التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في سنة 1480م وصل الأمر السلطاني لرئيس الأسطول العثماني، بالتحرُّك بأسطوله إلى ساحل إيطاليا الشرقي، فلماذا أصدر السلطان محمد الفاتح هذا القرار؟
لا شَكَّ أنَّ حزن السلطان الفاتح لفشل حملة رودس كان كبيرًا، خاصَّةً أنَّ الخسائر في الأرواح والأموال والسلاح كانت جسيمة، فضلًا عن خسارة الوقت، وهو ثمينٌ للغاية؛ لأنَّ الجيوش في هذه الحقبة الزمنيَّة من التاريخ كانت لا تُقاتل عادةً إلَّا في شهور الصيف، ومعنى انقضاء شهر أغسطس دون تحقيق نتيجة إيجابيَّة في مسألة ما أنَّ الدولة ستنتظر عامًا كاملًا حتى تحسم أمرها فيها، وهذا كله يُمثِّل عبئًا كبيرًا على الجيش والحكومة والشعب بكامله.
كان تقويم الفاتح للأزمة أنَّ هناك خطأً إداريًّا وقياديًّا من مسيح باشا، وأنَّ الإمكانات التي كانت معه كانت تسمح بفتح المدينة لو أحسن القائد استغلالها، ولهذا فقد حمَّل الفاتح قائدَ الأسطول المسئوليَّة، وعزله من منصبه رئيسًا للأسطول العثماني في بحر إيجة، بل أنزله رتبةً في الوظيفة العسكريَّة، وذلك بتحويله من وزيرٍ إلى لواء[1]، ومع ذلك يبدو أنَّ الفاتح كان يعذره إلى حدٍّ ما، لعلَّه بسبب أنَّ المعلومات التي جاءت بها المخابرات كانت قديمةً وغير صالحة لمثل هذه الحملة، وهذا واجب الدولة، وليس من اختصاص مسيح باشا نفسه، ولهذا فإنَّه لم يُعفِه تمامًا من أيِّ مهمَّة؛ إنَّما جعله محافظًا لولاية جاليبولي[2]، وهو منصب وإن كان أقلَّ من منصبه الأوَّل فإنَّه مهمٌّ كذلك.
كان من المتوقَّع أن يبحث الفاتح مسألة رودس، وكيف يُمكن التعامل مع المتغيِّرات الجديدة، لولا أنه كان منشغلًا للغاية في هذا التوقيت -الذي عاد فيه الأسطول- بالجيش العثماني الذي كان قد أرسله قبل ذلك بشهرٍ تقريبًا إلى إيطاليا، وقصَّة هذا الجيش مهمَّة، ولها جذورها المتشعِّبة، وقد تركنا الحديث عنها في وقت حدوثها لكيلا نفقد تسلسل الأحداث في حصار رودس، وحتى نستوعب أطراف القصَّة فإنَّنا سنعود إلى الوراء قليلًا.
لقد وصل الأمر السلطاني لكديك أحمد باشا رئيس الأسطول العثماني، والمتمركز في مدينة ڤلور الألبانيَّة على ساحل الأدرياتيكي، يوم 26 يوليو 1480م، بالتحرُّك بأسطوله إلى ساحل إيطاليا الشرقي، والسيطرة على مركزٍ بحريٍّ فيها.
لماذا صدر هذا القرار بينما الوضع في رودس آنذاك ما زال مضطربًا؟
ليست هناك إجابةٌ صريحةٌ في الروايات التاريخيَّة على هذا السؤال، بمعنى أنَّه ليس هناك تبريرٌ واضحٌ من كلام السلطان أو القادة، أو حتى المؤرِّخين المعاصرين، يُفسِّر لماذا فتح السلطان جبهتين في آنٍ واحد: إحداهما في رودس، والأخرى في إيطاليا. ولذلك لتفسير هذا القرار سنلجأ إلى التحليل المنطقي، والمبنيِّ على تسلسل الأحداث في هذه الفترة..
يحتاج الأمر السلطاني إلى حوالي أسبوعٍ ليصل من إسطنبول إلى مدينة ڤلور على الأدرياتيكي الألباني (أكثر من خمسمائة كيلو متر)، فمعنى هذا أنَّ السلطان الفاتح أصدر أمره في يوم 19 أو 20 يوليو للأسطول العثماني بالتحرُّك إلى إيطاليا، وهذا يعني أنَّه قد جاءته أخبارٌ في هذه الفترة جعلته يأخذ هذا القرار مضطرًّا؛ لأنَّ فتْح جبهتين متباعدتين وعسيرتين كهاتين الجبهتين لا يكون إلَّا اضطرارًا، فما هذه الأخبار التي وصلته؟
بتحليل زمن وصول الرسائل نجد أنَّ الرسالة تصل من رودس إلى إسطنبول في حوالي أسبوع، بينما تصل من روما إلى إسطنبول في فترةٍ تتراوح بين أسبوعين إلى ثلاثة، فماذا وصل من هاتين المنطقتين في هذه الفترة؟
بدراسة أحداث رودس نجد أنَّ أهمَّ الأحداث التي جرت هناك قبل أسبوع من يوم 19 يوليو (أي يوم اتِّخاذ قرار غزو إيطاليا) هو فشل الأسطول العثماني في اقتحام برج سان نيكولاس، وفقد سبعمائة جنديٍّ في المحاولة، والسعي إلى محاولة الجسر العائم، التي لم تكن قد تمت، وتحمل في طياتها خطورة كبيرة. هذا يعني أنَّ الأخبار التي تصل إلى السلطان من رودس تُفيد تعثُّر خطوات الجيش العثماني نسبيًّا، كما لا شَكَّ قد وصلته الأخبار بأنَّ التحصينات التي شاهدها العثمانيُّون على أرض الواقع هي أكبر بكثيرٍ من التي وصلتهم عن طريق المخابرات، ممَّا قد يعني أنَّ الحملة العسكريَّة قد تتطلَّب وقتًا أطول من المتوقَّع، وجهدًا وطاقات أكبر من المحسوب.
هذا بالنسبة إلى أخبار رودس..
أمَّا الأخبار المهمَّة الأخرى التي يُمكن أن تكون قد وصلت إلى الفاتح في هذه الفترة فهي أخبار روما؛ فقد عقد البابا اجتماعًا موسَّعًا في يوم 3 يوليو مع سفراء الإمارات الإيطاليَّة، وأهمها نابولي، وميلانو، وفلورنسا، وكذلك بقيَّة الإمارات الإيطاليَّة، وفي هذا الاجتماع تقرَّر فرض ضريبة الدفاع عن رودس على الجميع، وهذه الضريبة ستتجه لتجهيز ما يقرب من خمسين سفينةً عسكريَّةً لمساعدة رودس، كما أنَّه تقرَّر في الاجتماع أن يُجهِّز البابا سفينتين على وجه السرعة، وأن يُجهِّز ملك نابولي فرديناند الأول سفينتين كذلك.
لا شَكَّ أنَّ الفاتح عَلِمَ بهذا الاجتماع الموسَّع بعد انتهائه مباشرة؛ أي وصلته أخبار هذا الاستعداد العسكري في يوم 17 أو 18 يوليو.
بتجميع أطراف القصَّة مع بعضها البعض نجد أنَّ الفاتح الذي وصلته أخبار صعوبة الفتح في رودس يُدرك أنَّه في حال وصول مثل هذا المدد العسكري الإيطالي، فإنَّ فتح رودس سيُصبح أمرًا مستحيلًا تمامًا، بل قد يهلك الأسطول العثماني هناك، وأكثر من ذلك فقد تُؤثِّر هذه الأحداث المتلاحقة في البندقية فتنقض عهدها مع الدولة العثمانية، وتُشارك إخوانها النصارى في حرب المسلمين، وعندها ستكون الكارثة ماحقةً على الجيش العثماني!
كان لا بُدَّ من أخذ قرارٍ سريعٍ يُعيد كِفَّة الأمور لصالح العثمانيِّين، ويجعل زمام المبادرة بأيديهم لا بأيدي غيرهم، وكان هذا القرار هو غزو إيطاليا!
ليس هذا القرار إِذَنْ يهدف إلى فتح روما الآن؛ إنَّما يقصد أهدافًا عسكريَّةً آنيَّةً لا يُمكن تأجيلها، وهذه الأهداف العسكريَّة تشمل عدَّة أمور؛ منها منع الإعدادات السريعة التي قرَّر البابا وملك نابولي تجهيزها من الحركة في اتِّجاه رودس، ومنها تشتيت انتباه الإيطاليِّين فينشغلوا سياسيًّا وعسكريًّا بأنفسهم ويتركوا مسألة رودس ولو مؤقَّتًا، ومنها السيطرة على البحر الأدرياتيكي؛ لأنَّ العثمانيِّين لو نجحوا في السيطرة على إحدى المدن في الساحل الشرقي لإيطاليا يكونون قد حازوا السيطرة على مدخل الأدرياتيكي من شرقه وغربه، وهذا يُصَعِّب على أيِّ أسطولٍ غربيٍّ أن يمرَّ من خلال هذا المدخل، ومنها اختبار ردِّ فعل البندقية ومدى التزامها باتِّفاقيَّة السلام، ومنها اتِّخاذ هذه المنطقة التي سيحتلُّونها في إيطاليا كقاعدةٍ يُمكن أن ينطلقوا منها بعد ذلك لحرب نابولي، أو لفتح روما، أو لغزو إيطاليا بكاملها..
هذه هي أهداف الحملة العثمانيَّة على إيطاليا فيما أرى..
وليس فيها في هذه المرحلة فتح روما، ولا حتى غزو مدينة نابولي قاعدة المملكة..
ويدعم هذا الرأي أنَّ القوَّة العسكريَّة البشريَّة التي رصدها الفاتح لهذه الحملة كانت أقلَّ من عشرين ألف مقاتل[3]، وليس من المعقول أنَّه يهدف بهذه القوَّة القليلة أن يفتح معقل النصرانية الأوَّل في العالم، بينما يُوجِّه ما يزيد على سبعين ألف مقاتلٍ إلى رودس.
