الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
هل الأصل أنَّ العالم في حالة استقرار تتخلَّلها مراحل انتقاليَّة مؤقَّتة من الفوضى والاضطراب؟ أم أنَّ العالم في حالة اضطراب تتخللها أحيانًا مراحل
من وحي الكلمات والمعاني السابقة في مقال أسوأ الحروب، ومن خلال قناعتي أنَّ الحرب للأسف الشديد حتميَّة كونيَّة، ليس لأنَّها جميلة أو رائعة؛ ولكن لأنَّها قد تكون أحيانًا وسيلةً وحيدةً للدفاع عن المشتركات الإنسانيَّة، وفي الوقت نفسه هي حتميَّة؛ لأنَّ البشر دائمًا يعتريهم نقص وقصور، وبالتالي لن ينتهي من العالم سوء التفاهم، وخطأ التأويل، وغياب المعلومة، وسوء الاجتهاد، وغير ذلك من أمورٍ تدفع إلى حروبٍ وصدامات، هذا كلُّه فضلًا عن حتميَّة بقاء الشرِّ في الدنيا، ووجود أناسٍ يُرَجِّحون دومًا مصالحهم الذاتية على مصالح البشر.
من وحي هذه الكلمات وهذه القناعات لا بُدَّ أن أطرح للنقاش -في ظلال نظرية المشترك الإنساني- مسألةً جدليَّةً بين العلماء؛ لنُحاول أن نُقَدِّم فيها رؤيةً جديدة.
والمسألة في غاية الدقَّة والحساسية!
هل الأصل أنَّ العالم في حالة استقرار تتخلَّلها مراحل انتقاليَّة مؤقَّتة من الفوضى والاضطراب؟ أم أنَّ العالم في حالة اضطراب تتخللها أحيانًا مراحل استقرار وهدوء؟
أهي حالة سلام وأمان تتخلَّلها حرب؟ أم حالة حروبٍ وصدامٍ يتخلَّلها سلام؟
إنَّ السؤال في غاية الدقَّة.. وهو يُعَبِّر عن قصَّة الإنسان في الأرض، وفي الوقت نفسه يُعَبِّر عن سلوكيَّاته وطبائعه وغرائزه وميوله.. وقد تحتاج للإجابة عن هذا السؤال لعلماء في عدَّة مجالات كالتاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا والنفس والدين.. وغير ذلك.
البعض يرى أنَّ الأصل هو الاستقرار؛ مثل المفكِّر وليام هايلاند (William Hyland)، وأنَّ الاضطرابات هي مجرَّد استثناءات ثُمَّ لا تلبث أن تعود الأمور إلى الاستقرار[1].
وآخرون يرون أنَّ الأصل في الأمور هو الفوضى؛ وأنَّ العالم في خلال هذه الفوضى قد ينعم ببعض لحظات السلام.
وأنا -وإن كنتُ أقف موقفًا متوسِّطًا بين الرأيين- إلَّا إنَّني أميل نسبيًّا إلى الرأي الثاني!
إنَّنا إذا نظرنا نظرةً سريعةً على تاريخ الدنيا؛ سواءٌ التاريخ القديم أو الحديث، وكذلك إذا نظرنا للواقع، اكتشفنا أنَّ قصَّة الإنسان في الأرض تشهد الصراعات والصدامات في معظم فتراتها.. واكتشفنا -كذلك- أنَّ معظم الأقوياء من الأشخاص أو الحضارات يطغون على حقوق الآخرين، وحيث إنَّه لا بُدَّ من وجود أقوياء في كلِّ مرحلةٍ من مراحل الحياة، فلا بُدَّ إِذَنْ أن يُوجد طغيان وعدوان! واكتشفنا أنَّ معظم شعوب الأرض تُقاوم المصلحين بها! وأنَّ غالب مَنْ يقول كلمة الحقِّ يتعرَّض للإيذاء!
هذه قراءات صادقة للتاريخ والواقع.. وهي وإن كانت مُرَّة، إلَّا أنَّها حقيقة..
نعم هناك فترات يظهر فيها مصلحون ونبلاء يُعَدِّلون المسار، ويأخذون البشريَّة إلى مرحلة الراحة والسكون والعدل والرحمة، لكن تظلُّ هذه المراحل الهانئة فترات محدودة في داخل الصراع الطويل. وراجعوا قصص الأنبياء والمرسلين؛ لتروا مدى التكذيب والإعراض مع أنَّ رسالاتهم كانت نبيلة، وحججهم كانت قاهرة، قال تعالى: )وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( [الزخرف: 6 ، 7].
لا.. إنَّها نظرةٌ واقعيَّة!!
وهل إذا كان الأصل هو الاضطراب فلا داعي إذًا للإصلاح؟
مرَّة ثانية: لا.. إنَّما على المصلحين والنبلاء أن يُضاعفوا جهودهم، ويُكَثِّفوا نشاطهم لتقليل الاضطراب، وتوسيع دائرة السلام والأمان.
إنَّني لا أدفع المصلحين إلى السكون والاستسلام؛ بل إلى الحركة والمقاومة..
ولكنَّني مع هذه النظرة -التي تبدو مظلمة- أرى بصيصًا رائعًا من النور في ثنايا الظلام! وهو أنَّ هذه الحالة من الاضطراب والفوضى "ذاتيَّة الوقوف"؛ بمعنى أنَّها تحمل في ثناياها بذور الاستقرار والأمان؛ بحيث نطمئن إلى أنَّ الاضطراب والعنف مهما استمرَّا وطالا لا بُدَّ لهما من نهايةٍ واستقرار! وهذا يدعوني إلى إدخال مصطلحٍ -أحسبه جديدًا- وهو مصطلح "الفوضى المنظَّمة"!!
إنَّ حالة الفوضى والاضطراب التي نراها هذه تتبع في الحقيقة نظامًا ثابتًا في الكون لا يتغيَّر، وبتعبير القرآن فهذه "سُنَّة" من سنن الكون؛ قال تعالى: )سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا( [الأحزاب: 62].
وهذا النظام الدقيق يقضي بأنَّ هذه الاضطرابات المتزايدة تقود بدورها إلى حالةٍ من الاستقرار فيما بعد.. فكيف يحدث ذلك؟!
إنَّ هذه الاضطرابات تنشأ غالبًا -كما ذكرنا- نتيجة وجود أقوياء لا ينظرون إلى أيَّة أبعاد أخلاقيَّة، فيُمارسون الطغيان على حقوق البشر.. وكلَّما ازدادوا قوَّةً ازدادوا انهيارًا في الأخلاق، وازدادوا طمعًا وجشعًا.. وكلا الأمرين من مهلكات الأمم؛ فالأمم التي انهارت أخلاقها تتفسَّخ تلقائيًّا، وتبدأ في السقوط، والأمم التي زاد جشعها وطمعها تتوسَّع بما لا يتناسب مع إمكانيَّاتها، وتدخل في مرحلةٍ من الكِبر الذي يُعمي أبصارها؛ وبالتالي تبدأ في السقوط والفشل.
إِذَنْ هذا الانهيار الخلقي وهذا الطمع يقودان ذاتيًّا إلى "تقليص" القوَّة الهمجيَّة التي طغت ونشرت الفساد، وبالتالي يُفْسَح المجال "تلقائيًّا" إلى ظهور قوَّةٍ جديدةٍ تُحْدِث توازنًا واستقرارًا.
وهذا ما قصدته بمصطلح "الفوضى المنظمة"!
فنَعَمْ الأصل أنَّ حالات الفوضى كثيرة وطاغية، إلَّا أنَّ نظام الحياة والكون وطبائع الأشياء تقضي بأنَّ هذه الفوضى تقف ذاتيًّا مع مرور الوقت؛ ومِنْ ثَمَّ فهي تتبع "نظامًا" ثابتًا.. هل معنى هذا أن "ننتظر" حتى تتوقَّف الفوضى ذاتيًّا، فلا داعي لإرهاق أنفسنا بالإصلاح؟
ليس هذا هو المقصود بالطبع؛ إنَّما المقصد ألَّا يُحبط المصلحون والنبلاء من رؤية طغيان القوَّة، بل عليهم مضاعفة الجهد حتى تأتي بالسلام أسرع، حتى يدوم في عالمنا فترة أطول، وهذا في حدِّ ذاته من آليَّات "النظام" الذي يُفضي إلى توقُّف "الفوضى"!
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] William Hyland,"Du Pragmatisme en Politique etrangere," Dialouge, no. 98 (avril 1992).P. 69.
التعليقات
إرسال تعليقك