الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
في هذا المقال يُجيب الدكتور راغب السرجاني عن أهم الأسئلة في فترة العهد المكي ومرحلة البطش والتعذيب، وهي: ما الحكمة من وراء إعراض الرسول والصحابة عن
أهم مقتطفات المقال
ومن هنا فلا بُدَّ للداعية من أن يدرس نفسيات مَنْ يدعوهم؛ فمِنَ الناس مَنْ يتأثَّر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم مَنْ يتأثَّر بذكاء العقل عنده، ومنهم من يتأثَّر بقوَّة البدن لديه، ومنهم مَنْ يتأثَّر بلطفه وأدبه.. وهكذا، فقد خلق الله عز وجل الناس مختلفين، ولا بُدَّ للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ولا بُدَّ أن يُراعي ظروف المدعوين وظروف البيئة التي يعيشون فيها، وكذلك لا بُدَّ أن يكون ذكيًّا ومرنًا حتى تنجح دعوته، وبعد ذلك فالموفَّق مَنْ وفَّقه الله عز وجل.
بعد بيان الحكمة من ابتلاء المسلمين ومعرفة أنَّه سنة من الله سبحانه وتعالى، يأتي الحديث عن نقطة أحسبها مهمَّة وخطيرة للغاية؛ وهي أننا لاحظنا في مواقف التعذيب التي روينا أخبارها أنَّ المسلمين لم يُحاولوا دفع هذا التعذيب بالقوَّة، لا من قريبٍ ولا من بعيد، ولم يكن التعذيب يَتمُّ خُفية بعيدًا عن أعين الناس، حتى يُقال: إنه لم تأتِ فرصة للردِّ حال حدوث التعذيب. بل كان المشركون كما نعرف يدورون ببلال رضي الله عنه في شوارع مكة كلها أمام المسلمين وغير المسلمين؛ بل رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على سمية وياسر رضي الله عنهما وهما يُعَذَّبان فلم يَزِدْ على قوله لهما: «اصْبِرُوا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّة»[1]. ولم يُمْسِكْ بيد أبي جهل يمنعه من التعذيب، ولم يأمر أحد الصحابة بأن يتربَّص بأبي جهل ليقتله غيلة، ولم يُحاول تحريك بني هاشم للصدام مع بني مخزوم قبيلة أبي جهل، أو غير ذلك من الوسائل التي يمكن أن تخطر بأذهاننا لنرفع بها الظلم عن المظلومين، وما قلناه في حقِّ بلال وسمية وياسر رضي الله عنهم ينطبق على كل حالات التعذيب الأخرى.
لقد علمنا عندما شرحنا جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة أن الله عز وجل عندما أَمَرَه بالجهر أَمَرَه كذلك بأن يكفَّ عن القتال في مكة؛ أي أن هذا الكفَّ كان أمرًا ربانيًّا مباشرًا؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94]؛ ولكن السؤال: ما الحكمة من وراء هذا الإعراض عن المشركين؟ ولماذا لم يُسْمَح للمسلمين أن يردُّوا على الإيذاء مع أنه في بعض المواقف كان يمكنهم أن يفعلوا ذلك؟
نعم نحن نعلم أنَّنا أُمِرْنا باتباع أوامر الله عز وجل حتى مع عدم تبدِّي الحكمة لنا من ورائها، فليس معنى أنَّنا لم نجد بعقولنا حكمة مقنعة تُسَوِّغ لنا فرض أمرٍ من أوامر الله عز وجل أن نقوم بمخالفته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]؛ ولكن معرفة الحكمة -أو طرف منها- تشرح صدر المؤمنين للعمل، ويُثَبِّت اللهُ بهذه المعرفة الأقدام؛ لهذا أمرنا الله عز وجل بالتدبُّر في الآيات، وبالنظر في المواقف، وباستخراج العبر والدروس من القصص والروايات؛ قال تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176]، وقال كذلك: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 35]، وقال أيضًا: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، فهذه أوامر مباشرة تدعو إلى التدبُّر والفقه والوعي؛ وذلك حتى يقوى إيماننا، وتطمئنَّ قلوبنا، ومع ذلك فنحن نُوقن أن الحكمة البالغة كانت تقتضي هذا الإعراض الذي أمر به الله عز وجل، ونعلم أننا مهما اجتهدنا في معرفة الحكمة من وراء الأمر فإننا لن نُدرك إلَّا طرفًا بسيطًا منها؛ إذ إن حكمة الله عز وجل لا يُحيط بها أحد، ولا يقدر عليها بشر.
