التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تعلم محمد الفاتح منذ صغره العلوم الشرعية والحياتية، وفنون الحروب والقيادة والإدارة، فكانت طفولته طفولة استثنائية أسهمت في تغيُّر مسيرة الإنسانية.
لم يكن السلطان مراد الثاني -السلطان السادس للدولة العثمانية- يتوقَّع أنَّ ولادة ابنه محمد، الذي عُرف بعد ذلك بمحمد الفاتح، سيكون حدثًا يُغيِّر -بشكل واقعي وعملي- من مجرى التاريخ!
حدثت هذه الولادة في قصر أدرنة في يوم (30 مارس 1432م / 19 رجب 835هـ)[1]، وتسارعت بعدها الأحداث؛ حيث أقبلت الدنيا على فترةٍ من فترات التغيُّر المحوري في مسيرة الإنسانيَّة، وكان لهذا المولود إسهامٌ كبيرٌ في إحداث هذا التغيير!
لم يكن الأب -السلطان مراد الثاني- شخصًا عاديًّا كذلك؛ إنَّما كان من القادة الموهوبين، ولقد وصفه المؤرِّخ الأميركي ول ديورانت Will Durant بقوله: «كان قائدًا كأحسن ما يكون القادَّة»[2]. ووصْف المؤرِّخ الأميركي له دلالته؛ لأنَّ ول ديورانت كان متحاملًا بشكلٍ عامٍّ على مراد الثاني، ومع ذلك لم يمنعه هذا التحامل من الإقرار بموهبته في القيادة، ويُضيف المؤرِّخون المسلمون صفاتٍ رائعةً لمراد الثاني، حيث يقول القَرماني على سبيل المثال: «كان ملكًا، عالمـًا، عاقلًا، شجاعًا، وكان يُبدي العناية بالعلم والعلماء»[3].
وعلى قدر شهرة مراد الثاني وتوافر الأخبار عنه، لم تكن أم هذا المولود الجديد معروفةً لدى المؤرِّخين! فنحن بصعوبة نعرف أنَّ اسمها هو «هما خاتون Hüma Hatun»[4]، وهي على الأغلب من أصولٍ غير مسلمة؛ فقد تكون من إيطاليا[5]، أو من صربيا[6]، وليست هناك أيُّ تفاصيل عن حياتها، أو إسهامها في تربية وليدها العظيم، وإن كان من المعتاد في التاريخ العثماني أن تعيش الأم مع ولدها، وتنتقل معه إلى المدن المختلفة في حال تولِّيه لبعض المناصب في مدينةٍ أو أخرى، خاصَّةً إذا كان هذا الولد من الأمراء.
وَجَدَ الأمير محمد بن مراد الثاني لنفسه أخوين عند ميلاده من أمَّهاتٍ مختلفة؛ فكان الأخ الأكبر هو الأمير أحمد، وهو وليُّ العهد الرسمي للبلاد، وكان يبلغ من العمر عند ميلاد الأمير محمد اثني عشر عامًا، وكان واليًا على ولاية أماسيا، بينما كان الأخ الأوسط هو علي علاء الدين، وكان يبلغ السابعة من عمره عند ميلاد الأمير محمد[7].
أُرسل الطفل محمد وهو في الثانية من عمره إلى أماسيا، ليعيش هناك مع أخيه الأكبر أحمد[8]، ولا توجد لدينا معلومات تُفسِّر هذا الانتقال المبكِّر للطفل للحياة بعيدًا عن والده، الذي كان يُدير الدولة العثمانيَّة من العاصمة أدرنة (ما يقرب من ثمانمائة كيلو متر بعيدًا عن أماسيا)، ولكن هذا لم يكن يعني الإهمال للطفل، بل على العكس من ذلك؛ فقد وفَّر له الأب في أماسيا مجموعة كبيرة من كبار المربِّين والمعلِّمين كان لهم أكبر الأثر في تشكيل شخصيَّة الطفل الصغير.
تلقَّى الطفل محمد صدمةً كبيرةً وهو في الخامسة من عمره -أي في عام 1437م- وذلك عندما مات أخوه الأكبر أحمد الذي كان حاكمًا على أماسيا، وكانت الصدمة في الواقع أكبر على أبيه مراد الثاني؛ حيث إنَّ وفاة الابن الأكبر وهو في السابعة عشرة من عمره لم تكن مؤثِّرة من الناحية العاطفيَّة أو الاجتماعيَّة فقط؛ إنما من الناحية السياسيَّة والإداريَّة كذلك، حيث كان مؤهَّلًا لولاية العهد في البلاد، ومِنْ ثَمَّ صار ولي العهد هو الابن الأوسط علي علاء الدين، الذي كان في الثانية عشرة من عمره، وكان على الأب أن يبدأ من جديد رحلة التدريب على قيادة الدولة بعد أن مات وليُّ العهد صاحب الخبرة النسبيَّة، وقد قام السلطان مراد الثاني بإرسال علي علاء الدين واليًا على مدينة مانيسا Manisa شمال إزمير، بينما صار الأمير محمد واليًا على ولاية أماسيا وهو في الخامسة من عمره، وذلك بالطبع تحت وصاية أحد الوزراء[9].
ظلَّ هذا الوضع لمدَّة سنتين، ثم قام السلطان مراد الثاني بتبديل الولايات، فتحوَّل الأمير علي علاء الدين ولي العهد إلى قيادة أماسيا، بينما انتقل الأمير محمد إلى ولاية مانيسا، وهو في السابعة من عمره، أي في عام 1439م[10].
قد يظنُّ ظانٌّ أنَّ إمارة هذا الطفل الصغير على ولاية أماسيا ثم مانيسا أمرٌ لا معنى له في ظلِّ عمره الصغير جدًّا، ولكن من الواضح أنَّ هذا تقويمٌ خاطئ، وأنَّ إمكانات بعض الأطفال تكون عظيمة، خاصَّةً إذا ما أخذنا في الاعتبار ثلاثة أمور: أمَّا الأوَّل فهو التأهيل الثقافي والعلمي والبدني الذي يتلقَّاه الطفل في هذه المرحلة، وهو تأهيلٌ خاصٌّ جدًّا، ولا يتوفَّر بهذه الكثافة والقوَّة لكثيرٍ من الأطفال. والاعتبار الثاني هو أنَّ الجميع في الولاية -سواءٌ من الوزراء أم الأمراء أم عامَّة كبار رجال الدولة- مؤهَّلٌ نفسيًّا وواقعيًّا لطاعة هذا الأمير الصغير والانصياع لقيادته، ممَّا يُعطيه ثقةً غير عاديَّة في نفسه وقدراته، خاصَّةً إذا كان هذا الفريق أمينًا في مشورته، حريصًا على نجاح هذا الأمير في مهمَّته، فإنَّهم يُقدِّمون له دومًا النصح الراشد الذي يُضيف إلى خبرته يومًا بعد يوم. أمَّا الاعتبار الثالث فهو أنَّ الله عز وجل حَبَا بعض الأطفال بمواهب خارقة لا تتوفَّر لكثيرٍ من الخلق، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولقد رأينا في التاريخ الإسلامي أمثلةً كثيرةً لهذه المواهب، مثل: عبد الله بن عباس ب، وعبد الله بن عمر ب، وزيد بن ثابت رضي الله عنه، وكذلك الشَافعي، والبخاري، وأحمد بن حنبل رحمهم الله جميعًا.
غير أنَّني أحبُّ أن أتوقَّف مع الاعتبار الأوَّل، وهو التربية المتميِّزة التي تلقَّاها الأمير محمد بن مراد؛ حيث إنَّها هي التي صقلت الموهبة عند الطفل، كما أنَّها هي التي أجبرت فريق العمل الكبير المصاحب للأمير محمد على تقبُّل الطاعة له؛ حيث ظهرت أمارات نجابته وذكائه للجميع بشكلٍ لافتٍ للنظر.
لقد كانت تربية الأمير محمد متكاملةً وشاملةً بشكلٍ رائعٍ ومتميِّز..
وإنَّني أحبُّ أن أستهلَّ الحديث عن تربيته بكلمة المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول Stephen Turnbull، التي بدأ بها وصفه لسيرة محمد الفاتح، حيث قال: «لقد رُبِّي محمد الثاني -أي محمد الفاتح- ليكون أعظم سلطانٍ في زمانه»[11].
نعم كانت تربية الأمير محمد بن مراد على هذا المستوى!
يُمكن تمييز ثلاثة جوانب مهمَّة كانت بارزةً في عمليَّة بناء هذا الأمير القدير..
أمَّا الجانب الأوَّل فهو جانب العلوم الشرعيَّة والدينيَّة، وقد اهتمَّ السلطان مراد الثاني بهذا الجانب بشكلٍ خاص، وأوكل لمهمَّة تعليم الأمير محمد أمور الفقه والقرآن والسُّنَّة واحدًا من أعظم علماء الدولة العثمانية في ذلك الزمن، وهو الشيخ الكبير أحمد بن إسماعيل الكوراني، وهو عالمٌ موسوعيٌّ برع في مجالاتٍ شرعيَّةٍ شتَّى، وجمع علومه من مدنٍ إسلاميَّةٍ كبرى متعدِّدة، سواء في إيران، أم العراق، أم الشام، أم مصر، أم الأناضول[12]. كان الكوراني بارعًا في الفقه، وتفسير القرآن، والحديث، واللغة العربية، وعلوم الشعر والبيان، وكان يبحث عن التميُّز في كلِّ مجال، وهو من الذين أجازهم العلَّامة الإسلامي الكبير ابن حجر العسقلاني في الحديث[13]، وله مؤلَّفاتٌ شتَّى في عدَّة مجالاتٍ شرعيَّة ولغويَّة[14].
