب المدينة، وتحديدًا غرب ميناء ماندراكي، وذلك لإدراكهم خطورة استخدامها من قِبَل العثمانيِّين مستقبلًا في حصارٍ قادم؛ فهذه الكنيسة تُشرف على الميناء، ويُمكن تثبيت مدافع بها لقصف برج سان نيكولاس، أو على الأقل يُمكن أن تُستخدم للحماية من القصف المضادِّ القادم من المدينة[139].
هذه هي الأعمال التي قام بها فرسان القديس يوحنا بعد رحيل الجيش العثماني، ولا شَكَّ أنَّها أعمالٌ كثيرة بُذِل فيها جهدٌ كبير، وحقَّقت نجاحاتٍ في أكثر من مجال، سواءٌ على المستوى السياسي، أم الاقتصادي، أم العسكري، ولكن يبقى أهمُّ أعمالهم، والسبب في نجاح بقيَّة الأعمال، وهو نجاحهم في الشِّقِّ الإعلامي والدَّعائي؛ فقد نجح الفرسان في «التسويق» لأنفسهم، بل نجحوا في جعل المسيحيين في أوروبا بكاملها يشعرون بأهميَّتهم وقيمة وجودهم، وفوق ذلك فإنَّ نصارى أوروبا وملوكها صاروا يتعاملون مع فرسان القديس يوحنا كجزءٍ منهم يقوم بالدفاع عن مقدِّمتهم وحدودهم مع المسلمين، وليس مجرَّد جزيرة نصرانيَّة تحتاج إلى مساعدةٍ أو نصرة، فهذا «التبنِّي» لقضيَّة فرسان القديس يوحنا كان من أعظم مكاسبهم بعد الصراع، ولم يكن هذا ليحدث لولا الجهد الإعلامي الضخم الذي قاموا به قبل، وأثناء، وبعد الحصار العثماني لهم.
كان هذا هو الوضع في رودس وأوروبا بعد حصار الجزيرة..
فماذا عن الوضع الآن في الدولة العثمانيَّة؟!
هذا هو موضوع مقالنا القادم[140].
[1] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society,, 1976, vol. 2, p. 343.
[2] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press,, 1978, p. 390.
[3] Patrick Balfour Baron The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire [Book]. - London : Cape, 1977, p. 137.
[4] فريد، 1981م صفحة 176.
[5] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 155.
[6] Brockman Eric The two sieges of Rhodes, 1480-1522 [Book]. - Michigar, USA : J. Murray, 1969, p. 43.
[7] Freely, 2009, p. 156.
[8] Nossov Konstantin The Fortress of Rhodes 1309–1522 [Book]. - Oxford, UK : Osprey Publishing, 2010, p. 47.
[9] Setton, 1976, vol. 2, p. 352.
[10] Freely, 2009, p. 156.
[11] Setton, 1976, vol. 2, p. 353.
[12] Freely, 2009, p. 156.
[13] Nossov, 2010, p. 16.
[14] Freely, 2009, p. 157.
[15] Smmartino Peter and Roberts William Sicily: An Informal History [Book]. - USA : cornwall, Books, cranbury, NJ, et al., 1992, p. 84.
[16] Freely, 2009, p. 157.
[17] Setton, 1976, vol. 2, p. 353.
[18] Nossov, 2010, p. 51.
[19] Freely, 2009, p. 157.
[20] Rogerson Barnaby The Last Crusaders [Book]. - Boston, USA : little, brown, and compan, 2009, p. 107.
[21] Nossov, 2010, p. 51.
[22] Freely, 2009, p. 157.
[23] Nossov, 2010, p. 51.
[24] Rogerson, 2009, p. 107.
[25] Brockman, 1969, p. 78.
[26] Setton, 1976, vol. 2, p. 354.
[27] Nossov, 2010, p. 52.
[28] Rogerson, 2009, p. 107.
[29] Setton, 1976, vol. 2, p. 354.