وهذا -فيما أرى- بعض الحِكَم من وراء الأمر بالإعراض عن المشركين، والكفِّ عن القتال مع وجود القدرة عليه أحيانًا:
الحكمة الأولى: البُعد التربوي المهمُّ في هذا الوضع، فلا شكَّ أن هذه الصورة الجديدة على أرض مكة، وهي صورة التعذيب الشديد لطائفة من الناس على أيدي غيرهم، وقَبول هذا الطرف المعذَّب لهذا الاضطهاد دون ردٍّ، هذه الصورة الجديدة تُرَبِّي في المؤمنين أمورًا من الصعب أن تُرَبَّى في ظروفٍ غيرها، ومن هذه الأمور نوعٌ جديدٌ من الصبر لم يألفوه.
فأنواع الصبر كثيرة، والعربي بصفة عامَّة صبور؛ إذ إنه يستطيع الصبر على آلام الجوع والحرِّ والفقر وطول السفر، وكذلك على الحروب وغيرها، وكلُّ هذا حسنٌ وحميد.
لكن العربي[2] لا يصبر على تحمُّل الظلم؛ إذ إنَّ طبيعته الثائرة لا ترضى بالضيم ولا بالجور، فتراه يثور، ولو كان الثَّمن هو حياته نفسها.
أمَّا الآن فقد أصبح من أهداف المؤمن أن يُقيم أُمَّة ودولة، ومن متطلبات بناء الأُمَّة أن يكون البناء متدرِّجًا، وأن يمرَّ بمراحل مختلفة، وألَّا ينظر الفرد إلى مصلحته الشخصية؛ بل يتعدَّاها إلى مصلحة المجموع، وهذه كلها أمور ما كان للعربي أن يُفَكِّر فيها قبل ذلك.
لقد صار واجبًا على المسلمين الآن عدم الالتفات إلى حظِّ النفس، فلا ينتصرون لذواتهم حتى لو تيسَّرت لهم الإمكانيات لهذا الانتصار؛ وذلك لصالح الأُمَّة، وهذه تربية على شيء جديد، وتحتاج إلى وقت وصبر؛ إذ ليس من الممكن أن تقوم أُمَّةٌ وأفرادها يُقَدِّمون مصالحهم الشخصية على مصالحها العامَّة.
ومن هنا فإن الكفَّ عن القتال كان ضروريًّا من أجل أن يُرَبَّى المسلمون على هذا النوع المهمِّ من الصبر، وهو الصبر على ضياع المصلحة الخاصَّة في مقابل إنجاح المصلحة العامَّة.
الحكمة الثانية: التربية على مبدأ حُسن السمع والطاعة للقيادة، وهو أمر من الأهمية بمكان، ولا تكاد تقوم جماعة إلَّا به، ولا تكاد تُبنى أُمَّة إلَّا عليه.
وإنَّ المقياس الحقيقي للطاعة هو أن يُطيع الفردُ قائدَه -في غير معصية الله سبحانه وتعالى- دونما جدلٍ أو ضجرٍ أو اعتراض، خاصَّةً فيما لا يُوافق هواه، أمَّا إذا كان أمر القيادة قد لاقى هوًى في النفس فلا فضل إذًا في الطاعة؛ لأنَّ الفرد سيُطيع حبًّا في الأمر، ورغبةً فيه، وليس طاعةً للأمير.
