التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
السلطان محمد الفاتح قائد متميز لا جدال في هذا، لكن الإبداع الذي جاء به صحبه إبداع عظيم من طوائف كثيرة ساعدت الفاتح على تحقيق النجاح.
هو صراعٌ كبيرٌ بين علماء التنمية البشريَّة عن دور الأفراد والمؤسَّسات في تحقيق النجاح؛ فهناك فريقٌ يُؤكِّد أنَّ الأفراد أهمُّ بما لديهم من إبداع، وأفكار، وملكات قياديَّة. وهناك فريقٌ يُؤكِّد دور المؤسَّسة بإمكاناتها، وقدراتها، وطاقاتها الكثيرة، وأنَّها هي التي صنعت أو دعمت الفرد، وبالتالي حقَّق النجاح، والواقع أنَّ الصواب هو الاعتدال بين الرؤيتين، والموضوعيَّة تتطلَّب أن نعترف بأهميَّة الدورين معًا؛ دور الفرد، ودور المؤسَّسة.
الشريعة الإسلاميَّة تُؤكِّد أهميَّة الأفراد في إحداث التغيير، وأنَّه لولا وجود بعض الأفراد المتميِّزين جدًّا لَمَا حدث النجاح؛ فيروي عبد الله بن عمر، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»[1]. فالراحلة -أي الإبل النجيبة التي يُمكن أن تُسافر، وتحمل الأثقال، وتؤدِّي التبعات الكبيرة- هي إبلٌ نادرة، قد لا تجد واحدةً في كلِّ مائة! ويروي أَبو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[2]. فالأمَّة قد تنتظر مائة سنة كاملة حتى يأتي الفرد القادر على التغيير والتجديد، فهذا دور الأفراد وأهميَّته، وهذه هي قيمة القادة الكبار، والعلماء الأفذاذ.
لكن هذا كله لا يلغي دور المؤسَّسة، والمؤسَّسة قد تكون: أسرة، أو شركة، أو هيئة، أو مجتمع، أو الأمَّة بكاملها؛ فهي الكيان الكبير الذي نشأ الفرد فيه واستخدمه لإحداث النجاح، ودور المؤسَّسة محوري في التغيير، ولهذا قال تعالى وهو يُوَضِّح لرَسُولِه ﷺ أسباب النصر: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62]، فالله تعالى هو الذي أيَّد رَسُوله ﷺ، ولكنَّه زاد «وبالمؤمنين»، ليلفت الأنظار إلى أهميَّة الشعب المؤمن الذي صاحب رَسُولَ اللهِ ﷺ وأحدث معه النجاح.
ويُمكن أن تتَّضح هذه الحقيقة بشكلٍ أكبر عند مراجعة قصَّة موسى عليه السلام؛ فهذا النبيُّ الكريم هو واحدٌ من أعظم القادة في تاريخ الإنسانيَّة، ومع ذلك فإنَّ تخلِّي «المؤسَّسة» عن دورها في زمانه، والمؤسَّسة هنا هم بنو إسرائيل، فتركوه وقالوا: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]، عندما حدث هذا التخلِّي لم يتحقَّق النجاح في المهمَّة، والمهمَّة كانت دخول الأرض المقدَّسة، ولا يصلح دخولها بوجود قائدٍ متميِّزٍ فقط؛ إنَّما يحتاج الأمر إلى قيادة وجنود، أو فرد مبدع ومؤسَّسة ناضجة.
ونعود إلى قصَّة الفاتح رحمه الله.
الفاتح قائدٌ متميِّزٌ لا جدال في هذا.. الذي يتشكَّك في هذه الحقيقة يُراجع شهادات الأوَّلين والآخرين من العلماء والمؤرِّخين، ومن المسلمين وغير المسلمين؛ ليُدرك حجم هذا القائد وقيمته، بل علينا أن نُراجع وَصْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ للأمير الذي يفتح القسطنطينيَّة لنعلم القيمة الحقيقيَّة لهذا السلطان الفذ..
هذا كلُّه معلومٌ يقينًا..
لكن ماذا كان يفعل الفاتح رحمه الله لو فعلت «مؤسَّسته»، أو «دولته» معه مثلما فعل أصحاب موسى عليه السلام؟!
إنَّ الإبداع الذي جاء به الفاتح رحمه الله صَحِبَهُ إبداعٌ عظيمٌ من طوائف كثيرة ساعدت الفاتح على تحقيق النجاح، ولو لم توجد هذه الطوائف ما تحقَّق معشار ما رأيناه من أمورٍ عظيمةٍ تمَّت في عهد هذا السلطان العظيم، وسوف أستعرض في هذا المقال بإيجاز بعض هذه الطوائف، وإن كانت هناك كتبٌ ضخمة، ومراجع متعدِّدة، فصَّلت في وصف كلِّ طائفةٍ من هذه الطوائف، وبمعلوماتٍ في غاية الجمال والروعة..
***
أوَّلًا: جيش الفاتح:
لم يكتفِ رسول الله ﷺ بمدح الأمير الذي يفتح القسطنطينية؛ إنَّما مدح الجيش معه، فقال: «وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»[3]. وجيش الفاتح رحمه الله كان جيشًا عظيمًا قويًّا قاهرًا، وكان كبيرًا للغاية؛ فالذين شاركوا في فتح القسطنطينيَّة تجاوزوا في بعض التقديرات كما أسلفنا مائة وخمسين ألف مقاتل، والذين شاركوا في حملة ألبانيا عام 1478م تجاوزوا ثلاثمائة ألف مقاتل، وهذه أرقامٌ ضخمة، خاصَّةً أنَّهم كانوا متميِّزين في المهارة العسكريَّة، وفي الطاعة المطلقة لقادتهم، فحقَّقوا الفتوحات العظيمة، وأنجزوا النصر في معارك عديدة، ولم يكن هذا بلا تضحيَّات؛ فقد كان الشهداء منهم بالآلاف، وأحيانًا بعشرات الآلاف، ولكنَّهم -وإلى آخر لحظات حياة الفاتح رحمه الله- كانوا معه في كلِّ موقف.
