الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
انتابت المشركين حيرةٌ كبيرة عندما علموا بمرض أبي طالب؛ فهم يرون أنَّ لوفاته آثار إيجابية وسلبية فاجتمعوا للتشاور في هذا الشأن. فما تلك النتائج؟ وما الذي.jpg)
أهم مقتطفات المقال
كانت هذه هي الأفكار التي تتزاحم في أذهان المشركين.. فهم سعداء لضعف بني هاشم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات أبو طالب؛ لكنَّهم قلقون من عدم قدرتهم على الوصول إلى حلٍّ عملي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غياب أبي طالب، وهذه الحيرة التي انتابتهم دفعتهم إلى الاجتماع للوصول إلى أفضل الطرق للتعامل مع الظرف.
انتهى الحصار المكي لبني عبد مناف مع بدايات العام العاشر من النبوَّة، وقد بدأ هذا العام بمرض الشيخ الكبير أبي طالب، وكان قد جاوز الثمانين من عمره، وقد أمضى ثلاث سنوات محاصَرًا مع قومه في الشِّعْب في مشقَّة بالغة، وقد أكلوا ورق الشجر والجلود، وعاشوا لحظات الحذر والترقُّب والقلق، ولا شكَّ أنَّ كلَّ ذلك أرهق الشيخ الكبير، وازداد عليه المرض، وبدأ الناس في مكة يقولون إنَّ هذا هو مرض الموت.
واجتمع زعماء الكفر من جديد وتشاوروا؛ فموت أبي طالب وغيابه عن ساحة الأحداث قد يُغَيِّر من المعادلة سلبًا أو إيجابًا، ولا بُدَّ من دراسة الموقف.. الآثار السلبيَّة قد تتمثَّل في غياب الشخصيَّة الوسيطة التي يُمكن أن يتفاوض المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقها، وشخصيَّة أبي طالب في الحقيقة شخصيَّة متميِّزة جدًّا، وهي أنسب الشخصيَّات للوساطة بين المشركين ورسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنَّه قريبٌ من الطرفين بصورةٍ أو بأخرى؛ فهو بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمُّه، وكبير قومه، ومن أقرب الناس إلى قلبه؛ ومن ثَمَّ فهو أقدر الناس على التأثير عليه، وأبو طالب في الوقت ذاته زعيمٌ من زعماء مكة القدامى، وما زال على دينهم الوثني، وهذا يُمَثِّل حلقة تواصل مهمَّة معهم، فهو وسيطٌ بحقِّ الكلمة، وإذا مات أبو طالب فلن يكون هناك سبيلٌ للتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرنا إلى هذه المخاوف المكيَّة في ظلِّ الثبات الإسلامي، وطول النفس الملحوظ، وتزايد الملتحقين بصفِّ محمد صلى الله عليه وسلم، فإنَّنا سنُدرك أنَّ المشركين كانوا يتوقَّعون تأزُّم الموقف جدًّا في مكة، وعندها سيدخلون -لا شكَّ- في نفقٍ مظلم؛ هذه تبعات سلبيَّة محتملة لموت أبي طالب.
أمَّا الآثار الإيجابيَّة التي يُمكن أن يُحَقِّقها المشركون فناتجةٌ عن غياب أكبر شخصيَّةٍ داعمةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وليس هذا فقط؛ فموت أبي طالب قد يُهَمِّش دور قبيلة بني هاشم كلِّها؛ لأنَّ قيادة بني هاشم ستئُول بعد وفاة أبي طالب إلى أبي لهب! وأبو لهب من أكبر أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب إلى المشركين وصفِّهم وجماعتهم منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أنَّه تحت ظلِّ قيادة أبي لهب لن تتكرَّر المواقف الهاشميَّة المشرِّفة، كموقفهم في الدخول إلى الشِّعْب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كانت هذه هي الأفكار التي تتزاحم في أذهان المشركين.. فهم سعداء لضعف بني هاشم ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات أبو طالب؛ لكنَّهم قلقون من عدم قدرتهم على الوصول إلى حلٍّ عملي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند غياب أبي طالب، وهذه الحيرة التي انتابتهم دفعتهم إلى الاجتماع للوصول إلى أفضل الطرق للتعامل مع الظرف.
وقد نقل الطبري وابن إسحاق رحمهما الله عدَّة روايات تشرح تفاصيل هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ مكة، كما جاءت روايات كثيرة في كتب السنن تدعم هذه التفاصيل وتُؤَكِّدها.
قال الطبري: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فِي نَفَرٍ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَنُكَلِّمْهُ فِيهِ، فَلْيَنْصِفْنَا مِنْهُ، فَيَأْمُرُهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَمُوتَ هَذَا الشَّيْخُ فَيَكُونُ مِنَّا شَيْءٌ فَتُعَيِّرُنَا الْعَرَبُ، يَقُولُونَ: تَرَكُوهُ، حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ. قَالَ: فَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُدْعَى الْمُطَّلِبُ، فَاسْتَأْذَنَ لهم عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ[1]، يَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْكَ. قَالَ: أَدْخِلْهُمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ.
قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: يَابْنَ أَخِي؛ هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ، وَقَدْ سَأَلُوكَ النَّصَفَ، أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ. قَالَ: «أَيْ عَمِّ؛ أَوَلَا أَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهَا؟» قَالَ: وَإِلَامَ تَدْعُوهُمْ؟ قَالَ: «أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ». قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ مِنْ بَيْنَ الْقَوْمِ: مَا هِيَ وَأَبِيكَ؟ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْرًا أَمْثَالَهَا. قَالَ: تَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. قَالَ: فَنَفَرُوا وَتَفَرَّقُوا وَقَالُوا: سَلْنَا غَيْرَ هَذِهِ. فَقَالَ: «لَوْ جِئْتُمُونِي بِالشَّمْسِ حَتَّى تَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا سَأَلْتُكُمْ غَيْرَهَا!» قَالَ: فَغَضِبُوا وَقَامُوا مِنْ عِنْدِهِ غَضَابَى، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ وَإِلَهَكَ الَّذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا، ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ﴾، إلى قوله: ﴿إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾ [ص: 6، 7][2].