هذه الشخصيَّة الرائعة كانت مسئولة عن تربية الأمير الصغير محمد، ولهذا ليس عجيبًا أن نعلم أنَّ الأمير محمد ختم القرآن على يد هذا الشيخ في مدَّةٍ يسيرة[15]، ومن المؤكَّد أنَّ كثيرًا من مَلَكات المناظرة، وطلاقة الرأي، وقوَّة الحجة، والجرأة، قد تعلَّمها الطفل الصغير من أستاذه المتمكِّن؛ حيث صاحَبَه هذا المعلِّم الكبير منذ طفولته الأولى وإلى أن تولَّى قيادة الدولة العثمانيَّة.
بالإضافة إلى الكوراني كان هناك مُعلِّمٌ آخر له فضلٌ كبيرٌ في تكوين شخصيَّة الأمير محمد، وهو المولى خسرو Mevlana Husrev، وكان في الأصل روميًّا أناضوليًّا ثم أسلم، وارتقى في مراتب العلوم حتى صار عالمـًا جليلًا، وله مؤلَّفاتٌ مهمَّةٌ في الفقه الحنفي، وكان يعمل بالقضاء، بل كان قاضيًا لكلِّ الأناضول، وذلك عندما اختاره مراد الثاني ليكون معلِّمًا للأمير محمد[16]، وغالب الأمر أنَّ المولى خسرو التحق بتعليم الأمير محمد في مرحلةٍ متأخِّرةٍ عن الكوراني، ومع ذلك فقد كان ارتباطه بالأمير الصغير أكبر، وكان منه أقرب، ولهذا فقد ارتقى في المناصب بسرعة عندما تولَّى الأمير محمد قيادة البلاد، بل صار كتابه: «دُرَرُ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ غُرَرِ الْأَحْكَامِ» أحد المراجع الأساسية في القانون المدني الذي يُعْمَل به في زمان السلطان محمد[17]، وكان السلطان محمد يقول لوزرائه عندما يرى المولى خسرو: «هذا أبو حنيفة زمانه»[18]!
يُضاف إلى هذين العالمين الجليلين -أعني الكوراني وخسرو- علماء آخرون أسهموا في تربية الأمير محمد؛ منهم الفقيه سراج الدين محمد بن عمر الحلبي، وهو من أهل حلب، ولكنَّه تعلَّم على أيدي علماء وسط آسيا، وله مؤلَّفاتٌ عديدة[19]، ومنهم كذلك العالم ابن التمجيد، وهو من علماء التفسير، وله مؤلَّفاتٌ في ذلك المجال منها حواشيه على تفسير البيضاوي[20]، كما يُضاف إلى هؤلاء العلماء عددٌ آخر من الفقهاء والمتخصِّصين حفلت الكتب بأسمائهم[21] وإن كان لا يتَّسع المجال هنا لذكرهم.
وأخيرًا، ونحن بصدد الحديث عن هذا الجانب الشرعي في تكوين الأمير محمد، نلفت النظر إلى نقطتين مهمَّتين؛ أمَّا الأولى فهي أنَّ اهتمام الدولة العثمانيَّة بالطرق الصوفيَّة كان كبيرًا جدًّا منذ نشأتها، وأنَّ هناك تفاعلًا واضحًا بين شيوخ الطرق الصوفيَّة وسلاطين الدولة العثمانيَّة، ولهذا فإنَّه من المعروف أنَّ معظم سلاطين الدولة العثمانية -إن لم يكن كلهم- كانوا أعضاءً في بعض الفرق الصوفيَّة المنتشرة في بلادهم، وكان مراد الثاني تابعًا للطريقة المولويَّة (أتباع جلال الدين الرومي)، ولهذا نشأ الأمير محمد تابعًا للطريقة نفسها منذ نعومة أظافره، وكان شيخه في هذه الطفولة المبكرة هو أمير عادل چلبي[22]، ولكن ينبغي التنبيه كذلك على أنَّ الصوفيَّة العثمانيَّة التي كان يتبعها السلاطين العثمانيُّون لم تكن بالصورة الابتداعية المبالغ فيها، التي يعرفها كثيرٌ من الناس عن الطرق الصوفية بشكلٍ عامٍّ؛ إنَّما كانت منهجًا لتربية الروح، والتدريب على الزهد في الدنيا، وذلك اعتمادًا على علوم القرآن والسُّنَّة، ولذلك ليس من العجيب أن نرى أنَّ مشايخ الصوفيَّة في هذ الفترة لهم مؤلَّفاتٌ فقهيَّةٌ وشرعيَّةٌ معتبرة، وعلى سبيل المثال كان من شيوخ الأمير محمد في الصوفيَّة المولى إياس، الذي كان له اهتمامٌ كبيرٌ في تصحيح الكتب الشرعيَّة، وكتابة الفوائد في حواشيها، ويفعل ذلك مع الكتب المشهورة للعلماء الكبار، ولا يتأتَّى ذلك إلَّا لعالمٍ راسخٍ في العلم[23]، ولعلَّ هذه التربية الصوفيَّة للأمير الصغير كان لها الأثر الواضح في بعض صفاته؛ فقد كان ميَّالًا إلى العزلة، لا يسعى إلى الترف أو البذخ في حياته، وكان قليل الكلام، قليل الضحك، موقِّرًا بشدَّة للعلماء، ولقد نقلت الكتب عدَّة مشاهد للأمير محمد بعد أن تولَّى السلطنة وهو يُقَبِّل أيدي العلماء أو المشايخ[24]، وكان شديد الاقتناع بالتوقُّعات التي يذكرها الشيوخ والعلماء.
كانت هذه هي النقطة الأولى، أمَّا النقطة الثانية فهي أنَّني لم أجد دليلًا موثَّقًا على صلة الشيخ المشهور آق شمس الدين بالأمير محمد في هذه المرحلة المبكرة من حياته، وقد أحببت لفت النظر إلى هذه النقطة لكون الكثير من المؤرِّخين المحدثين يروون في كتبهم قصصًا عن تربية هذا الشيخ للسلطان محمد في طفولته، وحثِّه على فتح القسطنطينيَّة، ونحو ذلك من أمورٍ حماسيَّة، والواقع أنَّه ليس هناك دليلٌ على مثل هذه القصص، أمَّا الثابت فهو أنَّ بداية التعارف بين الأمير محمد والعالم آق شمس الدين كانت بعد أن تولَّى الأمير محمد أمور السلطنة، بل كانت قبيل فتح القسطنطينيَّة؛ عندما دعا السلطانُ محمدُ العلماءَ -ومنهم آق شمس الدين- لتحميس الناس على الجهاد استعدادًا لفتح المدينة الحصينة[25]، وقد أحببت التنبيه على ذلك لكي ألفت النظر إلى أهميَّة التحقُّق من الروايات قبل الخوض في تحليلها واستخراج الدروس منها، وهو مبدأٌ علميٌّ رصينٌ أرجو أن يلتزم به المؤرِّخون.كان هذا هو الجانب الأوَّل البارز في حياة الأمير محمد في مراحل تربيته الأولى.
أمَّا الجانب الثاني في تربية الأمير محمد فكان اهتمام السلطان مراد الثاني بتعليم ابنه العلوم الحياتيَّة والعقليَّة إلى جوار العلوم الشرعيَّة والدينيَّة، وقد تربَّى الأمير محمد في جوٍّ منفتحٍ جدًّا، فوصلت إليه العلوم الغزيرة على أيدي المسلمين والنصارى، وعلى أيدي الأتراك وغيرهم من الأعراق المختلفة، وكل هذا أسهم في تكوين شخصيَّةٍ فريدةٍ للأمير العظيم محمد، وسوف نرى آثار ذلك بوضوح في بنائه لدولته الكبرى بعد ذلك.
في هذه السنِّ المبكرة تعلَّم الفاتح عدَّة لغاتٍ إلى جانب التركيَّة، فكان يتقن العربيَّة، والفارسيَّة، واللاتينيَّة، واليونانيَّة، والصربيَّة[26]، وتُضيف بعضُ المصادر اللغةَ العبريَّة إلى اللغات التي تعلَّمها الأمير[27]، وهذا التعلُّم الواعي لهذه اللغات المتعدِّدة فتح له آفاقًا واسعة؛ حيث كان قادرًا من جانبٍ على القراءة في مصادر الحضارات المختلفة وتوسيع مداركه، وكان قادرًا من جانبٍ آخر على التواصل المباشر مع المعلِّمين الأجانب، وبعد ذلك مع الدبلوماسيِّين والعلماء من البلاد المختلفة، وهذا لا شَكَّ جعل منه مثالًا فريدًا من الأمراء، وأعطاه حصيلةً من المعرفة قلَّ أن يحظى بها غيره.
والواقع أنَّ مسألة تعلُّم الفاتح لكلِّ هذه اللغات ليست أمرًا يسيرًا أو عاديًّا؛ إنَّما هي مسألةٌ جديرةٌ بالانتباه، فتعلُّم لغةٍ أو لغتين غير اللغة الأم للإنسان هو أمرٌ كبيرٌ ولافتٌ للنظر، خاصَّةً إذا كان المتعلِّم متقنًا للغةٍ إلى الدرجة التي تسمح له بقراءة الكتب، والوصول إلى الكنوز الحضاريَّة لدى أهل هذه اللغة، بل التفوُّق فيها إلى درجة تذوُّق الشعر والأدب بها، أو القراءة في الكتب المتخصِّصة كالرياضيَّات والجغرافيا.