ويُمكن أن نخصَّ بالذكر هنا فرقة الإنكشارية، وهي الفرقة المحترفة المتخصِّصة، التي كانت تُوكَل إليها المهامُّ الصعبة في المعارك الكبرى، وكان ولاؤهم للفاتح منقطع النظير، وكانوا يبلغون من العدد ثلاثة آلاف في أوَّل عهد الفاتح، ثم زادوا تدريجيًّا مع الوقت حتى وصلوا في آخر عهده إلى عشرة آلاف مقاتل[4]، وقد شهد كلُّ من حلَّل معارك الفاتح والدولة العثمانية بشكلٍ عامٍّ، بشجاعة هذه الفرقة ومهارتها، وكونها أحد أسباب النصر الرئيسة في المعارك، ولقد كُتِبت مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ في وصف الإنكشاريَّة ودورهم، لعلَّ من أفضلها ما كتبه المؤرِّخ الإنجليزي جودفري جودوين Godfrey Goodwin، تحت عنوان «الإنكشاريَّة» «The Janissaries»، وقد كتب في مقدِّمته قائلًا: «لم تكن لانتصارات الدولة العثمانيَّة أن تتحقَّق لولا نظام حكومي قوي، وجيش لا يُقهر، وكان الإنكشاريَّة الذين دُرِّبوا كجيش نظامي دائم، هم قلب القوَّات العثمانيَّة. لقد كان الإنكشاريَّة -ولمدَّةٍ طويلةٍ من الزمن- مرهوبين في كامل أوروبا»[5].
ويُمكن أن نذكر أيضًا فرقة السباهيَّة Sipahi، وهو سلاح الفرسان، وكان مكوَّنًا من التركمان المسلمين، بعكس الإنكشاريَّة التي كانت مكوَّنة من الأطفال النصارى الذين تحوَّلوا إلى الإسلام، والتحقوا بالمدارس العسكريَّة العثمانيَّة، وكان التركمان في غاية الشجاعة، وكانت أعدادهم في جيش الفاتح كبيرة، قدَّرها بعضهم بأربعين ألف مقاتل[6]، ووصل بها بعضهم إلى خمسين ألف فارس[7]، وكان لهم دورٌ فعَّالٌ في المعارك المختلفة.
ولم يكن عامَّة الجيش يَقِلُّون في الشجاعة والبأس والمهارة عن الإنكشاريَّة والسباهيَّة، بل كان الجيش كلُّه قويًّا ذا رهبةٍ في قلوب الأوروبِّيِّين، وما أبلغ ما وصف به المؤرِّخ التركي مسعود أيار Mesut Uyar -وهو مؤرِّخ متخصِّص في التاريخ العسكري- رؤية الأوروبِّيِّين للجيش العثماني بدايةً من عهد محمد الفاتح، فقال: «تكوَّنت هذه الرؤية من عددٍ لا نهائيٍّ من الهزائم للأوروبِّيِّين من الجيش العثماني المتفوِّق. كان هذا الجيش يتكوَّن من عددٍ كبير من الجنود، ومدفعيَّته عملاقة، ومقاتليه إنكشاريَّة أشداء، وأسراب من المشاة المغامرين. ولقد أعادت هذه الجيوش إلى ذاكرة الأوروبِّيِّين جيوش قبائل الفرس والمغول ذات الإمكانات غير المحدودة. ولقد صارت هذه الجيوش العثمانيَّة مادَّة لكوابيس الأوروبِّيِّين، ووُجدت أجيال من الأطفال الأوروبِّيِّين تعلَّموا كيف يبتهلون للنجاة من الأتراك المرعبين (Terrible Turk)»[8].
جيشٌ بهذه الصورة لا بُدَّ أنَّه دعم الفاتح رحمه الله في كلِّ معاركه، وينبغي أن يُنْظَر إلى انتصارات الفاتح في ضوء قيادته لجيشٍ بهذه القدرات.
***
ثانيًا: الوزراء، والقادة، والمستشارون:
رَزَقَ اللهُ السلطانَ الفاتح بعددٍ كبيرٍ من الوزراء المتمكِّنين، والقادة المحترفين، والمستشارين الأمناء الحكماء، الذين أسهموا بقوَّةٍ في دفع الدولة العثمانيَّة إلى الأمام، وأحيانًا يكون الرجل بألف رجل، وتكون استشارته أغلى من كنوز الأرض.
من هؤلاء على سبيل المثال الصدر الأعظم محمود باشا أنچلوڤيتش Mahmud Pasha Angelović، وهو من أقدر الصدور العظام على إدارة الأمور، ولقد وصفه المؤرِّخ البيزنطي المعاصر له كريتوبولوس بقوله: «هذا الرجل له طبيعةٌ رائعةٌ لا تتفوَّق فقط على معاصريه إنَّما على كلِّ من سبقه؛ في الحكمة، والشجاعة، والاستقامة، وكلِّ الصفات الحميدة»[9].
