جروح نازفة
جروح نازفة
باتت الأمة ممزقة، وتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وتناحرت في ما بينها وتنازعت، فصارت الجروح شتى في البلاد، والنزيف يتزايد بين العباد، وهذه بوابة تهتم بملفات المسلمين والبلاد الإسلامية في العالم، التي تنزف الجراح من احتلال المعتدين، أو خلافات المتناحرين، حروب وانقسامات، وتدمير وإرهاب.. كل ذلك في جروح نازفة.
ملخص المقال
أزمة النيل قضية إفريقية عربية مقال بقلم حلمي شعراوي، يوضح كيفية إدارة أزمة مياه النيل بعد توقيع بوروندي على الاتفاقية الإطارية حول مياه النيل
يخطئ من يظن أن توقيع بوروندي على الاتفاقية الإطارية حول مياه النيل في آخر فبراير 2011م كان مفاجأة، أو أن له في ذاته كل هذه الأهمية التي أثارت الذعر في "وادي النيل"، أقصد في مصر والسودان؛ فالاتفاقية كانت متوقعة بحكم أنها آخر فرصة لحصر الموقعين، وبوروندي طرف مهم في مجموعة بحيرة فيكتوريا، وحليف أوغندا القوي في عملياتهما معًا -باسم الاتحاد الإفريقي لمساندة الحكم الموالي لأثيوبيا في البلد العربي المسمى الصومال! والتوقيع يأتي عقب عدة اتفاقيات للتعاون الفني والاقتصادي مع مصر، التي ظنت إدارتها السابقة أنها أرضَتْ بوروندي وسلختها عن المجموعة "المناوئة".
والاتفاقية تتعلق باحتمال النظر في إعادة توزيع المياه، وعدم أحقية مصر في التحكم في المشروعات التي تقام على مجاريها. ولا تمثل بوروندي نسبة كبيرة في تغذية هذه المجاري، لكن خطورة التوقيع أنه يعيد للذاكرة كيف تجاهلت الدبلوماسية المصرية والسودانية هذه الأزمة؛ بسبب انشغالهما مبكرًا بقضايا دون أخرى، وكيف حاصرتهم سياسات أخرى، كان على المسئول ألاَّ يجعلها تلتف عليه إلى هذا الحد طوال عقدين حتى الآن.
ورغم ما يمكن رصده حالاً في هذا الصدد، فإني أرى من خلال التردي إمكانية النهوض بالموقف مرة أخرى. ونتساءل أولاً: كيف أن مجموعة دول حوض النيل دون غيرها لم تشكل تجمعًا سياسيًّا اقتصاديًّا وديًّا مثل غيرها من التجمعات الأخرى في القارة، بل وارتضت كل من مصر والسودان التحرك فقط مع جماعة "كوميسا"، أو مع جماعة "الساحل والصحراء"، وهما يضمان كل دول حوض النيل والقرن الإفريقي -دول المياه- دون أن يتضمن ذلك الدبلوماسية النيلية، لتتخذ هذه التجمعات قرارات حول الحقوق التاريخية، أو الحيوية، أو الاستراتيجية، أيها أنسب للموقف؟!
هذا ما لم تفكر أطرافنا المعنية في مصر والسودان لحشد التجمع حولهما لتنظيم الموقف حول هذه المصالح، لا بالوعود أو المحايلة، ولكن من أجل خطط تنموية متكاملة أو مشتركة. ودعوني أسجل هنا أهمية مراجعة الموقف المصري المألوف بشأن رفض طرح مسألة النيل على أي تجمع عربي أو إفريقي، علمًا بأني لا أفترض صحة أي جانب قبل المناقشة.
لم يكن ذلك ممكنًا بالطبع طوال التسعينيات وعقد القرن الجديد لأن الدبلوماسية العربية كانت غارقة في اختيارات الحرب العراقية الأولى والثانية، ولم يستطع الدبلوماسي العربي حتى أن يساوم -أو يوازن- بموقفه هنا أو هنالك ليحصل على امتيازات لمصالحه في حوض النيل والعمل الإفريقي بعامة. كانت مصر ملتزمة بصمت زعامتها ودبلوماسيتها عن الخطط الجهنمية الغربية للشرق الأوسط، مكتفية بمكافأة مالية كبرى هي إسقاط الجزء الأكبر من ديونها، وكانت عودة الجامعة العربية للقاهرة تشير إلى إمكانيات جديدة لمصر في العمل العربي الإفريقي، ولكن ذلك لم يتحقق، بل وصَدم الجميع عدم اشتراك مصر في حل ناجع للكارثة الصومالية في أهم موقع لنفوذها في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي.
في هذا الظرف الصعب كانت ليبيا تنسحب من العمل العربي نفسه "بتسويد" خرائطها، وعقد خيامها في العواصم الإفريقية نتيجة "اكتشاف" هوية جديدة للشعب الليبي هي الهوية الإفريقية، مندفعة نحو العمل الإفريقي بانفراد مأساوي، تعاني الآن من نتائجه هي والعرب جميعًا بتلك الصورة المفزعة لدور "المرتزقة" الأفارقة "والجرذان" العرب في الساحات الليبية بما سنعاني منه جميعًا، ليس بالسخرية منا بل وبمواقف من قبيل موقف "بوروندي" في مسائل استراتيجية مثل مياه النيل، التي لم يتردد المسئولون في بوروندي من الإشارة لعدم قدرة مصر -وبالطبع ليبيا وغيرها- على تقديم المساعدات التنموية وفق الاتفاقات السابقة في هذا الصدد!
