التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
وضع السلطان سليمان القانوني برنامجًا شاملًا لمحاربة القوى الأوروبية البحرية الكبرى، كانت أهم القوى المستهدفة في هذا البرنامج هي إسبانيا والبندقية.
معارك بحرية كبرى ضدَّ القوى الأوروبية (إسبانيا- البندقية- البابا) والحملة الهمايونية السابعة على جزيرة كورفو: (1537- 1540م)
وضع السلطان سليمان القانوني بالاشتراك مع خير الدين بربروسا برنامجًا شاملًا لمحاربة القوى الأوروبية البحرية الكبرى، وتعويض خسارة تونس. كانت أهمُّ القوى المستهدفة في هذا البرنامج هي إسبانيا، والبندقية، وكانت هذه الأخيرة قد تعدَّت على سفن الأسطول العثماني لصالح إسبانيا، فخرقت بذلك معاهدة السلام القديمة التي أبرمتها مع الدولة العثمانية في زمن بايزيد الثاني عام 1503م.
بدأت سنة 1536م بدايةً مأسويَّة؛ حيث أُعدِم الصدر الأعظم إبراهيم باشا في 15 مارس دون إعلان السبب وراء هذا الإعدام[1]! كان للحدث أثرٌ سلبيٌّ كبيرٌ على الحكومة والشعب نظرًا إلى تميُّز إبراهيم باشا في المجالات الإدارية والعسكرية، واحتياج الدولة الشديد له. الذي زاد من عجب الناس لهذا الحادث هو قرب إبراهيم باشا من السلطان سليمان القانوني؛ فهو صديقه منذ فترة الشباب الأولى[2]، بالإضافة إلى أنه زوج أخت السلطان[3]! يُعتبر إعدام إبراهيم باشا من أكثر النقاط غموضًا في التاريخ العثماني، ولا ترقى الأسباب التي يطرحها المؤرخون لتفسير الحدث إلى الحقيقة أبدًا؛ لكن عادةً ما تكون مثل هذه الإعدامات المفاجئة نتيجة شكوك السلطان في مسألة الولاء، واحتمال الترتيب لانقلابٍ لصالح إحدى الشخصيَّات المؤثِّرة، أو التعامل مع أعداء الدولة، والله أعلم بحقيقة الأمر.
تجاوزت الدولة العثمانية الحدث، وبدأت في الاستعداد في 1536م لمواجهة القوى النصرانية البحرية، وكان ذلك عن طريق تجهيز أسطولٍ كبيرٍ من مائتين وثمانين سفينة، وفي العام التالي بدأت حملةٌ واسعة النطاق ضدَّ إسبانيا والبندقية. كانت البداية في يوليو 1537م بحملةٍ همايونيَّةٍ اشترك فيها السلطان بنفسه، وهي الحملة الهمايونيَّة السابعة، على رأس جيشٍ برِّيٍّ توجَّه إلى مدينة ڤلور الألبانية على ساحل الأدرياتيكي، ومعه الأسطول بقيادة بربروسا.
بدأت الحملة بهجومٍ مباشرٍ للأسطول على مدينة أوترانتو Otranto في جنوب شرق إيطاليا، وهي المدينة التي امتلكها المسلمون عامي 1480م و1481م في أيام محمد الفاتح. سيطر الأسطول العثماني على المدينة[4]، وبَعْدَها هاجم مدن كاسترو Castro، وأوچنتو Ugento، وبرينديزي Brindisi، وكلها كانت تابعةً لمملكة نابولي التابعة بدورها لإسبانيا[5].
بعد هذا الهجوم المفاجئ على إيطاليا فاجأ الأسطول العثماني أعداءه بتغيير ساحة القتال كليَّا؛ حيث هجم على ممتلكات البندقية في بحر إيجة، واستطاع بسرعة السيطرة على عدَّة جزرٍ دفعةً واحدة؛ فسقطت في يده جزر سيروس Syros، وإيچينا Aegina، ولوس Los، وتينوس Tinos، وكارباثوس Karpathos، وكاسوس Kasos، وكيثيرا Kythira، وغيرها[6].
كانت هذه ضربةً موجعةً للغاية للبندقية؛ حيث إنها تُسيطر على هذه الجزر منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. وضعت هذه الضربات تقريبًا حدًّا للتواجد العسكري البندقي في شرق البحر المتوسط، وبحر إيجة؛ حيث لم يبقَ لهم إلا نقاطٌ قليلةٌ للغاية. هاجم العثمانيون بعد ذلك جزيرة كورفو Corfu في مدخل الأدرياتيكي، وكان الهجوم بقيادة السلطان نفسه الذي أنزل إلى الجزيرة خمسين ألف جندي عثماني، وحاصر القلعة اثني عشر يومًا؛ لكنه أدرك أن إسقاطها سيُكلِّفه وقتًا وجهدًا لا يُساويان المردود المتوقَّع منها، فأمر برفع الحصار، وعاد إلى إسطنبول عبر إدرنة[7].