هذا كلُّه أمرٌ لافتٌ للنظر، أمَّا تعلُّم خمس أو ست لغات، وبالإتقان الذي يسمح له بالتحدُّث والقراءة والفهم العميق، فهذا في الواقع أمرٌ خارقٌ للعادة، خاصَّةً إذا ما أخذنا في الاعتبار أنَّ هذا الأمير لم يكن معتكفًا للعلم والدراسة فقط، بل كانت عليه مسئوليَّات قيادة ولاية، ثم دولة، ثم إمبراطوريَّة، فهذا كلُّه يعني أنَّنا نتعامل مع نموذجٍ فريدٍ للغاية، كما ينبغي الانتباه كذلك إلى نموذج مراد الثاني رحمه الله، ذلك السلطان المتحضِّر، الذي يُوفِّر لابنه خمسة مدرِّسين للغاتٍ مختلفةٍ في هذا الزمن الذي اشتهر بأنَّه منغلق، ولا تواصل فيه بين الحضارات. لقد كان مراد الثاني فريدًا كذلك، وهذا هو الذي أخرج لنا هذا الأمير العظيم محمد بن مراد!
كانت اللغات الأجنبيَّة التي تعلَّمها الأمير الصغير وسيلةً وليست غاية؛ فقد استخدمها بحِرَفِيَّةٍ عاليةٍ في تزويد نفسه بعلومٍ متميِّزة، فقرأ بالعربيَّة كتب الفقه والشريعة، واستخدم الفارسيَّة في الأدب وكتابة الشعر، وفتحت له اليونانيَّة الطريق إلى قراءة كتب الجغرافيا الإغريقيَّة فحذقها حتى صار هو نفسه من الجغرافيِّين الكبار، وكانت اللاتينيَّة طريقه إلى تعلُّم التاريخ الإيطالي، والتعرُّف على آثار الرومان!
وكان للأمير الصغير أساتذة متخصِّصون في هذه العلوم الكثيرة، فأستاذه في الجغرافيا هو اليوناني الطرابزوني چورچ أميروتزيس George Amirutzes[28]، أمَّا التاريخ الروماني والأوروبي فكان يتلقَّاه على يد العالم الإيطالي الكبير سيرياكو Cyriaco، وهو من علماء مدينة أنكونا Ancona الإيطاليَّة[29]، كما كان له في الرياضيَّات أساتذةٌ متخصِّصون كذلك[30]، وأمَّا حِرَفِيَّة الشعر وعلومه فقد تعلَّمها على يد أستاذه المتمكِّن الشيخ الكوراني، الذي ألَّف لتعليمه قصيدةً في علم العروض من ستمائة بيتٍ سمَّاها «الشافية في علم العروض والقافية»[31].
هذه البيئة العلميَّة العجيبة استحقَّت الانتباه من علماء التربية والتنمية البشريَّة، إلى درجة أن أدرجها الأستاذ الأميركي چايبول روبنارين Jaipaul Roopnarine، والأستاذ بجامعة سيراكيوز الأميركيَّة Syracuse University في كتابه كمثالٍ لعمليَّة «التعليم المبكِّر للأطفال» «Early Childhood Education ECE»[32]!
إنَّه أمرٌ رائعٌ حقًّا!
أمَّا الجانب الثالث الذي يبرز لنا في حياة هذا الأمير العظيم فهو الجانب العملي والتدريبي في هذه الطفولة المبكِّرة، فلم يكن الأمر محدودًا بالتحصيل العلمي النظري؛ إنَّما صَاحَبَ ذلك تدريبٌ على أمورٍ شتَّى أسهمت في تكوين هذا الطفل الصغير، ولعلَّ من أبرز هذه الأمور هو التدريب على المهارات العسكريَّة وفنون القتال، فهذا هو المجال الذي سيتخصَّص فيه هذا الأمير بعد أن يكبر؛ فالدولة العثمانيَّة دولةٌ جهاديَّة، ولها أعداءٌ في كلِّ مكان، ويُتوقَّع لهذا الأمير أن يخوض معارك كثيرة، ولهذا اهتمَّ السلطان مراد الثاني ببناء ابنه جسديًّا ومهاريًّا، كما اهتمَّ ببنائه علميًّا وأخلاقيًّا، ولم يكن تدريبه على هذه الأمور الحربيَّة تدريبًا عاديًّا مثلما يحدث في بعض المدارس العسكريَّة الآن؛ إنَّما كان متخصِّصًا لأبعد درجة، حيث كان يتعلَّم ممارسة فنون القتال إلى جوار تعلُّمه الخطط الاستراتيجيَّة والرؤى الحربيَّة، ولقد اشترك في هذه العملية المعقَّدة من التدريب عدَّة أساتذة عسكريِّين متمرِّسين، كان منهم الوزير صاريجه قاسم باشا، وداماد زاجانوس محمد باشا Zaganos Pasha، وخضر چلبي[33]، ولهذا لم يكن من الغريب أن يخرج الأمير الصغير للقتال الفعلي وقيادة الجيوش وهو في السادسة عشرة من عمره؛ إذ اشترك في الحملة الهمايونيَّة الكبرى التي قادها والده مراد الثاني في ألبانيا، وذلك في عام 1448م[34]، والحملات الهمايونيَّة هي الحملات التي يخرج فيها السلطان بنفسه، وكان السلطان مراد الثاني حريصًا على تدريب ابنه في ساحات القتال الفعليَّة وليس فقط في ميادين التدريب الآمنة داخل البلاد.
ويُمكن الأخذ في الاعتبار أيضًا أنَّ هذا الجانب المهاري الذي كان يتدرَّب عليه الأمير محمد لم يكن مختصًّا فقط بأمور القتال والنزال؛ إنَّما كان مهتمًّا كذلك بأمور القيادة والإدارة، حيث رأينا الأمير يُمارس عمله -تحت الرعاية والتوجيه- واليًا على مانيسا بدايةً من عام 1439م، أي وهو في السابعة من عمره، وهذا التدريب المباشر صقل شخصيَّته بشكلٍ بارز، وأخرج المواهب الكامنة إلى حيِّز التطبيق الفعلي.
وأخيرًا أحبُّ أن أُشير إلى أنَّ هذا الطفل الذي اهتمَّ والده بزرع كلِّ هذه الأمور الجادَّة فيه بشكلٍ متكاملٍ واحترافي، من علم شرعي، وعلم حياتي، وقتال، وحروب، وقيادة، وإدارة، هذا الطفل لم يكن معزولاً تمامًا عن ممارسة الهوايات، أو الترفيه عن النفس بما يُفيد؛ فقد كان يتدرَّب على تصنيف الأزهار، وصناعة الأقواس المستخدمة في الرمي، واستخدام الأحجار الكريمة في الزينة، فضلًا عن الشعر وقراءة السير التاريخيَّة[35]!
إنَّنا بالفعل أمام حالةٍ فريدةٍ من الأطفال، وأمام طرازٍ خاصٍّ جدًّا من التربية، وكان لا بُدَّ لنا من هذا الاطِّلاع على هذه الجوانب لكي نفهم أصل النجاحات العظيمة، والإنجازات الباهرة في مستقبل حياة هذا الأمير المتميِّز.
***
مع أنَّه من المتوقَّع في السطور القادمة أن أُكمل سيرة الأمير الصغير فندخل في مرحلة شبابه وفق التسلسل التاريخي المنطقي للأحداث، ولكنَّني أحبُّ أن أتوقَّف عند بعض المشاهد من حياة السلطان الأب مراد الثاني سواء في حياة الطفل محمد، أم حتى قبل ميلاده؛ لأنَّ هذه المشاهد ستُفسِّر لنا طريقة التربية المتميِّزة التي تلقَّاها الأمير الصغير، كما أنَّها ستشرح لنا خلفيَّاتٍ مهمَّةً يُمكن أن تكون مُوضِّحة لبعض المواقف والقرارات التي سيأخذها الأمير محمد عندما يتولَّى السلطنة في الدولة العثمانيَّة، ولأنَّ المقال ليس معنيًّا بالدرجة الأولى بشرح سيرة مراد الثاني، فإنَّني سأسرد بعض المشاهد المنفصلة في حياته دون السعي إلى ربط الأحداث تاريخيًّا في صورة قصَّةٍ كما هو معتاد.
المشهد الأول: أمُّ مراد الثاني هي الأميرة التركيَّة أمينة خاتون، وهي إحدى أميرات إمارة ذي القادر[36]، وهذه الإمارة هي إحدى الإمارات الحدوديَّة الواقعة بين الأناضول والشام؛ أي بين أملاك دولة المماليك التي تحكم مصر والشام، وأملاك الدولة العثمانيَّة في الأناضول، وكان ولاؤها في المقام الأول لدولة المماليك، ولهذا كان سلاطين الدولة العثمانية يسعون للزواج من أميراتها كنوعٍ من الزواج السياسي الذي يدعم العلاقة بين الإمارة ودولتهم، وكان زواج السلطان محمد جلبي والد السلطان مراد الثاني نوعًا من هذا القبيل، وكانت ثمرة هذا الزواج هو السلطان مراد الثاني، الذي سيكون حريصًا على استمرار التدعيم بين الكيانين السياسيَّين على حساب دولة المماليك، ولهذا سيسعى لتزويج ابنه الأمير محمد من إحدى أميرات ذي القادر، وهو ما سيتحقَّق في عام 1449م. ما يعنينا هنا هو أنَّ جدَّة الأمير محمد لأبيه من إمارة ذي القادر، وستكون زوجته منها أيضًا، وهذا سيُعطي الأمير محمد -بعد أن يُصبح سلطانًا- الرغبة الكاملة في بسط سيطرته على تلك الإمارة.
