د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
نرى أحيانًا في بعض الصلوات مصلِّيًا يُصَلِّي بمفرده خلف الصفِّ! فما حكم هذه الصلاة التي اختلَّت فيها فكرة الاصطفاف التي تقوم عليها صلاة الجماعة؟
أهم مقتطفات المقال
السؤال: نرى أحيانًا في بعض الصلوات مصلِّيًا يُصَلِّي بمفرده خلف الصفِّ! فما حكم هذه الصلاة التي اختلَّت فيها فكرة الاصطفاف التي تقوم عليها صلاة الجماعة؟
الجواب:
إن موقف هذا المنفرد خلف الصفِّ يحتمل حالة من اثنتين:
أمَّا الحالة الأولى فهي أن يكون في الصفِّ مكان يسعه؛ وهذا قد اختلف أهل العلم في صحَّة صلاته؛ قال الإمام الترمذي رحمه الله: «كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، وَقَالُوا: يُعِيدُ إِذَا صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ. وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ». ثم حكاه -أيضًا- عن حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَوَكِيعٌ. ثم قال: «وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُجْزِئُهُ إِذَا صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ المُبَارَكِ و الشافعي»[1].
والراجح في ذلك ما ذهب إليه الإمام أحمد وغيره من أهل العلم، من أنه لا يجوز للمنفرد أن يُصَلِّيَ خلف الصفِّ، إذا أمكنه الدخول فيه، وأنه إذا فعل ذلك بطلت صلاته، ووجب عليه الإعادة. وقد دلَّ على ذلك ما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من أَنَّ رَجُلًا صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ الصَّلاةَ[2]. وقال المباركفوري رحمه الله: فِيهِ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلاةَ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ لا تَصِحُّ، وَأَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاةَ[3]. ودلَّ على ذلك -أيضًا- ما رواه أحمد و ابن ماجه من أن عَلِيَّ بْنَ شَيْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ صَلَّيْنَا وَرَاءَهُ صَلَاةً أُخْرَى، فَقَضَى الصَّلَاةَ فَرَأَى رَجُلًا فَرْدًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ، قَالَ: «اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ»[4]. وقال السندي رحمه الله في حاشيته على ابن ماجه: ظَاهِر الْحَدِيث بُطْلان صَلاة مَنْ يَفْعَلُ كَذَلِكَ[5]. ونقل الصنعاني تعليق البيهقي على الأمر: الاختيار (الذي يراه من الجواز أو عدمه) أن يُتَوَقَّى ذلك لثبوت الخبر المذكور[6]. وهذا ما ننصح به قرَّاء الكتاب، وهو أن يخرجوا من هذا الخلاف بتجنُّب الصلاة منفردين خلف الصفِّ ما دام هناك مكان في الصفِّ الأخير، أو أحد الصفوف قبله. هذه هي الحالة الأولى.
أما الحالة الثانية فهي أن يدخل المُصَلِّي المسجد فيجد أن الصفوف كلها تامَّة، وليس له القدرة على الانخراط فيها، وهذا -أيضًا- قد اختلف العلماء فيما يفعله على قولين: أمَّا الأول فقال: يُصَلِّي خلف الصفِّ منفردًا تبعًا للإمام؛ لأنه معذور, ولا واجب مع العجز، وممن قال بهذا القول ابن عثيمين رحمه الله[7]. وأما القول الثاني: فهو أن يجذب واحدًا من الصفِّ الأخير لكي يقف معه ليُكَوِّنا صفًّا جديدًا؛ ولكن عليه أن يُكبِّر تكبيرة الإحرام قبل أن يجذبه، ويستحب هنا للمجذوب موافقته[8]. والأقرب أن الأدعى للخشوع هو ألا يجذب أحدًا؛ بل يُصَلِّي منفردًا ما دام مضطرًّا؛ وذلك لأمور ذكر منها أبو الطيب الطبري رحمه الله: «أنَّه لَوْ جَذَبَ إِلَى نَفْسِهِ وَاحِدًا لَفَوَّتَ عَلَيْهِ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَلَأَوْقَعَ الْخَلَلَ فِي الصَّفِّ»[9]. ولهذا اسْتَقْبَحَ ذَلِكَ الجذب أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَ مالك، وأمَّا القائلون بالجواز فقد اسْتَدَلَّوا بأحاديث لا يرقى أحدها إلى الصحَّة[10]، والله أعلم[11].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده (230).
[2]http://www.dorar.net/mhd/311 الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده (230)، وقال: حديث حسن. وأبو داود (682)، وابن ماجه (1004)، وأحمد (18031)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 1/122، وصححه الألباني، انظر: صحيح أبي داود 3/260 (683).
[3] المباركفوري: تحفة الأحوذي 2/20.
[4] ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده (1003)، وأحمد (16340)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات. وابن حبان (2202)، وقال النووي: رواه الإمام، وابن ماجه بإسناد حسن. انظر: خلاصة الأحكام 2/718، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. انظر: مصباح الزجاجة 1/122، وقال الشوكاني: رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيث حَسَن. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: رُوَاته ثِقَات مَعْرُوفُونَ. انظر: الشوكاني: نيل الأوطار 3/220، وصححه الألباني، انظر: صحيح ابن ماجه 1/299 (829).
[5] حاشية السندي على سنن ابن ماجه 1/315.
[6] انظر: الصنعاني: سبل السلام 1/378.
[7] فتاوى ابن عثيمين: 15/193 سؤال رقم (1048).
[8] سيد سابق: فقه السنة 1/243.
[9] انظر: الشوكاني: نيل الأوطار 3/222، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 2/23.
[10] http://www.dorar.net/mhd/311 الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَابِصَةَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي هَلَّا دَخَلْت فِي الصَّفِّ أَوْ جَرَرْت رَجُلًا مِنَ الصَّفِّ أَعِدْ صَلَاتَك». وَفِيهِ السُّرِّيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ, وَفِيهَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَفِيهِ ضَعْفٌ, ولِأَبِي دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ مَرْفُوعًا: إِنْ جَاءَ رَجُلٌ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فَلِيَخْتَلِجْ إِلَيْهِ رَجُلًا مِنَ الصَّفِّ فَلِيَقُمْ مَعَهُ، فَمَا أَعْظَمَ أَجْرَ الْمُخْتَلِجِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ قَالَ الْحَافِظُ: وَاهٍ. بِلَفْظِ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ الْآتِيَ وَقَدْ تَمَّتِ الصُّفُوفُ أَنْ يَجْتَذِبَ إِلَيْهِ رَجُلًا يُقِيمُهُ إِلَى جَنْبِهِ. انظر: الشوكاني: نيل الأوطار 3/222.
[11] للمزيد عن صلاة المنفرد خلف الصف انظر: الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة 1/253، 392، 393، وسيد سابق: فقه السنة 1/243، وحسين بن عودة العوايشة: الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة 2/243، 244، وأبو مالك كمال بن السيد سالم: صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة 1/537، والموسوعة الفقهية الكويتية 27/183- 186.
التعليقات
إرسال تعليقك