[30] Rogerson, 2009, p. 107.
[31] Setton, 1976, vol. 2, p. 354.
[32] Freely, 2009, p. 157.
[33] خليفة، 2017 صفحة 73.
[34] Freely, 2009, p. 157.
[35] Nossov, 2010, p. 56.
[36] Setton, 1976, vol. 2, p. 354.
[37] Drane Augusta Theodosia The Knights of St. John [Book]. - London. England : Burns & oates, 1858, p. 66.
[38] Rogerson, 2009, p. 107.
[39] Freely, 2009, pp. 159-160.
[40] Brockman, 1969, p. 82.
[41] Lantschner Patrick The Logic of Political Conflict in Medieval Cities [Book]. - New york, USA : oxford university press, 2015, p. 171.
[42] Setton, 1976, vol. 2, p. 355.
[43] Pastor Ludwig Freiherr The History of the Popes, from the Close of the Middle Ages [Book]. - London : Kegan paul, 1891, vol. 4, p. 320.
[44] Freely, 2009, p. 160.
[45] Setton, 1976, vol. 2, p. 356.
[46] Freely, 2009, p. 160.
[47] Setton, 1976, vol. 2, p. 356.
[48] Setton, 1976, vol. 2, p. 355.
[49] Freely, 2009, p. 160.
[50] Setton, 1976, vol. 2, p. 340.
[51] انظر ص PAGEREF إلىروما \h 668.
[52] Vann Theresa M and Kagay Donald J Hospitaller Piety and Crusader Propaganda [Book]. - England : Ashgate, Surrey., 2015, p. 40.
[53] Babinger, 1978, p. 398.
[54] Freely, 2009, p. 157.
[55] Setton, 1976, vol. 2, p. 354.
[56] Drane, 1858, p. 77.
[57] Setton, 1976, vol. 2, p. 354.
[58] Brockman, 1969, p. 80.
[59] Freely, 2009, p. 159.
[60] Chambers Chambers's Encyclopædia: A Dictionary of Universal Knowledge [Book]. - London, UK : w.& R. chambers, 1897, vol.3, p. 693.
[61] Vann, et al., 2015, p. 265.
[62] Setton, 1976, vol. 2, p. 358.
[63] Nicholson Helen J The Crusades [Book]. - Westport, CT, USA : Greenwood press, 2004, p. 164.
[64] Setton, 1976, vol. 2, pp. 357-358.
[65] خليفة، 2017م صفحة 73.
[66] Creasy Edward Shepherd History of the Ottoman Turks [Book]. - London, uk : R. Bentley, 1854, pp. 149-150.
[67] سرهنك، 1895م صفحة 1/518.
[68] Kollias Ēlias The Knights of Rhodes; The Palace and the City [Book]. - Athens, Greece : Ekdotike Athenon, 2005, pp. 46-48.
[69] Purton Peter Fraser A History of the Late Medieval Siege, 1200-1500 [Book]. - woodbridge, uk : The Boydell press, 2010, p. 383.
[70] Setton, 1976, vol. 2, p. 358.
[71] Freely, 2009, p. 160.
[72] Drane, 1858, p. 79.
[73] Porter Whitworth A history of the Knights of Malta [Book]. - New York, USA : combridge university press, 2013, pp. 375-376.
[74] Setton, 1976, vol. 2, p. 358.
[75] Freely, 2009, p. 161.
[76] Drane, 1858, p. 80.
[77] Freely, 2009, p. 161.
[78] Setton, 1976, vol. 2, p. 359.
[79] Babinger, 1978, p. 399.
[80] أوزتونا، 1988م صفحة 1/174.
[81] غزالة، 1929 صفحة 20.
[82] Setton, 1975, vol. 3, p. 325.
[83] Rogerson, 2009, p. 108.
[84] Housley Norman Reconfiguring the Fifteenth-Century Crusade [Book]. - London, UK : Palgrave Macmillan, 2017, p. 143.