المشهد الثاني: هو مشهد له علاقة إلى حدٍّ ما بالمشهد الأوَّل، وهو سوء العلاقة بين الدولة العثمانيَّة بقيادة مراد الثاني وإمارة قرمان التركيَّة، والواقعة في الوسط الجنوبي من الأناضول؛ ووجه الشبه هو ارتباط إمارة قرمان بدولة المماليك بصورةٍ مشابهةٍ لارتباط إمارة ذي القادر بالدولة نفسها، ولهذا كان التصارع البارد بين الدولتين المملوكيَّة والعثمانيَّة على الإمارة كبيرًا، وأقصد بالتصارع البارد أنَّه لم يكن هناك قتالٌ فعليٌّ بين الدولتين، ولكن كان كلٌّ منهما يُحاول السيطرة بطريقته على مجريات الأمور في هذه الإمارة الفاصلة بين الدولتين، والواقع أنَّ سلوك أمراء قرمان لم يكن سويًّا تجاه الدولة العثمانيَّة؛ فقد سعت الإمارة للاستقلال عن العثمانيِّين عن طريق التعاون مع أعدائهم النصارى الأوروبِّيِّين، وتفاصيل هذا التعاون مخزية وكثيرة[37]، وهذا ما أدَّى إلى حروبٍ بين مراد الثاني وإمارة قرمان، وسيكون لهذا السلوك آثارٌ في حياة الأمير محمد بعد تولِّيه السلطنة.
المشهد الثالث: كان من الواضح نتيجة المشهدين السابقين أنَّ العلاقة بين المماليك والعثمانيِّين ستكون متوتِّرة، ومع ذلك كان مراد الثاني وكذلك سلاطين دولة المماليك غير راغبين في الدخول في صراعاتٍ جانبيَّةٍ إسلاميَّة، فكانت الطريقة التي انتهجوها للتعامل هي تبادل الهدايا بين الطرفين في المناسبات المختلفة، وقد ذكرت بعض المصادر عددًا من هذه الهدايا المتبادلة وصفاتها[38]، وكانت هذه الطريقة تتوافق مع طبيعة مراد الثاني السلميَّة، التي تُحاول تجنُّب الصدام كخطوةٍ أولى، وقد نجحت هذه السياسة في الحفاظ على العلاقة الودِّيَّة نسبيًّا بين الدولتين، وإن لم يكن هناك أيُّ محاولاتٍ للتعاون الحقيقي بينهما، سواءٌ على المستوى السياسي، أم العسكري، أم الاقتصادي، أم غير ذلك، ومن الواضح أنَّ هذه السياسة في التعامل كانت مترسِّخة في دواليب الحكومة العثمانيَّة في هذه الفترة، وهو ما سيرثه الأمير محمد بن مراد، وسيكون تعامله مع ملفِّ دولة المماليك شبيهًا إلى حدٍّ كبيرٍ بطريقة تعامل والده معه.
المشهد الرابع: تولَّى مراد الثاني حكم الدولة العثمانيَّة وهو في السابعة عشرة من عمره بعد الوفاة المفاجئة لأبيه السلطان محمد چلبي عام 1421م[39]، وكان السلطان محمد چلبي قد مات وهو في التاسعة والثلاثين من عمره[40]، ومعنى هذا أنَّ البلاد لم تكن مستعدَّةً لوفاته، وبالتالي لم يكن وليُّ العهد مراد الثاني مؤهَّلًا -على الأقلِّ نفسيًّا- لقيادة الدولة، ومع ذلك فقد أدار السلطان الجديد البلاد باقتدارٍ مع صِغَر سنِّه، وتغلَّب على الكثير من المناوئين له، وثبَّت دعائم ملكه بشكلٍ واضح. هذه الظروف التي حدثت عند تَسَلُّم مراد الثاني الحكم ستترك آثارها على طريقته في التعامل مع بعض الأمور؛ فالوفاة المفاجئة لوالده ستجعله متوقِّعًا للموت في أيِّ لحظة، وهذا سيدفعه إلى الإسراع في الاطمئنان على كفاءة مَن سيخلفه في قيادة الدولة، كما أنَّ توفيق الله له في قيادة الدولة وهو في هذه السنِّ المبكرة ستجعله على قناعةٍ أنَّ الشباب الصغير -أو حتى الأطفال- يُمكن أن يكون لهم الإمكانيَّة الكاملة في تحمُّل مسئوليَّة قيادة دولةٍ بحجم الدولة العثمانيَّة.
المشهد الخامس: يتعلَّق بالمشهد السابق مشهدٌ آخر مهم؛ وهو حدوث فتنةٍ داخليَّةٍ في الدولة عند موت السلطان محمد چلبي وولاية السلطان مراد الثاني؛ إذ أطلق الإمبراطور البيزنطي أحد أفراد العائلة العثمانيَّة الذين كان يحتجزهم عنده في القسطنطينيَّة، وهو عمُّ السلطان مراد الثاني، واسمه مصطفى، ودعمه في سبيل زعزعة نظام الحكم في الدولة العثمانيَّة، وكانت الدولة البيزنطيَّة تنتهج هذه السياسة في صراعها مع العثمانيِّين، وهذا ما دفع كلَّ الثائرين على الحكم العثماني إلى اللجوء إلى البيزنطيِّين بغية الحصول على دعمهم[41]، وقد استطاع مراد الثاني التغلُّب على عمِّه مصطفى، وأعدمه[42]، وما لبث أن ظهر مُطالِبٌ آخر بالعرش، وهو الأخ الأصغر لمراد الثاني، واسمه مصطفى كذلك، وكان عمره ثلاث عشرة سنةً فقط، ولكنَّه خُدِع من الإمبراطور البيزنطي، فاعتمد على دعمه، وثار في وجه أخيه مراد الثاني، إلَّا أنَّه قُبِض عليه، وأُعْدِمَ أيضًا[43]! وغالب الأمر أنَّ هذا الإعدام السريع لهذا الشابِّ الصغير تمَّ لمنع مَنْ وراءه مِن رجال الدولة من الاستمرار في المؤامرة؛ فهم لن يستطيعوا أن يُطالبوا بالحكم لأنفسهم، إنَّما يفعلون ذلك مِن وراء ستار إحدى شخصيَّات العائلة العثمانيَّة، مهما كان صغيرًا، ولذلك أراد مراد الثاني حسم مادَّة الخلاف بقتل هذا المـُطالِب بالعرش حتى لو كان أخاه. هذه الحوادث المؤسفة جعلت مرادًا الثاني قلقًا من حدوث مثلها في دولته بعد وفاته، خاصَّةً أنَّ تاريخ الأسرة القريب يحمل مثل هذه الصراعات؛ فقد قامت صراعاتٌ كبرى بين والد السلطان مراد الثاني -وهو السلطان محمد چلبي- وإخوته، بعد وفاة والدهم السلطان بايزيد الأوَّل عام 1403م، ولم تنتهِ إلَّا في عام 1413م عندما تولَّى محمد چلبي الحكم منفردًا[44]، ولا شَكَّ أنَّ هذا التاريخ سيترك آثاره على نفسيَّة مراد الثاني.
المشهد السادس: كان لمراد الثاني أعداءٌ أوروبِّيُّون كثيرون، ولكن أشدهم وطأةً عليه -بالإضافة إلى الإمبراطور البيزنطي- كانت دول المجر، والبندقيَّة، وكذلك البابا الكاثوليكي، وقد درات بينه وبينهم حروبٌ متكرِّرة. والواقع أنَّ جانب البندقيَّة لم يهدأ إلَّا بعد عدَّة هزائم من مراد الثاني، كان آخرها هزيمة سالونيك عام 1430م، وبعدها طلبت البندقيَّة الهدنة، وعُقِدَت اتفاقيَّة سلامٍ مؤقَّتٍ بين الطرفين[45]. هذه العداوات الواضحة سيكون لها أثرٌ واضحٌ في تكوين فكر الأمير الصغير محمد؛ فسيعرف عندما يُحْكَى له هذا التاريخ ثم يعاصره، مَنْ هم أعداؤه الحقيقيُّون، وكيف يُمكن أن يتعامل معهم، وما الطرق المناسبة التي يُمكن أن تجعلهم يرضخون لحكمه.
المشهد السابع: في دراسة قصَّة مراد الثاني نرى وجود الإمكانيَّة للتعاون بين الدول النصرانيَّة المختلفة في حربها للدولة العثمانيَّة، وذلك مهما اختلفت مصالحها أو أيديولوچيَّاتها؛ فهم ينبذون هذه الخلافات ويتَّحدون في مواجهة المسلمين، وكانت أعجب هذه الصور هي قبول الدول الغربيَّة الكاثوليكيَّة فكرة مساعدة الدولة البيزنطيَّة الأرثوذكسيَّة على العثمانيِّين، وهذا أمرٌ عجيبٌ نسبيَّا لكون العداوة عميقة بين الطرفين، ومع كون هذه الوحدة بين الكاثوليك والأرثوذكس كانت مرفوضةً شعبيًّا[46] إلَّا أنَّ مجريات الأحداث أثبتت إمكانيَّة حدوثها، وهذا سيُعطي دروسًا لمراد الثاني، وكذلك لابنه الأمير محمد، في طريقة تناولهم لهذه العلاقات العالميَّة.