كما يدعم هذا الرأي ما ذَكَرَته المؤرِّخة الإنجليزيَّة كارولين فينكل Caroline Finkel -وهي صاحبة دراساتٍ متعمِّقةٍ في التاريخ العثماني- من أنَّ السلطان الفاتح قد أعدَّ معسكرًا كبيرًا في العام التالي -أي في عام 1481م- في الأناضول شرق إسطنبول، ويبدو أنَّ هذا المعسكر كان يهدف إلى حرب رودس، ولو كان يهدف إلى فتح روما لاتَّجه غربًا لا شرقًا[4].
ليس معنى هذا أنَّ فتح روما لم يكن في ذهن الفاتح؛ إنَّما نعني الأهداف المرحليَّة للحملة، وعندها سنفهم أنَّ هذا القرار كان حكيمًا وليس متهوِّرًا.
والواقع أنَّ محاولة الفاتح للسيطرة على جنوب إيطاليا لم تكن أمرًا مستغربًا من الناحية السياسيَّة آنذاك؛ فقد كانت الأوساط الأوروبِّيَّة تتحدَّث بشكلٍ عامٍّ عن أحقِّيَّة السلطان الفاتح في حكم ممتلكات الدولة البيزنطيَّة طالما قد أسقطها وامتلكها، بل أنهاها من الوجود، وكانت هذه المنطقة الجنوبيَّة من إيطاليا وخاصَّةً الساحل الشرقي منها، من ممتلكات الدولة البيزنطيَّة لعدَّة قرون، وهي معروفة بأبوليا البيزنطيَّة (Bezantine Apulia)[5]، وأبوليا Apulia هي مقاطعة إيطاليَّة تقع في الجنوب الشرقي من إيطاليا على مساحة تقترب من عشرين ألف كيلو متر مربع (خريطة رقم 19)، وأهم مدنها باري Bari، وبرينديزي Brindisi، وليتشي Lecce، وأوترانتو Otranto، وتارانتو Taranto، وسنلاحظ أنَّ تحرُّكات الفاتح في هذه المرحلة ستكون محدودةً بهذه المنطقة، وكأنَّه يقصد أنَّه حتى هذه اللحظة لا يتوسَّع إلَّا في المناطق التي من «حقِّه» أن يُسيطر عليها كإرثٍ للدولة البيزنطيَّة.
لتأكيد تداول مسألة «أحقِّيَّة» الفاتح في حكم منطقة أبوليا في إيطاليا نتطرَّق إلى معلومةٍ لطيفةٍ خاصَّة بهذه الفترة، وهي خاصَّةٌ بالميدالية التي أهدتها إمارة فلورنسا للسلطان الفاتح بعد أن سلَّمها أحد المتآمرين على حاكمها بعد أن قُبِض عليه في إسطنبول؛ فقد أهدى حاكم فلورنسا لورينزو دي ميدتشي Lorenzo de' Medici هذه الميدالية للفاتح (صورة رقم 11)، وكانت قد صُنِعت في فلورنسا في شهر أبريل أو مايو 1480م تقريبًا[6]؛
أي قبل غزو الفاتح لإيطاليا بثلاثة أو أربعة شهور، وقد كتب على هذه الميدالية: «محمد إمبراطور آسيا، وطرابزون، واليونان العظمى»[7]، وهي باللغة الإيطاليَّة كالآتي:
«MAVMHET ASIE AC TRAPESVNZIS MAGNE QVE GRETIE IMPERAT»، وكلمة «اليونان العظمى» هذه تعني اليونان كلِّها بالإضافة إلى الأجزاء الجنوبيَّة من إيطاليا[8]، وقد اهتمَّت الكثير من الكتب بتحليل هذا المعنى المكتوب على الميدالية، وكذلك بتحليل الرسم الفنِّي الموجود على الناحية الأخرى من هذه الميدالية، ويُمكن مراجعة ما كتبه مؤرِّخ الفنون الأميركي، وأحد أشهر جامعي الميداليات في العالم، استيفين شيهر Stephen Scher في كتابه الفريد عن ميداليات عصر النهضة في أوروبا[9]، وما يهمُّنا في هذا المجال هو أنَّ الميدالية الفلورنسيَّة كانت تعترف بملكية محمد الفاتح لمقاطعة أبوليا، أو بالأجزاء الجنوبيَّة الشرقيَّة من إيطاليا، حتى قبل أن تغزوها الجيوش العثمانيَّة، وذلك على اعتبار أنَّها جزءٌ من الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة التي كانت تضمُّ آسيا الصغرى، وطرابزون، واليونان العظمى، التي تشمل جنوب شرق إيطاليا.
وأكثر من هذا!
لقد كان هناك حديثٌ في أوروبا عن أنَّ محمدًا الفاتح هو القيصر الروماني «Roman Caeser»، الذي سيُعيـــــد حكـــم قســطنــطيــن العظيــــــــم Constantine the Great، الذي يشمل الدولة الرومانيَّة الشرقيَّة والغربيَّة، ويحكم القسطنطينية وروما معًا[10][11].
إِذَنْ لم يكن مستغربًا من الناحية السياسيَّة أن ينزل الفاتح بقوَّاته جنوب إيطاليا، ولكن الذي كان مستغرَبًا حقًّا هو غزو إيطاليا في وقت غزو رودس نفسه، خاصَّةً أنَّ الوجهتين بحريَّتان، ويحتاجان إلى أساطيل قويَّة، وخاصَّة أيضًا أنَّ الوجهتين قويَّتان، وليستا من الجهات مأمونة الجانب في القتال، بالإضافة إلى نقص خبرة الجيوش العثمانيَّة بهذه الأماكن؛ فلم يسبق لجندي عثماني أن حارب فوق أرض رودس قبل هذه الحملة، كما لم يسبق لجندي عثماني أن حارب في جنوب إيطاليا، وهذا ما دعا المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون إلى القول: «إنَّ غزو إيطاليا ورودس معًا كان استعراضًا مخيفًا للقوَّة التركيَّة»[12]!
وكان الاتجاه لغزو جنوب إيطاليا يعني الصدام الأوَّل المباشر في تاريخ الدولة العثمانيَّة مع مملكة نابولي على أرضها، وهو صدامٌ منطقيٌّ ومتوقَّعٌ على الرغم من معاهدات التحالف والسلام التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى، فالتاريخ يشهد أنَّ عداء نابولي للعثمانيِّين كان متواصلًا؛ فقد كان فرديناند الأول ملك نابولي هو الداعم الرئيس، وأحيانًا الوحيد، لإسكندر بك متمرد ألبانيا الشهير[13][14]، الذي دامت حروبه مع الدولة العثمانيَّة خمسًا وعشرين سنةً كاملة، ثم كانت نابولي داعمةً لنبلاء ألبانيا بعد وفاة إسكندر بك، وكانت ملاذًا لكلِّ متمرِّدٍ أراد أن يلجأ إليها هربًا من الجيش العثماني[15]، وفي عام 1472م أقدمت نابولي على الاعتداء على ميناء إزمير العثماني في الأناضول، وذلك بالاشتراك مع الحملة الصليبيَّة التي أخرجها البابا سيكستوس الرابع، التي أحرقت الميناء، وعاثت فسادًا في المناطق التي حوله[16]، ثم عقدت نابولي معاهدة سلام مع الدولة العثمانيَّة، ومع ذلك استقبلت عدوَّها الأمير ليوناردو الثالث أمير الجزر الأيونيَّة، وذلك عام 1479م -أي قبل الغزو بسنة- وذلك بعد هزيمته من العثمانيِّين[17]، وكان هذا نقضًا صريحًا للتحالف بين العثمانيِّين ونابولي، ولقد كان هذا الاستقبال لأمير الجزر الأيونيَّة المحارِب للدولة العثمانيَّة هو السبب الذي أعلنه كديك أحمد باشا كسببٍ مباشرٍ للحرب مع نابولي، وذلك في لقاءٍ بينه وسفير دوقيَّة فيرارا الإيطاليَّة لدى نابولي، نيكولو سادوليتو Niccolò Sadoleto، الذي سيُصبح وسيطًا بين نابولي والدولة العثمانيَّة في عمليَّة تبادل أسرى عام 1481م[18].
يُضاف إلى كلِّ ما سبق ما حدث مؤخَّرًا من مساعدة نابولي لفرسان القديس يوحنا في حربهم ضدَّ العثمانيِّين في رودس، بل بلغ من شدَّة حرص فرديناند الأول ملك نابولي على مساعدة رودس أنَّه لم ينتظر حتى يُعِدَّ سفينةً عسكريَّةً متخصِّصةً كمددٍ للجزيرة؛ إنَّما أسرع بتوجيه سفينةٍ تجاريَّةٍ كانت محمَّلةً بالخمور، ومتَّجهةً إلى أحد الموانئ الأوروبيَّة الغربيَّة، إلى رودس، وذلك بعد تحميلها بالجنود والسلاح[19]، وهذه هي السفينة التي دخلت ميناء رودس بعد اشتباكها مع الأسطول العثماني في 17 أغسطس 1480م[20].
إِذَنْ هذه كلُّها أسبابٌ منطقيَّةٌ تُعطي السلطان الفاتح المسوِّغات الشرعيَّة والقانونيَّة لحرب نابولي في هذا التوقيت..
والواضح أنَّ السلطان لم يكن قلقًا من هذه الحرب، ولا كان متردِّدًا حين قرَّر أن ينزل بهذه القوَّات القليلة في أرض إيطاليا، والسرُّ في ذلك هو معرفته بمدى المشاكل الداخليَّة الكبرى التي تعصف بالعلاقات بين مختلف الإمارات والممالك والجمهوريَّات الإيطاليَّة، ولقد كانت هذه العلاقات معقَّدةً للغاية، وصعبة الفهم إلى حدٍّ بعيد؛ فصديق الأمس هو عدوُّ اليوم، وما أسهل أن تجد الحليف ينقلب على حليفه في حربٍ ضروس؛ فنحن نرى البابا يتحالف مع البندقية ضدَّ نابولي، وفلورنسا، وميلانو، وفي الوقت نفسه نرى نابولي تغزو سيينا التابعة لفلورنسا حليفتها! وبينما نرى البابا يُحالف البندقية نجده شديد الخلاف معها بسبب سلامها مع العثمانيِّين، لكنَّه متحالفٌ معها كرهًا في فرديناند الأول ملك نابولي، ويُمكن مراجعة هذه التشابكات المعقَّدة عند الباحث الأميركي أندرو دون Andrew Dunne[21].
