الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
منذ القدم كان العمل عاملًا رئيسًا في تفعيل العلاقات بين الدول والحضارات، فكيف كان ذلك على مدار تاريخ الحضارات؟ وكذلك كيف يكون في واقعنا المعاصر؟ هذا ما
العمل وسيلة للتواصل بين الشعوب:
في الحضارات القديمة:
منذ القدم كان العمل عاملًا رئيسًا في تفعيل العلاقات بين الدول والحضارات، ومن ذلك العلاقات التجاريَّة المتبادلة بين مصر والسودان النيلي، وكانت هذه العلاقات تعتمد على العمل في تجارة الذهب والعاج والرقيق والصبغ والحيوانات الغريبة، وكانت لهذه الأعمال التجاريَّة أثرٌ كبيرٌ في خلق اتصالات منظَّمة بين الكوردوفان ودارفور والمناطق المجاورة لبحيرة تشاد.
على أنَّ مقدار التواصل بين الشعوب والأمم قد تَعَدَّى الاكتساب المادي إلى تبادل التأثير بالعادات والتقاليد والطقوس في الملبس والمأكل والمشرب، وأدوات الزينة، وطرق دفن الموتى؛ فقد دلَّت بعض الحفريات المصريَّة القديمة على وجود طقوسٍ في دفن الموتى قريبةٍ من الطقوس التي يُمارسها حكَّام غانا في قلب القارَّة الإفريقيَّة، ومن بين الأدوات البرونزيَّة التي اكتشفت حديثًا في نيجيريا نرى بعض القبَّعات الملكية التي تُذَكِّرنا بتيجان حكام النوبة بمصر الجنوبيَّة.
وكان للعمل التجاري الذي اشتهرت به الحضارة الفينيقيَّة أثرٌ كبيرٌ في تعميق الاتصالات بين شعوب الأفارقة وشعوب حوض البحر الأبيض المتوسِّط، فأقاموا علاقات مع شعوب الجارامانت، وكان لهم مملكةٌ في منطقة الفزَّان وعاصمتها جارما وهي موجودةٌ حتى الآن.
وفي أيَّام الحكم القرطاجني كانت قوافل الجارامنت تحمل إلى المدن الساحليَّة على البحر الأبيض المتوسط الريش والنعام المجلوب من إفريقيا الوسطى، ومسحوق الذهب من السودان، وربَّما معدن القصدير من هضبة باوتشي في نيجيريا الحاليَّة، كما كانت تتمُّ بينهم مبادلات تجاريَّة حتى القرون الوسطى؛ إذ كان التجار يحطون رحالهم في مراكز مؤقَّتة على طرف الصحراء قرب المقاطعات المجاورة؛ حيث يُقَدِّمُون الملح والأقمشة والنحاس والمصنوعات الزجاجيَّة، مقابل الذهب الذي جاءوا ينشدونه.
وبلا شكٍّ فإنَّ تلك المبادلات التجاريَّة والعماليَّة -التي دامت زهاء عدَّة قرون- تجعلنا نعتقد أنَّ القرطاجيِّين ومِنْ قبلهم المصريِّين قد أدخلوا إلى إفريقيا بعض معالم الحضارة، وقد ظهرت ملامح التواصل بين المصريِّين القدماء وشعوب الأفارقة في انتقال زراعة القطن وعمل الخيطان ونسج القطن، واستعمال طرق النسج العموديَّة إلى شعوب إفريقيا؛ مقابل انتقال صناعة القوارب من القصب وصناعة الكلاليب بين الصيَّادين المصريِّين.
