جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
انتفاضة القدس أو هبة النفق أو هبة القدس، والتي قامت في 25 سبتمبر 1996م، في هذا المقال نتناول أسباب هبة القدس وأهم أحداث هبة النفق ونتائجها
انتفاضة النفق
والتي اعتاد كثير من الأقلام تسميتها "هبة النفق أو هبة القدس"؛ لأن الشعب الفلسطيني قد هَبَّ بكل فئاته في مواجهة الصهاينة المحتلين، فقد انصهر الشعب الفلسطيني في كيان واحد للتصدي لطغيان الصهاينة وممارساتهم الوحشية ضد المواطنين العُزَّل من شيوخ وأطفال ونساء وبدون تفرقة بين كبير وصغير، واستمرارهم في سياسة التجويع والحصار الاقتصادي، واستمرار حبس الأسرى الفلسطينيين، وإصرارهم على عدم الانسحاب من "الخليل" بالإضافة إلى حالة اليأس التي غمرت الشعب الفلسطيني؛ نظرًا للدور العربي الضعيف تجاه القضية الفلسطينية، والتنصل الصهيوني من الاتفاقيات الدولية مثل "أوسلو" برغم إجحافها للجانب الفلسطيني.
ولكن الاحتلال الصهيوني تمادى في غروره واستهانت بكل الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية، بل وصلوا إلى حدِّ الاعتداء على المقدسات الدينية ومحاولة العبث بها.
شرارة الانتفاضة
في صباح يوم (12 من جمادى الأولى 1417هـ = 25 من سبتمبر 1996م) أقدم الاحتلال الصهيوني على فتح نفق أسفل "المسجد الأقصى"، والذي شقه الصهاينة طوال السنوات الماضية بعد محاولتين فاشلتين قام الاحتلال الصهيوني لفتحه وكانت المرة الأولى عام 1986 والثانية عام 1994م؛ نظرًا لتدخل الأوقاف الإسلامية والحيلولة دون عمليات الحفر، فقد اعتبرت تلك العمليات خطوة تجاه هدم "المسجد الأقصى" ضمن المخطط الصهيوني الرامي إلى تكملة بناء ما يُسمى بحائط المبكى على حساب "المسجد الأقصى" في إطار الأهداف الصهيونية التي لا يتورع الاحتلال الصهيوني عن إعلانها، والتي لا يفتأ زعماء الصهاينة والمتطرفين يرددونها بمناسبة وبغير مناسبة حتى تستقر في وعي ووجدان اليهود وتصبح جزءًا من موروثهم العقدي والسياسي. وهذا النفق يمتد بطول 450 متراً أسفل المسجد الأقصى والعقارات الإسلامية المحيطة به.
وحينما اعترض الفلسطينيون الذين استشعروا خطورة فتح هذا النفق على المباني الأثرية في المنطقة المحيطة بالمسجد، واجههم الاحتلال الصهيوني في اليوم التالي بحشد أكثر من (5000) جندي في تحرش ظاهر لمواجهة اعتراض الفلسطينيين، وإزاء هذا التحرش السافر فقد هبَّ أبناء "فلسطين" للدفاع عن "المسجد الأقصى" فواجههم الصهاينة بالرصاص، وحدثت مجزرة ضخمة استشهد فيها (10) فلسطينيين وأُصيب نحو (150) آخرون من جرَّاء العنف الصهيوني.
خطورة فتح النفق
هذه العملية جريمة ضد مقدساتنا الإسلامية وفي الحقيقة لم تكن عملية فتح النفق سوى القشة التي قصمت ظهر البعير لذلك كانت هبة النفق نتيجة تراكمات من ممارسات حكومة اليمين الصهيوني المتطرف وذلك برفضها تنفيذ الاتفاقات المبرمة بين الاحتلال الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقيامها بفرض وقائع جديدة على الأرض في مخالفات وخرق فاضح لهذه الاتفاقات مثل مصادرة الأراضي ومواصلة الاستيطان وتوسيعه بالإضافة إجراءات تهويد المدينة المقدسة، وكذلك عدم الانسحاب من الخليل.
وهذا النفق عبارة عن مجموعة من المباني القديمة التي يرجع بناؤها إلى عصور سالفة مختلفة، لكنها رُدِمَت تحت الأرض بسبب تهدم المدينة عدة مرات عبر التاريخ، فتتم عملية وصل لتلك المباني من خلال عمل حفر أسفل أساسات المباني القائمة بعرض متر وارتفاع مترين، إلى جانب وجود قناة رومانية قديمة محفورة بالصخر بطول (60 ) مترًا وعرض أقل من متر وارتفاع عدة أمتار، والجزء الأكبر من النفق يقع ضمن مبان قديمة قائمة تم تنظيفها وإزالة التراب منها، وترجع إلى العصرين الأموي والأيوبي، وهذه الأجزاء تقع أسفل كل من "المدرسة التنكزية" التي بنيت عام (729هـ = 1329م) وحوش "محمد الخليلي" و"المدرسة الأشرفية" التي بُنيت عام (887هـ = 1422م) وهي مكتبة "المسجد الأقصى" حاليًّا، وتقع كذلك أسفل "سوق القطانين" و"المدرسة المنجكية" والتي شيدت أيضًا في العهود الإسلامية، وبقية أجزاء النفق عبارة عن حفريات أسفل عقارات مملوكة قائمة في مستوى الأساسات وعلى ارتفاعات مختلفة من سطح الأرض.
أما المباني الأثرية التي تعلو النفق فتشمل كلاً من: "المدرسة الجوهرية" ويرجع إنشاؤها إلى سنة (844هـ = 1440م)، و"المدرسة العثمانية" ويرجع إنشاؤها إلى سنة (840هـ = 1437م)، و"رباط الكرد" الذي يرجع إنشاؤه إلى سنة (693هـ = 1294م)، و"المدرسة المنجكية" ويرجع إنشاؤها إلى سنة (762 هـ = 1361 م)، ويصل طول النفق إلى نحو (450) مترًا أسفل "المسجد الأقصى" والعقارات المحيطة به.
أحداث هبة القدس
كانت كل الظروف مهيأة لقيام "هبة النفق" خاصةً في ظل حكومة اليمين المتطرف الصهيونية المنتخبة برياسة "بنيامين نيتانياهو"، الذي مارس منذ توليه سلطة رئاسة الوزراء أبشع الوسائل القمعية والردعية ضد الشعب الفلسطيني، وساعد أيضًا على قيام الهبة شعور الفلسطينيين والقيادة الفلسطينية بعدم جدوى المفاوضات السلمية مع الجانب الصهيوني لاستعادة "فلسطين".
دارت مواجهات عنيفة ظهر الأربعاء 25/9/1996م بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال الصهيوني رشق فيها الشبان قوات الاحتلال بالحجارة وعلى أثرها قامت قوات الاحتلال بإخلاء ساحات الأقصى وإغلاق جميع أبوابه، ومنع الشبان الذين تقل أعمارهم عن (35 ) عامًا من الصلاة داخل "المسجد الأقصى"، ولاحقت قوات الاحتلال الصهيوني الشبان الفلسطينيين واعتقلت منهم 11 شاباً، ثم اعتقل بعد ذلك نحو (30) فلسطينيًّا.
وتواصلت المواجهات في اليوم الثاني من أيام الانتفاضة في مختلف المدن الفلسطينية، ففي القدس حشد الاحتلال الصهيوني أكثر من 5000 جندي صهيوني، مما أدَّى لحدوث مجزرة سقط فيها (10) شهداء كان من بينهم "فيصل الحسيني".
وفي نابلس استسلم الجنود الصهاينة المتواجدين في موقع قبر النبي يوسف وكان عددهم 41 جندياً لقوات الأمن الوطني الفلسطيني، وتحولت كل من رام الله والخليل وبيت لحم إلى ساحات حرب، كما شهدت جنين العديد من المسيرات والاشتباكات مع جنود الاحتلال.
وفي يوم الجمعة27/9/1996م كانت هناك مجزرة أخرى حيث سقط 3 شهداء وأصيب 150 شاباً فلسطينياً .
أما في قطاع غزة حيث بدأت الأحداث في صباح يوم الخميس الموافق 26/9/1996م فانطلقت المسيرات التي نظمها طلبة المدارس عشية عملية فتح النفق واستشهاد خمسة فلسطينيين في رام الله يوم 25/9/1996م.
ولم تبخل أي من المدن الفلسطينية على "فلسطين" بأرواح أبنائها ففي "دير البلح" بالقرب من مستوطنة" كفار داروم "سقط (7) شهداء، وأُصيب (60 ) جريحًا.
وفي جنوب "غزة" بالقرب من مستوطنة "نتساريم" سقط (8) فلسطينيًّا، وأُصيب (75) آخرون. وانطلقت المسيرات الطلابية في مخيم "جباليا" إلى حاجز "بيت حانون" مما أدَّى إلى استشهاد (7) فلسطينيين وإصابة (104) آخرين.
وفي "خان يونس" قامت المسيرات الطلابية بالتجمع في "حي الأمل" وتوجهوا بالقرب من مستوطنة "جاني طال"، وتدخل أفراد الشرطة الفلسطينية لحماية الفلسطينيين، لكن مع تصاعد المواجهات واستخدام "إسرائيل" قنابل الغاز والأعيرة المطاطية والرصاص الحي ومطاردة القوات الصهيونية جموع المتظاهرين بمروحيات الكوبرا الحربية سقط (5) شهداء و(115) جريحًا.
وتصاعدت المواجهات في"رفح" عند الحدود المصرية، وكان للطلبة دور كبير في الانتفاضة فأُصيب طالبان وطالبتان، كما أُصيب شرطي فلسطيني، وشهد يوم الجمعة يوم الموافق (14 من جمادى الأولى 1417 هـ = 27 من سبتمبر 1996 م) مواجهات دامية أسفرت عن إصابة 48 شخصًا.
ومرت أيام الانتفاضة الثلاثة، ولكنها تركت رسالة واضحة لقادة الاحتلال الصهيوني وشعبها أن الشعب الفلسطيني لن يفرط في حقه أبدًا، ولن يترك وطنه لهم، وأنه من السهل على أي فلسطيني أن يبذل حياته فداءً لأرضه ووطنه ومقدساته
نتائج الهبة
على الرغم من الطابع السلمي الذي خيم على التظاهرات الفلسطينية احتجاجاً على فتح النفق، إلا أن قوات الاحتلال الصهيوني واجهت هذه التظاهرات بإطلاق الرصاص المطاطي والرصاص الحي بكثافة وخاصة من العيارات المختلفة مثل رصاص عيار 500 ملم و800 ملم كما استخدمت الطائرات المروحية والدبابات بالإضافة إلى اشتراك المستوطنين الإسرائيليين في إطلاق النار على المواطنين الفلسطينيين والنتيجة سقوط عدداً من الشهداء والجرحى.
وقد بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا في هذه الهبة 63 شهيداً، و1600 جريحاً منهم 458 جريحاً في قطاع غزة .
كما كان للهبة نتائج سياسية لعل أبرزها هو:
1- توقيع برتوكول إعادة الانتشار في منطقة الخليل بتاريخ 17/يناير/1997م.
2- أثبتت أن هناك خيارات أخرى للشعب الفلسطيني غير طريق التفاوض.
التعليقات
إرسال تعليقك