ولم تكن المشكلات السياسيَّة تعصف بالعلاقات الداخليَّة الإيطاليَّة فقط، بل كان البابا سيكستوس الرابع على خلافٍ شديدٍ مع ملك فرنسا القوي لويس الحادي عشر، الذي كان لا يسمح للبابا بإصدار مراسيم كنسيَّة في فرنسا إلَّا بعد موافقة ملكية[22]، وفي الوقت نفسه فإنَّ ملك فرنسا كان على خلافٍ مع ملك نابولي فرديناند الأول، ويُريد أن يضع مكانه أميرًا فرنسيًّا[23]، وليس هذا فقط؛ بل كان ملك أراجون الإسبانيَّة فرديناند الثاني يرى أنَّ فرديناند الأول ملك نابولي لا يستحق هذا المـُلْك؛ لأنَّه ابنٌ غير شرعيٍّ لعمِّ ملك أراجون ألفونسو الخامس ملك أراجون السابق، ولهذا فإنَّ فرديناند الثاني ملك أراجون الحالي كان يُريد إقصاء فرديناند الأول ملك نابولي والاستحواذ على ملكه[24].
هذا كلُّه يكشف عدم استقرار مملكة نابولي في هذا التوقيت، خاصَّةً إذا ما استرجعنا الخلافات الحادَّة بينها والبندقية، أقوى الجمهوريَّات الإيطاليَّة، فهي تكاد تكون في هذه الفترة بلا صديقٍ حقيقي، وهذا الاضطراب كان مكشوفًا للجميع، ولا شَكَّ أنَّه كان دافعًا للسلطان الفاتح للإقدام على غزو جنوب إيطاليا.
وليس معنى هذا أنَّ عمليَّة غزو إيطاليا كانت سهلة أو بعيدة عن التعقيد! بل هي في الواقع جريئة للغاية، بل يُمكن أن يتحقَّق فيها وصف المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول Stephen Turnbull بأنَّها أجرأ حملةٍ في تاريخ محمَّد الفاتح[25]! وليس هذا لأنَّ الفاتح يواجه مملكة نابولي المضطربة؛ إنَّما لعامِلَين آخرين مهمَّين للغاية؛ الأول هو المواجهة المباشرة للقوى الغربيَّة في أرضهم، فقد كانت مواجهات الدولة العثمانيَّة في سابق تاريخها مع القوى الشرقيَّة الأرثوذكسية، مثل الصرب، واليونان، والبلغار، وهي كلُّها أضعف من القوى الغربيَّة المعروفة بصلابة جيوشها، ومواكبتها للتسليح الحديث، ومع أنَّ الدولة العثمانيَّة واجهت بعض القوى الغربيَّة سابقًا في حروبٍ «صليبية» صريحة مثل المواجهة في معركة نيكوبوليس عام 798هـ= 1396م، أو ڤارنا عام 848هـ= 1444م[26]، فإنَّ هذه الحروب كانت في عمق الأراضي العثمانيَّة، وكان على الجيوش الغربيَّة أن تجتاز مسافاتٍ طويلةً لملاقاة العثمانيِّين في أرضٍ لا يعرفونها، أمَّا الآن فالفاتح يأتي بجيشه إلى إيطاليا، وهذا تحدٍّ كبيرٍ قد يأتي بقوَّة أوروبا الغربيَّة كلِّها مجتمعة، كان هذا العامل الأول الذي يُشير إلى جرأة الحملة، أمَّا العامل الثاني فهو الاقتراب من روما والڤاتيكان؛ أي الاقتراب من معقل النصرانية الأوَّل في العالم، وخاصَّةً بعد سقوط القسطنطينية المعقل الثاني للنصرانية في العالم، قبل هذه الحملة بسبعٍ وعشرين سنةً على يد المقاتل نفسه، فهذا صدامٌ خاصٌّ له معانٍ عميقة، فهو -كما صوَّره فرديناند الثاني ملك أراجون- صراع «وجود» (existential) يُهدِّد النصرانية كلَّها[27]، فلهذا فمن المتوقَّع أن يتناسى ملوك أوروبا -أو معظمهم- خلافاتهم مع بعضهم البعض، ويلتفُّوا مجتمعين لهذا التهديد المفزع.
هذه هي الأجواء التي صاحبت حملة كديك أحمد باشا إلى إيطاليا!
جاءت الأوامر إلى الأسطول العثماني في ڤلور الألبانيَّة في 26 يوليو 1480م بالتحرُّك إلى إيطاليا، وكان الجيش على أهبَّة الاستعداد، ولهذا فقد تحرَّك مباشرةً في يوم 27 يوليو ليصل إلى الساحل الشرقي لإيطاليا في 28 يوليو، وكان الأسطول مكوَّنًا من أربعين سفينةً كبيرة، واثنتين وخمسين سفينةً صغيرة، بالإضافة إلى أربعين سفينة نقل[28].
نزل الأسطول العثماني عند مدينة أوترانتو Otranto جنوب شرق إيطاليا، في المنطقة التي يُطلقون عليها «كعب الحذاء الإيطالي» «Heel of the Italian boot»، ويرى بعض المؤرخين أنَّ المدينة المقصودة كانت برينديزي Brindisi، ولكن الرياح دفعت كديك أحمد باشا جنوبًا إلى مدينة أوترانتو حيث تم الإنزال[29][30]، ويرى آخرون أنَّ أوترانتو كانت مقصودة لأنَّها أضعف من برينديزي[31] وهذا أوقع في رأيي؛ لأنَّ تحرُّكات العثمانيِّين في منطقة أوترانتو كانت مدروسةً ومفهومة، ولا أتوقَّع أن يكونوا قد نزلوا بها عن طريق المصادفة.
لعلَّ القارئ يُلاحظ أنَّ إنزال الجيش العثماني في مدينة أوترانتو الإيطاليَّة كان في يوم 28 يوليو 1480م، وهو اليوم نفسه الذي كان الجيش العثماني في رودس يخوض معركته الأخيرة عند الحي اليهودي محاولًا اقتحام المدينة، وهو اليوم الذي شهد كارثةً عسكريَّةً هناك أدَّت إلى إنهاء الحصار برمَّته، فهذه من أعاجيب التوافقات؛ إذ صاحب هذا الفشل في رودس نجاحٌ في إنزال جيشٍ عثمانيٍّ لأوَّل مرَّةٍ في التاريخ في إيطاليا، والله غالبٌ على أمره، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون!
أنزل كديك أحمد باشا ثمانية عشر ألف جنديٍّ من المشاة بالإضافة إلى ألفٍ من الفرسان[32]، أو سبعمائة فارس[33]، ولم يجد الجيش العثماني أيَّ مقاومةٍ عند إنزاله لجنوده أو معدَّاته[34].
وجد الجيش العثماني أنَّ جميع مَن بالمنطقة قد دخلوا أسوار مدينة أوترانتو وقلعتها، والواقع أنَّها قلعةٌ غير حصينةٍ بالدرجة الكافية، وكذلك الأسوار[35]؛ فالمدينة صغيرة، وحاميتها قليلة، ولهذا كانت مهمَّة الجيش العثماني سهلة، ومع ذلك فقد أرسل كديك أحمد باشا مبعوثًا من طرفه يتكلَّم الإيطاليَّة ليعرض على المدينة التسليم مع حمايةٍ كاملةٍ للأرواح والممتلكات، ولكن رفضت المدينة العرض العثماني[36].
نصب كديك أحمد باشا سبعة مدافع كبرى حول المدينة، وبدأ في قصف المدينة، وكان من الواضح أنَّ المدافع العثمانيَّة ستُسْقِط الأسوار في وقتٍ قصير[37].
تحرَّك على الفور أربعة فرسان إيطاليُّون من أوترانتو إلى مدينة نابولي، قاعدة المملكة، ليحملوا الخبر إلى فرديناند الأول الملك، فوصلوا أوَّل أغسطس 1480م، أي بعد ثلاثة أيَّام[38]، فالمسافة تزيد على ثلاثمائة وخمسين كيلو مترًا من أوترانتو إلى نابولي، ولم يكن الملك فقط هو الذي عرف بالخبر الصادم، بل عرفه كذلك كافَّة السفراء الإيطاليين لدى نابولي، ومِنْ ثَمَّ راسل الجميعُ ملوكَهم وأمراءهم، وانتشر الخبر في إيطاليا كلِّها خلال أيَّام.
لقد قامت الدنيا في شبه الجزيرة الإيطاليَّة ولم تقعد!
ولنراجع كلمات كينيث سيتون وهو يصف التساؤلات التي دارت في أذهان زعماء إيطاليا عندما وصلهم الخبر.. يقول سيتون: «صُدِمَت أوروبا، وارتعبت إيطاليا، وتساءل الجميع: ما الذي يُخفيه المستقبل؟ هل هذه مجرَّد حملة ضدَّ فرديناند الأول ملك نابولي، وحليف إسكندر بك السابق؟ أم أنَّها مقدِّمة لحملة واسعة النطاق لغزو إيطاليا؟ إنَّه يُقال: إنَّ محمدًا الفاتح يرى نفسه فاتحًا للعالم، كالإسكندر الأكبر، وقيصر. إنَّ المعاصرين لا يجدون الوقت الكافي للإجابة عن هذه الأسئلة»[39]!
كان أشد القوم رعبًا هما البابا وملك نابولي؛ فهما المقصودان على الأغلب من هذه الحملة المفاجئة، ولهذا كان ردَّا فعلهما عصبيًّا للغاية، وخارج عن حدود المنطق!
أمَّا فرديناند الأول فكان ردُّ فعله الأوَّل أن أرسل إلى البابا في روما يُخبره أنَّه يحتاج إلى مساعدةٍ منه، ومن كافَّة الكيانات الإيطاليَّة، وإلَّا فإنَّه سيقبل كلَّ شروط الفاتح، ويُسلِّم له البلاد، بل يشترك معه في تدمير بقيَّة الإمارات الإيطاليَّة[40][41]!
كان من الواضح أنَّ هذا الردَّ المتهوِّر هو من جرَّاء الصدمة الأولى!
وأمَّا البابا فكان ردُّ فعله انفعاليًّا بصورةٍ أكبر، فكان أوَّل ما خطر بذهنه هو الهروب من إيطاليا، والذهاب إلى مدينة أڤينون Avignon في جنوب شرق فرنسا[42]، وهي مدينةٌ صغيرةٌ تقع على مسافة خمسة وثمانين كيلو مترًا تقريبًا شمال غرب مرسيليا Marseille، والسرُّ في اختيار هذه المدينة أنَّها كانت مملوكة للباباويَّة عن طريق الشراء منذ عام 1348م، حين اشتراها البابا كليمنت السادس Clement VI من ملكة نابولي چوانا Queen Joanna، المالكة لحقوق هذه المدينة، وكانت المدينة مقرًّا للباباويَّة ما يقرب من ستين سنةً في القرن الرابع عشر[43].
لقد كانت الفكرة الأولى التي جاءت في ذهن البابا هي الهروب! ولم يكن هذا أمرًا يستحي منه فيُخفيه؛ إنَّما أعلنه بشكلٍ عجيب، حتى إنَّ معظم أهل روما فكروا بالهروب معه من المدينة[44]!
ولنقرأ ما كتبه سيجيسموندو دي كونتي Sigismondo de' Conti، سكرتير البابا تعليقًا على موقف البابا: «في روما كان الإنذار عظيمًا، وكأنَّ العدوَّ يقف على أسوار المدينة. تملَّك الرعب من عقول الجميع حتى إنَّ البابا خطَّط للهروب! كنتُ في ذلك الوقت -والكلام لسيجيسموندو- في البلاد المنخفضة (الآن هولندا وبلچيكا) في جناح مبعوث البابا الكاردينال چيليانو Giuliano، وأتذكر أنَّه كان مكلَّفًا بإعداد المطلوب في أڤينون لقدوم سيكستوس الرابع، الذي قرَّر اللجوء للفرنسيِّين في حال تفاقم الوضع في إيطاليا»[45]!
ولاحظ أنَّ أڤينون، مع كونها مملوكة للباباويَّة، إلَّا أنَّها في داخل الأراضي الفرنسيَّة، وتخضع لحماية ملك فرنسا لويس الحادي عشر، وقد مرَّ بنا الحديث عن الخلاف الشديد الذي كان بين البابا وملك فرنسا، وهذا ما جعل سكرتير البابا يُعلِّق على الأمر باستهجان، ويقول: «قرَّر اللجوء للفرنسيِّين»، وهذا يكشف مدى الجزع الذي وصل إليه البابا، حتى فكَّر في الهروب، ولو إلى حماية أحد أعدائه!
هذه كانت الصدمة الأولى!
ولا شَكَّ أنَّ فهم هذا الاضطراب الكبير سيكون أوضح إذا ما تذكَّرنا أنَّ هناك حالةً من الاحتقان الشديد في إيطاليا نتيجة حصار رودس، واحتمال هلاك فرسان القديس يوحنا، ولم يكن الإيطاليُّون قد علموا بهزيمة العثمانيِّين في رودس، ولهذا فإنَّ هذا الموقف العصبي سواءٌ من البابا أم من ملك نابولي له أسبابه المفزعة..
ومع ذلك، فقد هدأت نفوس زعماء الكاثوليكيَّة بعد انقضاء عدَّة ساعات، وبدءوا في التفكير المنطقي، فليس من المعقول أن يكون طريق العثمانيِّين إلى نابولي وروما مفروشًا بالورود، وطاقة أوروبا الغربيَّة على الحرب ليست ضعيفة، ثم إنَّ هناك حلفاء وسط أوروبا الأقوياء؛ وأهمهم ملك المجر ماتياس، وإمبراطور النمسا فريدريك الثالث.
كان أوَّل قرارات ملك نابولي هو استدعاء ابنه ألفونسو حاكم كالابريا Alfonso of Calabria، وكان في هذا الوقت يغزو سيينا Siena التابعة لفلورنسا، وقد كتب له هذا الاستدعاء في ليلة 2 أغسطس؛ أي بعد معرفته بخبر حصار أوترانتو بساعات[46]. لقد قرَّر الملك أن يُجهِّز قوَّاته، ويستعدَّ للصدام.
أمَّا البابا فقد استرجع قواه، وقرَّر المقاومة، وكانت أولى خطواته في المقاومة تكمن في دعم ملك نابولي، مع شدَّة كراهيَّته له، ولكن ليس هناك سبيلٌ آخر؛ لأنَّ العثمانيِّين نزلوا في أوترانتو التابعة لنابولي، ولن يكون هناك أحدٌ أحرص على دفعهم من ملك نابولي، فهو بذلك خطُّ الدفاع الأوَّل عن إيطاليا كلِّها، ومِنْ ثَمَّ قرَّر أن يُرسل له مالًا كثيرًا ليتمكَّن من شراء السلاح والرجال اللازمين للقتال، ولنقرأ مرَّةً أخرى ما كتبه سيجيسموندو دي كونتي وهو يُصوِّر الحالة النفسيَّة والصراع الداخلي عند البابا، وهو يعزم على إرسال المال للرجل الذي يكرهه! يقول سيجيسموندو: «كان من الممكن لسيكستوس الرابع أن ينتظر بلا مبالاة عظيمة لأيِّ مصائب أو خسائر، تحدث لحليفه (عديم الإيمان) فرديناند الأول! لولا أنَّ عدوَّه كان السلطان الفاتح! لقد أصبحت المسألة مختلفة الآن؛ لأنَّ العدو المشترك للنصرانية -يعني الفاتح- وضع قدمه بالفعل على الأرض الإيطاليَّة، وهذا يُنذر بخرابٍ تامٍّ للباباويَّة وروما ما لم يُطْرَدْ في الحال، ولهذا قرَّر البابا – والكلام لسيجيسموندو- أن يُرسل كلَّ ما يستطيعه من مالٍ في الحال، وأن يسمح بجباية ضرائب إضافيَّة من كلِّ كنائس إيطاليا، وأن يهب الغفران لكلِّ من قاتل العثمانيِّين تحت راية الصليب»[47].
دعمت هذه الأموال ملك نابولي، ومع ذلك فقد كان يسعى للحصول على المال من أيِّ مكان، ولهذا فقد اقترض من ثمانين إلى مائة ألف دوكا ذهبيَّة، بالإضافة إلى المال الذي جاءه من عند البابا، وذلك ليتمكَّن من تحضير التجهيزات المناسبة للحرب[48].
في ظلِّ هذه الأجواء المرعبة اضطرَّت كلُّ الكيانات الإيطاليَّة، من ممالك، وإمارات، وجمهوريات، والباباوية، أن ينظروا جميعًا بعين الاستعطاف إلى جمهوريَّة البندقية! لقد كانت معظم الكيانات السياسيَّة في إيطاليا معادية للبندقيَّة في هذا التوقيت، ومع ذلك فهم يُدركون أنَّ الكفَّة لن تكون في صالحهم في حرب العثمانيِّين إلَّا إذا دعمتهم البندقية؛ فهي أقوى الكيانات الإيطاليَّة بلا جدال، وصاحبة أكبر أسطولٍ في العالم آنذاك، وهي صاحبة الخبرة الطويلة في الحرب مع الدولة العثمانيَّة، وهي المالكة لعددٍ كبيرٍ من الموانئ والقلاع والجزر القريبة من الدولة العثمانيَّة، بل الموجودة في بعض المناطق على أرضها، فهي يُمكن أن تستخدم هذه النقاط في تشتيت انتباه الدولة العثمانيَّة عن إيطاليا، وهي الدولة التي ستكون ضربتها مفاجِئة للعثمانيِّين لكونها عاقدة لاتفاقيَّة سلامٍ معها، وفوق ذلك فهي أغنى الدول الإيطاليَّة، بل لعلَّها من أغنى دول العالم، ويُمكن بأموالها استقطاب المرتزقة المحترفين، وشراء الأسلحة الحديثة والبارود، ناهيك عن علاقاتها الدبلوماسيَّة مع دولٍ عالميَّةٍ كثيرةٍ في الشرق والغرب، ومع النصارى والمسلمين، ممَّا يُمكن أن يُؤثِّر في الدولة العثمانيَّة. هذه الخلفيَّات كلُّها جعلت الإيطاليِّين والبابا في ظلِّ هذه الأزمة الطاحنة يدوسون على كبريائهم، ويتقدَّمون للبندقيَّة بطلب المساعدة!
ماذا كان ردُّ البندقية؟!
لقد جاء الرد مُخيِّبًا لكلِّ توقُّعات النصارى!
لقد رفضت البندقية رفضًا قاطعًا المشاركة في أيِّ نشاطٍ عدائيٍّ ضدَّ الدولة العثمانيَّة؛ لا بالسلاح، ولا بالرجال، ولا بالمال، وأصرَّت على سياسة الحياد، التي فسَّرها كثير من المعاصرين على أنَّها تشجيعٌ ضمنيٌّ للدولة العثمانيَّة على إكمال المسيرة في احتلال إيطاليا[49]!
كان الذي يشغل البندقية في المقام الأوَّل هو استمرارها في الحفاظ على ممتلكاتها في الشرق، وكذلك استمرار عمليَّة التجارة مع الدولة العثمانيَّة والشرق دون مخاطرة، متذكرةً على الدوام الثمن الباهظ الذي دفعته في حرب الستَّة عشر عامًا مع العثمانيِّين[50].
ولمـَّا كان هناك تلويحٌ بمسألة الدفاع عن النصرانية، وكذلك بمسألة الأمان المشترك لأوروبا بشكلٍ عامٍّ، أرسلت البندقية رسالةً حاسمة للبابا عن طريق سفيرها في روما زكريا باربارو Zaccaria Barbaro قالت فيها: «لقد قاتلت البندقية الأتراك منفردةً سبعة عشر عامًا متتالية، مع تضحيَّاتٍ لا تُصدَّق في الرجال والأموال، ولقد أدَّت البندقية ما عليها تجاه العقيدة، والحرية، والأمان لأوروبا، وكان هذا مُنْهِكًا للغاية، وهي لا تستطيع أن تُقَدِّم شيئًا جديدًا، ولقد نادت البندقية قبل ذلك زعماء النصرانية نداءات محمومة لمساعدتها على الحرب الطويلة المرعبة وغير المتوازنة مع الأتراك لكن لم يستجب منهم أحد. لقد قاتلت البندقية منفردة في الفريولي، ودالماسيا، وألبانيا، واليونان، واستنزفت الحرب كلَّ مواردها، وهذه المرَّة -والكلام لحكومة البندقية- لا تستطيع البندقية، ولا ترغب، في الدخول في صراعٍ مع الأتراك كاملي القوَّة»[51]!