وإنَّ طاعة الجندي لقائده في الإسلام تتطلَّب أن يعتقد الجندي أنَّ طاعته لقائده -في غير معصية الله- هي في حقيقة الأمر طاعةٌ لله عز وجل، وأنَّه مأجورٌ عليها، والقائد هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].
ومع ذلك فالأمر ليس موقوفًا على إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط؛ بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على أن يستمرَّ هذا المعنى في الجماعة المؤمنة حتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وحتى بعد مرور القرون والقرون على هذه الوفاة، فقال ليُوَسِّع المسألة، ويجعلها عامَّة في كل الظروف المشابهة: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي»[3].
فهو هنا لا يجعل الأمر مُقيَّدًا بوجوده صلى الله عليه وسلم؛ بل يُعَلِّمنا أنَّ أمور الجماعات المؤمنة التي تبغي بناء أُمَّة، وقيام دولة، لا تقوم إلَّا على هذا الأساس، وهذا العقد الشريف بين الجندي وقائده، فإذا تعامل الجندي مع قائده بهذا المنطلق فإنَّ سعيَه إلى طاعة قائده يكون تمامًا كسعيه إلى أي عبادة يتقرَّب بها إلى الله عز وجل، ولا يخفى علينا أن الأمر يحتاج كذلك إلى علماء ربانيين اشتُهروا بالتقوى والورع، وعُرِف ذلك عنهم من تاريخهم، يُخبِرون القائدَ والجنودَ بما يُرضي الله وما يُغضبه، لئلا يقع البعض أو الجميع في المعصية من حيث يرجون الطاعة.
والطاعة الحقيقية للقائد تتطلَّب من الجندي أن يعرض وجهة نظره على القائد؛ إذ ليس من مقصودنا ما يُسَمِّيه بعضهم بالطاعة العمياء؛ فنحن على العكس نُريد الطاعة المبصرة، التي تدفع الجندي إلى أن يُفَكِّر فيما يُوَجَّه إليه، فإن وجد ما هو أصوب -في رأيه- ذهب إلى قائده، وعرض عليه رأيه، فإن قَبِل فبها ونعمت، وإن كانت الأخرى فليس إلَّا الطاعة، ودون تأفُّف أو ضجر، ما دام في غير معصية لله سبحانه وتعالى.
وذلك هو عين ما سيحدث من خباب رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنشرح بعد قليل؛ إذ إنَّ خبابًا رضي الله عنه طلب استعجال النصر، نعم هو يُوقن أن النصر سيأتي لا محالة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدهم به؛ لكنه كان يرى أن استعجاله للنصر مصلحةٌ في ذلك الوقت، وكان هذا اجتهادًا منه، وعليه فقد ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك بالدعاء؛ فلمَّا وضَّح له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وَبَيَّن له ضرورة الصبر، سمع خباب رضي الله عنه وأطاع، وقَبِل الأمر.
وقد تعلَّم خباب رضي الله عنه شيئًا غاية في الأهمية، وهو الطاعة لولي الأمر؛ إذ لا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة، وهذه تربية راقية.
وعلى الجانب الآخر سيطلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد إسلامه من قائده صلى الله عليه وسلم أن ينتقل المسلمون من مرحلة السرِّيَّة إلى مرحلة العلن، وسيقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وسيتمُّ التطبيق فورًا.
وإنَّ هذه الجماعة التي يتعامل فيها قائدها مع جنوده بهذا الأسلوب التربوي، وتلك التي يتعامل فيها الجندي مع قائده بهذا الاحترام وهذه الطاعة، لجماعةٌ منصورة بإذن الله.
الحكمة الثالثة: الدعوة السِّلْمية في هذه البيئة كانت أشدَّ أثرًا، وأعظم نتيجة.
وفي سبيل توضيح هذه الحكمة نودُّ أن نسأل سؤالًا: ما غرض المسلمين في نهاية الأمر؟ هل هو حُكم مكة، أم هو إسلام مكة؟!