وفي القرون الأولى قبل الميلاد هرب بعض اليهود خوفًا من الظلم والاضطهاد من إفريقيا الشماليَّة ولجئوا إلى منطقة واحات توات، وبما أنَّهم من العمَّال الفنيِّين والتجَّار فقد تمكَّنُوا من أن يُؤَدُّوا دورًا مهمًّا في تجارة الذهب، حتى وصل بعضهم إلى السودان، وظلَّ الأمر كذلك حتى سنة 1486م؛ حيث أمر ملك البرتغال بنقل اليهود إلى شاطئ غينيا بعد أن رفضوا تغيير عقيدتهم، وهناك تزوَّجُوا واختلطوا بأهل البلاد، وكوَّنوا مستعمرةً في جزيرة سان تومي، وكان اليهود أوَّل مَنْ بذر بذور شجر الكاكاو الذي يُعَدُّ اليوم ثروة غينيا إلى الآن[1].
وقد كان للعمل دورٌ بارزٌ في مسيرة التواصل بين المعماريِّين الرومانيِّين والمعماريِّين اليونانيِّين والمصريِّين، وإنَّ أهمَّ ما اقتبسه الرومان عن اليونان عمل الأعمدة الدوريَّة والأيونيَّة، كما أنَّ الرومان أخذوا عن العمَّال في آسيا الصغرى صناعة العقود والأقواس والقباب، وإنَّ هذا التأثُّر المتنوِّع من حضارات الأمم الأخرى جعل من روما أعظم عواصم العالم[2].
في الواقع المعاصر:
في نظرةٍ حول دور العمالة في الواقع المعاصر نجد أنَّ معظم اقتصاديَّات العالم في أوربَّا وأميركا وإفريقيا تقوم على العمالة الوافدة أو المهاجرة، فضلًا عن العمالة الداخليَّة من أبناء البلد الأصليِّين؛ حتى إنَّنا لنجد في الشركة الواحدة أكثر من عاملٍ تتنوَّع أجناسهم وألوانهم وعقيدتهم، ولم يجمعهم إلَّا رباطٌ واحدٌ وهو العمل، وإنَّ هذه العمالة من جانبها أن تُعَمِّق رُوح التواصل بين الشعوب المختلفة، ومعرفة ثقافة الآخر من خلال الاحتكاك المباشر في ساحات العمل.
لقد فرضت ثقافة التعاون العُمَّالي وتشجيع العمالة المهاجرة نفسها على الدول الاقتصادية العملاقة، ولقد لجأت دول عملاقة كالصين إلى فتح باب الاستثمار الخارجي إلى بلادها دون معوِّقات؛ حتى إنَّه في فبراير 2008م وحده وافقت الصين على تأسيس 1454 مؤسَّسة أجنبيَّة[3]، وقد أدَّى ذلك إلى ارتفاع معدلات النموِّ الصيني، وهذا من جانبه يُعطي فرصةً أكبر لمعدلات الاستثمار الصيني في دول العالم الخارجي؛ إذ تُعَدُّ الصين من أكبر الدول الممتلكة لاستثمارات في دول حوض النيل، ويحتلُّ الاتحاد الأوربِّي المرتبة الأولى في الاستثمار في إثيوبيا بـ1942 مليون دولار، وتحتلُّ الولايات المتحدة المرتبة الخامسة بين المستثمرين بـ376 مليون دولار عام 2008م[4].
وفي تقرير خاصٍّ صادر عن وزارة القوي العاملة والهجرة المصريَّة، وضَّح أنَّ هناك 25 ألف عاملٍ أجنبيٍّ يعملون في مصر ويتمركزون في قطاعات: الغزل والنسيج، والبترول، وشركات الأموال، والسياحة، وتتنوَّع جنسيَّاتهم بين العرب والإنجليز والأميركان والأفارقة.
لم يُصبح العمل في عالم الواقع سوى وسيلةٍ عمليَّةٍ دوليَّةٍ تُعَزِّز بها الدول علاقاتها، وخاصَّة بين الدول ذات الاقتصاد القوي، حتى وصل الأمر إلى أن أعلنت بولندا اعتمادها على شركات الإنشاء الصينيَّة خلال الإعداد لبطولة كأس الأمم الأوربيَّة 2012م التي تستضيفها مع أوكرانيا؛ فقد قال وزير الرياضة البولندي ميروسلاف درزيفتشكي: إنَّ الشركات الصينيَّة مُعَدَّة بشكلٍ جيِّدٍ يُؤَهِّلُها لإقامة محطَّات قطارات واستادات وخطوط سكك حديديَّة في بولندا قبل بطولة يورو 2010م[5].