ثم إنَّ البندقية أرادت أن تُغلق الباب تمامًا على أيِّ طلبٍ قد يُسبِّب لها إحراجًا أو انتقاصًا من كيانها الكبير، فأرسلت إلى سفيرها في روما تأمره «بالغياب» أصلًا عن أيِّ اجتماعٍ يشمل سفراء الدول ويهدف إلى الصدام مع الأتراك[52].
ولم يكتفِ زكريا باربارو -سفير البندقية في روما- بالغياب عن اجتماعات السفراء الخاصَّة بمقاومة العثمانيِّين؛ إنَّما قال كلمةً عجيبةً تُبرز مدى العداء الذي كانت تُكِنُّه البندقية لمملكة نابولي! قال زكريا: «ينبغي للإيطاليِّين أن يكونوا شاكرين للأتراك لأنَّهم أوقفوا فرديناند الأول ملك نابولي. لقد أوشك جلالته أن يكون سيِّدًا على سيينا Siena (التابعة لفلورنسا)، وكان يُحاول أن يجعل نفسه ملكًا على كلِّ إيطاليا»[53]!
إِذَنْ ترى البندقية أنَّ الإيطاليِّين ينبغي أن يكونوا شاكرين للدولة العثمانيَّة على غزوها لأوترانتو!
هذا الموقف الساخر من البندقية جعل زعماء إيطاليا يرتابون في النوايا الخفيَّة للجمهوريَّة، وهذا ما دعا سفير فيرارا في روما أن يُشير بأصابع الاتهام إلى البندقية، وهذا في الرسالة العاجلة التي أرسلها إلى دوق فيرارا عقب غزو العثمانيِّين لأوترانتو، وقد قال في رسالته: «صار من المؤكَّد أنَّ قدوم الأتراك إلى إيطاليا هو من عمل البنادقة»[54]!
هكذا صارت رؤية الإيطاليِّين للبندقيَّة..
وليس معنى هذا أنَّ البندقية صارت: «تحبُّ» العثمانيِّين! فهي من أشدِّ الدول الأوروبيَّة كراهيةً لها ولقادتها، وسنرى في مستقبلها ما يُؤيِّد هذه الكراهية، ولكن حساب «المصالح»، وخاصَّةً المصالح الاقتصاديَّة والأمنيَّة، كان يرتفع عندها فوق حسابات العقيدة أو الأخلاق، وهذا ما دفعها إلى هذا التراخي في مسألة غزو إيطاليا.
وأعجب من موقف البندقية كان موقف فلورنسا! فقد كان أهلها وحكومتها يَعُدُّون أنَّ قدوم الأتراك وحصارهم لأوترانتو هو «معجزة ربَّانيَّة» عظيمة رحمةً بأهل فلورنسا! فقد كتب لُوكا لاندوتشي Luca Landucci، وهو صيدلي فلورنسي معاصر مهتمٌّ بالتاريخ، وكان يكتب يوميَّات دوريَّة تُؤرِّخ لتاريخ فلورنسا في هذه الحقبة، يصف الحدث فيقول: «كان أَلفونسو دوق كالابريا، وابن فرديناند الأول ملك نابولي، يُريد شرًّا عظيمًا بفلورنسا، ولكن حدثت المعجزة الربَّانيَّة العظيمة في أغسطس 1480م، حيث جاء الجيش التركي ليُحاصر أوترانتو، فكان من اللازم أن يُغادر أَلفونسو بلادنا، تبعًا لأوامر أبيه، ويعود للدفاع عن مملكته»[55]!
***
كان من الواضح إِذَنْ أنَّ إيطاليا قد انقسمت إلى معسكرين: أحدهما على الحياد ولا يرغب في المشاركة، بل يسعد بالمصائب التي حلَّت على مملكة نابولي، والآخر يرى المقاومة، ويرى مساعدة نابولي، وإن كان معظمهم -باستثناء البابا- لم يُقدِّم شيئًا في الحقيقة، اللهمَّ إلَّا بعض المساعدات الماليَّة القليلة، التي تركت نابولي تواجه مصيرها مع العثمانيِّين منفردة.
إزاء هذا الانقسام الإيطالي، وإزاء هذه الظهور الضعيف للكيانات السياسيَّة كلِّها، كان من المتوقَّع أن تسقط أوترانتو في يد الجيش العثماني، ولقد حدث هذا بالفعل بعد قصف استمرَّ لمدَّة أسبوعين، ثم سقطت الأسوار في 11 أغسطس، واقتحم العثمانيُّون المدينة، وعلى الرغم من استعمال الحامية الإيطاليَّة والسكان الزيت المغلي والحجارة في محاولة دفع الجيش العثماني فإنَّ الجيش تمكَّن من السيطرة على الأمور، وفورًا جعل كديك أحمد باشا مدينة أوترانتو قاعدةً له، وأطلق منها عدَّة حملات عسكريَّة للمدن المجاورة، وذلك لتأمين وجود العثمانيِّين في المنطقة، فوصلت حملة إلى مدينة ليتشي Lecce على بعد خمسة وثلاثين كيلو مترًا إلى الشمال، ووصلت أخرى إلى مدينة برينديزي Brindisi على بعد سبعين كيلو مترًا إلى الشمال أيضًا، ووصلت ثالثة إلى مدينة تارانتو Taranto على بعد مائة وعشرة كيلو مترات إلى الشمال الغربي، أمَّا الحملة الرابعة فقد تعمَّقت في اتِّجاه الشمال، ووصلت حتى مدينة ڤيستي Vieste الساحليَّة على الأدرياتيكي، على بُعد ثلاثمائة كيلو متر من أوترانتو[56]. (راجع خريطة رقم 19).
ومن المعلومات المهمَّة التي وجدتُها أنَّ مدينة ڤيستي التابعة لمقاطعة فودچا Foggia، وهي أبعد مدينة وصل إليها العثمانيُّون في اتِّجاه الشمال، تُمثِّل الحدود الشماليَّة للمنطقة المعروفة تاريخيًّا بأبوليا البيزنطيَّة، وأنَّ مدينة تارانتو تُمثِّل هذه الحدود من الناحية الغربيَّة[57]، ومعنى هذا أنَّ الجيوش العثمانيَّة تحرَّكت في اتِّجاه الشمال والغرب في داخل حدود أبوليا البيزنطيَّة فقط، وهذا يدلُّنا على ثلاثة أمور: أمَّا الأوَّل فهو الحرفيَّة العالية للجيش العثماني، الذي يتحرَّك وفق خطواتٍ مدروسة، وله درايةٌ كاملةٌ بأرضٍ لم تخطوها قدمٌ عثمانيَّةٌ قبل ذلك، والثاني هو حرص العثمانيِّين على وجود الغطاء الشرعي والقانوني للحملة العسكريَّة، وهذا يُؤكِّد ما ذكرناه من قبل من أنَّ المسوِّغ المـُعْلَن في الأوساط الدبلوماسيَّة هو أحقِّيَّة الفاتح في امتلاك كلِّ ميراث الدولة البيزنطيَّة، الذي يشمل هذه المنطقة الإيطاليَّة، ومع أنَّ القوَّة هي التي تفرض رأيها، ومع أنَّ نابولي محاربة للدولة العثمانيَّة، ويُمكن للعثمانيِّين أن يغزوا أرضها دون غضاضة، فإنَّ هذا الشكل القانوني الذي يلتزم به الجيش العثماني مفيدٌ جدًّا في المحافل الدبلوماسيَّة، كما أنَّه يترك أثرًا طيِّبًا في المدنيين الذين يتعاملون بالمنطق والعقل، لا بالقوَّة والسلاح، أمَّا الأمر الثالث فهو أنَّ هذه الحدود الدقيقة لأبوليا البيزنطيَّة لم يعرفها الفاتح ولا جيشه من دراساتهم وقراءتهم في التاريخ؛ إنَّما تحتاج لإيطاليِّين محترفين خبروا المنطقة، وعرفوها عن ظهر قلب، وهو يُشير إلى تعاونٍ إيطاليٍّ عثمانيٍّ في هذا المجال، ولا يُستبعد أن يكون للبندقيَّة وسفيرها يدٌ في ذلك.
لم تكن هذه الحملات العسكريَّة الخاطفة تهدف إلى الاستقرار في هذه المناطق؛ إنَّما كانت كما ذكرنا مجرَّد تأمينٍ للقوَّة الرئيسة الموجودة في أوترانتو، كما أنَّها يُمكن أن تكون -تبعًا للتحليل الذي ذكرتُه منذ قليل- نوعًا من «ترسيم الحدود» للمنطقة التي ينوي العثمانيُّون الاستقرار بها.
ولأنَّ العثمانيِّين اختاروا أوترانتو لتكون قاعدةً لهم فإنَّهم قاموا بتأمين ميناء البلدة، ووضعوا مدافع قويَّة على بوابته يُمكن أن تقصف أيَّ سفينةٍ تُفكِّر في غزو المدينة[58]، وكان هذا الإجراء يعني رغبة العثمانيِّين في الاستقرار في هذه المنطقة فترةً من الزمان.
لا شَكَّ أنَّ هناك عددًا من الحامية الإيطاليَّة في مدينة أوترانتو قُتِل أثناء محاولة الاقتحام، بل لعلَّ عددًا من السكان قُتِل كذلك، سواءٌ لأنَّه مشتركٌ في المقاومة، أم عن طريق القصف المستمر للمدينة، الذي لا يُفرِّق بين عسكريٍّ ومدني، ولكن المؤكَّد أنَّ هذا العدد ليس كبيرًا؛ لأنَّ المدينة صغيرةٌ في الأساس، وليست -وإلى الآن- من المدن الكبرى في منطقة أبوليا، ومع ذلك فالأخبار التي انتشرت في إيطاليا في ذلك الوقت كانت على العكس من ذلك؛ إذ حرص البابا، والقساوسة من بعده، على تصوير حصار أوترانتو وفتحها على أنَّه مجزرة بشعة قُتِل فيها الشيوخ والنساء والأطفال[59]، وكان الهدف من هذه المبالغات هو إثارة الرغبة في المقاومة عند الشعب، وكذلك عند الأمراء المتردِّدين في القتال.