والإجابة بالقطع أن الغرض هو إسلام مكة، وليس مهمًّا مَنِ الذي يحكمها بعد ذلك، المهمُّ أن يحكمها بكتاب الله سبحانه وتعالى، وبسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المقصود من الدعوة.
وهذه البيئة المكية كانت قد ألفت الكبرياء والشرف والعلوَّ والعزَّة، فإن فُرِض عليها رأي بالقوَّة فلن تتقبَّله؛ بل كانت المقاومة الإسلامية ستُؤَدِّي حتمًا إلى صراع مُبَكِّر بين المؤمنين والكافرين، وبسببه سيرفض الكافرون -غالبًا- الدخول في هذا الدين استكبارًا وعنادًا.
ومن هنا فلا بُدَّ للداعية من أن يدرس نفسيات مَنْ يدعوهم؛ فمِنَ الناس مَنْ يتأثَّر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم مَنْ يتأثَّر بذكاء العقل عنده، ومنهم من يتأثَّر بقوَّة البدن لديه، ومنهم مَنْ يتأثَّر بلطفه وأدبه.. وهكذا، فقد خلق الله عز وجل الناس مختلفين، ولا بُدَّ للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ولا بُدَّ أن يُراعي ظروف المدعوين وظروف البيئة التي يعيشون فيها، وكذلك لا بُدَّ أن يكون ذكيًّا ومرنًا حتى تنجح دعوته، وبعد ذلك فالموفَّق مَنْ وفَّقه الله عز وجل.
الحكمة الرابعة: سَيُؤَدِّي الكفُّ عن القتال إلى تجنُّب الفتنةِ الخطيرة، التي كانت ستحدث في مكة، وتلك المقتلة العظيمة التي كانت ستحلُّ في كل بيت، وأيضًا تجنُّب السمعة السيئة التي كانت ستلتصق بالإسلام من وراء ذلك، التي كانت سترمي إلى أن الإسلام يُؤَدِّي إلى فتن عظيمة.
والسبب في ذلك أنه لم يكن في أرض مكة حكومة مركزية تتولَّى أمر تعذيب المؤمنين؛ بل كان كل زعيم يتكفَّل بأتباعه، ويتكفَّل كل والد بولده، وكلُّ سيد بعبده، وكل شيخ قبيلة بأفراد قبيلته، وهكذا.
ومن هنا فلو قاتل المؤمنون دفاعًا عن أنفسهم فإنهم -لا ريب- سيُقاتلون آباءهم وأعمامهم وشيوخ قبائلهم، وحينها ماذا سيقول الناس عن الإسلام[4]؟
لقد كانت فِرْية الكافرين العظمى أن هذا الدين يُفَرِّق بين الولد ووالده، وبين الرجل وعشيرته، وبين المرء وزوجه، فهذه فِرْيتهم ولم يكن قد نشب قتالٌ بعدُ، فما البال لو حدث قتال بالفعل؟!
لقد كان الكفُّ عن القتال عاملًا مهمًّا جدًّا لتجنُّب هذه الفتنة الخطيرة التي كانت ستحدث في داخل مكة، وأيضًا للحفاظ على الصورة النقية الصافية للإسلام كما هي.
الحكمة الخامسة: الحفاظ على مَنْ سيُؤمن لاحقًا بالإسلام؛ فقد عَلِمَ الله عز وجل أنَّ كثيرًا من أهل مكة سينتقلون مستقبلًا من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان؛ فقد كانت الدعوة الإسلامية في مهدها، ولم تأخذ الفرصة الكافية للوصول إلى قلوب الناس، وكان من الطبيعي أن يَعْتَرِض عليها منذ البداية كثيرٌ من الناس، وقد يتشدَّدون في اعتراضهم، ثمَّ ما يلبث الحقُّ أن يتبدَّى في أعينهم، فإن كان الله يُريد بهم هداية استجابوا وأسرعوا إلى تصحيح أخطائهم، وهؤلاء عندما يُؤمنون يتحوَّلُون إلى عمالقة في الإيمان؛ وذلك لأنهم انتقلوا من الظلام الدامس إلى النور المبين؛ ولأنهم ذاقوا مرارة الكفر فعلموا حلاوة الإيمان.