وإنَّ من أبرز الأمثلة المعاصرة ما يُعرف بالشركات متعدِّدَة الجنسيَّات، التي ملكيَّتها تخضع لسيطرة جنسيَّات متعدِّدَة، كما يتولَّى إدارتها أشخاص من جنسيَّات متعدِّدة، وتُمارس نشاطها في بلادٍ أجنبيَّة متعدِّدة، كما أنَّ استراتيجيَّاتها وقراراتها ذات طابع دُولي وعالمي؛ ولهذا فهي تكون شركات متعدِّدة الجنسيَّات، حيث تتعدَّى القوميَّات والأعراق، ولقد ازداد عدد الشركات متعدِّدة الجنسيَّات حيث أصبحت في أواسط التسعينيَّات 35 ألف شركة تتوزَّع على: الولايات المتحدة الأميركيَّة، وأوربا الغربيَّة، واليابان، وفي مستوى هذه الشركات تُسيطر مائة شركة الأكبر فيما بينها على معظم الإنتاج العالمي، ولعلَّ أشهرها شركة كوكاكولا وبيبسي وماكدونالد.. وغيرها[6].
العمل مشترك إنساني بارز:
إنَّ الحقائق السابقة وغيرها كثير لتُبَيِّنُ بوضوح قيمة العمل كمشتركٍ إنسانيٍّ بارز، الذي جعل الأمم والشعوب في عولمةٍ متكاملةٍ متعاونةٍ ومتواصلة، وجديرٌ بالذكر أنَّ العمل حقٌّ مكفولٌ لكلِّ إنسانٍ بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ ففي المادة (23) فقرة (1): لكلِّ شخصٍ الحقُّ في العمل، وله حريَّة اختياره بشروطٍ عادلةٍ مرضية، كما أنَّ له حقُّ الحماية من البطالة[7].
إنَّ العمل هو سمة الشعوب المتحضِّرة؛ فقد عدَّه هيجل أهمَّ مؤسَّسٍ لشخصيَّة الإنسان، والعامل الأبرز في تنظيم المجتمعات البشريَّة حتى اقترن دائمًا بالشعوب الحيَّة، تلك التي جعلت من العمل شعارًا أساسيًّا لوجودها، ولعلَّ الأمم والشعوب بعد أن وعت قيمة العمل أخذت تتسابق من أجل خَلق أكبر قدرٍ ممكنٍ من فرص العمل؛ حتى تُمكِّن أبناءها من بناء شخصيَّاتهم، وزرع رُوح الكدِّ والتفاني في نفوسهم، حتى تصل بواقعها إلى الأفضل، وتطرح أنموذجها الحضاري بين الآخرين[8].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] دنيس بولم: الحضارات الإفريقية، ترجمة: علي شاهين، ص30-40، بتصرف.
[2] علي عكاشة، وشحادة الناطور: اليونان والرومان، ص237.
[3] موقع الأنباء العربية لشبكة شينخوا باللغة العربية، على الرابط: www.arabic.xinhuanet.com.
[4] مجلة السياسة الدولية، يوليو 2010م، عدد (181)، ص86، 87.
[5] شبكة صحيفة الوسط الإلكترونية، 27/8/2008م: www.alwasatnews.com.
[6] انظر موقع: www.america.gov.
[7] الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: www.un.org/ar/documents/udhr.
[8] باسم محمَّد حبيب: قيمة العمل، مقال على موقع جريدة الصباح: www.alsabaah.com.
التعليقات
إرسال تعليقك