ومع أنَّ المصادر الأولى التي ذكرت قصَّة سقوط أوترانتو لم تذكر أرقامًا خاصَّة بالقتلى في هذا الحصار، فإنَّ القساوسة والكُتَّاب الإيطاليِّين قد استغلُّوا الحدث لإثارة الشعوب الغربيَّة للانضمام للحملات الصليبيَّة، فكتبوا بعد انقضاء القصَّة بسنوات أنَّ عدد القتلى في أوترانتو وصل إلى اثني عشر ألف قتيل[60][61]، وهو رقمٌ غير منطقيٍّ بالمرَّة بالقياس إلى حجم البلدة وعدد سكانها. يردُّ على هذه الفرية التاريخيَّة الدكتور الإيطالي فرانشيسكو تاتيو Francesco Tateo، وهو عميد كليَّة الآداب والفلسفة بجامعة باري Bari، وهي جامعةٌ في منطقة أبوليا نفسها، وتقوم بدراساتٍ خاصَّةٍ بتاريخ المنطقة، فيقول: «إنَّ المصادر المبكِّرة المعاصرة للحدث لا تدعم مثل هذه الأرقام، وإنَّ أمثال مثل هذه الاضطهادات الدينيَّة، والتضحيَّات بالنفس من أجل العقيدة المسيحية لم تظهر إلَّا بعد عقدين أو أكثر من الحصار، وإنَّ أبكر المصادر وأكثرها ثقة وصفت قتل ثمانمائة إلى ألف جنديٍّ أو مدني، ولم يُشِرْ أيُّ مصدرٍ إلى طلب العثمانيِّين من أحدٍ أن يتحوَّل إلى الإسلام كرهًا، ويُضاف إلى ذلك أنَّه لا المصادر التركيَّة ولا التقارير الإيطاليَّة الدبلوماسيَّة أشارت إلى مثل ذلك. إنَّ المرء ليتخيَّل -والكلام ما زال للدكتور الإيطالي فرانشيسكو- لو أنَّ مثل هذه التقارير متداولٌ آنذاك، لم يكن القساوسة أو الخطباء ليتركوها دون التمسُّك بها»[62].
ويرتبط بهذا التزوير التاريخي تزويرٌ آخر يتَّهم فيه المؤرِّخون الجيشَ العثماني بأنَّه هدَّد ثمانمائة رجلٍ كاثوليكيٍّ بالقتل إن لم يتحوَّلوا إلى الإسلام، وتستمرُّ الفرية في شرح قصَّة التضحية فتقول: إنَّهم رفضوا جميعًا فذبحهم الأتراك. ويذكر بعضُ المؤرِّخين أنَّ هذا الذبح كان عند أحد التلال المعروفة في أوترانتو بتلِّ مينيرڤا Hill of Minerva، الذي اشتُهر بعد ذلك بتلِّ الشهداء Hill of Martyrs[63].
ويُشكِّك المفكِّر الإيطالي الدكتور دوناتو مورو Donato Moro -وهو أستاذٌ بمعهد ثقافات البحر الأبيض المتوسط بمقاطعة ليتشي Lecce، وهي في منطقة أبوليا نفسها- في هذه الواقعة، فيقول: «لقد نمت أسطورة الثمانمائة شهيد في أوترانتو شيئًا فشيئًا بعد عودة السكان إليها عند رحيل العثمانيِّين، وذلك عن طريق النقل دون تحقُّق. إنَّ هذه القصَّة بكلِّ الشغف الذي بها تُمثِّل نوعًا من الدفع الإيجابي للحياة أكثر من كونها قصَّة حقيقيَّة للقتل والاستعباد»[64]. ويُضيف دوناتو مورو فيقول: «إنَّ الكثير من هذه المصادر مزيَّفة وتورد روايات مشكوكًا في أمرها، والهدف هو دعم الجهود الحماسيَّة التي تُمهِّد لتعميد شهداء أوترانتو (ليُصبحوا قدِّيسين وأمثلة للنصارى)، وأيضًا لإظهار الخوف المتزايد من توسُّع العثمانيِّين، وذلك عن طريق إظهار وحشيَّة الأتراك»[65].
وعلى الرغم من هذه الروايات المزيَّفة فإنَّ ما قاله دوناتو مورو قد تحقَّق! فقد ذكر المؤرخان الأميركيان چيفري شو Jeffrey Shaw، وتيموثي ديمي Timothy Demy في موسوعتهما عن الصراعات العقائديَّة، الاهتمام المتزايد من الباباوات بهذه القصَّة دعمًا لحربهم ضدَّ المسلمين، وأوردا تاريخ هذا الاهتمام، فذكرا أنَّ عمليَّة التقديس قد بدأت في عام 1539م (بعد ما يقرب من ستين سنة بعد الحدث، في عهد البابا بول الثالث Paul III)، ثم تكرَّرت عمليَّة تقديس الثمانمائة شهيد على يد البابا كليمنت الرابع عشر Clement XIV في عام 1781م، وفي عام 1980م زار البابا چون بول الثاني John Paul II أوترانتو، واحتفل بالشهداء احتفالًا جماعيًّا، ثم في عام 2007م ذكرهم البابا بينيدكت السادس عشر Benedict XVI في خطابه قائلًا: «إنَّ المدافعين عن أوترانتو قُتِلوا من أجل الدفاع عن عقيدتهم». وأخيرًا فإنَّه في عام 2013م كانت من أوائل أعمال البابا فرانسيس Francis أنَّه قام بتقديس الثمانمائة شهيد قائلًا في خطبته أنَّه في الوقت الذي يقوم به بتبجيل شهداء أوترانتو، فإنَّه يدعو بالحفظ للكثير من النصارى الذين يتعرَّضون للعنف في العالم[66]!
إنَّه قد استُغلَّت إِذَنْ هذه الفِرْيَة التاريخيَّة على أوسع نطاق!
بل يقول المؤرِّخ الإنجليزي هيو توماس Hugh Thomas: «إن الإسبان استخدموا قصَّة قتل وتعذيب أهل أوترانتو عام 1480م في تبرير ما فعلوه مع المسلمين عند سقوط غرناطة في أيديهم»[67]، وكان هذا السقوط الأخير في الأندلس في عام 1492م، أي بعد قصَّة أوترانتو باثني عشر عامًا فقط؛ أي أنَّه لم يكن استغلال الحدث على مستوى إيطاليا فقط بل استُغلَّ على نطاقٍ أوسع كثيرًا!
ولم تكن هذه هي الحقيقة قط!
إنَّه تزويرٌ يتعارض كما بينَّا مع الروايات التاريخيَّة الصحيحة، ثم إنَّه يتعارض كذلك مع المعلومات الديموجرافيَّة للسكان في هذا التوقيت؛ فقد أثبتت المؤرِّخة الإيطاليَّة كارين إيديس بارزمان Karen-edis Barzman، والأستاذة بجامعة بنجامتون الأميركيَّة Binghamton، أنَّ عدد سكان مدينة أوترانتو في توقيت الغزو العثماني لم يكن يزيد على ستَّة آلاف مواطن، فكيف يُمكن أن يكون الأتراك قد قتلوا منهم اثني عشر ألفًا؟[68].
وليس هذا فقط، فهذا التزوير التاريخي يتعارض كذلك مع المنطق؛ إذ لا يعْقَل أن يستفزَّ العثمانيُّون سكَّان البلاد الإيطاليَّة، ويقتلونهم بهذه الأعداد، مع أنَّ الجيش العثماني صغير، ولن تبقى قوَّته الرئيسة في إيطاليا إلَّا فترةً محدودةً لقدوم فصل الشتاء، وبالتالي يحتاج العثمانيُّون إلى بناء جسور الثقة مع الشعب الإيطالي لضمان البقاء في أمان إلى أن يأتي الصيف المقبل؛ حيث يُمكن لجيشٍ كبيرٍ أن يأتي لإقرار الوضع بصورةٍ أكثر أمانًا.
وأخيرًا فإنَّ التاريخ العثماني في أوروبا بشكلٍ عامٍّ يُثبت أنَّ الجيوش العثمانيَّة لم تكن تتعرَّض للمدنيين بشيء، وأنَّ هذا ما حفظ وجودها لعدَّة قرون على الرغم من قلَّة أعداد الأتراك، ولقد بلغ تسامح العثمانيِّين مع المدنيين إلى درجة أن عُرفت طريقة تعامل الدولة العثمانيَّة مع سكَّان البلاد المفتوحة بسياسة «السلام العثماني»[69]، ولن نُخالف فهم هذه الطريقة إلَّا بدليلٍ موثَّق، ونحن لا نمتلك مثل هذا الدليل في مسألة غزو أوترانتو.
ومع وضوح الأمر في هذه المسألة إلى هذه الدرجة إلَّا أنَّه للأسف فإنَّ هذه الأخبار المزوَّرة انتشرت في كتب المؤرِّخين بدرجةٍ كبيرةٍ إلى درجة أنَّ بعض المؤرِّخين المسلمين -بل الأتراك- قد نقلوا الأرقام المزوَّرة نفسها دون دراسةٍ كافيةٍ تحمي تاريخ العثمانيِّين من هذا الزيف الكبير[70]، وهذا يضع على أكتاف المؤرِّخين عبئًا كبيرًا لتنقية الكتب من مثل هذه الادِّعاءات.
سقطت أوترانتو إِذَن في يد الجيش العثماني في 11 أغسطس 1480م، وأحدث سقوطها دويَّا كبيرًا في أوروبا كلِّها، وجاءت ردود الفعل صاخبة، خاصَّةً في أراجون الإسبانيَّة، وفرنسا، والمجر.
كان من أكثر الأمراء تفاعلًا فرديناند الثاني ملك أراجون الإسبانية، الذي حرص على صبغ ردِّ فعله بالصبغة النصرانية الصرفة، وقال: «إنَّ احتلال أوترانتو لا يُهدِّد نابولي وحدها؛ إنَّما هي معاناة لكلِّ ممالك المسيحية، ولو حدث وسيطر العثمانيُّون على إيطاليا فهذا لا شَكَّ يُمثِّل إهانةً عظيمةً للرب، وإساءةً للديانة النصرانية»[71].