وكان من هذا الصنف -على سبيل المثال- عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل.. وغيرهم، وقد أصبح كل هؤلاء بعد ذلك قادة مخلصين يحملون الإسلام إلى كل ربوع الأرض.
فلو حدث قتال في فترة مكة لكان من الممكن أن يموت خلقٌ كثيرٌ من هؤلاء.
الحكمة السادسة: استثارة النخوة في قلوب غير المسلمين الذين عاصروا الرسالة؛ فلقد كان العرب -وكذلك كثير من الناس- يتأثَّرُون كثيرًا بصورة المظلوم الذي لا يستطيع رفع الظلم عن كاهله، وكان من طبيعة العربي أن تُحَرِّكَه هذه النخوة والشهامة ليرفع الظلم عن المظلومين، وهذا في عموم العرب، إلَّا من فسدت فطرته، أو تزايدت مصالحه، فإنه قد لا يأبه لذلك.
وقد تحرَّك كثير من الناس في مكة نخوةً نتيجة الظلم الشديد الذي وقع على المسلمين، وتجسَّدت مثل هذه الصورة -كما سنرى بعد ذلك- في قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكذلك سنرى الجوار الذي سيعرضه ابن الدغنة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند هجرته إلى الحبشة، وكانت -أيضًا- الصحيفة التي نقضها المشركون أنفسهم بعد ثلاث سنوات من المقاطعة والحصار في شِعْب أبي طالب صورة من هذه النخوة.
الحكمة السابعة: المسلمون لا يصطدمون بالنواميس الكونيَّة؛ وهي حكمة غاية في الأهمية، فمِن النواميس الكونية -مثلًا- أن النار تحرق؛ لذلك فالمسلمون -أو الناس بصفة عامَّة- لا يُلقون بأنفسهم فيها، كذلك من النواميس الكونية أن الذي يسقط في ماء عميق وهو لا يجيد السباحة فإنَّه لا محالة سيغرق؛ لذلك فإنَّ المسلمين -والناس كلهم كذلك- لا يتهوَّرون بنزول ماء عميق دون إجادة للسباحة.
كذلك فإنَّ من النواميس الثابتة أنَّ للباطل قوَّة لا بُدَّ أن تُعْتَبر، ولا يستقيم للمؤمنين أن يقولوا: إنَّنا على الحقِّ، وإنَّ الله معنا. ثمَّ يُلقون بأنفسهم في مهلكة، أو في حربٍ خاسرة، ظنًّا منهم أنَّهم لا بُدَّ أن ينتصروا؛ لأنَّهم جند الله، وعباد الرحمن؛ فالإسلام دينٌ واقعي، ومنهجٌ عملي، ومن أجل ذلك فإنَّه يقيس بدقَّة قوَّة الباطل، ويُقَدِّر حجمها، ثمَّ يحسب القوَّة الكافية للرَّدِّ، ويضع الخطَّة المناسبة للنصر، ويُهَيِّئ الصفَّ الكفء للقتال، ثمَّ يأتي بعدُ القتال؛ أي أنَّ الإسلام -ببساطة شديدة- دينٌ يحترم ويُقَدِّر الأسباب، وليس معنى أنَّ المسلمين يحترمون الأسباب، أنهم لا يتوكَّلون على الله، فالتوكُّل الصحيح هو الاعتقاد الجازم أنَّ الله بيده كلُّ شيء، والاعتماد الكامل عليه سبحانه؛ وذلك مع الأخذ بكلِّ الأسباب المتاحة للمؤمن، وإدراك أنَّ الأسباب لن تُؤْتِيَ نتائجها إلَّا إذا أراد الله عز وجل، وبغير الأخذ بالأسباب يتحوَّل التوكُّل على الله إلى تواكل، وشتَّان!