وطوال عقدين، انشغل السودان بدوره في المواجهة المسلحة ضد "ثوار" الجنوب، "وحق تقرير المصير"، بل وبالبدايات غير المتوقعة منه "للتمرد" في دارفور، وكلاهما أثارا الكثير من الأحقاد ضد العرب قاطبة وليس فقط ضد "الحكم" في السودان. وساهم الاتجاه "السلفي المتطرف" والرغبة في حمله إلى شعوب العالم أجمع، في تعميق الهوة بين قلب حوض النيل وبقية المناطق الإقليمية الأخرى، حتى تم الوصول لحل في الجنوب عبر مجموعة "الإيجاد" وليس عبر العمل العربي الإفريقي المشترك في"الاتحاد" أو الجامعة، ولم ينتبه أحد حتى لوضع المسألتين -الجنوب ودارفور- في إطار ولو شكليًّا لصالح العمل المشترك.
الإشارات هنا كلها لا تحيل إلى الأدوار الفردية للدول المعنية، مصر أو السودان أو ليبيا أو غيرها، بقدر ما تحيل أيضًا للمسئولية الجماعية للعمل العربي، ومن ثَم الإفريقي في قضايا تهمُّ جميع الأطراف في هذه التجمعات. وكان ذلك يحتاج لدبلوماسية -وثقافة سياسية- غير إصدار التصريحات العنترية أحيانًا، أو البكاء على الأطلال أحيانًا أخرى. كان يمكن لإثيوبيا أن تدرك مبكرًا خطورة مواقفها على "فيدراليتها" مع الصوماليين "والأورمو" والدناكل... إلخ. وكانت أوغندا تدرك أن شمالها بيت من زجاج، وكانت رواندا وبوروندي أدركتا أن دورهما "الشرطي" مكشوف في الكونغو والصومال، وكانت الكونغو باتت أكثر قدرة على حماية ثرواتها من الذهب والماس واليورانيوم، وكان الغرب كله يخاف على مشروعاته في تشاد والصحراء الكبرى، بل ومشروعاته المتوسطية والأوسطية في الشمال الإفريقي أو الخليج.
أي أنه لو كان هناك تأمل عربي استراتيجي وفي الوقت المناسب، لكنا خرجنا من أزمة البترول والبترودولار الأولى في الثمانينيات مثلما كان يتطلب ذلك بعد الأزمة المالية العالمية الثانية في العقد الأول من الألفية الثالثة، ببعض المكاسب.
ومع ذلك، فالتاريخ العربي لم يصل بعدُ لإحدى نهاياته المألوفة، وإفريقيا تبدو واعدة دائمًا منذ عقدين. ومصر والسودان على وجه الخصوص قابلتان لنهوض لو تأملنا وضعهما في ظرفيهما الجديد. مصر تعبر عقب ثورتها -لو توفرت لها دبلوماسية جديدة- إلى حالة من الترحيب بها في القارة، وفق ما قرأناه جميعًا في مصادر شعبية مختلفة، وهي ستجد دعمًا عربيًّا -على ما يبدو- يجعلها قادرة لاستعادة أوراقها بدرجة أو أخرى، وخاصة في المحيط القريب. والسودان يستطيع أن يجعل من المرور الهادئ لانفصال "الجنوب" فرصة لبناء ديمقراطي وتنموي يحلم به الشعب السوداني، ويعرف طريقه إليه وفق النضالات الديمقراطية العربية المستقرة ورؤى النخبة المتوفرة في أنحائه. وحوض النيل مشحون بالاحتمالات، تنطلق من إمكان محاصرة القضايا فيه بدءًا من نفوذ قيادة إثيوبيا، ونشوز قيادات بوروندي أو رواندا، وعجرفة في القيادة الأوغندية، واحتياجات كينيا وتنزانيا للتواصل المرن.
ولذا نقول: إن مسألة مياه النيل سوف تصبح عربية إفريقية تمامًا؛ لأنها تتصل بأكثر من تنظيم إفريقي أيضًا في هذه المنطقة. لكن العمل العربي المشترك قابل للتحرك في ظل اقترابات جديدة من الجامعة العربية وخارجها، برفع شعارات جديدة في القاهرة والخرطوم.
إننا لا نعرف وضع ليبيا بعد في هذا المثلث؛ لأنها ستكون مشكلة كبرى لهذا التحرك العربي نفسه لو لم تحسم الأوضاع في طرابلس بما تطمئن إليه العقول والقلوب... فليبيا بذرت المليارات في القارة بما لا يجعلنا نعرف كيف نستثمرها أو ننقذها، وللشعب الليبي نفسه حق تقرير المصير في هذه المسألة وغيرها.
المصدر: جريدة الاتحاد الإماراتية.
التعليقات
إرسال تعليقك