المشهد الثامن: كانت الروح الإسلاميَّة عالية جدًّا عند السلطان مراد الثاني، فكان حريصًا على إبراز إسلاميَّة الدولة، وعلى تذكير جنوده أنَّ جهادهم هذا هو في سبيل الله، وكان يقول لهم قبل المعارك: «من يعش منكم فسيكون مجاهدًا، ومن يمت سيكون شهيدًا»[47]. وكان حريصًا في انتصاراته على أن يأخذ الانتصارُ الشكلَ الشرعيَّ الإسلاميَّ الصحيح، فكان يمنع جنوده من الإفساد في الأرض، ويمنعهم من الإثخان في القتل[48]، وهذا كلُّه لإيصال الدعوة الإسلاميَّة بشكلٍ صحيحٍ إلى أعدائها.
المشهد التاسع: كان الجانب الأخلاقي الحضاري عند مراد الثاني متميِّزًا جدًّا. يقول الشوكاني رحمه الله في صفته: «كان ملكًا مطاعًا مقدامًا كريمًا عيَّن للحرمين الشريفين من خاصَّة صدقاته في كلِّ عامٍ ثلاثةَ آلاف وخمسمائة ذهبٍ للسادة الأشراف، ومن خزانته في كلِّ عامٍ مثل ذلك، وفتح فتوحات، ومن فتوحاته: قلعة سمندرة، وبلاد مورة، وقاتل الكفار، ونال منهم»[49]. ويقول عنه السيوطي: «طالت أيَّامه، وحسنت سيرته، وأفنى عمره في جهاد الكفار»[50]. وقال عنه السخاوي: «وبالجملة فهو خير ملوك زمانه حزمًا، وعزمًا، وكرمًا، وشجاعة»[51]. أمَّا حاجي خليفة فيقول عنه: «وكان دائم النصر، وله المآثر الحسنة، والخيرات الكثيرة، وكان من عادته أن يعمر في كلِّ بلدٍ فتحها عدَّةً من المساجد، والصوامع، والحمامات، والخانات، وكان يعتني بشأن العلم والعلماء، ويكرمهم إكرامًا زائدًا، ويُحسن إلى المشايخ والسادات»[52].
هذه الشهادات التي ذكرناها على ألسنة كبار المؤرِّخين المسلمين تُوَضِّح بروز الجانب الأخلاقي الحضاري عند مراد الثاني، الذي كان له انعكاسٌ واضحٌ على حياة ابنه الأمير محمد، فكانت حياة الأخير امتدادًا لحياة السلطان الأب، بل كانت هذه المثل العليا التي عاشها مراد الثاني دليلًا لكلِّ الوزراء، والأمراء، والقادة، فتشكَّل نظامٌ حضاريٌّ كان له إسهامٌ كبيرٌ في توجيه مسار الدولة إلى الاهتمام بهذه الجوانب، وهو ما سنراه بشكلٍ أوضح وأكبر في حياة الأمير محمد عندما يُصبح سلطانًا.
المشهد العاشر والأخير: آخر المشاهد التي سنُعلِّق عليها في حياة مراد الثاني هو مشهد العمران والبناء والاهتمام بالجوانب المادِّيَّة في دولته؛ فقد كان من أكابر المهتمِّين بالإعمار، فالجوامع والكليات الموجودة في بورصا وأدرنة من إنجازاته، وكذلك دار الحديث التي أسَّسها في عام 1435م، وأيضًا الجامع ذو الشرفات الثلاثة وكلِّيَّاته، وقد تأسَّست عام 1447م، وجسر أوزون (Uzunköprü أي الجسر الطويل باللغة التركية) على نهر أركنه Ergene River الذي استغرق تشييده ستَّة عشر عامًا، وافتُتح في عام 1443م[53]، والجدير بالذكر أنَّ هذا الجسر الأخير يبلغ من الطول ألفًا وثلاثمائة واثنين وتسعين مترًا، ويُعدُّ أطول جسرٍ حجريٍّ في تركيا، وهو مكوَّنٌ من مائةٍ وثلاثةٍ وسبعين قوسًا حجريًّا كبيرًا، وما زال يعمل بكفاءةٍ حتى زماننا الآن[54].
وختامًا لهذا المشهد الأخير أحبُّ أن أذكر كلامًا ملخَّصًا عميقًا كتبه المؤرِّخ الأميركي چاستين مكارثي Justin McCarthy وهو يصف مرادًا الثاني وفترة حكمه، فيقول: «يُمكن اعتبار مراد الثاني رجل سلامٍ دُفِعَ إلى الحروب. على المستوى الشخصي كان اهتمامه الأكبر بالإصلاحات الداخليَّة وبلاط الحكم، وتحت قيادته بدأ البلاط العثماني يُشبه البلاطات العظيمة لحكَّام الشرق الأوسط السابقين، وزادت أدرنة بشكلٍ كبيرٍ في الحجم والقوَّة الاقتصاديَّة، وأخذت المدينة شكل العاصمة الإسلاميَّة على الرغم من النسبة العالية للسكَّان النصارى. بنى مراد الثاني مدارس عظيمة ومبانيَ إسلاميَّة أخرى متميِّزة. كان مراد الثاني مهتمًّا بالبنية التحتيَّة الاقتصاديَّة للدولة، وعلى سبيل المثال كان مهتمًّا ببناء الجسور. كان هو ورجال حكمه يقومون برعاية رجال الفنون والآداب. على المستوى الديني كان مراد الثاني يُفضِّل الإسلام الصوفي. بنى مراد الثاني تِكَّة كبرى في أدرنة للصوفيِّين الذين يتبعون الطريقة المولويَّة، وأسهم في دعم الصوفيِّين في أرجاء مملكته كلِّها»[55].
أعتقد أنَّه بمراجعة هذه المشاهد العشرة من حياة مراد الثاني يُمكن فَهَمَ كثيرٍ من الملابسات التي صاحبت تربية الأمير محمد، كما يُمكن فَهَمَ الكثير من العوامل التي أثَّرت في تكوين شخصيَّة الأمير، وانعكست على مواقف حياته وقراراته بعد ذلك.
***
عودة إلى السياق التاريخي..
نحن الآن في عام 1439م، والأمير محمد في السابعة من عمره يحكم ولاية مانيسا، وقد شهدت الأعوام الأربعة التالية لهذه السنة أحداثًا مضطربة في الدولة العثمانيَّة أدَّت إلى بعض النتائج السلبيَّة، التي كان لها آثارٌ كبرى على الدولة.
كانت البداية بتفوُّقٍ عثمانيٍّ على الجيوش الأوروبِّيَّة عام 1439م؛ حيث ضربوا الحصار على مدينة سمندرية Smederevo الصربيَّة في يونيو ثم أسقطوها في أغسطس من السنة نفسها، ممَّا دعا أمير الصرب برانكوڤيتش Branković إلى الهروب إلى المجر لطلب المساعدة[56]. تبع هذا التفوُّق موتٌ فجائيٌّ لملك المجر ألبرت King Albert في أكتوبر 1439م، وقيام حربٍ أهليَّةٍ في المجر للتَّصارع على الحكم[57]، واستغلَّ مراد الثاني هذه الأحداث ليُحاصر بلجراد في أبريل عام 1440م[58]، وبلجراد عاصمة الصرب هي مدخل وسط أوروبَّا، وبوابة الدخول إلى العالم الكاثوليكي، ولهذا فقد سبَّب حصارها حركةً نشيطةً في الأوساط الأوروبِّيَّة، وبالتالي تداعيات كبرى على الدولة العثمانيَّة، ومع أنَّ الأحدث التي ذكرناها في عام 1439م وبدايات 1440م كانت في صالح العثمانيِّين فإنَّ التطوُّر السياسي والعسكري في السنوات الأربع التالية -أي من سنة 1440م إلى سنة 1444م- كان في صالح الأوروبِّيِّين، وذلك نتيجة بعض الأمور، ومنها ما يلي:
أوَّلًا: على عكس ما كان متوقَّعًا من حدوث أزمةٍ في المجر نتيجة الصراع على كرسي الحكم بعد وفاة الملك ألبرت، دعا مجلس الشيوخ في المجر ملكَ بولندا ڤلاديسلاڤ الثالث Vladislav III لحكم المجر وكرواتيا بالإضافة إلى حكم بولندا[59]، وكانت النتيجة تكوُّن دولة كبيرة تصل من الشمال الغربي للبحر الأسود إلى بحر البلطيق في الشمال، وتضمُّ عدَّة جيوشٍ قويَّةٍ في كيانٍ واحد، ولا شَكَّ أنَّ هذا لم يكن في صالح الدولة العثمانيَّة.
ثانيًا: ظهرت شخصيَّةٌ عسكريَّةٌ قوية في المجر في ذلك الوقت، وهو العسكري القدير چون هونيادي John Hunyadi، وهو أحد أبرز العسكريِّين في تاريخ المجر، وكذلك في تاريخ رومانيا، التي كان شمالها يتبع المجر آنذاك، ويُعدُّ من الأبطال القوميِّين في هذه البلاد إلى زماننا الآن[60]، وقد أيَّد هذا العسكري الملكَ ڤلاديسلاڤ الثالث للتثبيت في حكم المجر وكرواتيا، ممَّا جعل الملك يُعطيه ولاية إقليم ترانسلڤانيا الروماني Translvanya[61]، وهذا جعله مواجِهًا للحدود العثمانيَّة، ومِنْ ثَمَّ صار مسئولًا عن حرب العثمانيِّين في هذه المرحلة، وهذا سبَّب أذًى كبيرًا للجيوش العثمانيَّة.