وحصر الأسماء العظيمة في عهد الفاتح صعبٌ لكثرتها، ولقد اشتُهر الفاتح بإحاطة نفسه بالمستشارين النبهاء، ولهذا فإنَّ الشاعر الألماني هانز روزينبلوت Hans Rosenplut -وهو شاعر معاصر للفاتح- كتب مسرحيَّة تصف انتصار الفاتح على اليونانيِّين، وقال وهو يصف دخول الفاتح أثينا: «لقد وصل التركي العظيم هنا.. إنَّه هو الذي فتح اليونان.. إنَّه الآن هنا مع مستشاريه الحكماء»[10]!
***
ثالثًا: العلماء الأفذاذ:
كما رزقَ اللهُ عز وجل السلطانَ الفاتح عددًا كبيرًا من الوزراء الحكماء رزقه الله كذلك عددًا كبيرًا من العلماء الأفذاذ. نعم على الحاكم دورٌ كبيرٌ في رعاية العلم والعلماء، وقد حاول الفاتح محاولاتٍ كثيرةً لاستجلاب العلماء إلى بلاده، لكن يبقى فضل الله عليه عظيمًا بإتاحة عددٍ كافٍ من العلماء المتميِّزين في كلِّ المجالات في فترة حكمه.
شهد عصر الفاتح عددًا كبيرًا من علماء الشريعة، الذين أسهموا في تعليم الأمَّة وتحفيزها على الجهاد والعمل، وأسهموا كذلك في وضع القوانين، والقضاء بين الناس، وكذلك في وضع المناهج التعليمية، سواءٌ في المدارس أم في كليَّات الفاتح. كما شهد عصر الفاتح عددًا كبيرًا من علماء الحياة، ومرَّ بنا في هذا الكتاب أسماء عددٍ معتبرٍ من علماء الطب، والجغرافيا، والهندسة، وعلوم الأسلحة والحروب.
لقد أسهم كلُّ هؤلاء العلماء في بناء الدولة العثمانيَّة، وفي تحقيق النجاح، وإن كنَّا لا نُنكر فضل رعاية الفاتح لهذه الحركة العلميَّة، ودوره في ظهور علماء متميِّزين في دولته. تقول المؤرِّخة الأميركيَّة ليندا دارلينج: «كانت هناك مدارس في الدولة العثمانيَّة ولكنَّها لم تكن قادرة على تدريب علماء أصحاب مستوًى عالٍ، إلى أن جاء عهد الفاتح فظهر هؤلاء العلماء. قبل ذلك كان العلماء الكبار يتعلَّمون في القاهرة أو غيرها من المدن القديمة»[12]. إِذَنْ كان للفاتح فضلٌ في رعاية العلماء، ولكن كان للعلماء كذلك فضلٌ في بناء الدولة.
***
رابعًا: رجال الاقتصاد والمال:
لم يكن الفاتح يُنفق على الدولة من ماله الخاص؛ إنَّما كان لها مصادر دخلٍ كثيرة، ومن أهمِّها الأموال التي تأتي عن طريق التجارة والزراعة والمشاريع الاقتصاديَّة الكبرى، وكان يقوم على هذه الأعمال اقتصاديُّون متخصِّصون، وهذا وفَّر للدولة أموالًا كثيرةً ساعدتها على القيام بمهامِّها الكبرى، وليس هذا فقط، بل كان هؤلاء الأثرياء يقومون ببناء المشاريع الخيريَّة الضخمة، التي تُساعد على خدمة المجتمع، وبالتالي ترفع من على كتف الدولة مسئوليَّاتٍ كثيرة، وتُوفِّر لها مالًا، وجهدًا، ووقتًا، وهذ كله يصبُّ في نجاح الدولة ورفاهيَّتها.
على سبيل المثال أنشأ مراد باشا الذي كان واليًا على الروملي، وكذلك قائدًا من قادة الجيش العثماني، مجمَّعًا خيريًّا في مدينة آق سراي Aksaray في وسط الأناضول، وهو يضمُّ مدارس، ومسجد، ومؤسَّسات خيريَّة أخرى[13]، وأنشأ روم محمد باشا -الذي كان صدرًا أعظم من عام 1468م إلى عام 1469م- مسجدًا ومدرسة في حيِّ أسكودار شرق إسطنبول[14]، وأنشأ القاضي المولى خسرو -الذي كان قاضيًا في إسطنبول من عام 1459م إلى عام 1473م، ثم مفتيًا للدولة من عام 1473م إلى موته في عام 1480م- ثلاثة مساجد كبرى في إسطنبول[15]، أمَّا محمود باشا أنچلوڤيتش فقد أنشأ عددًا كبيرًا من الوقفيَّات والمؤسَّسات الخيريَّة، إلى درجة أنَّها تكوِّن حيًّا كاملًا من أحياء إسطنبول، ومن أراد التفصيلات لأعمال هذا الوزير العظيم فليُراجع الكتاب القيِّم الذي كتبه الباحث القبرصي ثيوهاريس ستاڤريدس Theoharis Stavrides عن حياة هذا الوزير تحت عنوان «سلطان الوزراء» «The Sultan of Vezirs»، ففيه تفصيلاتٌ في غاية الروعة[16].
ولننظر إلى أثر هؤلاء الاقتصاديين في عملية التعليم مثلًا في الدولة العثمانية، فقد قام هؤلاء الأثرياء ببناء المدارس الكثيرة على نفقتهم الخاصة ليدعموا بذلك الحركة العلمية في الدولة كلها، فكان من هذه المدارس مدرسة داود باشا الملحقة بجامعه، ومدرسة حاجي قادن المجاورة للجامع نفسه، ومدرسة قلندرخانه في جوار جامع قلندرخانه، ومدرسة جامع كرماستي، ومدرسة جامع قوجي دده، ومدرسة جامع محمود باشا، ومدرسة جامع الملا الكوراني، ومدرسة جامع مراد باشا، ومدرسة جامع روم محمد باشا، ومدرسة جامع المحاريب الثلاثة، ومدرسة جامع زيني محمد أفندي، ومدرسة جامع زيرك، ومدرسة أفضل زاده، ومدرسة إسكي مدرسي، ومدرسة أسكدار[17].
لا شك أن الدولة ستكون أضعف كثيرًا لو لم يتحرك هؤلاء الأسخياء بمثل هذا العمل التربوي الكبير.
بل أكثر من ذلك؛ فقد أسهم هؤلاء الاقتصاديون أحيانًا في بناء المدن! وانظر إلى ما فعله عيسى بك إسحاقوڤيتش Isa-Beg Ishaković والي البوسنة فقد بنى «زاويةً» قُصِد منها أن تكون استراحة، تُقدِّم المبيت والطعام المجاني لمن يقصدها، وهي تتألَّف من ثلاث غرف، وإصطبل وفناء، وكانت تستقبل الفقراء وأبناء السبيل، وتمنح كلَّ مَنْ قصدها للمبيت وجبتين مجانيتين في اليوم طوال ثلاثة أيام فقط. ولكي لا تتحوَّل الزاوية عن هدفها، ولتُغطي نفقاتها عمد الواقف إلى بناء عدة منشآت أخرى يُنفق منها عليها[18]، كما أنشأ ميدانًا لسباق الخيل، وأدخلت شبكة للمياه بالمنطقة[19]، وأنشأ العديد من المطاحن التي تعمل بالطاقة، وحمامًا عامًا، وهياكل تجارية، والعديد من المساجد[20]. وأوقف العديد من الطواحين والكثير من الأراضي للصرف على المؤسسات المعمارية التي أنشأها في المدينة. وعُدَّ وقف عيسى بك هذا النواة الحقيقية لمدينة سراييڤو التي غدت المركز الأشهر في البوسنة، ومن أهم مراكز الثقافة الإسلامية في البلقان[21].
لا شَكَّ أنَّ مثل هذه الأعمال أضافت الكثير إلى نجاح الدولة العثمانيَّة، وأضافت الكثير كذلك إلى نجاح السلطان الفاتح نفسه، فينبغي أن نُدرك أنَّه في غياب مثل هذه النماذج الكريمة من رجال الأعمال، ورجال الدولة، والقضاة، والأثرياء بشكلٍ عامٍّ، لم يكن لهذه الدولة أن تأخذ مثل هذا الشكل الحضاري الرائع الذي وصلت له، ولهذا نؤكد أهميَّة دورهم في بناء الدولة العثمانيَّة زمن الفاتح رحمه الله.
***
خامسًا: النساء في عهد الفاتح:
كان أثر المرأة كبيرًا في بناء الدولة العثمانيَّة في عهد الفاتح، ولا شَكَّ أنَّ جهودهنَّ أضافت كثيرًا إلى نجاح الفاتح كقائدٍ لشعبٍ كبيرٍ نصفه من النساء، والمرأة هي الأم، والزوجة، والابنة، والأخت، ودولةٌ بهذا الحجم وهذه المهام الجسام، لا يُمكن أن تتقدَّم بغير الأدوار الكبرى التي تُقدِّمها المرأة في هذا المجتمع النشط، غير أنَّ دور المرأة في الدولة العثمانيَّة -وخاصَّة في زمن الفاتح- لم يكن مقصورًا على دعم الرجال في مهامِّهم الكبرى، ولا على الصبر على الظروف الصعبة التي تُوضَع فيها النساء في وقت الحروب والشدائد؛ إنَّما تعدَّت ذلك بالمشاركة الفعَّالة في الأعمال المجتمعيَّة المهمَّة، وكان لهنَّ دورٌ بارزٌ في الأوقاف الخيريَّة بشكلٍ عامٍّ، والمساجد والمدارس بشكلٍ خاص، ولقد فوجئتُ بوجود عددٍ كبيرٍ من المؤلَّفات التي كُتبت لوصف دور المرأة في الدولة العثمانيَّة بشكلٍ عامٍّ، وكانت هذه الكتب تتناول دورها في عهد الفاتح بشكلٍ خاص؛ لكونه من أنشط عهود الدولة العثمانيَّة، ومن هذه الكتب على سبيل المثال كتاب المؤرِّخة الأميركيَّة مادلين زيلفي Madeline Zilfi بعنوان «النساء في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة» «Women in the Ottoman Empire[22]، ومنها كتاب المؤرِّخة البوسنيَّة، والأستاذة بجامعة يورك York الكنديَّة، أميلا بوتوروڤيتش Amila Buturović، بعنوان «النساء في البلقان العثماني» «Women in The Ottoman Balkans»[23]، أمَّا أفضلها فهو كتاب «المرأة العثمانيَّة في المجتمع العام Ottoman Women in Public Space» للمؤرِّختين الإنجليزيَّة كيت فليت Kate Fleet، والتركية إبرو بويار Ebru Boyar اللتين كتبتا في مقدِّمة كتابهما تلومان على أولئك الذين همَّشوا دور المرأة العثمانيَّة، وقصروه على دور الزوجة والأم، وذكرتا أنَّه كانت لها مشاركات فعَّالة وواضحة في المجتمع العام، وكان لها دورٌ أساسيٌّ في الحياة الاجتماعيَّة للإمبراطوريَّة[24].
لا شَكَّ أنَّ هذه المشاركات النسائيَّة دعمت دولة الفاتح رحمه الله، وأضافت إلى نجاحه.
***
سادسًا: المواهب غير التركيَّة في الإمبراطوريَّة الكبيرة!
كانت القيادات والمراكز الكبرى في الدولة قبل زمن الفاتح مقصورةً تقريبًا على الأتراك، سواء من العثمانيِّين، أم من القبائل التركيَّة الكبرى الأخرى، ولكن الفاتح هو الذي استحدث استخدام الكفاءات غير التركيَّة من المسلمين اليونانيِّين، والصرب، والبوسنيِّين، والألبان، وغيرهم، وبذلك أدخل إلى النخبة الحاكمة فريقًا جديدًا من الموهوبين[25].
ولسنا في حاجة إلى إعادة ما ذكرناه آنفًا عند حديثنا عن استفادة الفاتح من الطاقات المختلفة في إمبراطوريَّته؛ فإنَّ هذا كان أمرًا واضحًا ومتميِّزًا، ولقد أَثْرت هذه الطاقات الدولة العثمانيَّة، وأضافت الكثير إلى نجاح الفاتح رحمه الله.
وعلى الرغم من أنَّ بعض المؤرِّخين يرى أنَّ إدخال الفاتح لهذه الطوائف الجديدة إلى النخبة الحاكمة قد أدَّى إلى صراعات بين النخبة التركيَّة القديمة وبين أولئك الجدد[26]، فإنَّ المحصلة النهائيَّة كانت مفيدة للدولة العثمانيَّة، على الأقل في زمن الفاتح رحمه الله، وفي المائة سنة التي تلت حكمه، وأعني بها الفترة الذهبيَّة القويَّة في تاريخ الدولة العثمانيَّة، وهي الفترة التي كان السلطان فيها مسيطرًا على الأمور باقتدار، أمَّا عندما جاءت العهود التالية، التي ضعفت فيها السلاطين، وصاروا غير قادرين على إدارة الأمور، قامت الصراعات الداخليَّة بين الطوائف المختلفة؛ وليس هذا لفساد الفكرة -أعني فكرة أن يتولَّى القيادة الأكفأ بصرف النظر عن عرقه- ولكن لضعف السلاطين عن التعامل مع العناصر المختلفة في دولتهم.
الشاهد في الأمر أنَّ هذه الطاقات الموهوبة أضافت إلى نجاح الفاتح، وأسهمت بقوَّة في دفع الدولة العثمانيَّة إلى مصافِّ الدول الكبرى والمتقدِّمة في العالم.
***
سابعًا: المواهب غير المسلمة في الإمبراطوريَّة الكبيرة!
إذا كنَّا قد ذكرنا في النقطة السابقة أنَّ المسلمين من غير العرق التركي أسهموا بقوَّة في نجاح الفاتح رحمه الله، فإنَّنا نذكر هنا ما هو أكثر من ذلك؛ وهو أنَّ هناك طوائف كثيرة من غير المسلمين من رعايا الدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح، أسهمت بقوَّة كذلك في نجاحه، وكانت عونًا له على تدعيم الدولة العثمانيَّة وزيادة استقرارها، وهذه نقطةٌ مهمَّةٌ للغاية؛ لأنَّ هناك قسمًا كبيرًا جدًّا من «الشعب» العثماني في زمن الفاتح كان من غير المسلمين، وتهميش هذا القسم لا يأتي بخيرٍ أبدًا، كما أنَّه يتعارض مع الرؤية الإسلاميَّة التي تدعو إلى التعايش السلمي بين طوائف الشعب المختلفة بصرف النظر عن عقيدتهم أو توجُّهاتهم.
يقول المؤلِّف الأميركي أندرو شارب Andrew Sharp، الأستاذ بجامعة فيرچينيا كومنولث، في كتابه عن علاقات المسلمين بالنصارى الأرثوذكس في التاريخ الحديث: «حافظ محمد الفاتح على عادة الفاتحين المسلمين من أيَّام عمر بن الخطاب، التي تسمح للرعايا النصارى بممارسة شعائرهم الدينيَّة، ومعظم عاداتهم. لم يكن هناك أيُّ إجبارٍ قسريٍّ على التحوُّل إلى الإسلام، وبقي النصارى في مراكزهم الوظيفيَّة المهمَّة في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة المتوسِّعة»[27].
والشاهد من كلام أندرو شارب هو بقاء النصارى في وظائفهم يُسهمون بنشاطهم وجهدهم في نجاح توسُّع الدولة العثمانيَّة وثباتها.
ويقول المؤرِّخ التركي كمال كاربات Kemal Karpat، الأستاذ بجامعة ويسكنسون Wisconsin الأميركيَّة: «أعطى محمد الثاني البطريركيَّة الأرثوذكسيَّة دورًا حيويًّا وقوَّةً في الكنيسة، وكذلك في النشاطات الشعبيَّة، لا تُقارن بما كانت عليه أيَّام الدولة البيزنطيَّة، بل لم تُعْطَ الكنيسة الأرثوذكسيَّة في دولةٍ في العالم، ويشمل ذلك روسيا واليونان، قوَّةً تُوازي قوَّتها تحت الحكم العثماني. لقد كانت ممثِّلة للدولة العثمانية»[28].
وما يقصده كمال كاربات هو أنَّ قوَّة الكنيسة الأرثوذكسيَّة صارت تُضيف إلى قوَّة الدولة من طاقات الشعب الأرثوذكسي، وهو كبيرٌ للغاية.
ولم يكن هذا السلوك مع الأرثوذكس فقط؛ إنَّما كان مع كلِّ الطوائف غير المسلمة الموجودة في الإمبراطوريَّة، وكلها في النهاية أضافت إلى نجاح الفاتح وتفوُّقه، ويُمكن أن نأخذ اليهود كمثالٍ آخر لهذا التبادل المشترك في المصلحة؛ فالطائفة غير المسلمة تستفيد من روح التسامح والتعاون والمشاركة، والدولة العثمانيَّة وقائدها يستفيدان كذلك من المشاركة الإيجابيَّة للطائفة غير المسلمة، ويشرح الطبيب والمؤرِّخ اليهودي الأميركي إيلي كوهين Elli Kohen هذه العلاقة بقوله: «سمح محمد الثاني لليهود بالسكن في القسطنطينيَّة والمدن العثمانيَّة الأخرى، وسمح لهم ببناء المعابد والمدارس الخاصَّة بهم. وبعد قليلٍ من سيطرته على القسطنطينيَّة عيَّن كاهنًا يهوديًّا رئيسًا يُشرف على كلِّ المجتمعات اليهوديَّة، وكان هذا الكاهن -والكلام للمؤرِّخ إيلي كوهين- إسرائيليًّا تقيًّا، متعلِّمًا، مستقيمًا، اسمه موسى كابسالي Moses Kapsali. وأكثر من هذا؛ استدعى محمد الثاني الكاهن اليهودي إلى الديوان، وأعطاه مكانةً خاصَّة؛ إذ جلس مباشرةً إلى جوار المفتي، ولم تكن سيادة الكاهن على المجتمعات اليهوديَّة دينيَّة فقط؛ إنَّما أعطاه السلطان سيادةً سياسيَّةً عليهم، فكان هو الذي يجمع منهم الضرائب، ويُنظِّم أمورهم، بل يُوقِع عليهم العقاب في حال الخطأ»[29].
لم تؤدِّ هذه العلاقة التعايشيَّة إلى استقرار الدولة فقط؛ بل جعلتها تستفيد من إمكانات الشعب اليهودي الساكن بها، وهي إمكاناتٌ اقتصاديَّة، وعلميَّة، واجتماعيَّة مهمَّة، ويُمكن مراجعة كتاب المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو Stanford Shaw عن اليهود في الدولة العثمانيَّة، ودورهم في بنائها وقوَّتها، وكذلك عن دور الدولة العثمانيَّة في الحفاظ على أمنهم وممتلكاتهم، خاصَّةً بعد المذابح التي تعرَّضوا لها في أوروبَّا بشكلٍ عامٍّ، والأندلس بشكلٍ خاص، ولقد ذكر المؤرِّخ الأميركي أنَّ بداية هجرتهم الحقيقيَّة للدولة العثمانيَّة كانت في زمن محمد الفاتح، الذي سمح لهم بالقدوم من ألمانيا، وفرنسا، والمجر، وإيطاليا، وإسبانيا»[30].
بل لم يقف الحدُّ عند الطوائف العثمانيَّة غير المسلمة، بل استفاد الفاتح كذلك من الجاليات المؤقَّتة التي تعيش في البلاد لفتراتٍ محدودة، فعلى سبيل المثال استفاد الفاتح جدًّا من جهود جالية فلورنسا التجاريَّة، وكانت تعيش في إسطنبول، وأنعشت اقتصاديَّات الدولة العثمانيَّة بشكلٍ ملحوظ، وتعايشت مع الفاتح ودولته بشكلٍ لافت للنظر، إلى الدرجة التي كانوا يُقيمون فيها الاحتفالات عند تحقيق الفاتح للنصر، مثلما فعلوا عند فتح البوسنة عام 1463م، فزيَّنوا بيوتهم، وشوارعهم، وأقاموا مأدبة عشاءٍ كبيرةٍ حضرها السلطان الفاتح في بيت أحد كبار تجَّارهم، وهو كارلو مارتيلي Carlo Martelli[31].
هكذا أضافت كلُّ هذه الطوائف غير المسلمة إلى نجاح الفاتح رحمه الله، ولئن كان الفاتح متميِّزًا بالذكاء السياسي، والقدرات الدبلوماسيَّة، التي مكَّنته من الاستفادة من هذه الطاقات، فإنَّ هذا لم يكن ليحدث لولا التفاعل الإيجابي النشط من هذه الطوائف، وتوفُّر الإمكانات والمواهب لديهم، ممَّا جعلهم أهلًا لهذا النوع من تبادل المنفعة.
***
ثامنًا: الشعب العثماني:
إذا كنَّا قد ذكرنا بعض الفئات التي أسهمت في نجاح الفاتح، كالوزراء، والعلماء، ورجال الاقتصاد، وغيرهم، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ «عامَّة الشعب» العثماني لم يكن لهم إضافةٌ إلى نجاح الفاتح. إنَّ الشعب بكامله أسهم في هذا النجاح، وبقوَّة..
هذا الشعب بآبائه وأمَّهاته وأفراده هو الذي أخرج الجنود، والموظَّفين، والتجَّار، والفلَّاحين، وعامَّة من شارك في بناء صرح الدولة العثمانيَّة العملاق..
وهذا الشعب هو الذي تحمَّل آلام الحروب، وتهديدات الأعداء الكثر الذين اصطدموا بالدولة العثمانيَّة زمن الفاتح، وتحمَّلوا اختراقات الجيوش الصليبية لمدنهم وقراهم، وعددًا لا يُحصى من الشهداء والمصابين..
وهذا الشعب هو الذي صبر على الضوائق الاقتصاديَّة التي مرَّت بالدولة أثناء حروبها المتكرِّرة، وهو الذي دفع الضرائب التي كانت تُجمع لتجهيز الجيوش، وبناء القلاع، وتشييد السفن.
هذا الشعب، حتى بأضعف ضعفائه، أسهم في نجاح الفاتح ونصره، وما أروع ما قاله رَسُولُ اللهِ ﷺ وهو يُعلِّم قادة الأمَّة ورجالهم الكبار المشهورين أَلَّا يعتقدوا أنَّهم يُنصرون بقوَّتهم، وأَلَّا يعتقدوا أنَّ الشعب لم يُشارك معهم في هذا النصر. يقول مُصْعَبُ بْنُ سَعْد رحمه الله: رَأَى سَعْدٌ رضي الله عنه أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟»[32]!! ما أروع هذه الرؤية! إنَّه ببركة دعاء هؤلاء الضعفاء، ولأجل رعايتهم وكفايتهم، حقَّق الله النصر والرزق للفاتح، وغيره من قادة الأمَّة، ولله الفضل والمنَّة.
***
تاسعًا: المربون للفاتح!
مع إدراكنا الكامل للمواهب التي يتمتَّع بها محمد الفاتح رحمه الله إلَّا أنَّنا نُدرك كذلك أنَّ هذه المواهب ما كانت لتظهر وتنمو وتتفوَّق، لولا الرعاية الكبيرة التي قُدِّمت له في نشأته، حتى وصل إلى كرسي الحكم، وهو بهذه الصورة المتكاملة لَنِعْمَ الأمير..
لقد تعرَّضنا بالتفصيل لنشأة الفاتح رحمه الله، وذكرنا دور أبيه وأمِّه في تربيَّته، وكذلك دور العلماء المتخصِّصين، والمربِّين المتميِّزين، وكلهم شارك في منظومةٍ متكاملةٍ أدَّت إلى تشكيل شخصيَّة الفاتح رحمه الله، وصقل مواهبه.
ولقد اختصر المؤرِّخ الأميركي ديڤيد ديل تيستا David Del Testa هذه الرحلة الطويلة في تربية الفاتح وتنشئته.. بجملةٍ بليغة؛ إذ قال: «لقد رُبِّيَ محمد الثاني -وهو الابن الثالث لمراد الثاني- ليكون حاكمًا»[33]!
نعم.. كل شيءٍ في طفولة الفاتح وشبابه كان يقود لهذه الخاتمة المتوقَّعة!
***
عاشرًا: السابقون:
لم يكن لكلِّ هذا المجد أن يتحقَّق، ولا للفاتح أن يُحقِّق هذه الإنجازات العظيمة، لولا جهود السابقين من السلاطين، والأمراء، والوزراء، والعلماء، ممَّن سبق عهد الفاتح في كلِّ تاريخ الدولة العثمانيَّة..
لقد كان الفاتح حلقةً في سلسلةٍ طويلةٍ من المجاهدين والعاملين، ومن الصعب أن تُحدِّد بداية هذه السلسلة؛ لأنَّه عندما تصل إلى عثمان مؤسِّس الدولة العثمانيَّة ستجد أنَّ هناك من أسهم في وصول عثمان إلى هذه الفرصة التي مكَّنته من إنشاء دولةٍ لآل عثمان، سواء كان هذا من عائلته كأبيه أرطغرل، أم من دولة السلاجقة التي نشأ خلالها، وبعد عثمان جاء قادة كبار أسهموا في تطوير الإمارة العثمانيَّة الصغيرة، وتحويلها إلى دولةٍ قويَّة.. لا يُمكن أن يُنْسَى في هذا التطوُّر التاريخي دور أورخان، أو مراد الأول، أو بايزيد الأول، أو محمد الأول، أو مراد الثاني. إنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء -بالإضافة إلى الفريق الذي كان معه- أسهم في تقوية الدولة العثمانيَّة وتوسعتها.
إنَّ الفاتح لم يتسلَّم إمارةً عاديَّةً صغيرة عندما صعد إلى كرسي الحكم عام 1451م؛ إنَّما تسلَّم دولةً قويَّةً ذات مكانةٍ رفيعة، لها سمعةٌ مرهوبة، ولها صيتٌ عظيمٌ في أوروبَّا والعالم، وجيشها قوي، واقتصادها مزدهر، ونظامها محكم، وعلاقاتها متعدِّدة، وتاريخها مجيدٌ مليءٌ بالانتصارات والفخر.
هؤلاء جميعًا أسهموا في نجاح الفاتح..
لم يكن للقسطنطينيَّة أن تُفْتَح لولا أنَّ أجداد الفاتح أحاطوا بها من كلِّ جانب..
ولم يكن للبوسنة أن تُفتح لولا أنَّ أجداد الفاتح وصلوا إلى شرقها في صربيا ومقدونيا..
ولم يكن للأسطول العثماني أن يُحقِّق النجاحات لولا أنَّ أجداد الفاتح وضعوا نواته..
وهكذا في كلِّ الأمور والأحداث التي مرَّت بنا..
لم يُحوِّل الفاتح إقطاعيَّةً صغيرةً على هامش التاريخ إلى إمبراطوريَّة..
إنَّما تحوَّلت الإقطاعيَّة إلى إمارة، وتحوَّلت الإمارة إلى دويلة، وتحوَّلت الدويلة إلى دولة، وحوَّل الفاتح في النهاية الدولة إلى إمبراطوريَّة، وسيأتي أولاد الفاتح وجفدته ليُحوِّلوا هذه الإمبراطوريَّة إلى كيانٍ عملاقٍ يُسيطر على أراضٍ في ثلاث قارَّات، ويتحكَّم في سياسة الدنيا كلِّها..
هذه هي حلقة التاريخ المنطقيَّة..
ولا يُقلِّل كلُّ ما ذكرناه من دور الفاتح المجيد في تسيير هذه العمليَّة البنائيَّة في خطٍّ مستقيمٍ صاعد، لكن ينبغي لاستكمال الصورة، ومن أجل الموضوعيَّة، أن يُعْطى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، وأن يعرف الجميع أنَّ الفاتح لَبِنَةً رائعةً في صرحٍ كبيرٍ عظيم[34].
[1] رواه البخاري ومسلم سبق تخريجه انظر: ص PAGEREF كالإبل \h 832.
[2] رواه أبو داود، والحاكم، وصححه الألباني.
[3] رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، سبق تخريجه انظر: ص PAGEREF نعم_الأمير \h 17.
[4] Olsen John Andreas and Gray Colin S The Practice of Strategy: From Alexander the Great to the Present [Book]. - Oxford, UK : Oxford university press., 2011, p. 112.
[5] Goodwin Godfrey The Janissaries [Book]. - London, UK : Saqi Books, 2006, p. 17.
[6] Nicolle David The Janissaries [Book]. - London, UK : Osprey Publishery, 1995, pp. 9-10.
[7] Egger Vernon O A History of the Muslim World since 1260 [Book]. - N J, USA : pearson Prentice Hall, Upper Saddle River, 2008, p. 77.
[8] Uyar Mesut and Erickson Edward J A Military History of the Ottomans: From Osman to Atatürk [Book]. - Santa Barbra, USA : ABC CLIO., 2009, p. 31.
[9] Kritovoulos History of Mehmed the Conqueror [Book] / trans. Riggs Charles T.. - [s.l.] : Greenwood Press, Westport, Connecticut, 1954, p. 88.
[10] Gusick Barbara I and Heintzelman Matthew Z Fifteenth-Century Studies [Book]. - NewYork, USA : Camden House., 2011, vol. 36, p. 181.
[12] Darling Linda The Development of Ottoman Governmental Institutions in the Fourteenth Century: A Reconstruction [Book Section] // Living in the Ottoman Ecumenical Community / book auth. Costantini Vera and Koller Markus. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2008, p. 29.
[13] Kafescioğlu Çiğdem Constantinopolis/Istanbul: Cultural Encounter, Imperial Vision, and the Construction of the Ottoman Capital [Book]. - University park, PA, USA : The Pennsylvania state University press, 2009, p. 192.
[14] Atçıl Abdurrahman Scholars and Sultans in the Early Modern Ottoman Empire [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 2017, p. 63.
[15] Kafescioğlu, 2009, p. 192.
[16] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc, 2001.
[17] الدغيم: المعمار العثماني في عهد محمد الفاتح: أبنية مدارس وأسواق [مقالة] // صحيفة الحياة. - 1428هـ = 2007م، صفحة 21.
[18] وارهام: جماليات الحمامات في الحضارة العربية الإسلامية (الفضاء والمتخيل)، الرباط، المغرب: دار الأمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2017م الصفحات 87، 88.
[19] أحمد أبو زيد سراييفو: عبق الحضارة الإسلامية في قلب أوروبا [مقالة] // المجلة العربية. - الرياض - المملكة العربية السعودية: اسم غير معروف، 2014م صفحة 90.
[20] Donia Robert J. Sarajevo: A Biograph [Book]. - Michigan, USA : University of Michigan Press, 2006, p.17.
[21] أبو زيد، 2014م صفحة 91.
[22] Zilfi Madeline Women in the Ottoman Empire [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill,, 1997.
[23] Buturovic Amila and Schick Irvin Cemil Women in the Ottoman Balkans [Book]. - New York, USA : I.B. Tauris., 2007.
[24] Boyar Ebru and Fleet Kate Ottoman Women in Public Space [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill., 2016, p. 1.
[25] Tezcan Baki The Second Ottoman Empire: Political and Social Transformation in the Early Modern World [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press, 2010, p. 58.
[26] Kia Mehrdad The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia [Book]. - santa Barbara, CA, USA : ABC-CLIO, 2017, vol. 1, p. xxii.
[27] Sharp Andrew Orthodox Christians and Islam in the Postmodern Age [Book]. - Leiden, The Netherlands, 2012, p. 14.
[28] Karpat Kemal H Studies on Ottoman Social and Political History [Book]. - Leiden, the Netherlands : Brill, 2002, p. 411.
[29] Kohen Elli History of the Turkish Jews and Sephardim: Memories of a Past Golden Age [Book]. - Lanham, Maryland, USA : University Press of America n, 2007, p. 17.
[30] Shaw Stanford J The Jews of the Ottoman Empire and the Turkish Republic [Book]. - London, UK : Macmillan press, 1991, p. 33.
[31] İnalcık Halil and Quataert Donald An Economic and Social History of the Ottoman Empire, 1300-1600 [Book]. - Cambridge, UK : Cambridge University Press., 1994, vol. 1, p. 231.
[32] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب (2739)، وأحمد (1493).
[33] Testa David W. Del Government Leaders, Military Rulers and Political Activists [Book]. - Westport, CT, USA : Oryx Press, 2001, p. 123.
[34] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 984- 996.
التعليقات
إرسال تعليقك