[85] Setton, 1976, vol. 2, p. 359.
[86] Freely, 2009, p. 162.
[87] Lowry Heath W. The Nature of the Early Ottoman State [Book]. - USA : State University of New York Press, Albany, 2003, p. 122.
[88] İnalcık, 1991, vol. 6, p. 1025.
[89] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc, 2001, p. 62.
[90] المولى خسرو، 1874م صفحة 1/ 285.
[91] ابن هبيرة، 2002م صفحة 2/306.
[92] القنوجي، 2003م صفحة 3/456.
[93] الكاساني، 1986م صفحة 7/116.
[94] القرافي، 1994م صفحة 3/432.
[95] النووي، 1991م صفحة 6/354.
[96] ابن قدامة، 1968م الصفحات 6/453-465.
[97] الكاساني، 1986م صفحة 7/115.
[98] الشربيني، 1994م صفحة 4/164.
[99] القنوجي، 2003م صفحة 3/460.
[100] Housley, 2017, p. 143.
[101] Vann, et al., 2015, p. 42.
[102] Setton, 1976, vol. 2, p. 359.
[103] Vann, et al., 2015, p. 43.
[104] Kraye Jill The Cambridge Companion to Renaissance Humanism [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 1996, p. 51.
[105] Vann, et al., 2015, p. 47.
[106] Hunyadi Zsolt, Laszlovszky József and Studies Central European University. Dept. of Medieval The Crusades and the Military Orders: Expanding the Frontiers of Medieval Latin Christianity [Book]. - [s.l.] : Central European University Press., 2001, pp. 115-116.
[107] West, et al., 1895, p. xix.
[108] Hunyadi, et al., 2001, p. 116.
[109] Mallia-Milanes Victor The Military Orders: History and Heritage, [Book]. - USA : Ashgate, Burlington, TV, 2008, vol. 3, p. 245.
[110] Freely, 2009, p. 162.
[111] Hunyadi, et al., 2001, pp. 114-116.
[112] Parsons Reabin New Catholic world [Journal]. - NewYork : paulist fathers press, 1894. - A Glance at the Soldier-Monks : Vol. 59., pp. 502-521.
[113] Porter, 2013, p. 361.
[114] Freely, 2009, p. 161.
[115] Drane, 1858, p. 64.
[116] Mallia-Milanes, 2008, vol. 3, p. 251.
[117] Setton, 1976, vol. 2, p. 359.
[118] Porter, 2013, p. 381.
[119] Housley, 2017, p. 134.
[120] Setton, 1976, vol. 2, pp. 359-360.
[121] Nossov, 2010, p. 53.
[122] Setton, 1976, vol. 2, p. 361.
[123] Mallia-Milanes, 2008, vol. 3, p. 245.
[124] Setton, 1976, vol. 2, p. 361.
[125] Vann, et al., 2015, p. 42.
[126] Nossov, 2010, p. 53.
[127] Drane, 1858, p. 83.
[128] Setton, 1976, vol. 2, p. 362.
[129] Vann, et al., 2015, p. 47.
[130] Setton, 1976, vol. 2, p. 361.
[131] Vann, et al., 2015, p. 47.
[132] Jensen Janus Møller Denmark and the Crusades, 1400-1650 [Book]. - Boston, USA : Brill, 2007, p. 131.
[133] Philippides Marios Mehmed II the Conqueror and the Fall of the Franco-Byzantine Levant to the Ottoman Turks [Book]. - Arizona, USA : ACMRS, 2007, p. 275.
[134] Hunyadi, et al., 2001, p. 114.
[135] Vann, et al., 2015, p. 42.
[136] Nossov, 2010, p. 39.
[137] Vann, et al., 2015, p. 41.
[138] Nossov, 2010, p. 56.
[139] Setton, 1976, vol. 2, p. 361.
[140] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 735- 761.
التعليقات
إرسال تعليقك