ثالثًا: تعرَّضت الجيوش العثمانيَّة لهزيمةٍ قاسيةٍ عند أسوار بلجراد بعد حصار ستَّة أشهرٍ كاملة، وبينما لم تذكر المصادر العثمانيَّة شيئًا عن خسائر مراد الثاني في المعركة ذكرت المصادر الغربيَّة أنَّ القتلى المسلمين تجاوزوا سبعة عشر ألف مقاتل[62]، وسواءٌ صحَّ هذا الرقم أم لم يصح فإنَّ السلطان مرادًا الثاني أعلن الرحيل في أكتوبر 1440م، ولم ينجح في فتح المدينة، وكان من الواضح أنَّ الأزمة كبيرة؛ لأنَّ العثمانيِّين لم يُفكِّروا في غزو المدينة مرَّةً أخرى إلَّا بعد ست عشرة سنةً متتالية في زمن السلطان محمد الفاتح عام 1456م[63].
رابعًا: لم تكن هذه هي الهزيمة الوحيدة للجيوش العثمانيَّة، بل تعرَّضت لعدَّة هزائم أخرى في عامي 1441 و1442م، وكانت في معظمها على يد چون هونيادي ممَّا جعل له شهرةً واسعةً في أوروبَّا كلِّها، وأثَّر سلبًا في معنويَّات العثمانيِّين[64].
خامسًا: حمَّست هذه الانتصارات البابا أوچين الرابع Eugene IV على تجميع العالم النصراني في حربٍ صليبيَّةٍ للدولة العثمانيَّة، فبدأ بخطوة الإصلاح بين المتخاصمين في مملكتي المجر وبولندا، وذلك عن طريق إرسال الكاردينال چوليانو سيزاريني Giuliano Cesarini إلى المجر لعقد الصلح بين ڤلاديسلاڤ الثالث والمتنافسين معه على حكم المجر[65]، كما توسط الكاردينال نفسه لعقد معاهدةٍ بين ڤلاديسلاڤ الثالث وفريدريك الثالث Frederick III إمبراطور النمسا وألمانيا لضمان تفرُّغ ڤلاديسلاڤ لحرب العثمانيِّين بعد أن يأمن جانب النمسا وألمانيا[66].
سادسًا: في يناير 1443م أعلن البابا أوچين الرابع حملةً صليبيَّةً على الدولة العثمانيَّة تهدف إلى إخراجها بالكلِّيَّة من البلقان، وتفاعلت المجر وبولندا تمامًا مع الحملة، وكذلك عدَّة ممالك أوروبِّيَّة أخرى[67].
سابعًا: في هذه الأثناء أيضًا انقلب حاكم قرمان المسلم على الدولة العثمانيَّة، وتعاون مع ملك بولندا والمجر، بغية تقسيم الدولة العثمانيَّة بينهما[68]!
بإعادة تحليل هذه النقاط مجتمعة نعلم أنَّ وضع الدولة العثمانيَّة في هذه الحقبة التاريخيَّة صار خطرًا للغاية، فالأمم الصليبيَّة مجتمعة عليها بشكلٍ لافت، والحرب دينيَّة في المقام الأوَّل، وهناك رموز عسكريَّة قويَّة في الجانب الصليبي يُمكن أن تُحقِّق انتصارات كبرى، بالإضافة إلى اضطراب الوضع الداخلي نتيجة التعاون السافر بين إمارة قرمان والأعداء الصليبيِّين.
مع هذا الوضع المتأزِّم الذي كانت الدولة العثمانيَّة تُعاني منه تلقَّت العائلة العثمانيَّة صدمةً جديدةً كبيرةً بوفاة وليِّ العهد علي علاء الدين بن مراد في مارس 1443م عن عمرٍ يُناهز ثمانية عشر عامًا[69]!
كانت وفاة علي علاء الدين كارثةً كبيرةً أصابت مرادًا الثاني بشدَّة، فهذا هو الابن الثاني الذي يفقده، ومن جديد فقده بعد أن كان قد تدرَّب على أمور القيادة في هذه الظروف الصعبة التي تمرُّ بها الدولة، وصار بذلك الأمير محمد -وهو أصغر الأخوة- وليًّا للعهد، وهو في الحادية عشرة من عمره.
لم يعد الأمر متعلِّقًا إِذَنْ بهزيمةٍ أو عدَّة هزائم من الجيوش الأوروبِّيَّة؛ إنَّما صار الأمر متعلِّقًا بمستقبل الدولة ووجودها من الأساس، فالأوضاع الخارجيَّة والداخليَّة تُنذر بشرورٍ كثيرة، وهذا كلُّه أحبط نفسيَّة مرادٍ الثاني بشكلٍ كبير.
وما يهمُّنا في هذه الجزئيَّة كذلك أن نذكر أنَّ الأمير محمد بن مراد صار في قلب المسئوليَّة من هذه اللحظة، وأحسب أنَّه بقدراته العقليَّة، والعلميَّة، والمهاريَّة الفائقة كان مستوعبًا للأحداث بشكلٍ كبير، وكان يُدرك المخاطر التي تمرُّ بها الدولة، وكان يُدرك كذلك موازين القوى التي ظهرت على الساحة، ولا شَكَّ أنَّه -كوليٍّ للعهد- كان مطَّلعًا على كلِّ مجريات الأمور، وتطوُّراتها، كما كان عالـمًا بخطط والده، ورؤيته، وتوقُّعاته المستقبليَّة للأحداث.
إنَّها صارت الآن تربيةً عمليَّةً واقعيَّةً في ميادين الحياة الحقيقيَّة، وبين لحظةٍ وأخرى ستكون القرارات المصيريَّة المتعلِّقة بالدولة في يد هذا الأمير الصغير ذي الحادية عشرة من عمره!
استمرَّت الأزمة العسكريَّة التي تُعاني منها الدولة العثمانيَّة في التفاقم، وأعلنت المجر وبولندا الحرب على الدولة العثمانيَّة في ربيع 1443م[70]، وأخذت في تجميع الجيوش من هنا وهناك، ثم بدأت الحرب في أكتوبر 1443م، وحقَّقت عدَّة انتصارات، كان أهمُّها انتصار نيش Nish في 3 نوفمبر 1443م، وهي مدينةٌ في جنوب صربيا، وكان الانتصار كبيرًا بحيث أنَّه أدَّى إلى انسحاب الجيش العثماني وسقوط صوفِيا Sofia -وهي أهمُّ مدينةٍ عثمانيَّةٍ في هذه المنطقة- في يد چون هونيادي[71].
تداركت الجيوش العثمانيَّة عافيتها نسبيًّا، وحقَّقت نصرًا على جيوش أوروبَّا عند مدينة زلاتيتسا Zlatitsa، وهي مدينةٌ بلغاريَّةٌ على بُعْد حوالي خمسة وستين كيلو مترًا شرق صوفِيا العاصمة، وكان هذا النصر في ديسمبر 1443م، وهو ما أوقف الجيوش الأوروبِّيَّة عن التقدُّم إلى أدرنة عاصمة الدولة العثمانيَّة[72].
كانت تداعيات هذه الحملة الصليبيَّة كبيرة على الدولة العثمانيَّة، ويُمكن حصر الآثار السلبيَّة لهذه الحملة في النقاط التالية:
أوَّلًا: فَقَدَت الدولة العثمانيَّة معظم إمارة صربيا في هذ الحملة، وذلك بعد سيطرة المجريِّين على نيش.
ثانيًا: دُمِّرَ غربُ الدولة العثمانيَّة تمامًا؛ فقد أُحْرِقت صوفِيا وتحوَّلت المزارع الكثيفة في هذه البقاع إلى مناطق متفحِّمة تمامًا، وذلك أنَّ الأراضي كانت تُحْرَق من الطرفين؛ فكان المجريُّون يحرقونها بدافع التدمير، وكان العثمانيُّون يحرقونها عند انسحابهم لكي لا يستفيد المجريُّون منها[73].
ثالثًا: كانت هناك خسائر بشريَّة ضخمة في الجيش العثماني، كما كانت هناك خسائر كبيرة كذلك في الجيوش المجريَّة والبولنديَّة[74]، لكن خسائر الجيش العثماني في رأيي كانت أخطر؛ لأنَّها أوَّلًا أكثر، وثانيًا من الجيش النظامي الرئيس، بينما كان يعتمد المجريُّون والبولنديُّون على المرتزقة.
رابعًا: حدث اضطرابٌ إداريٌّ كبيرٌ في الجيش العثماني، وتبادل القادة الاتهامات نتيجة الهزائم، وقد فسَّر البعض الهزائم العثمانيَّة أنَّها نتيجة خلافاتٍ بين قادة الجيش، مثل ذلك الخلاف الذي حدث بين قاسم باشا وتوراهان بك[75]، بل وصل الأمر إلى اتِّهام توراهان بك بأخذ الرِّشوة من الزعيم الصربي برانكوڤيتش لكي لا يشترك في القتال، ولعلَّه نتيجة هذا الاتهام سَجَنَ مراد الثاني توراهان بك في سجن توقات Tokat[76]. ومع ذلك فقد أُطْلِق سراح القائد بعد قليل، وأُعيد إلى منصبه[77]، ممَّا يُوحي أنَّ الأمر لم يكن يعدو شائعات غير صحيحة، وأيًّا كان الأمر فإنَّ هذا يدلُّ على مدى الاضطراب الذي كان يُعانيه الجيش العثماني؛ لأنَّ توراهان بك من كبار القادة العسكريِّين الذين خدموا العسكريَّة العثمانيَّة منذ عام 1423م على الأقل، وله انتصاراتٌ كبيرةٌ في التاريخ العثماني[78]، ومعنى حدوث هذا الحبس ثم الإطلاق أنَّ الأمور كانت في غاية الاضطراب داخليًّا.