غيَّر الأسطول العثماني ساحة القتال بشكلٍ مباغت، حين انطلق فجأةً لقصف منطقة كالابريا Calabria جنوب غرب إيطاليا! إنه كان إعصارًا بحريًّا حقيقيًّا! لم تجد البندقية حلًّا إلا أن تُشْرِك الأوروبيين في حربها ضدَّ الدولة العثمانية، ولا شَكَّ أن هذه كانت رغبة إسبانيا كذلك. استغاثت البندقية بالبابا بول الثالث Paul III الذي لم يتردَّد في إعلان حرب صليبية على الدولة العثمانية، خاصَّةً أن الهجمات العثمانية تتواصل الآن على إيطاليا ذاتها، ولن تكون الڤاتيكان في مأمن.
دعا البابا في فبراير 1538م إلى تكوين حلفٍ مقدِّسٍ Holy League يهدف إلى تحطيم الأسطول العثماني. كان الحلف مكوَّنًا من دولة البابا، وإسبانيا، والبندقية، وچنوة، بالإضافة إلى فرسان القديس يوحنا[8]، وتحت القيادة العسكرية للقائد الچنوي الشهير أندريا دوريا[9] Andrea Doria. على الرغم من وصول هذه الأنباء إلى الدولة العثمانية فإن هذا الحلف لم يُرهبهم؛ بل على العكس ضاعف الأسطول العثماني المتميِّز من عمليَّاته، واستطاع في صيف 1538م أن يُسيطر على ممتلكاتٍ بندقيَّةٍ أخرى، مثل جزر ناكسوس Naxos، وباروس Paros، وأندروس Andros، وسانتوريني Santorini.
زاد الأسطول العثماني من استفزازه للحلف المقدَّس بحصاره لمدينة كوتور Kotor الحصينة، وهي مدينةٌ على ساحل الأدرياتيكي (في جمهورية الجبل الأسود الآن)، وكانت تابعةً للبندقية[10]. كان هذا تطوُّرًا كبيرًا في الصراع دفع أسطول الحلف المقدَّس إلى القدوم فورًا إلى هذه المنطقة لمجابهة الأسطول العثماني. الحقُّ أن هذا كان استدراجًا للأسطول النصراني! اقترب الأسطول النصراني من البرِّ كثيرًا، وتجمَّع الأسطول العثماني عند مدينة بريڤيزا Preveza (شمال غرب اليونان)، في مدخل الأدرياتيكي، على بعد أربعمائة كيلو متر جنوب كوتور.
صار الأسطول النصراني بهذه الصورة في مرمى المدافع العثمانية للجيش البريِّ المتمركز في بريڤيزا. في البحر، وفي مواجهة هذه المدينة، دارت إحدى أهم ثلاث معارك بحريَّة في البحر المتوسط، والبحار التابعة له، خلال القرن السادس عشر كلِّه[11]، وهي المعروفة بمعركة بريڤيزا. أدَّى القصف المدفعي للجيش العثماني إلى عدم قدرة الأسطول النصراني على المناورة الجيدة. نظَّم خير الدين بربروسا أسطوله بشكلٍ بديع.
كان الأسطول النصراني أكبر بكثيرٍ من أسطول المسلمين. شمل أسطول الحلف المقدَّس حوالي ثلاثمائة سفينةٍ يحملون ستِّين ألف جندي؛ بينما كان الأسطول العثماني لا يزيد عن مائةٍ واثنتي عشرة سفينةً يحملون اثني عشر ألف جنديٍّ فقط[12]. في يوم 28 سبتمبر 1538م دارت المعركة البحريَّة الشهيرة بريڤيزا. وعلى الرغم من تفاوت الأعداد والعدَّة لصالح النصارى فإن مجريات المعركة كلها كانت في صالح المسلمين[13]. حقَّق المسلمون نصرًا كبيرًا حاسمًا في هذا اليوم.
أغرق العثمانيون عشر سفنٍ نصرانيَّة، وحرقوا ثلاثة، وأسروا ستًّا وثلاثين؛ بينما لم يفقد المسلمون سفينةً واحدةً في هذه المعركة! كان عدد الأسرى النصارى حوالي ثلاثة آلاف جندي[14]. هرب القائد أندريا دوريا بأسطوله الچنوي في اليوم التالي إلى جزيرة كورفو القريبة غيرَ مستجيبٍ لتوسُّلات بقيَّة أسطول الحلف المقدَّس[15]! يرى السياسي المؤرخ الأميركي چورچ موديلسكي George Modelski في كتابه عن تأثير القوى البحرية على السياسة العالمية أن نصر بريڤيزا حقَّق السيادة البحرية الكاملة للعثمانيين على البحر المتوسط كلِّه لمدَّة ثلاثٍ وثلاثين سنةً -أي إلى موقعة ليبانتو- بلا منازع[16].
