هل يموت أحد من أهل النار؟
الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
السيرة النبوية وبناء أمة الإسلام، أهمية دراسة السيرة النبوية، وكيف نبني من خلال دراستها أمة الإسلام، وما هي المقدمات التي سبقت البعثة، بقلم د. راغب
دراسة السيرة النبوية
إن دراسة السيرة من منظور إعادة الأمة يجعلنا مستمسكين بالأحداث التي تعيننا على بناء هذه الأمة، ومن ثَمَّ فإننا ندرس السيرة لا على سبيل الحصر ودراسة التفاصيل، وإنما على سبيل الفَهْمِ والوعي؛ لتكون لنا دليلاًً على طريق النهضة والإصلاح، فهذا هو المنظور الصحيح لدراسة السيرة النبوية.
والوحي -بلا شك- تكريم للبشرية، وإخراج لها من الظلمات إلى النور، يدعوهم للأمن بعد الفزع، وللخير بعد الشر، وللهداية بعد الضلال، وهو إخراج الناس من الهاوية السحيقة، والانحطاط في القيم والأخلاق والشرائع، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].
فدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعلقة كلها بقضية الوحي؛ حتى لا يتسنَّى لأحدٍ أن يفهم السيرة فَهْمًا خاطئًا؛ فمعية الله مصاحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم على طول الطريق؛ لأن السيرة النبوية ما هي إلا ترجمة واقعية للوحي الرباني المنزّل عليه صلى الله عليه وسلم، يقول الحق عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3-4].
مقدمات قبل البعثة
قبل البعثة النبوية حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من المقدمات، نذكر منها الرؤيا الصادقة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وحادث شقّ صدره صلى الله عليه وسلم؛ فقد استخرج الملَكَان من قلبه حظَّ الشيطان منه، ثم غسلوا قلبه في طَسْتٍ من ذهب بماء زمزم، وكان أنس بن مالك يرى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته لأكثر الناس حبًّا له، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجته السيدة خديجة فهي أول من آمن به على ظهر الأرض؛ فقد تابعت السيدةُ خديجة النبيَ صلى الله عليه وسلم، وأخذته لابن عمها ورقة بن نوفل، وعرفوا منه أن الذي ينزل عليه هو جبريل عليه السلام، فكانت -رضي الله عنها- مثالاً للمرأة المحبة لزوجها، والعاقلة في اتباع ما جاء به.
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بعد السيدة خديجة إلى أحب الرجال إلى قلبه أبي بكر رضي الله عنه، فكان أبو بكر رضي الله عنه أسرع أصحابه في دخوله الإسلام، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إلى الإِسْلامِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ، مَا عَتَّمَ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ مَا تَرَدَّدَ فِيهِ". لم يفعل أحد من البشر مثل ما فعل هو والسيدة خديجة رضي الله عنهما. ثم دعا زيد بن حارثة الذي كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا كبيرًا، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم حتى عُرف بين الصحابة بزيد بن محمد. وفي موقف رِقِّه وتخييره بين العبودية للرسول صلى الله عليه وسلم والرجوع لوالديه أكبرُ دليلٍ على حبِّه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لما رآه من حسن معاملة وعشرة طيبة هادئة، لم يؤذه فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتعدَّ عليه بالقول أو الفعل.
السيرة وبناء خير أمة
تحدثنا عن وضع الزمان الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وضع المكان الجزيرة العربية. وقد يتساءل البعض عن قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونذكركم أن منظور هذه السطور هو دراسة كيف نبني أمة، وكيف نعيد بناء أمة الإسلام على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن دراسة السيرة النبويّة من خلال هذا المنظور لها أبعاد تختلف تمامًا عن أبعاد من يقرءون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كقصة منذ الميلاد إلى الوفاة، وهذا ليس مقصودًا من هذه السطور.
من خلال سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نعدّ عملاً ضخمًا، وهو مشروع بناء أمة على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن بناء عمارة لا بد له من تخطيط جيد وإعداد سابق، وبداية هذا التخطيط وهذا الإعداد أن تقوم بدراسة جدوى، وتقوم دراسة الجدوى على ظروف المكان وطبيعته، ومن سيقوم بالعمل والبناء وتكاليف البناء إلى غير ذلك من إعداد وتخطيط.
وهذا الكلام ينطبق أيضًا على الإسلام، لكن تخيل الفارق بين دراسة الجدوى لبناء عمارة أو مبنى ضخم، وبين دراسة الجدوى لبناء أمة كاملة كأمة الإسلام.
فلا بد من دراسة السيرة النبويّة من خلال هذا المنظور، لا بد أن نقف مع كل حدث وكل موقف في السيرة النبويّة ونعرف ظروف وملابسات وطبيعة الموقف أو الحدث، وما هي الحكمة من اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرأي في هذا الوقت.
بهذه الدراسة نستطيع أن نبني الأمة كما بناها النبي صلى الله عليه وسلم.
كل الناس يعرفون قصة النبي صلى الله عليه وسلم من ميلاده إلى بعثته، ومن البعثة إلى الهجرة وكيف هاجر، ويعرفون غزواته ويعرفون كل التفاصيل الكاملة عن هذه الأمور، وهذا ليس هدفنا، إن هدفنا يكمن في ما وراء الأحداث، كدعوته r لأبي بكر، والسيدة خديجة في بادئ الأمر، ودعوته لزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب، ولماذا اختار أبا بكر ومن الذين دعاهم في بادئ الأمر، ولماذا جهر بالدعوة في هذا الوقت؟ ولماذا لم يجهر منذ نزول الوحي عليه؟ وفي بداية جهره بالدعوة من هم أول من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم في بداية جهره بالدعوة؟ ولماذا حاربه قومه بعد جهره بالدعوة؟ أليس ما يدعو إليه هو الحق أم أن الدعوة غير مقنعة؟
عشرات الأسباب التي منعت الناس من دخول الدعوة، وهل هذه الأسباب من الممكن أن تتكرر؟ وكيف وقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام من حاربوه؟ وكيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسباب؟ وكيف أسلمت مكة بعد ذلك؟
كل هذا الكلام له فوائد ضخمة جدًّا في بناء أمة الإسلام.
ولماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة؟ وماذا يكمن وراء اختياره للحبشة؟ ولماذا لم يختر اليمن أو غيرها من البلدان كمصر أو العراق؟
ولما أراد الهجرة إلى المدينة؟ ولماذا أرسل مصعب بن عمير ليعلَّم الناس؟
ولماذا اختار مصعبًا ولم يختر أبا بكر أو عمر أو غيره من الصحابة؟
ولمَ خرج من مكة وذهب يدعو في الطائف؟ لماذا الطائف بالذات؟
كل هذه المواقف والأحدث في تدبرها وتحليلها، والإجابة عليها تساعد على وضع قواعد في غاية الأهمية، وهذا هو المقصود، أن نعرف كيف نبني أمة؟ وكيف نقيم بنيانًا بهذه القواعد كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم؟
ولن نستطيع أن نقيم هذه الأمة إلا إذا قلدنا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل موقف من مواقف حياته صلى الله عليه وسلم.
لكن لا بد أن نراعي الظروف التي اختار فيها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر؛ لنعرف كيف نحاكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنبدأ في الحديث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لكنها بداية غير تقليدية، فلن نبدأ من الميلاد ولكن بدايتنا من نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.
ليس معنى ذلك أننا نقلل من حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، ولكن كما ذكرنا آنفًا أن منظورنا هنا، هو أن نعرف كيف نبني أمة؟
لن نقصَّ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى الممات، لكن نستخلص نقاطًا مهمة تفيد في بناء الأمة الإسلامية.
الإسلام كدين وطريقة وشرع بدأ على الأرض منذ لحظة نزول الوحي؛ ولذلك سنبدأ في الحديث من هذه النقطة، وهذا لا يمنع أن نرجع في تحليل بعض المواقف من حياته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إذا كان لها علاقة بالتمهيد للبعثة، ولكن هذا لن يكون بالترتيب المألوف.
د. راغب السرجاني
التعليقات
إرسال تعليقك