وروى الطبري كذلك من طريقٍ آخر بعض تفصيلات هذه المرحلة:
قال الطبري: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ، وَيَقُولُ وَيَقُولُ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ! فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رَجُلٍ، قَالَ: فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي! مَا بَالُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ وَتَقُولُ وَتَقُولُ! قَالَ: وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ، وَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا عَمِّ، إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ». فَفَزِعُوا لِكَلِمَتِهِ وَلِقَوْلِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؛ نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا، فَمَا هِيَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كَلِمَةٍ هِيَ يَابْنَ أَخِي؟ قَالَ: «لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». قَالَ: فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5]، قَالَ: وَنَزَلَتْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ[3].
وعند أحمد بسياقٍ قريبٍ من السابق:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، ابْنُ أَخِيكَ يَشْتِمُ آلِهَتَنَا، يَقُولُ وَيَقُولُ، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِ فَانْهَهُ. قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، وَكَانَ قُرْبَ أَبِي طَالِبٍ مَوْضِعُ رَجُلٍ، فَخَشِيَ -أي أبا جهل- إِنْ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَمِّهِ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ، فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَجِدْ مَجْلِسًا إِلَّا عِنْدَ الْبَابِ فَجَلَسَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَابْنَ أَخِي؛ إِنَّ قَوْمَكَ يَشْكُونَكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ، وَتَقُولُ وَتَقُولُ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: «يَا عَمِّ؛ إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ». قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ نَعَمْ وَأَبِيكَ، عَشْرًا. قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». قَالَ: فَقَامُوا وَهُمْ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5] قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص: 8][4].
وروى الترمذي -وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ- وغيره، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ، وَجَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ، قَالَ: وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي؛ مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: «إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ العَجَمُ الجِزْيَةَ». قَالَ: كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ: «كَلِمَةً وَاحِدَةً». قَالَ: «يَا عَمِّ؛ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». فَقَالُوا: إِلَهًا وَاحِدًا مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ. قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمُ القُرْآنُ: ﴿ص وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: 1، 2] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 7][5].
وقال ابن إسحاق: وَلَمَّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا ثِقَلُهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضِ: إنَّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلَى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَلْيُعْطِهِ مِنَّا، وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا أَمْرَنَا[6].
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَادْعُهُ، فَخُذْ لَهُ مِنَّا، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ، لِيَكُفَّ عَنَّا، وَنَكُفَّ عَنْهُ، وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا، وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ، فَبَعَثَ إلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَهُ، فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي؛ هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِكَ، قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ، لِيُعْطُوكَ، وَلِيَأْخُذُوا مِنْكَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونِيهَا تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ». قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيكَ، وَعَشْرَ كَلِمَاتٍ. قَالَ: «تَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ. وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ». قَالَ: فَصَفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَجْعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا، إنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ! قَالَ: ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: إنَّهُ وَاللهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ. قَالَ: ثُمَّ تَفَرَّقُوا[7].
هذه هي الجولة الجديدة من الصدام!
إنَّ قريشًا تزعم أنَّها تخاف من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب، فتُعَيِّرها العرب أنَّها استغلَّتْ موته لإيذاء ابن أخيه، ولم تكن تقدر على ذلك في حياته! هذه قد تبدو عبارات صادقة تُعَبِّر بها قريش عن حيائها من كلام العرب والناس، ولعلَّها بقيَّة حياء في زعماء الجاهليَّة؛ ولكن -في رأيي- إنَّ معظم حيائهم كان قد ذهب بالفعل! فأيُّ حياءٍ هذا الذي يشعرون به وقد جوَّعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكلَّ قبيلته، بل عمَّه أبا طالب الشيخَ الكبير؛ وذلك لثلاث سنوات كاملة؟! إنَّ خوفهم لم يكن كما زعموا من تعيير العرب لهم؛ إنَّما كان في المقام الأول نابعًا من فزعهم من تزايد القوَّة الإسلاميَّة دون أن يكون في وسعهم إيقافها، ولهذا كانت هذه الزيارات والعروض.
[1] سرواتهم: أشرافهم.
[2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/323، 324.
[3] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/325.
[4] أحمد (3419)، وابن أبي شيبة: المصنف (36564).
[5] الترمذي: كتاب تفسير القرآن، سورة ص (3232)، واللفظ له، وقال: حديث حسن. والنسائي (11436)، وأحمد (2008)، وابن حبان (6686)، والحاكم (3617)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[6] يبتزونا أمرنا أي: يغلبونا عليه ويسلبونا إيَّاه.
[7] ابن إسحاق: السير والمغازي ص236، 237، وابن هشام: السيرة النبوية 1/417، وقال الصالحي الشامي: «وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد والترمذي وصحَّحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن جرير وابن أبي حاتم عن السُّدِّي، والبخاري والبيهقي عن سعيد بن المسيب عن أبيه، ومسلم والبيهقي عن أبي هريرة: أنَّ أبا طالب لمـَّا اشتكى وبلغ قريش ثقله قال بعضها لبعض...». وذكر هذه الرواية. انظر: سبل الهدى والرشاد 2/428.
التعليقات
إرسال تعليقك