ولْنسأل أنفسنا: ماذا لو قام المؤمنون بثورة مسلحة في مكة؟
لا شكَّ أنَّهم كانوا سيقتلون رجلًا أو رجلين أو عشرة، أو حتى مائة رجل؛ لكنَّهم -ولا شكَّ أيضًا- كانوا سَيُبَادون عن آخرهم، ومع أنَّ الموت في سبيل الله غاية، فإنَّ المؤمن لا يموت بغير ثمن؛ فإذا لم يغلب على الظنِّ التمكين، أو إحداث النكاية في العدوِّ، فلا معنى للقتال.
ولقد كان المسلمون في مكة قلَّة مستضعفة، وكانت القياسات المادِّيَّة تُشير إلى أنَّ الوقت غير مناسبٍ للقتال؛ وذلك ليس جبنًا أو ضعفًا؛ وإنَّما حكمةٌ وتدبيرٌ، وسيأتي يوم تأخذ فيه قيادة المسلمين قرار القتال في بدر وما بعدها، عندما تُصبح الظروف مواتية؛ لذلك احترمت الشريعة هذه القياسات المادِّيَّة لتُعَلِّم المسلمين منهجًا يمكن أن يتعاملوا به في مستقبلهم، حتى في غياب الوحي.
إنَّ المسلمين لا يتسرَّعُون النتائج، ويُدْركون تمامًا حقيقة ما يُسَمَّى «فقه المرحلة»؛ فهم يدرسون الظروف بإحكام، ويضعون الخطط، ويطلبون المدد من الله عز وجل، ثمَّ يقومون بما يُناسب المرحلة التي يمرُّون بها؛ فقد يُناسبها كفٌّ عن القتال، وقد يُناسبها دعوة سرِّيَّة، وقد يُناسبها دعوة جهرية، وقد يُناسبها معاهدات ومفاوضات، وقد يناسبها جهاد واستشهاد.
والرسول صلى الله عليه وسلم مرَّ بكل هذه المراحل، ووضع لنا منهجًا دقيقًا نَتَّبعه فيه، ولم يترك لنا موقفًا إلَّا بَيَّن كيف نتعامل معه طبقًا لنواميس الكون، وطبقًا كذلك لشرائع الإسلام.
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرَّد رجل عبقري حكيم؛ إنما كان رسولًا من عند ربِّ العالمين، ينقل ما أراده الله منَّا في كل موقف؛ ومن هنا كانت أهمية دراسة سيرته وقصة حياته صلى الله عليه وسلم.
الحكمة الثامنة: لم يكن القتال ضرورة مُلِحَّة؛ فقد كانت الدعوة في مكة تسير وتتقدَّم، وهي وإِنْ كانت تسير بصعوبة بالغة، وبمشقَّة عظيمة فإنها كانت تتقدَّم يومًا بعد يوم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس ويدعوهم، وهو تحت حماية سيوف بني هاشم، فقد جعل أبو طالب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضيةَ حياته، وكرَّس جهده لردِّ الكيد عنه.
فكانت الحكمة تقتضي أن يستغلَّ المسلمون هذه الظروف في القيام بأمر الدعوة، وحين يموت أبو طالب، أو تنتهي حمايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا شكَّ ستختلف تلك المرحلة عن سابقتها، وسيكون لها فقه مختلف، سنرى تفاصيله -بمشيئة الله- في الصفحات القادمة.
الحكمة التاسعة: القتال سيكشف أوراق المسلمين وسيُظهر كثيرًا من المؤمنين الذين لم يكن إيمانهم قد اشتُهر بعدُ.
وهذه المرحلة لم تكن تتحمَّل هذا الوضوح؛ فقد كانت تَتَّسم بجهريَّة الدعوة للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وقد يكون للقليل ممَّن لهم منعة ولو نسبيَّة، أمَّا عموم المسلمين فلم يُعلنوا عن أنفسهم بعدُ.