ومن الطريف أنَّ فرديناند الثاني لوَّح في هذه الأجواء برغبته في احتلال نابولي حمايةً لها من الدولة العثمانية! وهي الحجة نفسها التي أعلنها شارل الثامن Charles VIII، ملك فرنسا لاحقًا، بعد هذه القصَّة بأربعة عشر عامًا، أي عام 1494م، واجتاح على إثرها نابولي[72]!
وهذه اللغة الدينيَّة، والحجج العقائديَّة، كانت متزايدةً عند الإسبان بشكلٍ خاص، ولعلَّ هذا يرجع إلى خوفهم من إحياء المقاومة الإسلاميَّة في غرناطة، أو خوفهم من مساعدة الفاتح للمسلمين في إسبانيا، خاصَّةً أنَّ كلَّ الشواهد تُوحي بقرب انتهاء قصَّة المسلمين في الأندلس.
ومع هذه الحماسة الدينيَّة إلَّا أنَّنا لم نجد شيئًا ملموسًا قدَّمه الملك الإسباني لنابولي!
أمَّا ملك فرنسا فكان ردُّ فعله أكثر سخونة، ولكنَّها كانت سخونة مظهريَّة أكثر منها واقعيَّة؛ فقد أرسل لويس الحادي عشر ملك فرنسا مبعوثيه للبابا يعرض عليه المساعدة الفرنسيَّة في صورة مائتي ألف دوكا سنويًّا لدعم الحملات الصليبيَّة، ويُمكن أن يزيدها إلى ثلاثمائة ألف سنويًّا في حال إذا ما وافق البابا على السماح لملك فرنسا بفرض ضرائب على الكنائس الفرنسيَّة[73]، ومع ذلك، وعلى الرغم من السخاء الظاهري للعرض، فإنَّ الملك الفرنسي وضع شروطًا لتنفيذ هذا العرض تبدو مستحيلة[74]، وكان من هذه الشروط أن تدفع الممالك الأوروبيَّة مبالغ موازية، فعلى إيطاليا أن تدفع سنويًّا أربعين ألف دوكا، وعلى ألمانيا أن تدفع سنويًّا مائتي ألف دوكا، وكذلك إسبانيا تدفع مائتي ألف، أمَّا إنجلترا فتدفع مائة ألف دوكا كلَّ سنة[75]، كما أنَّ عَرْض الملك الفرنسي يتضمَّن فرض ضرائب على رجال الدين المسيحي في فرنسا، وهو ما كان يُعارضه البابا بشدَّة[76]، ولهذا فإنَّ العروض السخيَّة من لويس الحادي عشر لم يكن لها على أرض الواقع أيُّ نفع!
أمَّا ملك إنجلترا إدوارد الرابع، وكذلك إمبراطور النمسا فريدريك الثالث، فقد رفضا المساعدة بشكلٍ صريحٍ وقاطعٍ لانشغالهما بأمورهما الداخليَّة[77].
ومع هذه النتائج السلبيَّة للتفاعل الأوروبي الهش مع الحدث الكبير إلَّا أنَّ الجميع كان يتحدَّث عن نصرته للمسيحية، وعن تألمه لمصاب النصرانية، ولكنَّها كلَّها -كما تقول بربارا فوكس Barbara Fuchs- مجرَّد طريقة متنمِّقة لتحقيق المصالح السياسيَّة، وليست حبًّا في النصرانية كما يظهر في الكلمات، والدليل على ذلك موقف البندقية السلبي، وكذلك اختلافات الجميع مع البابا، وعدم قدرتهم على التوحُّد من أجل المصلحة العليا[78].
كان البابا يُدرك هذه الأبعاد، ويعلم أنَّ المساعدة لن تأتي إلَّا من أولئك المضرورين بشكلٍ مباشرٍ من الغزو العثماني لإيطاليا، وهي الإمارات الإيطاليَّة المختلفة، فضلًا عن المجر، التي تشترك مع الدولة العثمانيَّة في حدودٍ طويلة، وعندها مع العثمانيِّين تاريخُ صراعٍ طويل.
انطلاقًا من هذا الإدراك قرَّر البابا أوَّلًا أن تدفع الخزينة الباباويَّة مبلغ مائة وخمسين ألف دوكا دون انتظار أيِّ مساعدةٍ من أحد، وسوف تُوجِّه مائة ألف دوكا من هذا المبلغ لإعداد خمس وعشرين سفينةً عسكريَّة، أمَّا الخمسون ألفًا المتبقية فسوف تُرْسَل إلى ملك المجر ماتياس، وذلك لدعمه في حملاتٍ عسكريَّةٍ على الدولة العثمانيَّة تهدف إلى تشتيت انتباه العثمانيِّين عن إيطاليا، كما قرَّر البابا أن يُرسل لماتياس مائتي ألف دوكا سنويًّا بعد ذلك لتحقيق الغرض نفسه[79]، وفي الوقت نفسه فإنَّ البابا قد فرض أموالًا على الإمارات الإيطاليَّة المشاركَةَ في الحملة الصليبيَّة المرتقبة لقتال العثمانيِّين، فكلَّف ميلانو بدفع ثلاثين ألف دوكا، وفلورنسا بدفع عشرين ألف دوكا، أمَّا جمهورية چنوة فكان عليها إعداد خمس سفنٍ عسكريَّة، وكان على دوقيَّة فيرارا، وكذلك دوقيَّة سيينا، أن تعدَّ كلُّ واحدةٍ منهما أربعة سفن، أمَّا بولونيا فكان الواجب عليها سفينتين، وأخيرًا سفينة واحدة لكلٍّ من لوكا، ومانتوا، ومنتفيرات[80].
وعلى الرغم من الموقف الواضح الحاسم من البندقية، وإعلانها الصريح بعدم المشاركة في أيِّ عملٍ عدائيٍّ ضدَّ الأتراك، فإنَّ البابا وزعماء إيطاليا لم ييأسوا من محاولة جذب البندقية إلى حلفهم، ولهذا قاموا أوائل سبتمبر 1480م بإرسال مبعوثٍ جديدٍ لمجلس الشيوخ البندقي، وكان هذا المبعوث هو الدوق الفرنسي ماكسيميليان أمير مقاطعة بورجاندي الفرنسيَّة Maximilian of Burgundy، وكأنَّها كانت محاولة للسماع من شخصٍ جديدٍ بعدما أَلِفَ مجلس الشيوخ البندقي السماع من الإيطاليِّين! واستخدم المبعوث الفرنسي أسلوب العاطفة، فقال: «إنَّه يرجو أن ترفع البندقية هِرَاوتها لتضرب بها الأتراك في هذا الوقت الأليم الذي تُعاني فيه النصرانية»، ولكن مجلس الشيوخ البندقي كان واقعيًّا لأبعد درجة، فقال في وضوح: إنَّه كانت هناك الفرصة كاملة لزعماء النصرانية في إيطاليا لإبراز مشاعرهم الدينيَّة لمساعدة البندقية على حربها الطويلة المرعبة مع الأتراك، لكن هذا لم يحدث، وتُرِكَت البندقية وحيدة، والآن إذا ما قرَّر البنادقة دخول الحرب ضدَّ العثمانيِّين فإنَّهم سيكونون كالذي أخذ النيران من بيت جاره ليضعها في بيته هو! وهم لا يُريدون بحالٍ أن يضعوا أنفسهم تحت الوطأة المفزعة لغضب الأتراك[81]!
يتَّضح لنا من خلال هذا العرض أنَّ الوضع في أوترانتو قد بقي على ما هو عليه! بمعنى أنَّ المدينة سقطت في أيدي العثمانيِّين، ولم يتحرَّك الإيطاليُّون حركةً مناسبةً تجاه هذا الغزو الجريء، ومع ذلك فالأجواء لم تكن مشجِّعة للعثمانيِّين كذلك على إكمال المسيرة وفتح بقيَّة إيطاليا؛ وذلك لأمرين مهمَّين: أمَّا الأوَّل فهو أنَّ هذه الأحداث تمَّت في آخر الصيف، وقد دخل شهر سبتمبر، وما هي إلَّا أسابيع قليلة ويضرب الثلج والبرد والمطر المنطقة، ممَّا سيجعل حركة الجيوش صعبة للغاية، وأمَّا الثاني فهو الأزمة الكبيرة التي تعرَّض لها الجيش العثماني في رودس، ولم يكن ممكنًا أن يُوَجَّه هذا الجيش العثماني المرهق من رودس إلى إيطاليا، وهكذا فالقوَّة العسكريَّة المتاحة للعثمانيِّين لا يُمكن لها إتمام العمل في هذا التوقيت.
لهذا قرَّر كديك أحمد باشا الرجوع بقسمٍ من جيشه إلى إسطنبول مع ترك حاميةٍ عثمانيَّةٍ في مدينة أوترانتو للدفاع عن المدينة والقلعة، والحفاظ على المكاسب التي حقَّقتها الحملة في هذه الفترة القصيرة[82]، وعليه فقد ترك كديك أحمد باشا ستَّة آلاف وخمسمائة من المشاة ومعهم خمسمائة فارس[83]، وترك على قيادتهم خير الدين مصطفى بك والي نيجروبونتي، وكان قائدًا من أصولٍ يونانيَّة يتكلَّم الإيطاليَّة بطلاقة[84]، ولعلَّ هذا هو السبب في تعيينه قائدًا للحامية العثمانيَّة في إيطاليا، حيث يُمكن له أن يتواصل مع الإيطاليِّين بشكلٍ مباشرٍ دون ترجمة ممَّا قد يكون له أثرٌ أعظم في الحوار.
ولأنَّ العثمانيِّين لن يستطيعوا العودة إلى القتال وتحريك الجيوش إلَّا في الصيف المقبل عام 1481م كان لزامًا عليهم زيادة تحصين مدينة أوترانتو لتكون معقلًا مناسبًا لهم، ولهذا فقد قاموا بتعميق الخنادق الموجودة حول المدينة، وكذلك ترميم الأسوار، كما بنوا حاجزًا عاليًا أمام الخنادق لتوفير حماية إضافيَّة للأسوار، كما وضعوا تحصينات جديدة أمام البوابات، وثبَّتوا عليها مدافع قويَّة، ثم قاموا بحفر خنادق إضافيَّة داخل الأسوار. بالإضافة إلى ما سبق فقد أحضر العثمانيُّون كميَّاتٍ كبيرةً من المؤن والأغذية والأسلحة داخل المدينة لتكون عونًا لهم على المطاولة في البقاء داخل أسوار المدينة في حال حصار الإيطاليِّين لهم، كما قاموا بتأمين نبع مياه قريب من الأسوار عن طريق وضع تحصينات كبيرة حوله، وكذلك توفير حامية عسكريَّة مقيمة إلى جوار هذا النبع[85].