خامسًا: ارتفعت الحالة المعنويَّة عند الجيوش النصرانيَّة بشكلٍ كبير، بل حرص الملك ڤلاديسلاڤ الثالث والكنيسة على إخفاء أخبار انتصار العثمانيِّين في موقعة زلاتيتسا لتظل الروح المعنويَّة مرتفعة[79]، وكان هذا يُنذر بقدرة الدول الأوروبِّيَّة على تجميع حملةٍ جديدةٍ على الدولة العثمانيَّة مع بدايات صيف 1444م.
سادسًا: أمَّا أخطر الآثار السلبيَّة لهزائم العثمانيِّين في هذه الفترة فكانت حادثة ارتداد أحد القادة العثمانيِّين عن الإسلام بعد هزيمة موقعة نيش، وهو القائد الألباني إسكندر بك Scanderbeg، وكان نصرانيًّا قبل ذلك ثم أسلم، وترقَّى في مناصب الجيش العثماني على مرِّ السنوات، ثم انتهى به المطاف إلى أن يكون أحد القادة في موقعة نيش، فلمَّا حدثت الهزيمة انسحب هو وثلاثمائة من الجنود الألبان من أرض القتال، ثم انطلقوا إلى ألبانيا معلنين رِدَّتهم عن الإسلام، وقد استطاع هذا القائد أن يحتلَّ كرويه Krujë، عاصمة ألبانيا في ذلك الوقت، وأن يُجمِّع حوله الأنصار لينفصل بذلك بإقليم ألبانيا التابع للدولة العثمانيَّة منذ عام 1385م[80]، وفي أوَّل مارس عام 1444م جمع إسكندر بك نبلاء ألبانيا في مدينة ليزهي Lezhë ليُكوِّن اتِّحادًا يُدير ألبانيا تحت قيادته عُرِف باتحاد ليزهي League of Lezhë[81]، وسوف يستمرُّ هذا الاتِّحاد بقيادة إسكندر بك في مقاومة الدولة العثمانيَّة لمدَّة خمسٍ وعشرين سنةً كاملة؛ أي إلى وفاة إسكندر بك عام 1468م، بل ستستمرُّ مقاومة الألبان إلى ما بعد موته إلى عام 1479م، ممَّا يعني أنَّ هذه الأزمة ستشمل حياة الأمير محمد بن مراد كلَّها، سواءٌ قبل تولِّيه السلطنة أم بعده.
إنَّه حدثٌ فارقٌ في تاريخ الدولة العثمانيَّة في هذه الحقبة.
مع أنَّ المؤرِّخ الفرنسي چورچ كاستيلان Goerges Castellan يصف الاتِّحاد بأنَّه اتِّحادٌ غير مستقرٍّ[82]، فإنَّ الشخصيَّة الكاريزميَّة الواضحة لإسكندر بك كتبت له النجاح في مقاومة العثمانيِّين بشدَّة، ولا شَكَّ أنَّ مرادًا الثاني كان يقرأ هذه الأحداث، ويعلم خطورة تكوُّن مثل هذا الاتحاد، ويعلم كذلك إمكانات قائده إسكندر بك، ومدى الأثر السلبي الذي أحدثه هذا القائد في الدولة العثمانيَّة.
بجمع كلِّ النقاط السابقة نفهم أنَّ مرادًا الثاني أدرك أنَّ الدولة العثمانيَّة ستدخل بعد شهورٍ قليلةٍ في منعطفٍ خطر جدًّا؛ فالأعداء في قوَّةٍ متزايدة، والأحوال الداخليَّة مضطربة، وبعض الولايات تسعى إلى الاستقلال، وبعضها -كصربيا وألبانيا- قد استقلَّ بالفعل، وسيأتي فصل الربيع وأوائل الصيف بحملةٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ قد تُؤثِّر في الوجود العثماني بالبلقان. كل هذا دفعه إلى اختيارٍ لم يكن يُحبِّذه في السنوات الماضية، وهو عرض اتِّفاقيَّة سلامٍ مع المملكة المتَّحدة للمجر وبولندا، ومع أنَّ مرادًا الثاني كان يُؤثر السلام في حياته على الحرب، فإنَّه لم يكن يرغب في أن يعرض هو السلام في مثل هذه الظروف؛ لأنَّ ڤلاديسلاڤ الثالث سيُملي شروطه في هذه الفرصة، وقد تكون الشروط قاسيةً وغير عمليَّة، ومع ذلك فقد كان هذا هو الحلُّ الأفضل، وعلى كلٍّ فإنَّ مرادًا الثاني سيشتري الوقت بهذا العرض الذي سيُقدِّمه، فحتى في حال رفض ڤلاديسلاڤ الثالث لعرض مراد الثاني فإنَّ الشهور التي سيتبادل فيها القائدان الرسائل ستكون فرصةً لمراد الثاني في إعادة تهيئة جيشه للقتال. من هذا المنطلق تقدَّم مراد الثاني بطلب السلام مع الدول الأوروبِّيَّة موسِّطًا في ذلك زعيم الصرب برانكوڤيتش[83]، وسرُّ وساطة زعيم الصرب هو أنَّ مرادًا الثاني كان متزوِّجًا ابنة هذا الزعيم، وهي مارا برانكوڤِيتش Mara Branković، منذ عام 1435م[84].
ويبدو أنَّ المجر وبولندا كانا يُعانيان كذلك من الحرب مع الدولة العثمانيَّة، فقُبِلَت فكرة السلام، ودارت المباحثات بين الطرفين في شهور الصيف عام 1444م[85]، وزاد من رغبة مراد الثاني في إنجاح عمليَّة السلام حدوث هزيمةٍ للجيش العثماني في يوم 29 يونيو 1444م في مدينة تورڤيول Torvioll الألبانيَّة أمام المتمرِّد إسكندر بك، وكانت ضحايا الجيش العثماني يزيدون على ثمانية آلاف جندي[86] ممَّا جعل رغبة مراد الثاني كبيرةً في تحييد الجبهة الأوروبِّيَّة بالسلام؛ وذلك للتفرُّغ إلى التمرُّدات التي ظهرت في دولته، سواءٌ في ألبانيا، أم في قرمان، أم في غيرهما.
بعد جدالٍ طويلٍ توصَّل الطرفان -العثماني والأوروبي- إلى معاهدة سلامٍ بين الطرفين، وكان توقيعها في مدينة سيجيد Szeged المجريَّة، ولذلك عُرِفَت المعاهدة باسم «سلام سيجيد Peace of Szeged»، وتم الحلف على بنودها في يوم 15 أغسطس 1444م، وكانت بنودها قاسيةً على الدولة العثمانيَّة؛ إذ تضمَّنت استقلال صربيا وعدم تبعيَّتها لأيٍّ من الدولتين العثمانيَّة أو المجر، لتبقى منطقةً عازلةً (Buffer State) بينهما، كما تضمَّنت المعاهدة تسليم ألبانيا بالإضافة إلى أربعٍ وعشرين قلعة إلى المجر، مع دفع الدولة العثمانيَّة لمائة ألف فلورين ذهبي إلى المجر كتعويضٍ عن خسائر الحرب، وأيضًا إطلاق سراح ابنين لبرانكوڤيتش كانا أسيرين عند العثمانيِّين، وفي المقابل تتعهَّد المجر بعدم عبور الدانوب، وعدم التعدِّي على بلغاريا، مع استمرار هذه المعاهدة لمدَّة عشر سنواتٍ من تاريخ توقيعها[87][88][89].
بالنظر إلى بنود هذه المعاهدة يتَّضح لنا أنَّ الهمَّ الأوَّل لمراد الثاني في هذه المعاهدة كان الحفاظ على ما في يديه من بقاع، والتضحية بالأجزاء التي فُقِدت بالفعل، مع التأكيد على أنَّ هذه المعاهدة ليست مطلقةً بلا تحديد؛ بل لها أجلٌ زمنيٌّ معروف، وهو عشر سنوات، وبالتالي يُمكن للدولة العثمانيَّة في هذه الفترة أن تستعيد عافيتها، وتسترجع ما خسرته عند تحسُّن الظروف، أمَّا استمرار القتال في هذه الظروف فسيعني خسارةً أكبر، وقد تُفْرَض عليه شروطٌ أقسى..
هذا ما دعا مرادًا الثاني إلى أن يقبل في واقعيَّة هذه المعاهدة القاسية..
وهكذا استراح مراد الثاني نسبيًّا من تهديدات الجبهة الأوروبِّيَّة..
ثم إنَّه عقد معاهدة سلام في الشهر نفسه -أي أغسطس 1444م- مع إمارة قرمان، أقرَّ فيها أمير قرمان إبراهيم بك الثاني بالتبعيَّة للسلطان مراد الثاني، وكان هذا بعد تعرُّضه لهزيمةٍ من الجيش العثماني، وبذلك يكون مراد الثاني قد أمَّن أيضًا الجبهة الشرقيَّة المتمثِّلة في هذه الإمارة المتمرِّدة دومًا[90].
هكذا ظنَّ مراد الثاني أنَّ الأمور صارت على ما يرام، وأنَّ الهدوء السياسي والعسكري سيسود البلاد لفترةٍ طويلة، ولذلك، وبنفسيَّة مرهقة، أخذ قرارًا هو من أعجب قراراته مطلقًا، بل من أعجب القرارات في تاريخ الدولة العثمانيَّة، إن لم يكن في التاريخ العالمي كلِّه[91].
[1] 32. يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية/ المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/131.
[2] 30. ول ديورانت قصة الحضارة/ المترجمون زكي نجيب محمود، وآخرين و تقديم: محيي الدين صابر. - بيروت لبنان : دار الجيل – بيروت لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988م صفحة 26/58.
[3] القرماني أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: الدكتور أحمد حطيط، الدكتور فهمي السعيد. - [مكان غير معروف] : عالم الكتب، 1992م. - الأولى. صفحة 3/27.
[4] أحمد آق كوندز و سعيد أوزتورك الدولة العثمانية المجهولة- إستانبول : وقف البحوث العثمانية، 2008م.صفحة 120.
[5] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978., p. 11.
[6] Volkan Vamik Djemal and Norman Itzkowitz Turks and Greeks: Neighbours in Conflict [Book]. - tallahassee, FL, USA : Eothen Press, 1994., p. 39.
[7]Ágoston Gábor and Masters Bruce Alan Encyclopedia of the Ottoman Empire [Book]. - New York, USA : Infobase Publishing, 2010., p. 364.
[8] چون باتريك كينروس القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: د. ناهد إبراهيم دسوقي- الإسكندرية، مصر : منشأة المعارف، 2002.صفحة 95.
[9] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978., p. 14.
[10] كينروس، 2002م صفحة 95.
[11] Turnbull, Stephen The Ottoman Empire 1326–1699 [Book]. - London, UK : Bloomsbury Publishing, 2012 (A), p. 36.
[12] الشوكاني البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع [كتاب]. - بيروت، لبنان : دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، 1427هـ = 2006م صفحة 69.
[13] طاشكبري زاده: الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية. - بيروت، لبنان : دار الكتاب العربي، 1395هـ = 1975م صفحة 51.
[14] السيوطي: نظم العقيان في أعيان الأعيان، تحقيق: فيليب حتي - بيروت - لبنان : المكتبة العلمية، 1927.صفحة 39.
[15] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 51.
[16] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 70.
[17] İnalcık Halil Osmanlı İmparatorluğu, (in Turkish) [Book]. - İstanbul : Eren, 1993., p. 341.
[18] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 71.
[19] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 102.
[20] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 62.
[21] أوزتونا، 1988م الصفحات 1/184-185.
[22] أوزتونا، 1988م صفحة 1/184.
[23] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 104.
[24] Antov Nikolay The Ottoman Wild West [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2017., p. 85.
[25] طاشكبري زاده، 1975م صفحة 139.
[26] أوزتونا، 1988م صفحة 1/145.
[27] Gürpinar Doğan Ottoman/Turkish Visions of the Nation, 1860-1950 [Book]. - NewYork, USA : The Palgrave Macmillan, 2013., p. 53.
[28] أوزتونا، 1988م صفحة 1/184.
[29] Al-Hassan A. Y., Ahmed Maqbul and Iskandar A. Z. Science and Technology in Islam [Book]. - paris, France : UNESCO publishing, 2001., vol. 2, p. 516.
[30] آق كوندز، وآخرون، 2008م صفحة 122.
[31] السيوطي، 1927م صفحة 39.
[32] Roopnarine Jaipaul L [et al.] Handbook of International Perspectives on Early Childhood Education [Book]. - Oxford, UK : Routledge, 2018.., 2018, p. 73.
[33] أوزتونا، 1988م صفحة 1/184.
[34] أوزتونا، 1988م صفحة 1/148.
[35] أوزتونا، 1988م صفحة 1/184.
[36] Lowry Heath W. The Nature of the Early Ottoman State [Book]. - USA : State University of New York Press, Albany, 2003., p. 153.
[37] Housley Norman The Crusade in the Fifteenth Century: Converging and competing cultures [Book]. - London, UK : Routledge, 2016., p. 21.
[38] Behrens-Abouseif Doris Practising Diplomacy in the Mamluk Sultanate [Book]. - London, UK : I.B.Tauris, 2014..
[39] Freely John Istanbul: The Imperial City [Book]. - New York, USA : Viking, 1996., p. 169.
[40] أوزتونا، 1988م صفحة 1/119.
[41] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976., vol. 4, p. 254.
[42] Finkel Caroline Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923 [Book]. - London UK : John Murray, 2005., p. 43.
[43] أوزتونا، 1988م صفحة 1/121.
[44] Kastritsis Dimitris J The Sons of Bayezid [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2007., pp. 1-3.
[45] Itzkowitz Norman Ottoman Empire and Islamic Tradition [Book]. - Chicago, USA : The University of Chicago Press, 1972., pp. 22-23.
[46] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009., p. 9.
[47] Anooshahr Ali The Ghazi Sultans and the Frontiers of Islam [Book]. - London, UK : Routledge, 2009., pp. 150-151.
[48] Finkel, 2005, p. 46.
[49] الشوكاني، 2006م الصفحات 856-857.
[50] السيوطي، 1927م صفحة 175.
[51] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع [كتاب]. - بيروت، لبنان : دار الجيل، 1412هـ = 1992م، صفحة 10/152.
[52] حاجي خليفة: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، تحقيق: محمود عبد القادر الأرناؤوط، إشراف وتقديم: أكمل الدين إحسان أوغلي تدقيق: صالح سعداوي صالح، إعداد الفهارس: صلاح الدين أويغور [كتاب]. - إستانبول – تركيا : مكتبة إرسيكا، 2010 م.صفحة 3/324.
[53] أوزتونا، 1988م صفحة 1/130.
[54] Freely John A History of Ottoman Architecture [Book]. - Boston, USA : WIT Press, 2011., p. 91.
[55] McCarthy Justin The Ottoman Turks: An Introductory History to 1923 [Book]. - London, UK : Longman, 1997., p. 62.
[56] Fine John Van Antwerp The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest [Book]. - [s.l.] : University of Michigan Press, 1994., p. 535.
[57] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001., p. 281.
[58] Jefferson John The Holy Wars of King Wladislas and Sultan Murad: The Ottoman-Christian Conflict from 1438-1444 [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2012., p. 236.
[59] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001., p. 281.
[60] Boia Lucian History and Myth in Romanian Consciousness [Book]. - Budapest, Hungary : Central European University (CEU) Press, 2001., pp. 135-136.
[61] Cartledge Sir Bryan The Will to Survive: A History of Hungary [Book]. - New York, USA : Columbia University Press, 2011., p. 54.
[62] Jefferson, 2012, p. 242.
[63] Jaques Tony Dictionary of Battles and Sieges [Book]. - Westport, CT, USA : Greenwood Press, 2007., vol. 1, p. 126.
[64] Engel, 2001, p. 285.
[65] Babinger, 1978, pp. 21- 22.
[66] Engel, 2001, p. 285.
[67] Imber Colin The Crusade of Varna, 1443-45 [Book]. - Hampshire, UK : Ashgate, 2006., pp. 9-31.
[68] Housley Norman The Crusade in the Fifteenth Century: Converging and competing cultures [Book]. - London, UK : Routledge, 2016., p. 21.
[69] أوزتونا، 1988م صفحة 1/124.
[70] Imber, 2006, pp. 9-31.
[71] Setton Kenneth Meyer, Hazard Harry W. and Zacour Norman P. A History of the Crusades [Book] / ed. Hazard Harry w. and Zacour Norman P.. - Madison, WI, USA : The University of Wisconsin Press, 1975., vol. 4, p. 270.
[72] Fine, 1994, p. 548.
[73] Boyar Ebru and Fleet Kate A Social History of Ottoman Istanbul [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, 2010., 2010, p. 25.
[74] Kafadar Cemal Between Two Worlds: The Construction of the Ottoman State [Book]. - Los Angeles, USA : University of California Press, 1996., p. xix.
[75] Imber, 2006, p. 51.
[76] Imber, 2006, p. 16.
[77] Necipoğlu Nevra Byzantium Between the Ottomans and the Latins [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2009., p. 278.
[78] İnalcık Halil The Ottoman Empire: Conquest, Organization and Economy [Book]. - London, UK : Variorum Reprints, 1978., p. 121.
[79] Imber, 2006, pp. 9-31.
[80] Noli Fan Stilian George Castrioti Scanderbeg (1405–1468) [Book]. - New York, USA : International Universities Press, 1947., p. 36.
[81] Elsie Robert A Biographical Dictionary of Albanian History [Book]. - New York, USA : I.B.Tauris, 2013., p. 127.
[82] Castellan Georges History of the Balkans: From Mohammed the Conqueror to Stalin [Book]. - New York, USA : East European Monographs, 1992., p. 83.
[83] Imber, 2006, pp. 9-31.
[84] Olsen John Andreas and Gray Colin S The Practice of Strategy: From Alexander the Great to the Present [Book]. - Oxford, UK : Oxford university press, 2011., p. 115.
[85] Imber, 2006, pp. 9-31.
[86] Hodgkinson Harry Scanderbeg.. From Ottoman Captive to Albanian Hero [Book]. - London, UK : Centre for Albanian Studies, 1999., p. 75.
[87] Király Béla K. and Rothenberg Gunther Erich The fall of medieval kingdom of Hungary [Book]. - New York, USA : Brooklyn College Press, 1989., pp. 17-18.
[88] Imber, 2006, pp. 9-31.
[89] Dvornik Francis The Slavs in European History and Civilization [Book]. - New Brunswick, NJ, USA : Rutgers University Press, 1962., p. 234.
[90] Kármán Gábor and Kunčević Lovro The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries The Ottoman Empire and its Heritage [Book]. - Boston, USA : BRILL, 2013., p. 381.
[91] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441ه= 2019م، 1/ 54- 75.
التعليقات
إرسال تعليقك