في صيف العام التالي، 1539م، عاد بربروسا لنشاطه البحري الكبير، وأعاد السيطرة على مدينة كاستيلنوڤو Castelnuovo القريبة من كوتور بالجبل الأسود بعد حصارٍ شديدٍ وتضحيَّاتٍ كبيرة؛ حيث وصل عدد الشهداء العثمانيين في هذا الحصار الأخير إلى تسعة عشر ألف جندي[17]! تمكَّن بربروسا بعد هذه الانتصارات من السيطرة على محاور الأدرياتيكي بشكلٍ لافت.
كانت هذه النجاحات العثمانية كفيلةً بفكِّ الارتباط بين دول الحلف المقدَّس، وفقد الأمل في التغلُّب على الأسطول العثماني. -أيضًا- كانت هذه الضربات كافية لأن تتخلَّى البندقية عن كبريائها لتُوقِّع معاهدة سلامٍ مع الدولة العثمانية بشروط الأخيرة.
وافقت الدولة العثمانية على السلام المجدَّد مع البندقية؛ ليُعطيها ذلك الفرصة للعودة لفتح ملفِّ المجر والنمسا بعد المستجدَّات الطارئة على ساحتهما. وُقِّعَت المعاهدة في 2 أكتوبر 1540م، وفيها أقرَّت البندقية للدولة العثمانية بامتلاكها لكلِّ ما حازت عليه في الحروب الأخيرة، كما وافقت على دفع ثلاثمائة ألف دوكا ذهبية كتعويضٍ للعثمانيين عن خسائر الحرب، بالإضافة إلى تنازل البندقية عن آخر مدينتين لها في المورة اليونانية، وهما ناڤبوليون Navpolion، ومونيمڤاسياMonemvasia.
وهذا كلُّه في مقابل أن تتوقَّف الدولة عن حربها ضدَّ البنادقة[18]، وجديرٌ بالذكر أنه على الرغم من دخول البندقية في الحلف البابا المقدَّس في عام 1538م فإن دخول البندقية للمعاهدة كان منفردًا، ولم يُلْزِم الدولة العثمانية بأيَّة التزاماتٍ تجاه دول الحلف المقدَّس. لقد كان نصرًا مجيدًا للمسلمين! ولن تقوى البندقية على التفكير في حرب الدولة العثمانية إلا بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ من هذه المعاهدة[19].
[1] Emiralioğlu, Pınar: Geographical Knowledge and Imperial Culture in the Early Modern Ottoman Empire, Ashgate publishing, Limited, Surrey, UK, 2014., p. 30.
[2] Şahin, Kaya: Empire and Power in the reign of Süleyman: Narrating the Sixteenth-Century Ottoman World, Cambridge University Press, New York, USA, 2013., p. 51.
[3] Turan, Ebru: The Marriage of Ibrahim Pasha (CA. 1495-1536): The Rise of Sultan Süleyman's Favorite to the Grand Vizierate and the Politics of the Elites in the Early Sixteenth-Century Ottoman Empire, Turcica journal, Peeters Online Journals, Volume 41, 2009., pp. 3–36.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول ، 1988 صفحة 1/277.
[5] Arsenal, León & Prado, Fernando: Rincones de historia española (in Spanish), 2008., 2008, p. 21.
[6] Crowley, Roger: Empires of the Sea: The Final Battle for the Mediterranean, 1521-1580, Faber & Faber, London, UK, 2008., p. 60.
[7] أوزتونا، 1988 صفحة 1/277.
[8] Partridge, Loren: Art of Renaissance Venice, 1400 1600, University of California Press, California, USA, 2015, p. 100.
[9] Grant, R. G.: Battle at Sea: 3000 years of Naval Warfare, Dorling Kindersley Publishers Ltd, London, UK, 2010, p. 89.
[10] Imber, Colin: The Ottoman Empire, 1300-1650: The Structure of Power, Red Globe press, London, UK, Third edition, 2019., p. 37.
[11] بالإضافة إلى موقعتي چربة عام 1560، وليبانتو عام 1571، وسيأتي الحديث عنهما في ثنايا الكتاب بإذن الله.
[12] أوزتونا، 1988 صفحة 1/295.
[13] Crowley, 2008, pp. 62-63.
[14] Blackmore, David S.T.: Warfare on the Mediterranean in the Age of Sail: A History, 1571-1866, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, 2014., 2014, p. 48-49.
[15] Phillips, Carla Rahn: Navies and the Mediterranean in the Early Modern Period, In: Hattendorf, John B.: Naval Strategy and Power in the Mediterranean: Past, Present and Future, Routledge, 2013., p. 16.
[16] Modelski & Thompson, 1988, p. 156.
[17] Santiago, 1959, p. 158.
[18] 991. Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The Sixteenth Century to the Reign of Julius III, 1984, vol. 3, p. 448.
[19] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 453- 457.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك