الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
ماذا حدث للمسلمين في أرض الحبشة بعد فشل السفارة المكية؟ سؤال يجيب عليه الدكتور راغب السرجاني
ماذا حدث للمسلمين في أرض الحبشة بعد فشل السفارة المكية؟
الواقع أن المسلمين أخذوا وعدًا صريحًا من النجاشي بالأمان في البلد، فقد قال لهم في نهاية اللقاء: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ -وفي رواية شيوم[1]- بِأَرْضِي»، وَالسُّيُومُ -كما تقول أم سلمة رضي الله عنها- أي الآمِنُونَ بلغة أهل الحبشة، وقال أيضًا: «فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا وَأَنِّي آذَيْتُ رجلًا مِنْكُمْ».
وكان النجاشي عند كلمته، فعاش المسلمون آمنين في كنفه، سعداء بحمايته، ولقد آثر النجاشي في هذه المرحلة أن يجعل سكن المسلمين إلى جواره في العاصمة، بالقرب من النيل، وليس في المدينة الساحلية التي كانوا يعيشون فيها قبل استدعائهم؛ وذلك حتى يطمئن على أحوالهم، ويكون أقدر على حمايتهم، وقد استنتجنا ذلك من كلام أم سلمة رضي الله عنها عند الحديث عن معركة قادمة ستدور بين النجاشي وأعدائه على ضفاف النيل؛ وذلك أن المسلمين أرسلوا الزبير بن العوام رضي الله عنه ليتابع أحداث المعركة، وسياق الكلام يُؤَكِّد أن مستقرَّ المسلمين كان قريبًا من أرض القتال، أي قريبًا من النيل، وليس البحر الأحمر، وإن كان هذا المستقر سيتغيَّر، كما سنتبيَّن في السطور القادمة، عندما تتغيَّر الأحداث.
ولقد عبَّرت أم سلمة رضي الله عنها عن حالة الوفد المسلم المستريحة في ظلِّ رعاية النجاشي بطرق مختلفة في سياق قصتها، فقالت مرَّة: «جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللهَ لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شيئًا نَكْرَهُهُ». وقالت مَرَّة أخرى: «وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ». وقالت ثالثة: «فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ»[2]. وهذا الإصرار المتكرِّر يُوَضِّح رضاءها التامَّ عن تعامل النجاشي مع المسلمين؛ وذلك في كل فترة حياتها في الحبشة.
ولم يكتفِ النجاشي رحمه الله بالرعاية الأدبية للمسلمين؛ بل إنه سنَّ قوانين تُؤَكِّد هذه الرعاية، فقال في رواية أم سلمة رضي الله عنها: «مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ». وفي رواية عمرو بن العاص نفسه، قال النجاشي مخاطبًا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: «اذْهَبْ فَأَنْتَ آمِنٌ بِأَرْضِي، فَمَنْ ضَرَبَكَ قَتَلْتُهُ، وَمَنْ سَبَّكَ غَرَّمْتُهُ». فهذه قوانين حماية للوفد المسلم، ستُفرض على الشَّعْب الحبشي كله، وهي أن مَنْ يتعرَّض لأحد المسلمين بالضرب يكون جزاؤه القتل، وأنَّ مَنْ يتعرَّض لهم بالسباب سيدفع غرامة مالية لذلك، وفي بعض الروايات أن هذه الغرامة كانت أربعة دراهم[3]، وهذا يُوَضِّح مدى حرص النجاشي على راحة المسلمين، مع أن هذه القوانين قد تضجر المجتمع الحبشي غير المؤمن بمعتقدات المسلمين؛ لكنه كان واجب الوقت، وواجب العدل، وواجب النخوة، وكان النجاشي خيرَ مَنْ يقوم بهذه الواجبات.
وزاد النجاشي على ذلك أن اختصَّ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بشيء لم يُعطه حتى لكبار رجال دولته، وهو السماح لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بالدخول عليه في كل الأوقات، مع كثرة انشغالاته، وتعدُّد همومه ومسئولياته، فقال لحارسه: «مَتَى مَا أَتَاكَ هَذَا -يقصد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه- لِيَسْتَأْذِنَ عَلَيَّ فَأْذَنْ لَهُ عَلَيَّ إِلَّا أَنْ أَكُونَ عِنْدَ أَهْلِي، فَإِنْ كُنْتُ عِنْدَ أَهْلِي فَأَخْبِرْهُ، فَإِنْ أَبَى فَأْذَنْ لَهُ، قَالَ: وَتَفَرَّقْنَا» وهذا كما جاء في رواية عمرو بن العاص، فهذا التكريم يُعطي الوفد مكانة وقيمة تمنع عامَّة الناس من التعرُّض له بالأذى.
لقد كان النجاشي نعم الرفيق لهذا الوفد المهاجر، ولا شكَّ أن وجوده في أرض الحبشة في هذا الوقت سهَّل على المسلمين بقاءهم وحياتهم، وهذا ما حفظه له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكتفِ بالمديح له، والثناء عليه، إنما دعا صحابته للاستغفار له؛ بل الصلاة عليه عند موته صلاة الغائب، وهذا ما حدث في العام التاسع من الهجرة؛ وذلك كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الحَبَشَةِ، يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ»[4].
وقال أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا»[5].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مسند إسحاق بن راهويه 4/72 (1835)، وابن إسحاق: السير والمغازي ص215، وابن هشام: السيرة النبوية 1/337، والبيهقي: دلائل النبوة 2/301-304، وابن عساكر: تاريخ دمشق 72/123.
[2] التخريج السابق نفسه.
[3] قال النجاشي وأخذ شيئًا من الأرض: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا. ثم قال: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم. فنادى من آذى منهم فأغرموه أربعة دراهم. ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا. فأضعفها. انظر: البغوي: معجم الصحابة 1/454، ومحب الدين الطبري: ذخائر العقبى ص208، والذهبي: تاريخ الإسلام 1/196، وسير أعلام النبلاء 1/436، ونقله ابن كثير عن ابن عساكر وقال: ثم قال ابن عساكر حسن غريب. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 3/91، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/392.
[4] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب موت النجاشي، (3667)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، (951).
[5] البخاري: كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، (1263).
التعليقات
إرسال تعليقك