ولو حدث قتالٌ في أوائل فترة مكة لاكتُشف أمر دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، ولما استطاع المسلمون أن يحادثوا الأفواج التي كانت تأتي إلى مكة وقت الحجِّ، ولما استطاع المسلمون أن يُغادروا مكة إلى غيرها، أو يدخلوا إليها إذا كانوا على سفر، وكانت القيود المشدَّدة ستُوضع عليهم، وسيُؤَخِّر كلُّ ذلك الدعوة لا محالة، ومن هنا كانت متطلَّبَات هذه المرحلة أن يكفَّ المسلمون اليدَّ عن القتال؛ حتى لا يُؤَدِّيَ ذلك إلى كشف كلِّ أوراقهم، في وقت يحتاجون فيه إلى التكتُّم الشديد.
الحكمة العاشرة: إظهار قدرة الله عز وجل وقوَّته وعزَّته وحكمته؛ فقد ظهر أمام الجميع في مكة ومَنْ حولها، في زمانهم وفي الأزمان التي جاءت بعد ذلك، كيف كان المؤمنون ضعفاء، وكيف كانوا قلَّة لا يملكون مقوِّمات الردِّ المادية فضلًا عن مقوِّمات الانتصار، ثمَّ ستظهر بعد ذلك آيات عجيبة، وتحدث أمور لا تخطر على عقول البشر!
فقد دبَّر الإله الحكيم لأوليائه؛ فإذا بالضعف يتحوَّل إلى قوَّة، وإذا بالذُّلِّ يصير عزَّة، وإذا بالخوف يتبدَّل أمنًا، وإذا بالتشريد والتعذيب والإهانة والقتل، كلُّ ذلك يتحوَّل إلى سيادة وتمكين.
وسيكون هناك بعد ذلك بدر والأحزاب، وفتح مكة وتبوك، وغيرها من المواقع الفاصلة.
ثمَّ بعد ذلك -أيضًا- سيأتي فتح فارس والروم، وسنرى كيف انتشر الإسلام حتى عمَّ الأرجاء، وكلُّ هذا بهؤلاء الضعفاء القلَّة؛ الذين كانوا يُعذَّبون في مكة؛ قال تعالى: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].
فهذه بعض الأسباب التي من أجلها أُمِر المسلمون في هذه المرحلة بالكفِّ عن القتال، وسيأتي زمانٌ بعد ذلك يُسمَح فيه للمسلمين بالقتال؛ بل سيُؤمرون به، وكلُّ مرحلةٍ لها طبيعتها، وهذه روعة الإسلام وعظمته!
[1] الطبراني: المعجم الكبير (20790)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/293، وقال الصوياني: يقوي ما قبله. انظر: السيرة النبوية 1/90.
[2] ذكرنا العربي على وجه الخصوص لأن غالب مَنْ آمنوا بالإسلام في أيامه الأولى كانوا من العرب، ومع ذلك فهناك الكثير من الشعوب والأجناس تتشابه مع العرب في طبيعتهم الثائرة، ورفضهم للظلم بشكل عامٍّ.
[3] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، (2797)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، (1835).
[4] لا شكَّ أننا يجب أن ننظر إلى الظرف التاريخي الذي تمَّ فيه الأمر بالكفِّ عن القتال؛ لأنه بعد ذلك -في فترة المدينة وعند قيام الدولة- سيؤمر المؤمنون بقتال المشركين، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم، ولكن هنا في مكة، وفي زمن الجماعة المؤمنة المضطهَدة، وفي ظلِّ غياب الدولة، تُصبح مصالح القتال بشكل عامٍّ أقل من مضارِّه؛ لذلك مُنِع المسلمون منه، والأمر فيه تفصيل، وسيتم تناوله بشكل أوسع عند الحديث عن فترة العهد المدني وقيام الدولة.
التعليقات
إرسال تعليقك