ومع أنَّ الحامية العثمانيَّة كانت صغيرة فإنَّ ملك نابولي حاول أن يسلك الطرق الدبلوماسيَّة في التعامل مع الموقف، فتواصل سفراؤه مع خير الدين مصطفى بك في محاولةٍ للوصول لترضيةٍ مناسبة مصحوبة برحيل الجيش العثماني، ولكن القائد العثماني طلب من ملك نابولي تسليم مقاطعة أبوليا كلها (وهي المقاطعة البيزنطيَّة في إيطاليا)، وإلَّا فسيأتي السلطان محمَّد الفاتح بنفسه في العام المقبل، ومعه مائة ألف جندي، وثمانية عشر ألف فارس، وقد لا يقف الأمر عندئذٍ على أبوليا، بل سيتعدَّاه إلى غيرها[86]!
عند وصول التحدِّي إلى هذه الدرجة اجتمع البابا ببعض السفراء في روما في يوم 16 سبتمبر 1480م، وكَوَّن حلفًا دفاعيًّا يشمل الباباويَّة، ومملكة نابولي، ومملكة المجر، ودوقيَّات ميلانو وفيرارا، وكذلك جمهوريَّات چنوة وفلورنسا[87]، ومع هذا فهذا الحلف الدفاعي الكبير لن يكون له دورٌ إلَّا بعد انقضاء فصل الشتاء، ومعنى هذا أنَّ الوضع سيظلُّ على هذه الصورة عدَّة شهورٍ أخرى.
هكذا أقبل شتاء 1480م وقد حقَّق العثمانيُّون نجاحًا كبيرًا في إيطاليا خفَّف نسبيًّا من وطأة أزمتهم في رودس، وهدأت الأمور على كافَّة الجبهات، وكانت فرصةً للعثمانيِّين والإيطاليِّين، والرودسيِّين، لإعادة ترتيب الأوراق، وحساب ما يجب عليهم فعله في الصيف المقبل[88].
[1] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/174.
[2] حاجي خليفة تحفة الكبارفي أسفار البحار، تحقيق وترجمة: محمد حرب [كتاب]. - [مكان غير معروف] : دار البشير للعلوم والثقافة ، 2017 صفحة 74.
[3] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 390.
[4] Finkel Caroline Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923 [Book]. - London UK : John Murray, 2005, p. 128.
[5]Venning Timothy A Chronology of the Byzantine Empire [Book]. - Now York, USA : palgrave Macmillan, 2006. - Introduction by Jonathan Harris, 2006, p. 304.
[6] Babinger, 1978, p. 387.
[7] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society,, 1976, vol. 2, p. 364.
[8] Harvey Paul The Oxford Companion To Classical Literature [Book]. - Gloucestershire, UK : Clarendon Press, 1937, p. 114.
[9] Scher, 2000, p. 49.
[10] Finkel, 2005, p. 128.
[11] أوزتونا، 1988م صفحة 1/174.
[12] Setton, 1976, vol. 2, p. 344.
[13] Hodgkinson Harry Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero [Book]. - London, UK : Centre for Albanian Studies, 1999, p. xii.
[14] فريد، 1981م صفحة 172.
[15] Nasse, 1964, pp. 24-26.
[16] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 79.
[17] Nicol Donald M. The Despotate of Epiros 1267-1479 [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 1984, p. 213.
[18] Setton, 1976, vol. 2, pp. 341-342.
[19] Setton, 1976, vol. 2, p. 359.
[20] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 162.
[21] Dunne Andrew P International Theory: To the Brink and Beyond [Book]. - Westport, CT, USA : Greenwood press, 1996, p. 130.
[22] Dimmock Matthew, Andrew Hadfield and Paul Quinn Art, Literature and Religion in Early Modern Sussex [Book]. - surrey, UK : Ashgate., 2014, p. 92.
[23] Duclos Charles The History of Lewis XI, King of France [Book]. - London,UK : C.Davis, 1746, vol. 2, p. 321.
[24] Fuchs Barbara and Weissbourd Emily Representing Imperial Rivalry in the Early Modern Mediterranean [Book]. - Toronto, canda : University of Toronto Press., 2015, p. 105.
[25] Turnbull, Stephen The Ottoman Empire 1326–1699 [Book]. - London, UK : Bloomsbury Publishing, 2012 (A), p. 43.
[26] Plaw Avery The Metamorphosis of War [Book]. - Amsterdam, Holland : Rodopi, B.V,, 2012, p. 128.
[27] Fuchs, et al., 2015, p. 104.
[28] أوزتونا، 1988م صفحة 1/175.
[29] Kinross Patrick Balfour Baron The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire [Book]. - London : Cape, 1977, p. 136.
[30] Imber Colin The Ottoman Empire 1300-1650 The Structure of Power [Book]. - New York, USA : Palgrave Macmillan, 2009, p. 250.
[31] Freely, 2009, p. 163.
[32] أوزتونا، 1988م صفحة 1/176.
[33] Babinger, 1978, p. 390.
[34] Purton Peter Fraser A History of the Late Medieval Siege, 1200-1500 [Book]. - woodbridge, uk : The Boydell press, 2010, p. 383.
[35] Craven Keppel Richard Italian scenes: a series of interesting delineations of remarkable views and and of the most celebrated remains of antiquity, with historical descriptions [Book]. - London, UK : John Walker, 1823, p. 18.
[36] Freely, 2009, p. 163.
[37] Ágoston Gábor Guns for the Sultan [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2005, p. 67.
[38] Freely, 2009, p. 163.
[39] Setton, 1976, vol. 2, p. 343.
[40] Freely, 2009, p. 164.
[41] Babinger, 1978, p. 393.
[42] Shaw Stanford Jay and Shaw Ezel Kural History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis - The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808 [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press., 1976, vol. 1, pp. 69-70.
[43] Procter George The History of Italy, from the Fall of the Western Empire to the Commencement of the Wars of the French Revolution [Book]. - London, UK : Whittaker & Company, 1844, p. 83.
[44] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 70.
[45] Pastor Ludwig Freiherr The History of the Popes, from the Close of the Middle Ages [Book]. - London : Kegan paul, 1891, vol. 4, p. 334.
[46] Setton, 1976, vol. 2, p. 344.
[47] Pastor, 1891, vol. 4, p. 335.
[48] Setton, 1976, vol. 2, p. 344.
[49] Housley Norman Crusading and the ottoman threat [Book]. - Oxford, UK : Oxford, university press, 2013, p. 48.
[50] Isom-Verhaaren Christine Allies with the Infidel [Book]. - london, UK : I. B. Tauris, 2013, p. 27.
[51] Setton, 1976, vol. 2, p. 365.
[52] Setton, 1976, vol. 2, p. 367.
[53] Dover Paul Marcus Letters, notes and whispers: diplomacy, ambassadors and information in the Italian Renaissance princely state [Book]. - Madison, WI, USA : UMI Dissertation Services, 2005, p. 51.
[54] Cavallo Jo Ann The World Beyond Europe in the Romance Epics of Boiardo and Ariosto [Book]. - Toronto, Buffalo, London : University of Toronto Press, 2013, p. 129.
[55]Luca Landucci A Florentine diary from 1450 to 1516 [Book]. - New York, USA : Arno press, 1969, p. 30.
[56] Shaw Jeffrey M. and Demy Timothy J. War and Religion: An Encyclopedia of Faith and Conflict [Book]. - [s.l.] : ABC-CLIO, 2017, vol. 2, p. 623.
[57] Theotokis Georgios The Norman Campaigns in the Balkans, 1081-1108 [Book]. - Woodbridge, UK : The Boydell press, 2014, p. 103.
[58] Purton, 2010, p. 385.
[59] Setton, 1976, vol. 2, p. 344.
[60] Barzman Karen-edis The Limits of Identity: Early Modern Venice, Dalmatia, and the Representation of Difference [Book]. - Boston, MA, USA : Brill,, 2017, pp. 26-27.
[61] Fisher William Bayne, Jackson Peter and Lockhart Laurence The Cambridge history of Iran [Book]. - New York : Cambridge University Press, 1886, vol. 2, p. 374.
[62] Bisaha Nancy Creating East and West: Renaissance Humanists and the Ottoman Turks [Book]. - philadelaphia, Pennsylvania, USA : University of Pennsylvania Press, 2004, p. 158.
[63] Byfield Ted The Christians Their First Two Thousand Years [Book]. - project, canda : Christan History, 2010, vol. 8, p. 131.
[64] Bisaha, 2004, p. 260.
[65] Barzman, 2017, p. 35.
[66] Shaw and Demy, 2017, vol. 1, p. 624.
[67] Thomas David [et al.] Christian-Muslim Relations. A Bibliographical History [Book]. - Boston, USA : Brill, 2013, p. 73.
[68] Barzman, 2017, p. 35.
[69] Hall Richard C War in the Balkans: An Encyclopedic History from the Fall of the Ottoman Empire to the Breakup of Yugoslavia [Book]. - California, USA : ABC, CILO, Santa Barbara, 2014, p. xvii.
[70] أوزتونا، 1988م صفحة 1/176.
[71] Fuchs, et al., 2015, p. 104.
[72] Fuchs, et al., 2015, p. 106.
[73] Freely, 2009, p. 169.
[74] Setton, 1976, vol. 2, p. 367.
[75] Freely, 2009, p. 169.
[76] Setton, 1976, vol. 2, p. 370.
[77] Babinger, 1978, p. 394.
[78] Fuchs, et al., 2015, p. 104.
[79] Setton, 1976, vol. 2, p. 368.
[80] Freely, 2009, p. 169.
[81] Setton, 1976, vol. 2, p. 366.
[82] Shaw and Demy, 2017, vol. 2, p. 623.
[83] أوزتونا، 1988م صفحة 1/176.
[84] Freely, 2009, p. 164.
[85] Purton, 2010, p. 385.
[86] Freely, 2009, p. 164.
[87] Babinger, 1978, p. 393.
[88] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 762- 786.
التعليقات
إرسال تعليقك